الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة30%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103508 / تحميل: 8096
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقد أخرج نعيم بن حماد بسنده عن علي عليه السلام انه قال: «المهدي رجل منّا من ولد فاطمة»(1) كما اخرج عن الزهري انه قال: «المهدي من ولد فاطمة»(2) ، وعن كعب مثله أيضاً(3) .

هذا، وقد ورد حديث جامع لمعظم الاخبار المتقدمة، وهو المروي عن قتادة، - كما تقدم - قال: قلت لسعيد: أحقٌ المهدي؟ قال: نعم هو حق. قلت: ممن هو؟ قال: من قريش، قلت: من أي قريش؟ قال: من بني هاشم. قلت: من أي بني هاشم؟ قال: من ولد عبد المطلب. قلت: من أي ولد عبدالمطلب؟ قال: من أولاد فاطمة(4) .

وعلى الرغم من الاقتراب بهذه النتيجة من جواب السؤال: مَنْ هو المهدي الموعود المنتظر؟ إلاّ أنَّ العائق ما يزال موجوداً في تشخيص نسبه الشريف بنحو لايقبل الترديد بين أولاد فاطمة عليها السلام، لوضوح أنّ هذا النسب - بهذا الاطلاق - ينتهي إلى السبطين الحسن والحسين عليهما السلام.

ولهذا فنحن أمام احتمالات ثلاثة وهي:

الاَول: أن يكون المهدي من أولاد الاِمام الحسن السبط عليه السلام.

الثاني: أن يكون من أولاد الاِمام الحسين السبط عليه السلام.

الثالث: أن يكون من أولاد السبطين معاً.

أما الاحتمال الثالث فلا يحتاج قبوله أو ردّه أكثر من النظر في نتائج البحث في الاخبار المؤيدة للاحتمالين الاَولين.

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1117، وعنه في كنز العمال 14: 591/39675.

(2) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1114 وعنه في التشريف بالمنن: 176/237 باب 189.

(3) الفتن لنعيم بن حماد 1: 374/1112، وعنه في التشريف بالمنن: 157/202 باب 163.

(4) عقد الدرر: 44 من الباب الاول، والفتن لنعيم بن حماد 1: 368 - 369/1082، وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 157/201 باب 163.

٦١

وأما فرض احتمال رابع، وهو: كون المهدي من أولاد غير السبطين، فهو باطل بالضرورة وغير معقول في نفسه؛ لثبوت صحة أحاديث المهدي وتواترها بخصوص كونه من أهل البيت عليهم السلام، ومن ولد فاطمة عليها السلام.

اذن لم يبقَ سوى التحقيق في مثبتات الاحتمالين الاَولين. ويجب التنبيه قبل ذلك إلى أنه: لو ثبت كذب ما يؤيد الاحتمال الاَول، فلا نحتاج أصلاً إلى التحقيق في مثبتات الاحتمال الثاني، اذ سيصدق بالضرورة، ويكون هو المتيقن، المقطوع به، المطابق للواقع، لما مرَّ من استحالة كذب الاحتمالين معاً؛ لهذا سوف نستفرغ الوسع بدراسة وتحقيق مثبتات الاحتمال الاَول، فنقول:

حديث المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام:

لم أجد مايدل على ان المهدي الموعود المنتظر هو من ولد الاِمام الحسن عليه السلام في كتب أهل السنة غير حديث واحد فقط وربما لايوجد في تراث الاِسلام حديث غيره، وهو ما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه، واليك نصه:

قال: « حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال علي رضي الله عنه - ونظر إلى ابنه الحسن - فقال: ( إنّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولايشبهه في الخَلْق).

ثم ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً »(1) انتهى بعين لفظه.

____________

(1) سنن أبي داود 4: 108/4290، وأخرجه عنه في جامع الاَصول 11: 49 - 50/7814، وكنز العمال 13: 647/37636، كما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن 1: 374 - 375/1113.

٦٢

بطلان الحديث من سبعة وجوه:

من دراسة سند الحديث ومتنه، ومقارنة ذلك بأحاديث كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام، يطمئن الباحث بوضعه، وذلك من سبعة وجوه وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:

الوجه الاَوّل: اختلاف النقل عن أبي داود في هذا الحديث، فقد أورد الجزري الشافعي (ت/833 هـ) هذا الحديث بسنده عن أبي داود نفسه وفيه اسم: (الحسين) مكان (الحسن)، فقال: « والاَصح انه من ذرية الحسين بن علي لنصّ أمير المؤمنين علي على ذلك، فيما أخبرنا به شيخنا المسند رحلة زمانه عمر بن الحسن الرّقي قراءة عليه، قال: أنبأنا أبو الحسن بن البخاري، أنبأنا عمر بن محمد الدارقزي، أنبأنا أبو البدر الكرخي، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أنبأنا أبو عمر الهاشمي، أنبأنا أبو علي اللؤلؤي، أنبأنا أبو داود الحافظ قال: حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي اسحاق قال: قال علي عليه السلام - ونظر إلى ابنه الحسين - فقال: « إنَّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق، ولايشبهه في الخَلْق ». ثم ذكر قصة يملأ الاَرض عدلاً.

هكذا رواه أبو داود في سننه وسكت عنه »(1) ، انتهى بعين لفظه.

وأخرجه المقدسي الشافعي في عقد الدرر ص 45 من الباب الاَول، وفيه اسم: (الحسن)، وأشار محققه في هامشه إلى نسخة باسم: (الحسين)

____________

(1) اسمى المناقب في تهذيب اسنى المطالب/الجزري الدمشقي الشافعي: 165 - 168/61.

٦٣

ويؤيد وجود هذه النسخة نقل السيد صدر الدين الصدر عنها إذ أورد الحديث عن عقد الدرر وفيه اسم: (الحسين)(1) .

وهذا الاختلاف ينفي الوثوق بترجيح أحد الاسمين ما لم يعتضد بدليل من خارج الحديث، وهو مفقود في ترجيح (الحسن) ومتوفر في (الحسين).

الوجه الثاني: سند الحديث منقطع لاَنّ من رواه عن علي عليه السلام هو أبو إسحاق والمراد به السبيعي، وهو ممن لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن علي عليه السلام كما صرح بهذا المنذري في شرح هذا الحديث(2) ، وقد كان عمره يوم شهادة أمير المؤمنين عليه السلام سبع سنين؛ لاَنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان في قول ابن حجر(3) .

الوجه الثالث: إن سنده مجهول أيضاً؛ لاَن أبا داود قال: (حُدِّثت عن هارون بن المغيرة) ولايُعْلَم من الذي حدّثه، ولا عِبرة في الحديث المجهول اتفاقاً.

الوجه الرابع: ان الحديث المذكور أخرجه أبو صالح السليلي - وهو من أعلام أهل السنة - بسنده عن الاِمام موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد الصادق، عن جده علي بن الحسين، عن جده علي بن أبي طالب عليهم السلام، وفيه اسم: (الحسين) لا: (الحسن) عليهما السلام(4) .

الوجه الخامس: انه معارض بأحاديث كثيرة من طرق أهل السنة تصرح بأنّ المهدي من ولد الاِمام الحسين منها حديث حذيفة بن اليمان

____________

(1) المهدي/السيد صدر الدين الصدر: 68.

(2) مختصر سنن أبي داود/المنذري 6: 162/4121.

(3) تهذيب التهذيب 8: 56/100.

(4) التشريف بالمنن للسيد ابن طاووس: 285/413 ب 76، أخرجه عن فتن السليلي باختلاف يسير.

٦٤

قال: « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرنا بما هو كائن، ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطول الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي، اسمه اسمي. فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! من أي ولدك؟ قال: من ولدي هذا، وضرب بيده على الحسين »(1) .

الوجه السادس: احتمال التصحيف في الاسم من (الحسين) إلى (الحسن) في حديث أبي داود غير مستبعد بقرينة اختلاف النقل، ومع عكس الاحتمال فإنه خبر واحد لايقاوم المتواتر كما سنفصله في محلّه.

الوجه السابع: يحتمل قوياً وضع الحديث لما فيه من العلل المتقدمة، ويؤيد هذا الاحتمال أن الحسنيّين وأتباعهم وأنصارهم زعموا مهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى ابن الاِمام الحسن السبط عليه السلام، الذي قتل سنة (451 هـ) في زمن المنصور العباسي، نظير ما حصل - بعد ذلك - من قبل العباسيين وأتباعهم في ادعاء مهدوية محمد بن عبدالله المنصور الخليفة العباسي الملقب بالمهدي (158 - 169 هـ) لما في ذلك من تحقيق اهداف ومصالح سياسية كبيرة لايمكن الوصول اليها بسهولة من غير هذا الطريق المختصر.

____________

(1) المنار المنيف لابن القيم: 148/329 فصل/50، عن الطبراني في الاوسط، عقد الدرر: 45 من الباب الاَول وفيه: (أخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي)، ذخائر العقبى/المحب الطبري: 136، وفيه: (فيحمل ماورد مطلقاً فيما تقدم على هذا المقيد)، فرائد السمطين 2: 325/575 باب/61، القول المختصر لابن حجر: 7/37 باب/1، فرائد فوائد الفكر: 2 باب/1، السيرة الحلبية 1: 193، ينابيع المودة 3: 63 باب/94، وهناك أحاديث أُخرى بهذا الخصوص في مقتل الاِمام الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي 1: 196، وفرائد السمطين 2: 310 - 315/الاحاديث 561 - 569، وينابيع المودة 3: 170/212 باب 93 وباب 94.

ومن مصادر الشيعة أُنظر: كشف الغمة 3: 259، وكشف اليقين: 117، واثبات الهداة 3: 617/174 باب 32، وحلية الابرار 2: 701/54 باب/41، وغاية المرام: 694/17 باب/141، وفي منتخب الاَثر الشيء الكثير من تلك الاحاديث المخرجه من طرق الفريقين، فراجع.

٦٥

الحديث غير معارض لاَحاديث: المهدي من ولد الحسين عليه السلام:

مع فرض صحة الحديث - على الرغم مماتقدم فيه - فإنّه لاتعارض بينه وبين الاحاديث الاُخرى المصرحة بكون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام ويمكن الجمع بينه وبينها، بأن يكون الاِمام المهدي عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم؛ وذلك لاَنّ زوجة الاِمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أُم الاِمام الباقر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام هي فاطمة بنت الاِمام الحسن المجتبى عليه السلام.

وعلى هذا يكون الاِمام الباقر عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم، وذريته تكون من ذرية السبطين حقيقة.

وهذا الجمع له مايؤيده من القرآن الكريم قال تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيـسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الانعام: 6/84 - 85.

فعيسى عليه السلام أُلحق بذراري الانبياء من جهة مريم عليها السلام، فلا مانع اذن في ان تُلحق ذرية الإمام الباقر بالامام الحسن السبط من جهة الاُم كما أُلحق السبطان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة فاطمة الزهراء عليها السلام.

وهذا الجمع بين الاخبار لاينبغي الشك فيه مع افتراض صحة حديث أبي داود وان كان مخالفاً للصحة من كل وجه كما تقدم.

وإلى هنا اتضح لنا أن الاحتمال الثاني - أعني كون الاِمام المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام - لم يكن مجرد احتمال، وإنما هو الواقع بعينه، سواء قلنا بصحة حديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام أو لم نقل بذلك.

أمّا مع فرض القول بصحة الحديث، فلا تعارض بينه وبين أحاديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام، بل هو مؤيد لها كما تقدم.

وأمّا مع القول بعدم صحته - وهو الحق لما تقدم في الوجوه السبعة

٦٦

- فالحال أوضح من أن يحتاج إلى بيان؛ لما قلناه سابقاً من أن إثبات بطلان أحد الاحتمالين يعني القطع بمطابقة الآخر للواقع لاستحالة بطلانهما معاً، إذ المتيقن هو كون المهدي الموعود من ولد فاطمة عليها السلام حقاً.

ما ورد معارضاً لكون المهدي من أولاد الحسين عليه السلام:

لقد اتضح من خلال البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، أنه لابدّ وأن يكون من أولاد الاِمام الحسين عليه السلام، وقبل بيان مثبتات هذه النتيجة - التي يترتب عليها اعتقاد الشيعة الامامية بأنّ المهدي هو التاسع من صلب الاِمام الحسين عليه السلام، وأنه قد وُلد حقاً وهو محمد بن الحسن العسكري عليه السلام، لا بدّ من التوقف برهة مع ما ورد معارضاً لذلك في لسان بعض الروايات - من طريق أهل السنّة - التي عينت اسم أبي المهدي بـ: (عبدالله)، مما نجم عنها اعتقاد بعضهم بأنّ المهدي هو محمد بن عبدالله، وأنه لم يولد بعد، وإنما سيولد قبيل ظهوره في آخر الزمان.

ولما كان التواتر حاصلاً لمهديٍّ واحد، فلابدّ وأن يكون أحد الفريقين ينتظر مهدياً لا واقع له، وهذا ما يستدعي وجوب مراجعة كل فريق لاَدلّته بمنظار أنها خطأ يحتمل الصواب، والنظر لما عند الآخر باعتبار انه صواب يحتمل الخطأ، وهذا وإن عزّ، فلا يعدم عند من يسعى لادراك الصواب - قبل فوات الاَوان - أينما كان.

ولاَجل معرفة الصحيح في اسم أبي المهدي أهو: عبدالله، أو الحسن؟ نقول:

أحاديث: «اسم أبيه اسم أبي» (عبدالله):

نودُّ الاشارة قبل دراسة هذه الاَحاديث إلى أنّ بعض علماء الشيعة

٦٧

أوردوا بعضها، لا إيماناً بها، لمخالفتها لاُصول مذهبهم، وإنما لاَمانتهم في نقلها من كتب أهل السنة دون تحريف أو حذف؛ إمّا لاِمكان تأويلها بما لايتعارض وأُصول المذهب، وإمّا للبرهنة على الاَمانة في النقل، وإيقاف المسلمين على مناقشاتهم لها، وهي:

1 - الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني، والحاكم، كلّهم من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لاتذهب الدنيا حتى يبعث الله رجلاً يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

2 - الحديث الذي أخرجه أبو عمرو الداني، والخطيب البغدادي كلاهما من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يملك الناس رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(2) .

3 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد، والخطيب، وابن حجر، كلهم من طريق عاصم أيضاً، عن زرّ، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: «المهدي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(3) .

4 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد بسنده عن أبي الطفيل قال:

____________

(1) المصنف لابن أبي شيبة 15: 198/19493، المعجم الكبير للطبراني 10: 163/10213 و 10: 166/10222، مستدرك الحاكم 4: 442. وأورده من الشيعة المجلسي في بحار الانوار 51: 82/21، عن كشف الغمة للاربلي 3: 261، والاخير نقله عن كتاب الاربعين لابي نعيم.

(2) سنن أبي عمرو الداني: 94 - 95، تاريخ بغداد 1: 370 ولم يروه احد من الشيعة.

(3) تاريخ بغداد 5: 391، كتاب الفتن لنعيم بن حماد 1: 367/1076 و 1077 وفيه يقول ابن حماد: «وسمعته غير مرّة لايذكر اسم ابيه»، وأخرجه في كنز العمال 14: 268/38678 عن ابن عساكر، ونقله السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن 156/196 و 197 باب/163 عن فتن ابن حماد، كما أورده ابن حجر في القول المختصر: 40/4 مرسلاً.

٦٨

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهدي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

حقيقة هذا التعارض وبيان قيمته العلمية:

هذه هي الاَحاديث التي جعلت مبرراً لاختيار (محمد بن عبدالله) كمهديٍّ في آخر الزمان، وكلها لاتصحّ حجة ومبرراً لهذا الاختيار. وقد علمت أن الثلاثة الاُولى منها كلّها تنتهي إلى ابن مسعود من طريق واحد وهو طريق عاصم بن أبي النجود. وسوف يأتي ما في هذا الطريق مفصّلاً.

وأما الحديث الرابع، فسنده ضعيف بالاتفاق اذ وقع فيه رِشْدِينُ بن سعد المهري وهو: رِشْدِينُ بن أبي رِشْدِين المتّفق على ضعفه بين أرباب علم الرجال من أهل السُنّة.

فعن أحمد بن حنبل: أنه ليس يبالي عمّن روى، وقال حرب بن إسماعيل: « سألت أحمد بن حنبل عنه، فضعّفه »، وعن يحيى بن معين: لا يكتب حديثه. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال الجوزجاني: عنده معاضيل، ومناكير كثيرة، وقال النسائي: متروك الحديث لا يُكتَب حديثه.

وبالجملة فإنّي لم أجد أحداً وثّقه قطّ إلاّ هيثم بن ناجة فقد وثّقه وكان أحمد بن حنبل حاضراً في المجلس، فتبسّم ضاحكاً، وهذا يدلّك على تسالمهم على ضعفه(2) .

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 368/1080 وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 257/200.

(2) راجع: تهذيب الكمال 9: 191/1911، وتهذيب التهذيب 3: 240 ففيهما جميع ماذكر بحق رِشْدِين بن أبي رِشْدِين.

٦٩

ولا شك، أنَّ من كان حاله كلما عرفت فلا يؤخذ عنه مثل هذا الامر الخطير.

وأما الاَحاديث الثلاثة الاُولى، فهي ليست بحجة من كل وجه، ومما يوجب وهنها وردها هو ان عبارة: (واسم أبيه اسم أبي) لم يروها كبار الحفّاظ والمحدّثين، بل الثابت عنهم رواية: (واسمه اسمي) فقط من دون هذه العبارة كما سنبرهن عليه، هذا مع تصريح بعض العلماء من أهل السنة الذين تتبعوا طرق عاصم بن أبي النجود بأن هذه الزيادة ليست فيها، كما سيأتي مفصلاً.

ومن ثم، فإن إسناد هذه الاَحاديث الثلاثة ينتهي إلى ابن مسعود فقط، بينما المروي عن ابن مسعود نفسه كما في مسند أحمد - وفي عدة مواضع - (واسمه اسمي) فقط(1) ، وكذلك الحال عند الترمذي فقد روى هذا الحديث من دون هذه العبارة، مشيراً إلى أنّ المروي عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة هو بهذا اللفظ (واسمه اسمي) ثم قال - بعد رواية الحديث عن أبن مسعود بهذا اللفظ -: (وفي الباب: عن علي، وأبي سعيد، وأُم سلمة، وأبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح »(2)

وهكذا عند أكثر الحفاظ، فالطبراني مثلاًأخرج الحديث عن ابن مسعود نفسه من طرق أُخرى كثيرة، وبلفظ: ( اسمه اسمي )، كما في أحاديث معجمه الكبير المرقمة: 10214 و10215 و10217 و10218 و10219 و10220 و10221 و10223 و10225 و10226 و10227 و10229 و10230.

____________

(1) مسند أحمد 1: 376 و 377 و 430 و 448.

(2) سنن الترمذي 4: 505/2230.

٧٠

وكذلك الحاكم في مستدركه أخرج الحديث عن ابن مسعود بلفظ: (يواطئ اسمه اسمي) فقط، ثم قال: « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(1) وتابعه على ذلك الذهبي، وكذلك نجد البغوي في مصابيح السنّة يروي الحديث عن ابن مسعود من دون هذه الزيادة مع التصريح بحسن الحديث(2) .

وقد صرح المقدسي الشافعي بأن تلك الزيادة لم يروها أئمة الحديث، فقال - بعد أن أورد الحديث عن ابن مسعود بدون هذه الزيادة -: « أخرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم، منهم الاِمام أبو عيسى الترمذي في جامعه، والاِمام أبو داود في سننه، والحافظ أبو بكر البيهقي، والشيخ أبو عمرو الداني، كلهم هكذا »(3) أي: ليس فيه: (واسم أبيه اسم أبي) ثم أخرج جملة من الاَحاديث المؤيدة لذلك مشيراً إلى من أخرجها من الاَئمة الحفاظ كالطبراني، وأحمد بن حنبل، والترمذي، وأبي داود، والحافظ أبي داود، والبيهقي، عن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر، وحذيفة.(4)

هذا زيادة على ما مرّ من اشارة الترمذي إلى تخريجها عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة؛ كلهم بلفظ: (واسمه اسمي) فقط.

ولا يمكن تعقّل اتفاق هؤلاء الاَئمة الحفاظ بإسقاط هذه الزيادة (واسم أبيه اسم أبي) لو كانت مروية حقاً عن ابن مسعود مع أنّهم رووها من طريق عاصم بن أبي النجود، بل ويستحيل تصور إسقاطهم لها لما فيها من أهمية

____________

(1) مستدرك الحاكم 4: 442.

(2) مصابيح السنة 492/4210.

(3) عقد الدرر: 51/باب 2.

(4) عقد الدرر: 51 - 56/باب 2.

٧١

بالغة في النقض على مايدعيه الطرف الآخر.

ومن هنا يتضح أنّ تلك الزيادة قد زيدت على حديث ابن مسعود من طريق عاصم إما من قِبَل أتباع الحسنيين وأنصارهم ترويجاً لمهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى، أو من قبل أتباع العباسيين ومؤيديهم في ما زعموا بمهدوية محمد بن عبدالله - أبي جعفر - المنصور العباسي.

وقد يتأكد هذا الوضع فيما لو علمنا بأنّ الاَول منهما كانت رتّة في لسانه، مما اضطر أنصاره على الكذب على أبي هريرة، فحدّثوا عنه أنه قال: « إن المهدي اسمه محمد بن عبدالله في لسانه رتّة »(1) .

ولما كانت الاَحاديث الثلاثة الاُولى من رواية عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش عن عبدالله بن مسعود، مخالفة لما أخرجه الحفاظ عن عاصم من أحاديث في المهدي - كما مر -، فقد تابع الحافظ أبو نعيم الاَصبهاني (ت/430هـ) في كتابه (مناقب المهدي) طرق هذا الحديث عن عاصم حتى أوصلها إلى واحد وثلاثين طريقاً، ولم يُرْوَ في واحد منها عبارة (واسم ابيه اسم أبي) بل اتفقت كلها على رواية (واسمه اسمي) فقط. وقد نقل نص كلامه الكنجي الشافعي (ت/638 هـ) ثم عقّب عليه بقوله: «ورواه غير عاصم، عن زر، وهو عمرو بن حرة، عن زر كل هؤلاء رووا (اسمه اسمي) إلاّ ما كان من عبيد الله بن موسى، عن زائدة، عن عاصم، فإنّه قال فيه: (واسم أبيه اسم أبي). ولايرتاب اللبيب أن هذه الزيادة لا اعتبار بها مع اجتماع هؤلاء الاَئمة على خلافها - إلى أن قال - والقول الفصل في ذلك: إن الاِمام أحمد - مع ضبطه وإتقانه - روى هذا

____________

(1) هذا الحديث الموضوع منقول في معجم أحاديث الاِمام المهدي عن مقاتل الطالبيين: 163 - 164.

٧٢

الحديث في مسنده [ في ] عدة مواضع: واسمه اسمي»(1) .

ومن هنا يُعلم أنّ حديث: (.. واسم أبيه اسم أبي) فيه من الوهن ما لايمكن الاعتماد عليه في تشخيص اسم والد المهدي المباشر.

وعليه، فان من ينتظر مهديّاً باسم (محمد بن عبدالله) إنما هو في الواقع - وعلى طبق ما في التراث الاسلامي من أخبار - ينتظر سراباً يحسبه الضمآن ماء.

ولهذا نجد الاستاذ الاَزهري سعد محمد حسن يصرّح بأن أحاديث (اسم أبيه اسم أبي) أحاديث موضوعة، ولكن الطريف في تصريحه أنّه نسب الوضع إلى الشيعة الامامية لتؤيد بها وجهة نظرها على حد تعبيره(2) !!

ويتضح مما تقدم أنَّ نتيجة البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، قد انتهت إلى كونه من ولد الاِمام الحسين عليه السلام؛ لضعف سائر الاَحاديث التي وردت مخالفة لتلك النتيجة، مع عدم وجود أية قرينة تشهد بصحة تلك الاَحاديث، بل توفرت القرائن الدالة على اختلاقها.

واذا عدنا الى نتيجة البحث في الطوائف المتقدمة نجدها مؤيدة بما تواتر نقله عند المسلمين.

مؤيدات كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام

هناك أحاديث كثيرة عند الشيعة الامامية عيّنت الاَئمة الاثني عشر بأسمائهم واحداً بعد آخر ابتداءً بالامام علي وانتهاء بالمهدي عليهم السلام، مع مجموعة من الاَحاديث في تعيين كل إمام لاحق بنصّ من الاِمام السابق.بق.بق.

____________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان/الكنجي الشافعي: 482.

(2) المهدية في الاِسلام/الاستاذ الازهري سعد محمد حسن: 69.

٧٣

وأُخرى عند أهل السنة مصرحة بعدد الاَئمة تارة كما في الصحاح، ومشخصة لاَسمائهم كما في كتب المناقب وغيرها وإلى جانب هذا توجد جملة من الاَحاديث المتّفق على صحّتها تدلّ على حياة المهدي ما بقي في الناس اثنان، وهذا لايتمّ إلاّ بتقدير كونه التاسع من ولد الاِمام الحسين عليه السلام. وسوف لن نذكر من تلك الاحاديث إلاّ ما احتُجَّ به في كتب الفريقين.

حديث الثقلين:

مما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتقل إلى الرفيق الاَعلى والسنة لم تدوّن بكل تفاصيلها في عهده، وهو منزّه عن التفريط برسالته المحكوم ببقائها إلى يوم القيامة، ومنزّه أيضاً عن إهمال أُمته مع نهاية رأفته بهم وشفقته عليهم، فكيف يوكلهم إلى القرآن الكريم وحده مع ما فيه من محكم ومتشابه، ومجمل ومفصّل، وناسخ ومنسوخ، فضلاً عمّا في آياته من وجوه ومحامل استخدمت للتدليل على صحة الآراء المتباينة كما نحسّ ونلمس عند أرباب المذاهب والفرق الاسلامية.

هذا، مع علمه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قد كُذِب عليه في حياته فكيف الحال إذن بعد وفاته، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتخذ بكتب الدراية مثالاً على التواتر اللفظي: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

فمن غير المعقول إذن أن يدع النبي شريعته مسرحاً لاجتهادات الآخرين من دون أن يحدد لهم مرجعاً يعلم ما في القرآن حق علمه، وتكون السنة معلومة بكل تفاصيلها عنده.

وهذا هو القدر المنسجم مع طبيعة صيانة الرسالة، وحفظها، ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقاً في الحياة.

٧٤

ومن هنا تتضح أهمية حديث الثقلين (القرآن والعترة)، وقيمة إرجاع الاَمّة فيه إلى العترة لاَخذ الدين الحق عنهم، كما تتضح أسباب التأكيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرقة، منها في يوم الغدير، وآخرها في مرضه الاَخير.

فعن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كأنني قد دُعِيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن. من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(1) .

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2) ، هذا فضلاً عن تأكيده صلى الله عليه وآله وسلم المستمر على الاقتداء بعترته أهل بيته، والاهتداء بهديهم، والتحذير من مخالفتهم، وذلك بجعلهم تارة كسفن للنجاة، وأُخرى أماناً للاُمّة، وثالثة كباب حطّة.

وفي الواقع لم يكن الصحابة بحاجة إلى سؤال واستفسار من النبي لتشخيص المراد بأهل البيت، وهم يرونه وقد خرج للمباهلة وليس معه غير أصحاب الكساء وهو يقول: «اللّهم هؤلاء أهلي» وهم من أكبر الناس معرفة بخصائص هذا الكلام، وإدراكاً لما ينطوي عليه من قصر

____________

(1) مستدرك الحاكم 3: 109.

(2) سنن الترمذي 5: 662/3786، وحديث الثقلين قد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً، وبلغ عدد رواته عبر القرون المئات. راجع حديث الثقلين تواتره، فقهه، للسيد علي الحسيني الميلاني: 47 - 51. فقد ذكر فيه بعض الرواة وفيه الكفاية.

٧٥

واختصاص. وإلا فتسعة أشهر وهي المدّة التي أخبر عنها ابن عباس في وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة صباح كل يوم وهو يقرأ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) كافية لاَن يعرف الجميع من هم أهل البيت عليهم السلام.

ومع هذا فلا معنى لسؤالهم واستفسارهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّن يعصموا الاُمّة بعده من الضلالة إلى يوم القيامة فيما لو تمسكت بهم مع القرآن.

فحاجة الاُمّة - والصحابة أيضاً - ليس أكثر من تشخيص أولهم ليكون المرجع للقيام بمهمته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يأخذ دوره في عصمة الاُمّة من الضلالة، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمة، وهكذا حتى يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن على النبي الحوض.

وإذا علمت أن علياً عليه السلام قد تعيّن بنصوص لاتحصى، ومنها في حديث الثقلين نفسه، فليس من الضروري إذن أن يتولّى النبي بنفسه تعيين من يلي أمر الاُمّة باسمه في كل عصر وجيل، إن لم نقل إنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

فالقياس إذن في معرفة إمام كل عصر وجيل: إمّا أن يكون بتعيينهم دفعة واحدة، أو بنص السابق على إمامة اللاحق وهو المقياس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الاَنبياء والاَوصياء عليهم السلام، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا.

وإذا ما عدنا إلى واقع أهل البيت عليهم السلام نجد النصّ قد توفر على إمامتهم بكلا طريقيه، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوكهم علم يقيناً بأنهم ادعوا لانفسهم الاِمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما

____________

(1) الاحزاب: 33/33. وانظر روايات وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة وهو يقرأ الآية في تفسير الطبري: 22/6.

٧٦

اتخذهم الملايين من أتباعهم أئمة وقادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمانهم، مع إرشاد كل إمام أتباعه على من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، وعلى هذا جرت سيرتهم، فكانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة، وفي سوح الجهاد تارة أُخرى وعلى أيدي القائمين بالحكم أنفسهم.

ثم لو فرض أنّ أحدهم لم يعيّن لاَتباعه من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، مع فرض توقف النص عليه، فإنّ معنى ذلك بقاء ذلك الاِمام خالداً مع القرآن في كل عصر وجيل؛ لاَنّ دلالة «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» على استمرار وجود إمام من العترة في كل عصر كاستمرار وجود القرآن الكريم ظاهرة واضحة، ولهذا ذهب ابن حجر إلى القول: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لاَهل الاَرض، ويشهد لذلك الخبر:«في كلِّ خَلَفٍ من أُمتي عدول من أهل بيتي»(1) .

حديث: (من مات ولم يعرف إمام زمانه):

سُجّل هذا الحديث - بألفاظٍ مختلفةٍ وكلّها ترجع إلى معنىً واحدٍ ومقصدٍ فارد -: في أُمهات كتب الحديث السنية والشيعية، ويكفي على ذلك اتفاق البخاري ومسلم - من أهل السنة - على روايتهايتهايته(2) ، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفار - من الشيعة الاِمامية - على

____________

(1) الصواعق المحرقة: 149.

(2) صحيح البخاري 5: 13 باب الفتن، صحيح مسلم 6: 21 - 22/1849.

٧٧

روايته أيضاً(1) ، وقد أخرجه كثيرون بطرق لا طاقة على استقصائها(2) .

اذن الحديث مما لامجال لاحد ان يناقش في سنده، وان توهم الشيخ أبو زهرة فعدّه من روايات الكافي فحسب!(3) .

والحديث كما ترى في تخريجه لايبعد القول بتواتره، وهو لايحتمل التأويل ولاصرف دلالته الواضحة على وجوب معرفة الاِمام الحق على كل مسلم ومسلمة، وإلاّ فإنّ مصيره ينذر بنهاية مهولة.

ومن ادعى ان المراد بالامام الذي من لايعرفه سيموت ميتة جاهلية هو السلطان أو الحاكم، أو الملك، ونحو ذلك وان كان فاسقاً ظالماً!! فعليه ان يثبت بالدليل ان معرفة الظالم الفاسق من الدين أولاً، وان يبين للعقلاء الثمرة المترتبة على وجوب معرفة الظالم الفاسق بحيث يكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية.

وعلى أية حال، فالحديث يدل على وجود امام حق في كل عصر وجيل، وهذا لايتم إلاّ مع القول بوجود الاِمام المهدي الذي هو حق ومن ولد فاطمة عليها السلام كما تقدم. ومما يؤيده:

____________

(1) أُصول الكافي 1: 303/5 و 1: 308/1 - 3 و 1: 378/2، وروضة الكافي 8: 129/123، كمال الدين 2: 412 - 413/10 و 11 و 12 و 15 باب 39، الاِمامة والتبصرة: 219/69 و 70 و 71، قرب الاسناد: 351/1260، بصائر الدرجات: 259 و 509 و 510.

(2) انظر: مسند احمد 2: 83 و 3: 446 و 4: 96، مسند أبي داود الطيالسي: 259، المعجم الكبير للطبراني 10: 350/10687، مستدرك الحاكم 1: 77، حلية الاولياء 3: 224، الكنى والاسماء 2: 3، سنن البيهقي 8: 156، 157، جامع الاصول 4: 70، شرح صحيح مسلم للنووي 12: 440، تلخيص المستدرك للذهبي 1: 77 و 177، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 218 و 219 و 223 و 225 و312، تفسير ابن كثير 1: 517. كما أخرجه الكشي في رجاله: 235/428 في ترجمة سالم بن أبي حفصة.

(3) الاِمام الصادق/أبو زهرة: 194.

٧٨

حديث: (إنَّ الارض لاتخلو من قائم لله بحجة):

وهذا الحديث قد احتج به الطرفان أيضاً وأوردوه من طرق عدّة(1) .

وقد رواه كميل بن زياد النخعي الجليل الثقة عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في نهج البلاغة، قال عليه السلام - بعد كلام طويل -: «اللّهم بلى! لا تخلو الارض من قائم لله بحجة».

وعدم خلو الارض من قائم لله بحجة لايتم مع فرض عدم ولادة الاِمام المهدي عليه السلام، وقد تنبه لهذا ابن أبي الحديد حتى قال في شرح هذه العبارة: (كي لايخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده، ومسيطر عليهم. وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الامامية، إلاّ أن اصحابنا يحملونه على ان المراد به الابدال)(2) .

وقد فهم ابن حجر العسقلاني منه انه اشارة إلى مهدي أهل البيت عليهم السلام فقال ما نصه: « وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الاُمّة مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الاقوال: ان الاَرض

____________

(1) أورد هذا الحديث الاسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة: 81، وابن قتيبة في عيون الاخبار: 7، واليعقوبي في تاريخه 2: 400، وابن عبد ربه في العقد الفريد 1: 265، وأبو طالب المكي في قوت القلوب في معاملة المحبوب 1: 227، والبيهقي في المحاسن والمساوئ: 40، والخطيب في تاريخه 6: 479 في ترجمة اسحاق النخعي، والخوارزمي الحنفي في المناقب: 13، والرازي في مفاتيح الغيب 2: 192 وابن أبي الحديد في شرح النهج كما سيأتي، وابن عبد البر في المختصر: 12 والتفتازاني في شرح المقاصد 5: 241 وابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

وقد أخرجه الكليني من طرق عن أمير المؤمنين عليه السلام في أُصول الكافي 1: 136/7 و 1: 270/3 و 1: 274/3، والصدوق في كمال الدين 1: 287/4 ب 25 و 1: 289 - 294/2 ب 26 من طرق كثيرة و 1: 10302 ب 26.

(2) شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 18: 351.

٧٩

لاتخلو من قائم لله بحجة)(1) .

أقول: ومما يقرب دلالة العبارة في النهج على الاِمام المهدي هو ما اتصل بها من كلام أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا نصه: «يا كميل بن زياد، ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربانيّ، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق - إلى ان قال عليه السلام - اللّهم بلى! لاتخلو الارض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، واما خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(2) .

ومن هنا جاء في الحديث الصحيح عن الحسين بن أبي العلاء الخفاف قال: «قلت لابي عبدالله عليه السلام: تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا... الحديث»(3) .

واذا ما أضيف هذا إلى حديث الثقلين، وحديث من مات، وحديث (الخلفاء اثنا عشر) الآتي، علم ان الاِمام المهدي لو لم يكن مولوداً حقاً لوجب ان يكون من سبقه حيا إلى قيام الساعة، ولكن لا أحد يقول من المسلمين بحياة امام غير المهدي عليه السلام ثاني عشر أهل البيت وهم من عينت الصحاح عددهم، وبينت كتب المناقب اسماءهم.

أحاديث: (الخلفاء اثنا عشر):

أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي

____________

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

(2) شرح نهج البلاغة/الشيخ محمد عبده 4: 691/85، وشرح ابن أبي الحديد 18: 351.

(3) أُصول الكافي 1: 136/1 باب ان الارض لاتخلو من حجة وسند الحديث هو: «عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء عن الاِمام الصادق عليه السلام».

٨٠

الشيطان ومعاقبة العدو، عن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ):( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مُهاناً ترضي الرّحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فو الذّي فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحِلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السّكوت عنه ) (١) .

فالمنع وطرح البديل اللائق، كفيلان بتحصين وحفظ الثقافة الإسلامية من الأهواء والثقافات الأخرى، وجدير بالذكر أنّ المنع يعتبر وسيلةً دفاعية محضة.

ب. التهذيب

تهذيب البلاغ الثقافي يبتدئ من تهذيب الإنسان لآلات التوصيل والارتباط الثقافي.

فاللسان يعبّر عن حقيقة الكلام وقوّته، والكلام من دون تدبير وتفكير يُفقد المرء الاتزان والتعادل، ويجنح بصاحبه نحو المزالق؛ لأجله في عملية التحصين وممارسة التهذيب على المؤمن أن يتدبّر كلامه؛( لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ ) (٢) .

____________________

(١) أمالي المفيد: ١١٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٧٦.

٨١

فالمحلّ الأوّل للكلام في داخل النفس، والمؤمن يتفحص الكلام ويقلّب وجوهه، فإن أصاب الخير أظهره، وان كان فيه الشرّ أنكره؛ لأنّ هذا التهذيب الداخلي هو التأني والتدبّر لنتائج الكلام.

إنّ أمير المؤمنين يعمّق الوعي ويحدّ الرؤية في عملية التهذيب، بحيث إنّها تشمل قنوات وأعضاء أخرى في وجود الإنسان، مثل الخطأ الطفيف لحاسّة البصر الّتي ربّما جلبت مضرّةً، والتي عبّر عنها الإمام بـ ( رمزات الألحاظ ) حيث قد تعني تلك الألحاظ معاني سيئة، ومثل الألفاظ التي ينقلب المعنى فيها إلى غير القصد الصحيح والنافع، والتي ربّما بعثت على سخط الله تعالى أو تحبط الأعمال منها، أو شهوات القلب المترادفة والتي تضع أهداف الإنسان في أسر الأهواء.

قد ورد في الدعاء عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( اللّهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان ) (١) .

وكما أنّ في جسم الإنسان هذه الأعضاء يطلب تهذيبها، كذلك في المجتمع؛ حيث إنّ مشاهدة العين وتدقيقها على ما يخرج أو ما يرد، ينبغي أن يكون عن معرفة وتقوى في قبول الأشياء الداخلة إلى المجتمع والخارجة منه.

أيضاً سقطات الألفاظ فإنّ بعض الألفاظ التي تصدر من بعض الأفراد قد تكون غير مسؤولة وبعيدة عن التروّي والتفكير. هذه الألفاظ قد تجرّ

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ٧٨.

٨٢

إلى نتائج غير محمودة؛ لذا نجد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدعوا إلى إجالة النظر ومعرفة هويّة الزّمان وأهله( يا بني، إنّه لابدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف زمانه ) (١) .

عندما تكون دائرة المسؤولية كبيرة، ينبغي على الإنسان أن يتصرف بحكمة( يا بنيّ، لا تقل مالا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم ) (٢) .

وليس معنى ذلك أن يبخل المرء في أن يقول ما يعلم، وإنّما على المرء أن يعرف في أيّ وعاء يضع علمه، وفي أيّ محلّ ينفقه، ففيه إشارة إلى مراعاة الحكمة في المواضع التي يرتادها الشخص وينشر علمه.

قد تحصل أنّ التحصين الثقافي، الّذي يتم من خلال التهذيب في تمييز ما يرد عليه من أشياء أو ما يصدر منه، لا بد من أن يكون منسجماً مع ثقافة الإسلام، وهو وسيلة دفاعية أكثر منه هجومية.

ج. التحفيز

هو وسيلة لترغيب الإنسان في أن يكون خلاّقاً ومنتجاً ومفيداً، وهو يعتبر وسيلة هجومية في التحصين الثقافي، وهو بعكس المنع الذي يعتبر وسيلة دفاعية محضة.

حثّ الإمام ( عليه السلام ) على العمل ومعرفة الهدف الذي ينتهي إليه، فكلّما كان العمل ذا هدف سامي، وذا طريقة سليمة من حيث الإحكام والإتقان و

____________________

(١) أمالي الطوسي: ١٤٦.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٢٨٣/٧٢٢، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٠.

٨٣

النّهج المتبع، فإنّ ذلك ينعكس إيجاباً في التأثير والتأثر به ولابدّ منه، بحيث إنّه يصبح نموذجاً يُحتذى به ومثالاً يُقتدى به( الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتِقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ، إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإِنَّ لِلإِسْلامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ ) (١) .

فالعمل مهما كان يحتاج إلى الجدّ أو المثابرة؛ لأنّه مع التهاون والغفلة لا يؤتي التحفيز أُكله،( الجدّ الجدّ أيّها الغافل! ) (٢) .

كيف يمكن مواجهة ومعالجة الغفلة والجمود؟ إنّ ذلك يكون بالعزم والتفكير والتشمير عن ساعد الجدّ والتزوّد من الاستقامة( فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ ) (٣) .

لقائل أن يقول: لا يمكن تحفيز الطاقة وتشغيلها عند الإنسان بالاعتماد على دوافعه الذاتية الخاصّة فقط!

نعم، نحن لا نقول إنّ تنشيط دوافع الإنسان يكون بالاعتماد والاتكاء على الذّات فقط، بل نقول إنّ نفس حث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو تحفيز من الخارج إلى الناس.

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقتصر في هذا التحفيز على الوعظ والتنبيه والحثّ على العمل فقط، بل مضافاً إلى ذلك فرض محفّزات مالية لزيادة

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٧٦.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٣.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ٢٣٠.

٨٤

النشاط والإنتاج والاستفادة، ( عن سالم بن أبي الجعد: فرض عليّ ( عليه السلام ) لمَن قرأ القرآن ألفين ألفين، قال وكان أبي ممّن قرأ القرآن )(١) .

كما أنّ الدوافع الذاتية منشأ التحريك فيها هو ما أعده الله تعالى للذين يعملون الصالحات أو الذين أحسنوا.

فممّا تقدم نلاحظ أنّ التحفيز وسيلة للإبداع وتشغيل القدرات الكامنة في داخل الإنسان، ممّا يجعله وسيلةً تحصينية للثقافة.

د. التبادل الإيجابي

المقصود من التبادل الإيجابي هو ما عناه الحديث الشريف، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال:( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه، ولكن انتفع بعقله واحترس من سيء أخلاقه، ولا تدعنّ صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله، ولكن انتفع بكرمه بعقلك، وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق ) (٢) .

فالتبادل الإيجابي هو مبادرة يقوم بها الإنسان المسلم لإثراء ثقافته من صاحب العقل أو من صاحب الأخلاق؛ لكي يصل إلى مقصوده ومنشوده.

يعتبر التبادل الإيجابي وسيلةً تحصينية متزنة ومعتدلة؛ لأنّها تدعو إلى صحبة ذي العقل وإن لم يحمد كرمه؛ للانتفاع بعقله أو صحبة ذي الكرم؛ للاستفادة من كرمه وإن لم يحمد عقله، أمّا مَن فقد الكرم المحمود والعقل

____________________

(١) كنز العمال: ٢/٣٣٩.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٦٣٨.

٨٥

النافع، فيجب الاحتراز والفرار منه وهو اللئيم الأحمق كما في الرواية الشريفة.

هذا التبادل الإيجابي كما أنّه من الممكن للفرد المسلم ممارسته، كذلك للولايات والأمصار أو الدول تطبيقه في علاقاتها وارتباطاتها، وأخذها ما هو نافع، ولفضها ما هو ضار.

فالملاك في هذا التبادل الثقافي الإيجابي هو أخذ النفع أنّى وجد، وتجنّب الضرر حيث وجد.

على صعيد العلاقات بين المؤمنين، أمر الإمام ( عليه السلام ) بالتفاعل والتواصل وتبادل المحبة والنصح، وتجنّب القطيعة والتدابر:

( عليكم يا بنيّ بالتواصل والتباذِل والتَّبار، وإيّاكم والنفاق والتدابر والتقاطع والتفرّق، وتعاونوا على البّر والتقوى ) (١) .

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

٨٦

الفصل الثامن: الإمام علي ( عليه السلام ) والوظائف الثقافية

الخليفة الذي وُضع للناس معلّماً ومرشداً، له وظائف ثقافية يُمليها عليه طبيعة تكليفه ومسؤوليته.

فالمرشد والزعيم يلاحظ ويراقب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثّقافية والسّياسية في دائرة مسؤوليته، أو الحدود الّتي له صلاحية متابعتها وتقويمها للتي هي أحسن.

لذا كان الإمام ( عليه السلام ) قد مارس وظائف ثقافية؛ لتجديد الحياة الثقافية في أوساط الكوفة، ولتعديل المسار الثقافي باتجاه الهداية الإلهية، سنبيّن تلك الوظائف بما يلي:

١. التشخيص

اعتماد الأُسس الصّحيحة في التشخيص، وإعمال النظر الدقيق فيه، من الأمور التي علّم الإمام ( عليه السلام ) الناس عليها.

٨٧

إنّ إدارة الفحص الحسن وتوطيد الصّحة والسلامة في أفعال الأشخاص وأقوالهم من المسائل المهمة، التي حرّك الإمام عقول وأحاسيس الناس إليها.

فالتشخيص قطبه التقوى ودليله الرؤية القطعية، وهدفه معرفة الحق واتخذ التشخيص طرقاً أربعة:

١. التشخيص عن طريق الرؤية الحسية: هذه الطرّيقة في التشخيص سهلة الممارسة؛ حيث يمارس الإنسان بصره ونظره في رؤية الأشياء ومن ثَمّ يقوم بإصدار الحكم عليها، قد بيّن الإمام ( عليه السلام )، الميزان العدل والموازين القسط في التشخيص السليم وفق هذه الطريقة:

( مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ، وَيُحِيلُ الْكَلامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ ) ، ( فسئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله هذا ) فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال:( الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ ) (١) .

٢. التشخيص عن طريق العلامات الظاهرة: هذه الطريقة تحتاج إلى نوع من المتابعة والوعي، قد وضع الإمام بين يدي النّاس الطريقة العملية في تشخيص أصناف الناس وتحديد هويّاتهم بوضع العلامات المميزّة لهم( ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يُحمد في جميع أموره ) (٢) ( لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاثُ عَلامَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٤١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٢٣٦.

٨٨

فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ ) (١) .

٣. التشخيص عن طريق الرموز الظاهرية والتغييرات النفسية : هذه الطّريقة أصعب تحديداً من سابقاتها وتكون بمتابعة التغييرات النفسية، وما يظهر منها على صفحات الوجوه، حيث إنّ الرّموز الظّاهرة على صفحات الوجه وتغيّر نظرات الإنسان وإيحائها، أو حركات اليد وتعبيراتها، تعبّر عن نوع الانفعال النّفسي المنبسط داخل وجود الإنسان.

هذه الطريقة تحتاج إلى التركيز والدقة، إضافة للفراسة الّتي يمتلكها الفرد عن طريق المعرفة أو الإيمان في تشخيص هذه الرموز( مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ ) (٢) ( الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ) (٣) .

٤. التشخيص لِما في باطن الإنسان عن طريق التقوى العالية : هذه القدرة التشخيصية تحتاج إلى مرتبة معنوية رفيعة، وهي لا تتيسّر لكلّ أحد، إلا بالمراقبة القوية والعمل المستمرّ والجادّ في طاعة الله تعالى، الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال: إنّي أحبّك في السّر كما أحبك في العلانية، قال: فنَكَت أمير المؤمنين بعود كان في يده في الأرض ساعة ثمّ رفع رأسه فقال:كذبت والله.

ثمّ أتاه رجل آخر فقال: إنّي أحبّك، فنَكَت بعود في الأرض طويلاً ثمّ رفع رأسه فقال:

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٢٦.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ١٤٨.

٨٩

( صدقت، إنّ طينتا طينة مرحومة، أخذ الله ميثاقها يوم أخذ الميثاق، فلا يشذّ منها شاذّ، ولا يدخل فيها داخل إلى يوم القيامة ) (١) .

نعيد القول والإشارة إلى أنّ هدف الوظيفة التشخيصية هي معرفة الحق وتمييزه عن الباطل، وقد تجلّت هذه الوظيفة التشخيصية في قول أمير المؤمنين للخوارج لمّا سمع قولهم ( لا حكم إلاّ لله ) قال ( عليه السلام ):( كلمة حقٍّ يُراد بها باطل ) (٢) .

٢. الاستشارة

شاور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أصحابه في أكثر من موطن ومناسبة؛ تأسّياً بالنّبي في سيرته وتجسيداً لقوله تعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى‏ اللّهِ ) (٣) الآية الكريمة كانت تأمر النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) في مشاورة أصحابه، والقرار والعزم النهائي يبقى بيد النبي الكريم، ويتوكل على الله في تنزيل الأمر والموضوع إلى الواقع.

هذه الاستشارة تعني إشراك الأمّة في القضايا الّتي تتعلّق بها، وتحريك فعالية المسلمين نحو الأمور المختلفة( فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ، خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ ) (٤) .

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٤٠.

(٣) آل عمران: ١٥٩.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ١١٨.

٩٠

وهي لا تعني قصور القيادة العليا للمسلمين عن نيل الرأي السديد؛ بل هي من أجل وضع المسلمين في دائرة المسؤولية المتبادلة، وتفعيل دورهم باتجاه القضايا المختلفة.

يبقى الاختيار والقرار بعد المشورة بيد مَن يتولّى أمور المسلمين.

( إنّي لأَولى النّاس بالنّاس، أضمم أراء الرّجال بعضها إلى بعضٍ، ثمّ اختر أقربها إلى الصّواب وأبعدها من الارتياب ) (١) .

للاستشارة بُعدين أو ظهيرين يمكن استشفافهما من الحكمة العلوية( وَلا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ ) (٢) وهما:

١. الظّهير أو البعد العلمي: أي البعد العلمي بضمّ الآراء إلى بعضها، حيث يعطي ضفر الآراء القوّة والمتانة للرأي المستخلص منها.

٢. الظهير أو البعد الاجتماعي: يتمثل في اجتماع المسلمين بمكان واحد لمداولة أمورهم أو البحث عن رأي سليم، ففي ذلك الاجتماع قوة اجتماعية للمسلمين؛ حيث تشدّ النّفوس بعضها إلى بعض.

مارس أمير المؤمنين الاستشارة عملياً، فالمؤرّخون يذكرون أنّه بعد قتل أشرس بن حسّان البكري وأصحابه في الأنبار، عندما كانوا على مسلحتها على يد كتائب بقيادة سفيان بن عوف، وصل الخبر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وعندما دعا ( عليه السلام ) الناس وانتدبهم إلى لقاء الأعداء، إلاّ أنّهم لم يحسنوا السمع والإجابة وأكثروا الكلام، ولم يجب دعوته ( عليه السلام ) إلاّ ثلاثمِئة نفر.

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٨.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٥٤.

٩١

حزن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعلت وجهه الكآبة، وجاءه بعض الأصحاب يواسونه بالموالاة والنصرة، ( فقام حجر بن عديّ الكندي وسعيد بن قيس الهمداني، فقالا: لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين، مرنا بأمرك نتبعه، فو الله! ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا إن قُتلت في طاعتك.

فقال:تجهّزوا للمسير إلى عدوّنا ، فلمّا دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه، قال لهم:أَشيروا عليّ برجلٍ صليب ناصح، يحشر النّاس من السواد .

فقال له: سعيد بن قيس: يا أمير المؤمنين! أشير عليك بالناصح الأَريب الشجاع الصليب، معقل بن قيس التميمي.

قال:نعم ، ثمّ دعاه فوجّهه، فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) )(١) .

ذكر ابن أعثم الكوفي أحداث تاريخية شاور فيها الإمام أصحابه، صرفنا القلم عنها خشية الإطالة(٢) .

٣. التصحيح

هو عبارة عن حذف وإقصاء الثّقافة الخاطئة عن مجتمع المسلمين، وإعادة الثقافة الصحيحة إلى مكانها.

الغاية من هذه الوظيفة التصحيحية هي تسريع الحركة الثقافية و

____________________

(١) الغارات: ٢/٤٨٢، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ٢/٩٠.

(٢) الغارات: ٢/٣٥٢ - ٣٧٣ - ٤٤٢.

٩٢

تنشيطها داخل المجتمع، قد اتخذ التصحيح من جانب الإمام ( عليه السلام ) أشكالاً مختلفة بحسب نوع الخطأ الذي تمّ تحديده، الأشكال التصحيحية كما يلي:

١. تصحيح الدافع الثقافي: إنّ أيّ حركة ثقافية يُراد تصحيحها لابّد من تصحيح جذورها؛ لأنّها النقطة الأُولى التي خرجت منها الحركة، عنه ( عليه السلام ) لسائل سأله عن معضلة:( سَلْ تَفَقُّهاً وَلا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً ) (١) .

التصحيح سلّطه الإمام على دافع السؤال والمنطلق الأَوّل الذي خرج منه السؤال، فإذا كان دافع ونية السؤال خاطئةً، فحينئذٍ يكون صبّ العلم وإفراغه على محلّ ونية خاطئةً( وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ ) (٢) .

٢. تصحيح الضابط الثقافي: الإمام بيّن المعيار الصحيح لمعرفة الحق لأحد أصحابه، نهض الحارث بن حَوط الليثي إلى عليّ بن أبي طالب وهو على المنبر، فقال أتظنّ أنّا نظنّ أنّ طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال:( يا حارث، إنّه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يُعرف بالرّجال، فاعرف الحق تعرف أهله ) (٣) .

إنّ الإمام ( عليه السلام ) أعطى ضابطاً مهّماً لمعرفة الحق وهو: اعرف الحق تعرف أهله، وشطب على المعيار الخاطئ الذي كان ينظر بن الحارث بن حوط.

٣. تصحيح المفهوم الثقافي: على الإنسان المسلم أن لا يقف عند قالب اللفظ، بل عليه أن يعبر إلى المفهوم الواسع للكلمة؛ للإشراف على حقيقتها، قال ( عليه السلام )، لقائل بحضرته ( أَستغفرُ الله ):( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ؟

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣٢٠ / ٧٠٦؛ الغارات: ١/١٧٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر / الحكمة: ٢٦٢.

٩٣

الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ) (١) .

٤. تصحيح الاستعمال الثقافي: بعض الاستعمالات الثقافية ليس صحيحة، وقد لاحظ الإمام ( عليه السلام ) رجلاً يهنّئ آخر - بمولود وُلد له - باستعمال ثقافي خاطئ، فقال له: ليهنئك الفارس، فقال ( عليه السلام ):(لا تَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قُلْ، شَكَرْتَ الْوَاهِبَ وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَرُزِقْتَ بِرَّهُ ) (٢) .

هنّأ الإمام ( عليه السلام ) بعد أن نحّى الاستعمال الخاطئ طرح الاستعمال الصحيح.

٤. الترشيد

الترشيد في اللغة من ( رشد: والرّشد والرّشد خلاف الغيّ، يُستعمل استعمال الهداية )(٣) و( أَرشدَهُ: هداه ودَلَّه )(٤) .

____________________

(١) نفس المصدر: الحكمة: ٤١٧.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٣٥٤.

(٣) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ٢٢١.

(٤) المعجم الوسيط: ٢/ ٣٤٦.

٩٤

ورد معنى الرشد في كلمات أمير المؤمنين بمعنى أنّ أداء الطاعة يترشّح منها الأمن والهداية( مَن يُطع الله يأمن ويرشد، ومَن يعصه يخب ويندم ) (١) .

كما أنّ الرّشد والهداية الّتي يعرفها النّاس عن أمير المؤمنين، هي هداية النّاس والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: ( إن يولّوها علياً - في كلام وقد مرّ - تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم )(٢) .

في رواية الزبير بن بكار التي ينقلها عن قبيصة بن جابر الأسدي، أنّ رجلاً سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الإيمان، فخطب في النّاس وبيّن صفة الإيمان ودعائمه والشُعب التي يقوم عليها، حتى أنّ الرّجل السائل قام شاكراً لأمير المؤمنين ترشيده وهدايته وبيانه.

قام رجل إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فسأله عن الإيمان، فقام ( عليه السلام ) خطيباً فقال:( الحمد الله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمَن وردهُ ...

فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب الموت، وبالموت تُختم الدّنيا، وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين.

والإيمان على أربع دعائم: الصبر واليقين والعدل والجهاد.

____________________

(١) أمالي المفيد: ٢١٢.

(٢) مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): ٢/٥٨٨.

٩٥

فالصبر على أربع شُعب: الشوق والشفق والزهادة والترقّب، أَلا مَن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومَن أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومَن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب فهذه صفة الإيمان ودعائمه.

فقال له السائل: لقد هديت يا أمير المؤمنين وأرشدت، فجزاك الله عن الدين خيراً(١) .

في بيان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للإيمان تجلى الطريق العلمي والعملي للترشيد، قد وصل البلاغ العذر - من قبل الإمام - إلى الناس وأدخلهم إلى الطريق الواضح المستقيم،( لقد حملتكم على الطرّيق الواضح، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالكٌ، مَن استقام فإلى الجنّة، ومَن زلّ فإلى النار ) (٢) .

في طريق آخر لمعرفة الرّشد، أوضح الإمام أنّ تلك المعرفة تنبثق من معرفة الذي ترك الرّشد( واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الّذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذّي نقضه ) (٣) .

إنّ طريق الهداية إذا لم يتضّمن معرفة عدوّ هذا الطريق، فسوف لن يكون هناك وصول إلى الرّشد؛ إذ من الممكن أن يُقطع الطريق على سالك طريق الرشد، ولن يكون هناك بلوغ إلى أقصاه إذا لم يطّلع على عدو هذا

____________________

(١) نهج البلاغة: الحكمة: ٣١، الأصول الكافي: ٢/٥٠، أمالي الطوسي: ٣٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١١٩.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ١٤٧.

٩٦

الطريق، ونقاط الضعف التي يستغلها للتسلّل والقعود على الصراط.

فالمسلّم عليه أن لا يكتفي وظيفياً بالاطلاع على الثقافة الإيجابية الّتي هي ثقافة الهداية والترشيد، بل عليه أيضاً أن يطّلع على الثقافة الأخرى التاركة للثقافة الإسلامية حتى يتكامل الترشيد.

قد أمر ( عليه السلام ) بالأخذ بنهج الخير ومعرفته والإعراض عن نهج الشر بمعرفته( فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشّرِّ تقصدوا ) (١) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٧.

٩٧

٩٨

الفصل التاسع: الإمام علي ( عليه السلام ) والأساليب الثقافية

تعددت الأساليب الثقافية وتنوّعت عناوينها بحسب الشؤون والأحداث الّتي عالجها الإمام، وقد اقتضى كلّ موقف أُسلوباً وغايةً يختصان به، هذه الأساليب هي كما يلي:

١. الأسلوب الوعظي

استخدم الإمام هذا الأسلوب كثيراً والغاية منه هي الوصول إلى ثمرة التقوى.

في هذا الأسلوب نثر الإمام (عليه السلام) لآليء مواعظه، والتي هي جامعة للعِظة والحكمة، حسب رأى ابن أبي الحديد( فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأَوّلكم آخركم ) .

قال الرضي رحمه الله: ( أقول إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه

٩٩

وبعد كلام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بكلّ كلام، لمال به راجحاً وبرّز عليه سابقاً )(١) .

إنّ علة جامعية هذه الموعظة المليئة معنىً، هي أنّ الإمام ذكر الغاية والمحرك والمسير والمصير في عبارة واحدة جامعة للعظة.

مرّة أخرى طُلب من أمير المؤمنين موعظة مختصرة، فوعظ بذكر الدار ودقة الإقامة فيها، وذكر السبق في العمل والإعراض عن التأسي بالنبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى الرّغبات؛ قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): عظنا وأوجز، فقال:

( الدنيا في حلالها حساب وحرامها عقاب، وأنّى لكم بالرَّوح ولمّا تأسَّوا بسنة نبيكم، تطلبون ما يطغيكم ولا ترضون ما يكفيكم ) (٢) .

هناك خطب كثيرة تضمنت الحكمة والموعظة الحسنة، وقد آثرنا الاختصار وتجنّبنا الإكثار؛ لأنّها فوق التعريف لشهرتها.

٢. الأسلوب التذكيري

الغاية من هذا الأسلوب هي النظر في العواقب واستلهام العبرة، قد ورد في التنزيل الحكيم:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٣) و( أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ ) (٤) جاء في كلام له ( عليه السلام ):( وليكن نظركم عبراً ) (٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ١/٣٠١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٤٥٩.

(٣) الروم: ٩.

(٤) فاطر: ٣٧.

(٥) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183