الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة30%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103196 / تحميل: 8048
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وحين التشييع اعترض النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» نعشه ، وقال برقة وحزن وكآبة : وصلت رحما ، وجزيت خيرا يا عم ، فلقد ربيت وكفلت صغيرا ، ونصرت وآزرت كبيرا(١) .

لماذا لم يأمر بالصلاة عليه؟ :

وإنما لم يأمر عليا «عليه السلام» بالصلاة عليه ، لأن صلاة الجنازة لم تكن فرضت بعد.

ولأجل ذلك قالوا : إن خديجة لم يصل عليها النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» حينما توفيت ، مع أنها سيدة نساء العالمين.

وقد فصلت ذلك : الرواية التي رواها علي بن ميثم ، عن أبيه عن جده : أنه سمع عليا «عليه السلام» يقول : تبع أبو طالب عبد المطلب في كل أحواله حتى خرج من الدنيا وهو على ملته ، وأوصاني أن أدفنه في قبره ، فأخبرت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذلك ، فقال : اذهب فواره ، وانفذ لما أمرك به.

فغسلته ، وكفنته ، وحملته إلى الجحون ، ونبشت قبر عبد المطلب ، فرفعت الصفيح عن لحده ، فإذا هو موجه إلى القبلة ، فحمدت الله تعالى على ذلك ،

__________________

ج ١ ص ٢٨٣ ، وعمدة القاري ج ٣ ص ٤٣٥ ، وأسنى المطالب ص ١٥ و ٢١ و ٣٥ وطلبة الطالب ص ٤٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي والبرزنجي ، وابن خزيمة ، وأبي داود ، وابن عساكر.

(١) راجع : البحار ج ٣٥ ص ١٢٥ و ١٦٣ ، وراجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٧٦ والإصابة (ط مصر سنة ١٣٢٥ ه‍) ج ٧ ص ١١٣ وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج ٢ ص ٥٥٧ والغدير ج ٧ ص ٣٨٦ والدرجات الرفيعة لابن معصوم ص ٦٢.

٢١

ووجهت الشيخ ، وأطبقت الصفيح عليهما ، فأنا وصي الأوصياء وورثت خير الأنبياء.

قال ميثم : والله ما عبد علي ، ولا عبد أحد من آبائه غير الله تعالى ، إلى أن توفاهم الله تعالى(١) .

رثاء علي عليه السّلام لأبيه :

وقد رثاه ولده الإمام علي «عليه السلام» حينما توفي بقوله :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظلم

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ

فصلى عليك ولي النعم

ولقاك ربك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم(٢)

ولا أبو سفيان كأبي طالب عليه السّلام :

وكتب أمير المؤمنين «عليه السلام» رسالة مطولة لمعاوية جاء فيها :

«ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق»(٣) .

__________________

(١) سفينة البحار ج ٥ ص ٣٢١.

(٢) تذكرة الخواص ص ٩.

(٣) صفين لنصر بن مزاحم ص ٤٧١ والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٢٦٠ ، ونهج البلاغة الذي بهامشه شرح الشيخ محمد عبده ج ٣ ص ١٨ الكتاب رقم ١٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١١٧ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١١٨ ، والغدير ج ٣ ص ٢٥٤ عنهم ، وعن : ربيع الأبرار للزمخشري باب ٦٦ ، وعن مروج الذهب ج ٢ ص ٦٢. وراجع أيضا : مناقب الخوارزمي الحنفي ص ١٨٠.

٢٢

فإذا كان أبو طالب «عليه السلام» كافرا وأبو سفيان مسلما ، فكيف يفضل الكافر على المسلم ، ثم لا يرد عليه ذلك معاوية بن أبي سفيان؟.

ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما ؛ فإن أبا سفيان هو الذي قال : «إنه لا يدري ما جنة ولا نار» كما ذكرناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم في أواخر غزوة أحد(١) .

ويلاحظ هنا أيضا : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» يشير في كلامه الآنف الذكر إلى عدم صفاء نسب معاوية ، ولهذا البحث مجال آخر.

أبو طالب عليه السّلام الداعية إلى الإسلام :

كما أن أبا طالب «عليه السلام» الذي يدعو ملك الحبشة إلى الإسلام ، هو الذي دعا ولده جعفر إلى ذلك ، وأمره بأن يصل جناح ابن عمه في الصلاة(٢) .

وهو أيضا الذي دعا زوجته فاطمة بنت أسد إلى الإسلام(٣) .

وأمر حمزة بالثبات على هذا الدين ، وأظهر سروره بإسلامه ومدحه على ذلك.

وكذلك الحال بالنسبة لولده أمير المؤمنين «عليه السلام».

__________________

(١) الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج ٧ ص ٢٨٤.

(٢) راجع : الأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ١٥٤ ، وروضة الواعظين ص ١٤٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٦٩ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٦٩ وأسنى المطالب ص ١٧ والإصابة ج ٤ ص ١١٦ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٨٧ والغدير ج ٧ ص ٣٥٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٧٢.

٢٣

الاعتراف بممارسة التقية :

وقد صرح أبو طالب «عليه السلام» في وصيته بأنه كان قد اتخذ سبيل التقية في شأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» من قريش ، وأن ما جاء به الرسول «صلى الله عليه وآله» قد قبله الجنان وأنكره اللسان ؛ مخافة الشنآن ، وأوصى قريشا بقبول دعوة الرسول ، ومتابعته على أمره ، ففي ذلك الرشاد والسعادة(١) .

موقف النبي صلّى الله عليه وآله من أبي طالب عليه السّلام :

ثم هناك ترحم النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» عليه ، واستغفاره له باستمرار ، وجزعه عليه عند موته(٢) .

ولا يصح الترحم إلا على المسلم ، ولأجل ذلك قال «صلى الله عليه وآله» لسفانة بنت حاتم الطائي : لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه(٣) .

__________________

(١) الروض الأنف ج ٢ ص ١٧١ وثمرات الأوراق ص ٩٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠١ و ٣٠٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٥٢ والبحار ج ٣٥ ص ١٠٧ والغدير ج ٧ ص ٣٦٦ عن مصادر أخرى.

(٢) تذكرة الخواص ص ٨.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٠٥ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٦٤ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج ١١ ص ٣٥٩ وج ٦٩ ص ٢٠٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٣٢ وسبل الهدى والرشاد للشامي ج ٦ ص ٣٧٧ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٤٠٠.

٢٤

أنا على دين أبي طالب عليه السّلام :

وحمل محمد بن الحنفية يوم الجمل على رجل من أهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب ، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه(١) .

شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله له :

وورد عنه «صلى الله عليه وآله» أيضا قوله : إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي ، وأمي ، وعمي أبي طالب ، وأخ لي كان في الجاهلية(٢) .

فإن الشفاعة لا تحل لمشرك ، كما سيأتي.

إقراره على زواجه بمسلمة :

وسئل الإمام السجاد «عليه السلام» عن إيمان أبي طالب «عليه السلام» ، فقال : واعجبا ، إن الله نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر ؛ وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام ، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات(٣) .

__________________

(١) طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٥ ص ٦٧.

(٢) ذخائر العقبى ص ٧ عن تمام الرازي في فوائده ، والدرج المنيفة للسيوطي ص ٨ ومسالك الحنفا ص ١٤ عن أبي نعيم وغيره وذكر أن الحاكم صححه ، وتفسير القمي ج ١ ص ٣٨٠ وتفسير البرهان ج ٢ ص ٣٥٨ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٢.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٨ ، والغدير ج ٧ ص ٣٨١ و ٣٨٩ عنه وعن : كتاب الحجة ص ٢٤ ، والدرجات الرفيعة ، وضياء العالمين ، وادّعي تواتر هذا الحديث عندنا.

٢٥

ونزول آية النهي عن الإمساك بعصم الكوافر في المدينة لا يوجب بطلان هذه الرواية ، لإمكان أن يكون النهي عن ذلك نهيا قوليا على لسانه «صلى الله عليه وآله» ، قبل نزول القرآن.

وعدم خضوع بعض المسلمين لذلك حينئذ ربما كان لظروف معينة فرضت عليهم ذلك.

من لم يقر بإيمان أبي طالب عليه السّلام :

وأخيرا ، فقد كتب بعضهم يسأل الإمام علي بن موسى الرضا «عليه السلام» عن إسلام أبي طالب «عليه السلام» ، فإنه قد شك في ذلك ، فكتب «عليه السلام» إليه :( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

وبعدها : إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(٢) .

دفاع النبي صلّى الله عليه وآله عن أبي طالب عليه السّلام :

وسيأتي في غزوة بدر : أن الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» لم يقبل من شهيد بدر عبيدة بن الحارث أن يعرض بعمه أبي طالب «عليه السلام» ، ولو بمثل أن يقول : إني أولى بما قال منه.

__________________

(١) الآية ١١٥ من سورة النساء.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٨ والغدير ج ٧ ص ٣٨١ و ٣٩٤ عن الكراجكي ص ٨٠ ، وكتاب الحجة لابن معد ص ١٦ ، والدرجات الرفيعة والبحار وضياء العالمين.

٢٦

بعد قتل الفرسان الثلاثة :

وفي بدر العظمى ، وبعد قتل عتبة وشيبة والوليد ، وقطع رجل عبيدة بن الحارث ، حمل حمزة والإمام علي «عليهما السلام» عبيدة بن الحارث من المعركة ، وأتيا به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وألقياه بين يديه ، وإن مخ ساقه ليسيل ، فاستعبر ، وقال : يا رسول الله ، ألست شهيدا؟!

قال : بلى ، أنت أول شهيد من أهل بيتي (مما يشير إلى أنه لسوف تأتي قافلة من الشهداء من أهل بيته «صلى الله عليه وآله» ، وهكذا كان).

فقال عبيدة : أما لو كان عمك حيا لعلم أني أولى بما قال منه ، قال : وأي أعمامي تعني؟

قال : أبو طالب ، حيث يقول :

كذبتم وبيت الله يبزى محمد

ولما نطا عن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال «صلى الله عليه وآله» : أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة؟!.

قال : يا رسول الله ، أسخطت علي في هذه الحالة؟

قال : ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمي ، فانقبضت لذلك(١) .

__________________

(١) راجع : تفسير القمي ج ١ ص ٢٦٥ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٥٥ ، وفي شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٨٠ : أن رسول الله استغفر له ولأبي طالب يومئذ. والغدير ج ٧ ص ٣١٦.

وفي نسب قريش لمصعب ص ٩٤ : أن عبيدة قال : «يا رسول الله ليت أبا طالب حيا

٢٧

وبلغ عبيدة مع النبي «صلى الله عليه وآله» الصفراء ، فمات ، فدفن بها

وقد روى كثير من المؤرخين هذه القضية من دون ذكر القسم الأخير منها.

قالوا : ونزل في هؤلاء الستة قوله تعالى :( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) (١) .

وفي البخاري : أن أبا ذر كان يقسم : أنها نزلت فيهم(٢) .

ونزل في علي ، وحمزة ، وعبيدة أيضا قوله تعالى :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) (٣) .

__________________

حتى يرى مصداق قوله إلخ».

وربما يقال : إن هذا هو الأنسب بأدب عبيدة وإخلاصه ، ولكن لا ، فإن قوله الآنف لا يضر في أدبه ولا في إخلاصه ، حيث يرى نفسه قد ضحى بنفسه في سبيل الدين ، فلا مانع من أن يقول ذلك.

(١) الآية ١٩ من سورة الحج.

(٢) البخاري (ط الميمنية) ج ٣ ص ٤ ، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١١٨ عن مسلم ، من دون قسم أبي ذر ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج ٢ ص ٣٨٦ ، وصححه هو والذهبي في تلخيصه ، والغدير ج ٧ ص ٢٠٢ عن : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٣ ص ٢١٢ ، وتفسير ابن جزي ج ٣ ص ٣٨ ، وتفسير الخازن ج ٣ ص ٦٩٨ ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٢ ص ٢٥ و ٢٦ ، وصحيح مسلم ج ٢ ص ٥٥٠ ، وبهذا قال ابن عباس ، وابن خثيم ، وقيس بن عباد ، والثوري ، والأعمش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء.

(٣) الآية ٢٣ من سورة الأحزاب ، الصواعق المحرقة ص ٨٠.

٢٨

وقيل : نزلت في علي وحده(١) .

وثمة عدة آيات أخرى نزلت في بدر في الثناء على أمير المؤمنين «عليه السلام»(٢) فراجع.

غضب النبي «صلّى الله عليه وآله» لأبي طالب عليه السّلام :

ونقول :

إنه إذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله» يغضب لذكر عمه ، ولو بهذا النحو من التعريض المهذب ، والمحدود ، فماذا سيكون موقفه ممن يرمي أبا طالب «عليه السلام» بالشرك والكفر ، ويعتبره مستحقا للعذاب الأليم في نار الله المؤصدة؟! وفي ضحضاح من نار يغلي منه دماغه؟!

فهل تراه سوف يكون مسرورا ومرتاحا لهذا الكلام ، الذي لا سبب له إلا السياسة ، وما أدراك ما السياسة؟!

وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى :

ثم إننا نجد النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه يقول : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة»(٣) .

كما أنه «صلى الله عليه وآله» قد رد هدية حكيم بن حزام ؛ لأنه كان مشركا ، قال عبيد الله :

__________________

(١) مناقب الخوارزمي ص ١٨٨ ، والكفاية للخطيب ص ١٢٢.

(٢) المناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١١٨ وغيره.

(٣) راجع أبو طالب مؤمن قريش للخنيزي.

٢٩

حسبت أنه قال : إنا لا نقبل من المشركين شيئا ، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن(١) .

ورد أيضا هدية عامر بن الطفيل ، لأنه لم يكن قد أسلم بعد.

ورد أيضا هدية ملاعب الأسنة ، وقال : لا أقبل هدية مشرك(٢) .

عن عياض المجاشعي : أنه أهدى إلى النبي هدية فأبى قبولها ، وقال : إني نهيت عن زبد المشركين(٣) .

ولم يكن ذلك منه «صلى الله عليه وآله» إلا لأن قبولها يوجب احتراما ومودة من المهدى إليه بالنسبة لمن أهدى.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٨٤ وتلخيصه للذهبي بهامش نفس الصفحة ، وصححاه. وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٥٨ و ٢٥٩ و ٢٦٠ عن كنز العمال وعن مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٧٨ وكنز العمال ج ٦ ص ٥٧ و ٥٩ عن أحمد والطبراني ، والحاكم وسعيد بن منصور ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٦ ويلاحظ هنا : أنه (صلى الله عليه وآله) حين الهجرة لا يقبل ناقة أبي بكر إلا بالثمن.

(٢) كنز العمال (طبعة أولى) ج ٣ ص ١٧٧ عن ابن عساكر و (ط ثانية) ج ٦ ص ٥٧ عن الطبراني والمصنف لعبد الرزاق ج ١ ص ٤٤٦ و ٤٤٧ وفي الهامش عن مغازي ابن عقمة ومجمع البيان المجلد الأول ص ٥٣٥.

(٣) كنز العمال ج ٦ ص ٥٧ و ٥٩ عن أبي داود والترمذي وصححه وأحمد والطيالسي والبيهقي ، وراجع ما عن عمران بن حصين في الكنز نفس المجلد والصفحة والمصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ٤٤٧ وفي الهامش عن أبي داود وأحمد وعن الترمذي ج ٢ ص ٣٨٩ ، وراجع الوسائل ج ١٢ ص ٢١٦ عن الكافي والمعجم الصغير ج ١ ص ٩.

٣٠

ملاحظة : معالجة رواية الكشي :

إلا أن الكشي ذكر رواية تقول : «إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يرد هدية على يهودي ولا نصراني»(١) .

وهذا إن صح فهو يشير إلى الفرق بين هدية الكتابي وهدية المشرك ، فكان «صلى الله عليه وآله» يرد هدية الثاني ، دون الأول ، وذلك يدل على عدم صحة قوله لهم : إنه «صلى الله عليه وآله» في هدنة الحديبية قد استهدى أبا سفيان أدما(٢) .

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي (ط جامعة طهران) ص ٦١٠ والبحار ج ٥٠ ص ١٠٧ والوسائل ج ١٢ ص ٢١٧.

(٢) راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٩٨ عن الإستيعاب.

٣١
٣٢

البحث الثاني

أبو طالب عليه السّلام المظلوم المفترى عليه

الأدلة الواهية :

لقد حاول الذين يشتهون إثبات كفر أبي طالب «عليه السلام» أن يتشبثوا بطحالب واهية زعموا : أنها أدلة ، نشير ههنا إليها ، فنقول :

١ ـ حديث الضحضاح :

عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع النبي «صلى الله عليه وآله» ، وقد ذكر عنده عمه ، فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح(١) من نار ، يبلغ كعبيه ، يغلي منه دماغه.

وحسب نص آخر : أن العباس قال للنبي «صلى الله عليه وآله» : ما أغنيت عن عمك؟! فو الله كان يحوطك ويغضب لك!!.

قال : هو في ضحضاح من نار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار(٢) .

__________________

(١) الضحضاح : القلقل ، وهنا المكان القليل العمق من النار.

(٢) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ٢ ص ٢٠٩ ، وج ٤ ص ٥٤ ، والمصنف ج ٦ ص ٤١ ، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٩ و ٣٠. وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٩ ، ومسند أحمد ج ١

٣٣

ونقول :

أولا : لقد ناقش كل من الأميني والخنيزي جميع أسانيد هذه الرواية ، وبيّنا وهنها وضعفها ، وتناقض نصوصها العجيب ، إلى حد أن بعض الروايات تجزم بأنه قد جعل في ضحضاح من نار ، وأن الشفاعة قد نفعته فعلا.

لكن بعضها الآخر يقول : لعله تنفعه شفاعتي ، فيجعل في ضحضاح يوم القيامة.

ونحن نحيل القارئ الذي يرغب في التوسع إلى ما ذكره الأميني والخنيزي في كتابيهما حول هذا الموضوع(١) .

ثانيا : إنه إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد نفع أبا طالب «عليه السلام» ، وأخرجه من الدرك الأسفل إلى الضحضاح ؛ فلماذا لا يتمم معروفه هذا ، ويخرجه من هذا الضحضاح أيضا؟!.

ثالثا : لقد رووا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد طلب من أبي طالب حين حضرته الوفاة : أن يقول كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ؛ ليستحل له بها الشفاعة يوم القيامة ، فلم يعطه إياها.

فهذا يدل على أنه قد أناط «صلى الله عليه وآله» مطلق الشفاعة بكلمة

__________________

ص ٢٥٦ و ٢٠٧ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٢٥ ، والغدير ج ٨ ص ٢٣ عن بعضهم ، وعن عيون الأثر ج ١ ص ١٣٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٦.

(١) راجع : الغدير ج ٨ ص ٢٣ و ٢٤ وأبو طالب مؤمن قريش.

٣٤

لا إله إلا الله(١) .

فلماذا استحل هذه الشفاعة ، مع أنه لم يعطه الكلمة التي توجب حليتها؟!.

رابعا : إنهم يروون : أن الشفاعة لا تحل لمشرك ، فلماذا حلت لهذا المشرك بالذات ، بحيث أخرجته من الدرك الأسفل إلى الضحضاح؟(٢) .

خامسا : قال المعتزلي : إن الإمامية والزيدية «قالوا : وأما حديث الضحضاح ، فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد ، وهو المغيرة بن شعبة ، وبغضه لبني هاشم ، وعلي «عليه السلام» بالخصوص مشهور ومعلوم ، وقصته وفسقه غير خاف»(٣) .

غير أننا نقول : إنه يمكن المناقشة في ذلك بأنهم قد رووا ذلك عن غير المغيرة أيضا ، فراجع البخاري وغيره.

فلعل رواية غير المغيرة قد حدثت في وقت متأخر بهدف تكذيب الشيعة ، ونقض استدلالهم ، فتلقفها البخاري.

__________________

(١) الترغيب والترهيب ج ٤ ص ٤٣٣ عن أحمد بسندين صحيحين ، وعن البزار ، والطبري بأسانيد أحدها جيد وابن حبان في صحيحه وراجع : الغدير ج ٨ ص ٨ فما بعدها.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٣٦ ، وتلخيصه للذهبي وصححاه والمواهب اللدنية ج ١ ص ٧١ والغدير ج ٨ ص ٢٤ عنهما وعن كنز العمال ج ٧ ص ١٢٨ ، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ١ ص ٢٩١ وكشف الغمة للشعراني ج ٢ ص ١٢٤ ، وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٢٠.

(٣) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٧٠ والبحار ج ٣٥ ص ١١٢.

٣٥

وذلك لأن من غير المعقول أن يورد الشيعة على غيرهم بذلك إن لم يكن له واقع

وقد سكت المعتزلي عن هذا الرد ، وعن جوابه ، وكأنه يحتمل ما احتملناه ، ولو وسعه التأكيد على الرد لفعل.

سادسا : سئل الإمام الباقر «عليه السلام» عما يقوله الناس : إن أبا طالب في ضحضاح من نار؟

فقال : لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة أخرى لرجح إيمانه.

ثم قال : ألم تعلموا : أن أمير المؤمنين عليا «عليه السلام» كان يأمر أن يحج عن عبد الله ، وابنه ، وأبي طالب في حياته ، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم(١) ؟!

سابعا : سئل الإمام علي «عليه السلام» في رحبة الكوفة عن كون أبيه معذبا في النار أو لا ، فقال للسائل : مه ، فض الله فاك!! والذي بعث محمدا بالحق نبيا ، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم. أبي معذب في النار ، وابنه قسيم الجنة والنار؟!(٢) .

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٨ ، والدرجات الرفيعة ص ٤٩ ، والبحار ج ٣٥ ص ١١٢ والغدير ج ٨ ص ٣٨٠ ـ ٣٩٠ عنهما وعن كتاب الحجة لابن معد ص ١٨ من طريق شيخ الطائفة عن الصدوق ، والفتوني في ضياء العالمين.

(٢) البحار ج ٢٥ ص ٦٩ وج ٣٥ ص ١١٠ والإحتجاج (ط مطبعة النعمان) ج ١ ص ٣٤١ وكنز الفوائد للكراجكي (ط حجرية) ص ٨٠ وكشف الغمة للإربلي (ط دار الأضواء) ج ٢ ص ٤٢ والغدير ج ٧ ص ٣٨٧.

٣٦

ثامنا : روى عبد العظيم بن عبد الله العلوي : أنه كان مريضا ، فكتب إلى أبي الحسن الرضا «عليه السلام» : عرفني يابن رسول الله عن الخبر المروي : أن أبا طالب في ضحضاح من نار ، يغلي منه دماغه.

فكتب إليه الرضا «عليه السلام» : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أما بعد ، إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(١) .

تاسعا : بالإسناد إلى الكراجكي ، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال : يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟!

قلت : جعلت فداك ، يقولون هو في ضحضاح من نار ، وفي رجليه نعلان من نار ، تغلي منها أم رأسه.

فقال «عليه السلام» : كذب أعداء الله ، إن أبا طالب من رفقاء النبيين ، والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا(٢) .

وفي رواية أخرى عنه «عليه السلام» : كذبوا ، والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان ، لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم(٣) .

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ص ١١١ وإيمان أبي طالب للمفيد ص ٤ وسفينة البحار ج ٥ ص ٣١٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٤٤٧ و ٥٥٨ وراجع الغدير ج ٧ ص ٣٩٥.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ١١١ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠ والغدير ج ٧ ص ٣٩٣.

(٣) البحار ج ٣٥ ص ١١٢ وإيمان أبي طالب للمفيد ص ٤ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٦٩ ومدينة المعاجز ج ٧ ص ٥٣٥ والغدير ج ٧ ص ٣٩٠ وسفينة البحار ج ٥ ص ٣١٦.

٣٧

٢ ـ إرث عقيل لأبي طالب عليه السّلام :

واستدلوا : بأن ولده عقيل هو الذي ورثه ، ولم يرثه الإمام علي وجعفر «عليهما السلام» ، لأنه كان مشركا ، وهما مسلمان.

فهما من ملتين مختلفتين ، وأهل ملتين لا يتوارثان(١) .

ولكن ذلك لا يصح أيضا.

فأولا : من أين ثبت لهؤلاء أن الإمام عليا وجعفر «عليهما السلام» لم يرثاه.

ثانيا : إن قوله أهل ملتين لا يتوارثان.

نقول بموجبه ؛ لأن التوارث تفاعل ، ولا تفاعل عندنا في ميراثهما ، واللفظ يستدعي الطرفين ، كالتضارب ، فإنه لا يكون إلا من اثنين ، ولأجل ذلك نقول : إن الصحيح هو مذهب أهل البيت «عليهم السلام» ، من أن المسلم يرث الكافر ، ولا يرث الكافر المسلم(٢) . فالإرث إذا من طرف واحد ، لا من طرفين!.

ثالثا : لقد روي عن عمر قوله : «أهل الشرك نرثهم ولا يرثونا»(٣) .

وقد حكم كثير من العلماء بأن ميراث المرتد للمسلمين لا يصح ؛ وقالوا : نرثهم ولا يرثونا(٤) .

__________________

(١) المصنف ج ٦ ص ١٥ ، وج ١٠ ص ٣٤٤ ، وفي هامشه أي هامش السادس عن البخاري ج ٣ ص ٢٩٣ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٩.

(٢) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٩.

(٣) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١٠ ص ٣٣٩ وج ٦ ص ١٠٦.

(٤) المصنف لعبد الرزاق ج ٦ ص ١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ وج ١٠ ص ٣٣٨ حتى ص ٣٤١.

٣٨

رابعا : إنهم يقولون : إن الميراث في وقت موت أبي طالب لم يكن قد فرض بعد ، وإنما كان الأمر بالوصية ؛ فلعل أبا طالب قد أوصى بماله لعقيل محبة له ، أو لما يراه من فقره وخصاصته ، فأنفذ أولاده وصيته.

أو أن عليا وجعفر قد تركا لأخيهما نصيبهما من الإرث على سبيل الإيثار له ، لما يرونه من حاجته ، وضيق ذات يده.

بل قد يكون أبو طالب قد تنازل عن ماله لعقيل في حال حياته ، فلم يبق شيء لكي يرثه علي وجعفر بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين(١) .

٣ ـ آية :( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) :

لقد ذكروا : أن آية :( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) (٢) قد نزلت في أبي طالب «عليه السلام» ، الذي كان ينهى الناس عن أذى الرسول ، وينأى عن أن يدخل في الإسلام(٣) .

ونقول :

__________________

(١) راجع : أسنى المطالب ص ٦٢.

(٢) الآية ٢٦ من سورة الأنعام.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ١١٥ ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ١٢٧ ، وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٧٨ ، وبهجة المحافل ج ١ ص ١١٦ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٦ والغدير ج ٨ ص ٣ عنهم وعن : تفسير الخازن ج ٢ ص ١١ ، وتفسير ابن جزي ج ٢ ص ٦ ، وعن الطبري والكشاف ، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣٤٠ و ٣٤١.

٣٩

أولا : لقد تحدث الأستاذ الخنيزي حول أسانيد هذه الرواية بما فيه الكفاية(١) فليراجعه من أراد.

ثانيا : إن هذه الآية لا تنطبق على أبي طالب «عليه السلام» بأي وجه ؛ لأن الله تعالى يقول قبلها :

( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) (٢) .

فضمائر الجمع ، وهي كلمة : «هم» ، وفاعل «ينهون » و «ينأون » ترجع كلها إلى من ذكرهم الله في تلك الآية ، وهم المشركون ، الذين إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، ويجادلون الرسول في هذه الآيات ، ويصفونها من عنادهم بأنها أساطير الأولين.

ولا يقف عنادهم عند هذا الحد ، بل يتجاوزه إلى أنهم : ينهون الناس عن الاستماع إلى النبي محمد «صلى الله عليه وآله» ، كما أنهم هم أنفسهم يبتعدون عنه.

وهذه الصفات كلها لا تنطبق على أبي طالب «عليه السلام» ، الذي لم نجد منه إلا التشجيع على اتباع النبي «صلى الله عليه وآله» ، والنصرة له باليد واللسان. وقد حض أشخاصا بأعيانهم على أن يدخلوا في هذا الدين ، وأن يصبروا عليه ، كما كان الحال بالنسبة لزوجته ، وحمزة ، وجعفر ، وعلي ،

__________________

(١) أبو طالب مؤمن قريش ص ٣٠٥ و ٣٠٦.

(٢) الآيتان ٢٥ و ٢٦ من سورة الأنعام.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الشيطان ومعاقبة العدو، عن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ):( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مُهاناً ترضي الرّحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فو الذّي فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحِلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السّكوت عنه ) (١) .

فالمنع وطرح البديل اللائق، كفيلان بتحصين وحفظ الثقافة الإسلامية من الأهواء والثقافات الأخرى، وجدير بالذكر أنّ المنع يعتبر وسيلةً دفاعية محضة.

ب. التهذيب

تهذيب البلاغ الثقافي يبتدئ من تهذيب الإنسان لآلات التوصيل والارتباط الثقافي.

فاللسان يعبّر عن حقيقة الكلام وقوّته، والكلام من دون تدبير وتفكير يُفقد المرء الاتزان والتعادل، ويجنح بصاحبه نحو المزالق؛ لأجله في عملية التحصين وممارسة التهذيب على المؤمن أن يتدبّر كلامه؛( لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ ) (٢) .

____________________

(١) أمالي المفيد: ١١٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٧٦.

٨١

فالمحلّ الأوّل للكلام في داخل النفس، والمؤمن يتفحص الكلام ويقلّب وجوهه، فإن أصاب الخير أظهره، وان كان فيه الشرّ أنكره؛ لأنّ هذا التهذيب الداخلي هو التأني والتدبّر لنتائج الكلام.

إنّ أمير المؤمنين يعمّق الوعي ويحدّ الرؤية في عملية التهذيب، بحيث إنّها تشمل قنوات وأعضاء أخرى في وجود الإنسان، مثل الخطأ الطفيف لحاسّة البصر الّتي ربّما جلبت مضرّةً، والتي عبّر عنها الإمام بـ ( رمزات الألحاظ ) حيث قد تعني تلك الألحاظ معاني سيئة، ومثل الألفاظ التي ينقلب المعنى فيها إلى غير القصد الصحيح والنافع، والتي ربّما بعثت على سخط الله تعالى أو تحبط الأعمال منها، أو شهوات القلب المترادفة والتي تضع أهداف الإنسان في أسر الأهواء.

قد ورد في الدعاء عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( اللّهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان ) (١) .

وكما أنّ في جسم الإنسان هذه الأعضاء يطلب تهذيبها، كذلك في المجتمع؛ حيث إنّ مشاهدة العين وتدقيقها على ما يخرج أو ما يرد، ينبغي أن يكون عن معرفة وتقوى في قبول الأشياء الداخلة إلى المجتمع والخارجة منه.

أيضاً سقطات الألفاظ فإنّ بعض الألفاظ التي تصدر من بعض الأفراد قد تكون غير مسؤولة وبعيدة عن التروّي والتفكير. هذه الألفاظ قد تجرّ

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ٧٨.

٨٢

إلى نتائج غير محمودة؛ لذا نجد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدعوا إلى إجالة النظر ومعرفة هويّة الزّمان وأهله( يا بني، إنّه لابدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف زمانه ) (١) .

عندما تكون دائرة المسؤولية كبيرة، ينبغي على الإنسان أن يتصرف بحكمة( يا بنيّ، لا تقل مالا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم ) (٢) .

وليس معنى ذلك أن يبخل المرء في أن يقول ما يعلم، وإنّما على المرء أن يعرف في أيّ وعاء يضع علمه، وفي أيّ محلّ ينفقه، ففيه إشارة إلى مراعاة الحكمة في المواضع التي يرتادها الشخص وينشر علمه.

قد تحصل أنّ التحصين الثقافي، الّذي يتم من خلال التهذيب في تمييز ما يرد عليه من أشياء أو ما يصدر منه، لا بد من أن يكون منسجماً مع ثقافة الإسلام، وهو وسيلة دفاعية أكثر منه هجومية.

ج. التحفيز

هو وسيلة لترغيب الإنسان في أن يكون خلاّقاً ومنتجاً ومفيداً، وهو يعتبر وسيلة هجومية في التحصين الثقافي، وهو بعكس المنع الذي يعتبر وسيلة دفاعية محضة.

حثّ الإمام ( عليه السلام ) على العمل ومعرفة الهدف الذي ينتهي إليه، فكلّما كان العمل ذا هدف سامي، وذا طريقة سليمة من حيث الإحكام والإتقان و

____________________

(١) أمالي الطوسي: ١٤٦.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٢٨٣/٧٢٢، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٠.

٨٣

النّهج المتبع، فإنّ ذلك ينعكس إيجاباً في التأثير والتأثر به ولابدّ منه، بحيث إنّه يصبح نموذجاً يُحتذى به ومثالاً يُقتدى به( الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتِقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ، إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإِنَّ لِلإِسْلامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ ) (١) .

فالعمل مهما كان يحتاج إلى الجدّ أو المثابرة؛ لأنّه مع التهاون والغفلة لا يؤتي التحفيز أُكله،( الجدّ الجدّ أيّها الغافل! ) (٢) .

كيف يمكن مواجهة ومعالجة الغفلة والجمود؟ إنّ ذلك يكون بالعزم والتفكير والتشمير عن ساعد الجدّ والتزوّد من الاستقامة( فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ ) (٣) .

لقائل أن يقول: لا يمكن تحفيز الطاقة وتشغيلها عند الإنسان بالاعتماد على دوافعه الذاتية الخاصّة فقط!

نعم، نحن لا نقول إنّ تنشيط دوافع الإنسان يكون بالاعتماد والاتكاء على الذّات فقط، بل نقول إنّ نفس حث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو تحفيز من الخارج إلى الناس.

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقتصر في هذا التحفيز على الوعظ والتنبيه والحثّ على العمل فقط، بل مضافاً إلى ذلك فرض محفّزات مالية لزيادة

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٧٦.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٣.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ٢٣٠.

٨٤

النشاط والإنتاج والاستفادة، ( عن سالم بن أبي الجعد: فرض عليّ ( عليه السلام ) لمَن قرأ القرآن ألفين ألفين، قال وكان أبي ممّن قرأ القرآن )(١) .

كما أنّ الدوافع الذاتية منشأ التحريك فيها هو ما أعده الله تعالى للذين يعملون الصالحات أو الذين أحسنوا.

فممّا تقدم نلاحظ أنّ التحفيز وسيلة للإبداع وتشغيل القدرات الكامنة في داخل الإنسان، ممّا يجعله وسيلةً تحصينية للثقافة.

د. التبادل الإيجابي

المقصود من التبادل الإيجابي هو ما عناه الحديث الشريف، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال:( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه، ولكن انتفع بعقله واحترس من سيء أخلاقه، ولا تدعنّ صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله، ولكن انتفع بكرمه بعقلك، وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق ) (٢) .

فالتبادل الإيجابي هو مبادرة يقوم بها الإنسان المسلم لإثراء ثقافته من صاحب العقل أو من صاحب الأخلاق؛ لكي يصل إلى مقصوده ومنشوده.

يعتبر التبادل الإيجابي وسيلةً تحصينية متزنة ومعتدلة؛ لأنّها تدعو إلى صحبة ذي العقل وإن لم يحمد كرمه؛ للانتفاع بعقله أو صحبة ذي الكرم؛ للاستفادة من كرمه وإن لم يحمد عقله، أمّا مَن فقد الكرم المحمود والعقل

____________________

(١) كنز العمال: ٢/٣٣٩.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٦٣٨.

٨٥

النافع، فيجب الاحتراز والفرار منه وهو اللئيم الأحمق كما في الرواية الشريفة.

هذا التبادل الإيجابي كما أنّه من الممكن للفرد المسلم ممارسته، كذلك للولايات والأمصار أو الدول تطبيقه في علاقاتها وارتباطاتها، وأخذها ما هو نافع، ولفضها ما هو ضار.

فالملاك في هذا التبادل الثقافي الإيجابي هو أخذ النفع أنّى وجد، وتجنّب الضرر حيث وجد.

على صعيد العلاقات بين المؤمنين، أمر الإمام ( عليه السلام ) بالتفاعل والتواصل وتبادل المحبة والنصح، وتجنّب القطيعة والتدابر:

( عليكم يا بنيّ بالتواصل والتباذِل والتَّبار، وإيّاكم والنفاق والتدابر والتقاطع والتفرّق، وتعاونوا على البّر والتقوى ) (١) .

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

٨٦

الفصل الثامن: الإمام علي ( عليه السلام ) والوظائف الثقافية

الخليفة الذي وُضع للناس معلّماً ومرشداً، له وظائف ثقافية يُمليها عليه طبيعة تكليفه ومسؤوليته.

فالمرشد والزعيم يلاحظ ويراقب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثّقافية والسّياسية في دائرة مسؤوليته، أو الحدود الّتي له صلاحية متابعتها وتقويمها للتي هي أحسن.

لذا كان الإمام ( عليه السلام ) قد مارس وظائف ثقافية؛ لتجديد الحياة الثقافية في أوساط الكوفة، ولتعديل المسار الثقافي باتجاه الهداية الإلهية، سنبيّن تلك الوظائف بما يلي:

١. التشخيص

اعتماد الأُسس الصّحيحة في التشخيص، وإعمال النظر الدقيق فيه، من الأمور التي علّم الإمام ( عليه السلام ) الناس عليها.

٨٧

إنّ إدارة الفحص الحسن وتوطيد الصّحة والسلامة في أفعال الأشخاص وأقوالهم من المسائل المهمة، التي حرّك الإمام عقول وأحاسيس الناس إليها.

فالتشخيص قطبه التقوى ودليله الرؤية القطعية، وهدفه معرفة الحق واتخذ التشخيص طرقاً أربعة:

١. التشخيص عن طريق الرؤية الحسية: هذه الطرّيقة في التشخيص سهلة الممارسة؛ حيث يمارس الإنسان بصره ونظره في رؤية الأشياء ومن ثَمّ يقوم بإصدار الحكم عليها، قد بيّن الإمام ( عليه السلام )، الميزان العدل والموازين القسط في التشخيص السليم وفق هذه الطريقة:

( مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ، وَيُحِيلُ الْكَلامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ ) ، ( فسئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله هذا ) فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال:( الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ ) (١) .

٢. التشخيص عن طريق العلامات الظاهرة: هذه الطريقة تحتاج إلى نوع من المتابعة والوعي، قد وضع الإمام بين يدي النّاس الطريقة العملية في تشخيص أصناف الناس وتحديد هويّاتهم بوضع العلامات المميزّة لهم( ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يُحمد في جميع أموره ) (٢) ( لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاثُ عَلامَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٤١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٢٣٦.

٨٨

فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ ) (١) .

٣. التشخيص عن طريق الرموز الظاهرية والتغييرات النفسية : هذه الطّريقة أصعب تحديداً من سابقاتها وتكون بمتابعة التغييرات النفسية، وما يظهر منها على صفحات الوجوه، حيث إنّ الرّموز الظّاهرة على صفحات الوجه وتغيّر نظرات الإنسان وإيحائها، أو حركات اليد وتعبيراتها، تعبّر عن نوع الانفعال النّفسي المنبسط داخل وجود الإنسان.

هذه الطريقة تحتاج إلى التركيز والدقة، إضافة للفراسة الّتي يمتلكها الفرد عن طريق المعرفة أو الإيمان في تشخيص هذه الرموز( مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ ) (٢) ( الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ) (٣) .

٤. التشخيص لِما في باطن الإنسان عن طريق التقوى العالية : هذه القدرة التشخيصية تحتاج إلى مرتبة معنوية رفيعة، وهي لا تتيسّر لكلّ أحد، إلا بالمراقبة القوية والعمل المستمرّ والجادّ في طاعة الله تعالى، الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال: إنّي أحبّك في السّر كما أحبك في العلانية، قال: فنَكَت أمير المؤمنين بعود كان في يده في الأرض ساعة ثمّ رفع رأسه فقال:كذبت والله.

ثمّ أتاه رجل آخر فقال: إنّي أحبّك، فنَكَت بعود في الأرض طويلاً ثمّ رفع رأسه فقال:

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٢٦.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ١٤٨.

٨٩

( صدقت، إنّ طينتا طينة مرحومة، أخذ الله ميثاقها يوم أخذ الميثاق، فلا يشذّ منها شاذّ، ولا يدخل فيها داخل إلى يوم القيامة ) (١) .

نعيد القول والإشارة إلى أنّ هدف الوظيفة التشخيصية هي معرفة الحق وتمييزه عن الباطل، وقد تجلّت هذه الوظيفة التشخيصية في قول أمير المؤمنين للخوارج لمّا سمع قولهم ( لا حكم إلاّ لله ) قال ( عليه السلام ):( كلمة حقٍّ يُراد بها باطل ) (٢) .

٢. الاستشارة

شاور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أصحابه في أكثر من موطن ومناسبة؛ تأسّياً بالنّبي في سيرته وتجسيداً لقوله تعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى‏ اللّهِ ) (٣) الآية الكريمة كانت تأمر النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) في مشاورة أصحابه، والقرار والعزم النهائي يبقى بيد النبي الكريم، ويتوكل على الله في تنزيل الأمر والموضوع إلى الواقع.

هذه الاستشارة تعني إشراك الأمّة في القضايا الّتي تتعلّق بها، وتحريك فعالية المسلمين نحو الأمور المختلفة( فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ، خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ ) (٤) .

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٤٠.

(٣) آل عمران: ١٥٩.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ١١٨.

٩٠

وهي لا تعني قصور القيادة العليا للمسلمين عن نيل الرأي السديد؛ بل هي من أجل وضع المسلمين في دائرة المسؤولية المتبادلة، وتفعيل دورهم باتجاه القضايا المختلفة.

يبقى الاختيار والقرار بعد المشورة بيد مَن يتولّى أمور المسلمين.

( إنّي لأَولى النّاس بالنّاس، أضمم أراء الرّجال بعضها إلى بعضٍ، ثمّ اختر أقربها إلى الصّواب وأبعدها من الارتياب ) (١) .

للاستشارة بُعدين أو ظهيرين يمكن استشفافهما من الحكمة العلوية( وَلا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ ) (٢) وهما:

١. الظّهير أو البعد العلمي: أي البعد العلمي بضمّ الآراء إلى بعضها، حيث يعطي ضفر الآراء القوّة والمتانة للرأي المستخلص منها.

٢. الظهير أو البعد الاجتماعي: يتمثل في اجتماع المسلمين بمكان واحد لمداولة أمورهم أو البحث عن رأي سليم، ففي ذلك الاجتماع قوة اجتماعية للمسلمين؛ حيث تشدّ النّفوس بعضها إلى بعض.

مارس أمير المؤمنين الاستشارة عملياً، فالمؤرّخون يذكرون أنّه بعد قتل أشرس بن حسّان البكري وأصحابه في الأنبار، عندما كانوا على مسلحتها على يد كتائب بقيادة سفيان بن عوف، وصل الخبر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وعندما دعا ( عليه السلام ) الناس وانتدبهم إلى لقاء الأعداء، إلاّ أنّهم لم يحسنوا السمع والإجابة وأكثروا الكلام، ولم يجب دعوته ( عليه السلام ) إلاّ ثلاثمِئة نفر.

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٨.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٥٤.

٩١

حزن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعلت وجهه الكآبة، وجاءه بعض الأصحاب يواسونه بالموالاة والنصرة، ( فقام حجر بن عديّ الكندي وسعيد بن قيس الهمداني، فقالا: لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين، مرنا بأمرك نتبعه، فو الله! ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا إن قُتلت في طاعتك.

فقال:تجهّزوا للمسير إلى عدوّنا ، فلمّا دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه، قال لهم:أَشيروا عليّ برجلٍ صليب ناصح، يحشر النّاس من السواد .

فقال له: سعيد بن قيس: يا أمير المؤمنين! أشير عليك بالناصح الأَريب الشجاع الصليب، معقل بن قيس التميمي.

قال:نعم ، ثمّ دعاه فوجّهه، فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) )(١) .

ذكر ابن أعثم الكوفي أحداث تاريخية شاور فيها الإمام أصحابه، صرفنا القلم عنها خشية الإطالة(٢) .

٣. التصحيح

هو عبارة عن حذف وإقصاء الثّقافة الخاطئة عن مجتمع المسلمين، وإعادة الثقافة الصحيحة إلى مكانها.

الغاية من هذه الوظيفة التصحيحية هي تسريع الحركة الثقافية و

____________________

(١) الغارات: ٢/٤٨٢، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ٢/٩٠.

(٢) الغارات: ٢/٣٥٢ - ٣٧٣ - ٤٤٢.

٩٢

تنشيطها داخل المجتمع، قد اتخذ التصحيح من جانب الإمام ( عليه السلام ) أشكالاً مختلفة بحسب نوع الخطأ الذي تمّ تحديده، الأشكال التصحيحية كما يلي:

١. تصحيح الدافع الثقافي: إنّ أيّ حركة ثقافية يُراد تصحيحها لابّد من تصحيح جذورها؛ لأنّها النقطة الأُولى التي خرجت منها الحركة، عنه ( عليه السلام ) لسائل سأله عن معضلة:( سَلْ تَفَقُّهاً وَلا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً ) (١) .

التصحيح سلّطه الإمام على دافع السؤال والمنطلق الأَوّل الذي خرج منه السؤال، فإذا كان دافع ونية السؤال خاطئةً، فحينئذٍ يكون صبّ العلم وإفراغه على محلّ ونية خاطئةً( وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ ) (٢) .

٢. تصحيح الضابط الثقافي: الإمام بيّن المعيار الصحيح لمعرفة الحق لأحد أصحابه، نهض الحارث بن حَوط الليثي إلى عليّ بن أبي طالب وهو على المنبر، فقال أتظنّ أنّا نظنّ أنّ طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال:( يا حارث، إنّه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يُعرف بالرّجال، فاعرف الحق تعرف أهله ) (٣) .

إنّ الإمام ( عليه السلام ) أعطى ضابطاً مهّماً لمعرفة الحق وهو: اعرف الحق تعرف أهله، وشطب على المعيار الخاطئ الذي كان ينظر بن الحارث بن حوط.

٣. تصحيح المفهوم الثقافي: على الإنسان المسلم أن لا يقف عند قالب اللفظ، بل عليه أن يعبر إلى المفهوم الواسع للكلمة؛ للإشراف على حقيقتها، قال ( عليه السلام )، لقائل بحضرته ( أَستغفرُ الله ):( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ؟

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣٢٠ / ٧٠٦؛ الغارات: ١/١٧٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر / الحكمة: ٢٦٢.

٩٣

الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ) (١) .

٤. تصحيح الاستعمال الثقافي: بعض الاستعمالات الثقافية ليس صحيحة، وقد لاحظ الإمام ( عليه السلام ) رجلاً يهنّئ آخر - بمولود وُلد له - باستعمال ثقافي خاطئ، فقال له: ليهنئك الفارس، فقال ( عليه السلام ):(لا تَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قُلْ، شَكَرْتَ الْوَاهِبَ وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَرُزِقْتَ بِرَّهُ ) (٢) .

هنّأ الإمام ( عليه السلام ) بعد أن نحّى الاستعمال الخاطئ طرح الاستعمال الصحيح.

٤. الترشيد

الترشيد في اللغة من ( رشد: والرّشد والرّشد خلاف الغيّ، يُستعمل استعمال الهداية )(٣) و( أَرشدَهُ: هداه ودَلَّه )(٤) .

____________________

(١) نفس المصدر: الحكمة: ٤١٧.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٣٥٤.

(٣) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ٢٢١.

(٤) المعجم الوسيط: ٢/ ٣٤٦.

٩٤

ورد معنى الرشد في كلمات أمير المؤمنين بمعنى أنّ أداء الطاعة يترشّح منها الأمن والهداية( مَن يُطع الله يأمن ويرشد، ومَن يعصه يخب ويندم ) (١) .

كما أنّ الرّشد والهداية الّتي يعرفها النّاس عن أمير المؤمنين، هي هداية النّاس والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: ( إن يولّوها علياً - في كلام وقد مرّ - تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم )(٢) .

في رواية الزبير بن بكار التي ينقلها عن قبيصة بن جابر الأسدي، أنّ رجلاً سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الإيمان، فخطب في النّاس وبيّن صفة الإيمان ودعائمه والشُعب التي يقوم عليها، حتى أنّ الرّجل السائل قام شاكراً لأمير المؤمنين ترشيده وهدايته وبيانه.

قام رجل إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فسأله عن الإيمان، فقام ( عليه السلام ) خطيباً فقال:( الحمد الله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمَن وردهُ ...

فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب الموت، وبالموت تُختم الدّنيا، وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين.

والإيمان على أربع دعائم: الصبر واليقين والعدل والجهاد.

____________________

(١) أمالي المفيد: ٢١٢.

(٢) مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): ٢/٥٨٨.

٩٥

فالصبر على أربع شُعب: الشوق والشفق والزهادة والترقّب، أَلا مَن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومَن أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومَن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب فهذه صفة الإيمان ودعائمه.

فقال له السائل: لقد هديت يا أمير المؤمنين وأرشدت، فجزاك الله عن الدين خيراً(١) .

في بيان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للإيمان تجلى الطريق العلمي والعملي للترشيد، قد وصل البلاغ العذر - من قبل الإمام - إلى الناس وأدخلهم إلى الطريق الواضح المستقيم،( لقد حملتكم على الطرّيق الواضح، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالكٌ، مَن استقام فإلى الجنّة، ومَن زلّ فإلى النار ) (٢) .

في طريق آخر لمعرفة الرّشد، أوضح الإمام أنّ تلك المعرفة تنبثق من معرفة الذي ترك الرّشد( واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الّذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذّي نقضه ) (٣) .

إنّ طريق الهداية إذا لم يتضّمن معرفة عدوّ هذا الطريق، فسوف لن يكون هناك وصول إلى الرّشد؛ إذ من الممكن أن يُقطع الطريق على سالك طريق الرشد، ولن يكون هناك بلوغ إلى أقصاه إذا لم يطّلع على عدو هذا

____________________

(١) نهج البلاغة: الحكمة: ٣١، الأصول الكافي: ٢/٥٠، أمالي الطوسي: ٣٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١١٩.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ١٤٧.

٩٦

الطريق، ونقاط الضعف التي يستغلها للتسلّل والقعود على الصراط.

فالمسلّم عليه أن لا يكتفي وظيفياً بالاطلاع على الثقافة الإيجابية الّتي هي ثقافة الهداية والترشيد، بل عليه أيضاً أن يطّلع على الثقافة الأخرى التاركة للثقافة الإسلامية حتى يتكامل الترشيد.

قد أمر ( عليه السلام ) بالأخذ بنهج الخير ومعرفته والإعراض عن نهج الشر بمعرفته( فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشّرِّ تقصدوا ) (١) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٧.

٩٧

٩٨

الفصل التاسع: الإمام علي ( عليه السلام ) والأساليب الثقافية

تعددت الأساليب الثقافية وتنوّعت عناوينها بحسب الشؤون والأحداث الّتي عالجها الإمام، وقد اقتضى كلّ موقف أُسلوباً وغايةً يختصان به، هذه الأساليب هي كما يلي:

١. الأسلوب الوعظي

استخدم الإمام هذا الأسلوب كثيراً والغاية منه هي الوصول إلى ثمرة التقوى.

في هذا الأسلوب نثر الإمام (عليه السلام) لآليء مواعظه، والتي هي جامعة للعِظة والحكمة، حسب رأى ابن أبي الحديد( فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأَوّلكم آخركم ) .

قال الرضي رحمه الله: ( أقول إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه

٩٩

وبعد كلام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بكلّ كلام، لمال به راجحاً وبرّز عليه سابقاً )(١) .

إنّ علة جامعية هذه الموعظة المليئة معنىً، هي أنّ الإمام ذكر الغاية والمحرك والمسير والمصير في عبارة واحدة جامعة للعظة.

مرّة أخرى طُلب من أمير المؤمنين موعظة مختصرة، فوعظ بذكر الدار ودقة الإقامة فيها، وذكر السبق في العمل والإعراض عن التأسي بالنبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى الرّغبات؛ قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): عظنا وأوجز، فقال:

( الدنيا في حلالها حساب وحرامها عقاب، وأنّى لكم بالرَّوح ولمّا تأسَّوا بسنة نبيكم، تطلبون ما يطغيكم ولا ترضون ما يكفيكم ) (٢) .

هناك خطب كثيرة تضمنت الحكمة والموعظة الحسنة، وقد آثرنا الاختصار وتجنّبنا الإكثار؛ لأنّها فوق التعريف لشهرتها.

٢. الأسلوب التذكيري

الغاية من هذا الأسلوب هي النظر في العواقب واستلهام العبرة، قد ورد في التنزيل الحكيم:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٣) و( أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ ) (٤) جاء في كلام له ( عليه السلام ):( وليكن نظركم عبراً ) (٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ١/٣٠١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٤٥٩.

(٣) الروم: ٩.

(٤) فاطر: ٣٧.

(٥) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183