أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)15%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159958 / تحميل: 9441
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٧ - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة; لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟

١٠١

البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام الحسينعليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(١) .

____________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤١.

١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته:

ولد يزيد سنة (٢٥ أو ٢٦ هـ )(١) وأمه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحي

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلب

بأرض الطف أولادَ النبي

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(٢) .

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(٣) .

أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٤ / ٣٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤٢.

(٤) حياة الإمام الحسين: ٢ / ١٨١ - ١٨٢.

١٠٣

وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد:

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(١) .

شغفه بالقرود:

وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتَ خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:

كم من كرام وقوم ذوو محافظة

جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس

____________________

(١) راجع الفخري لابن الطقطقي: ٤٥، وتاريخ اليعقوبي: ٢/٢٣٠، وتاريخ الطبري: ٤/٣٦٨، والبداية والنهاية: ٨/٢٣٦ - ٢٣٩.

١٠٤

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريس

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(١)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود(٢)

إدمانه على الخمر:

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السكر، ومن شعره في الخمر:

أقول لصحب ضمّت الخمر شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيم ولذّة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم(٣)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصفه ليزيد بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٢، نقلاً عن جواهر المطالب: ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف: ٢ / ٢.

(٣) حياة الإمام الحسين: ٢ / ١٨٣، نقلاً عن تأريخ المظفري.

(٤) تأريخ ابن عساكر: ٧ / ٣٧٢، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: ٨١.

١٠٥

وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(١) .

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(٢) .

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...(٣)

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:

شميسة كرم برجها قعردنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

اذا اُنزلت من دنِّها في زجاجة

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمد

فخذها على دين المسيح ابن مريمِ(٤)

وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

إسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنّين فغنّوا، وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(٥) .

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر: ٧ / ٣٧٢، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: ٨١.

(٢) البداية والنهاية: ٨ / ٢١٦، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٤٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تتمة المنتهى: ٤٣.

(٥) مروج الذهب: ٢ / ٩٤.

١٠٦

ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(١) .

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن لحيته)(٢) .

إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلحاد يزيد وحقده على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

____________________

(١) مروج الذهب: ٢ / ٩٤.

(٢) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: ٧ / ١٧٠.

١٠٧

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ

قد قتلنا القرم من أشياخهم

وعدلناه ببدر فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزلْ

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ(١)

بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:

ادع إلهك في السماء فإنّني

أدعو عليك رجال عك وأشعرا(٢)

جرائم حكم يزيد:

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم:

١ - انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه‌السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (٦١ هـ ) وهم ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

٢ - إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٧، نقلاً عن البداية والنهاية: ٨ / ١٩٢.

(٢) مروج الذهب: ٢ / ٩٥.

١٠٨

الحسينعليه‌السلام وأنكروه عليه.

٣ - إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(١) .

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أن العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة

____________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤٢ وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٠. عن المناقب: ٧١ للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في سموّ الذات: ٥٩ العلائلي.

١٠٩

حياتهم قبل الفتح الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلابدّ إذن من القول بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

١١٠

الفصل الثاني:

مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل: موقفهعليه‌السلام من البيعة ليزيد

١ - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام تكمن في صدريهما، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(١) .

وخاطب أبو سفيان بني أمية ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(٢) .

وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

____________________

(١) الاستيعاب: ٢ / ٦٩٠.

(٢) مروج الذهب: ١ / ٤٤٠، تأريخ ابن عساكر: ٦ / ٤٠٧.

١١١

الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

كما أنّ الانحراف السياسي الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ أو أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه خالف سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(٢) من بعده.

وقد خلت الساحة السياسية للزمرة الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليعليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسنعليه‌السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسنعليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسنعليه‌السلام .

يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

____________________

(١) مروج الذهب: ٢ / ٣٤٣، وشرح النهج: ٢ / ٣٥٧.

(٢) الإمامة والسياسة: ١ / ١٨٩.

١١٢

فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد. من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها(١) ، فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(٢) .

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة; ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(٣) .

____________________

(١) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٤٩، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٥، والإمامة والسياسة: ٢ / ٢٦٢.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٤٩.

(٣) وفيات الأعيان: ٥ / ٣٨٩، والإمامة والسياسة: ١ / ١٨٢، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٦.

١١٣

وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

٢ - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:

لمس معاوية رفض العائلة الأُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده الإمام الحسينعليه‌السلام - وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن تلك السبل:

أ - استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع الأمة لولايته(١) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب - بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(٢) .

ج - استقدام وفود من وجهاء الأنصار(٣) ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي ينفذ منها إليهم.

د - إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل مروان واستعمل سعيداً(٤) .

هـ - اغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام

____________________

(١) الأغاني: ٨ / ٧١، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: ٢٣٤: للويس شيخو اليسوعي.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٠.

(٣) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٠.

(٤) تأريخ الطبري: ٤ / ١٨.

١١٤

كبير في نفوس الجماهير، فاغتال الإمام الحسنعليه‌السلام وسعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(١) .

و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(٢) ; إذ وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

٣ - محاولات الإمام الحسينعليه‌السلام لإيقاظ الأمة:

لم يخلد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام - مراعياً ظروف الأمة وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمامعليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف:

١ - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد.

٢ - محاولة جمع كلمة الأمة.

٣ - فضح جرائم معاوية.

٤ - استعادة حقّ مضيّع.

٥ - تذكير الأمة بمسؤوليّاتها.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٢٩، وتأريخ الطبري: ٥ / ٢٥٣، والكامل في التأريخ: ٣ / ٣٥٢.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٢، والإمامة والسياسة: ١ / ٢٠٠.

١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد:

أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمامعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك

١١٦

عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذْعنَ للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلى النصف.

فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمامعليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل

فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(١) .

وقد اتّسم موقف الإمام الحسينعليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ٢ / ٢١٩ - ٢٢٠.

١١٧

محاولة جمع كلمة الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمامعليه‌السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(١) .

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسينعليه‌السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الأمة، وأن تردّهم في فتنة(٢) .

فضح جرائم معاوية:

كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ٢/٢٢٣.

(٢) المصدر السابق: ٢ / ٢٢٤.

١١٨

ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء ورحلة الصيف.

وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واتّق شقّ عصا هذه الأمة

١١٩

وأن تردّهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك، فإنْ فعلتُ فإنه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني واسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)(١) .

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع:

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة لتدعيم ملكه، كما كان يهب

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢/٢٣٥ عن الإمامة والسياسة: ١ / ٢٨٤، والدرجات الرفيعة: ٣٣٤، وراجع الغدير: ١٠ / ١٦١.

١٢٠

الأموال الطائلة لبني أُمية لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي، وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي، ولا يقوم إلاّ على القمع والتزييف والإغراء. وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة دمشق، فعمد الإمامعليه‌السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: (من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك، وإنّي احتجتها اليها فأخذتها، والسلام)(1).

فأجاب معاوية: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ، سلام عليك، أمّا بعد فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق واعُلّ بها بعد النهل بني أبي، وإنّك احتجت اليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو تركت ذلك حتى صار إليّ لم أبخسك حظك منه، ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوةً وبودّي أن يكون ذلك في زماني، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلى بمن لا ينظرك فواق ناقة(2) .

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام دلّل بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشرعي، والحاكم الشرعي هو الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه الذي ينفق أموال بيت المال

____________________

(1) نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، الطبعة الأولى، وناسخ التواريخ: 1 / 195.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، وناسخ التواريخ: 1 / 195.

١٢١

وفق المعايير الإسلامية. وقد أكّدعليه‌السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسمياً بخلافة معاوية; إذ لم يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون. ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على موقف الإمامعليه‌السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي المسلمين ولكنّه فشل في محاولته تلك، فقد بات موقف الإمام الحسينعليه‌السلام معياراً إسلامياً وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على مدى التأريخ، في حين لم يعر المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ولم يعتبروه سوى أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام.

لقد كان موقف الإمامعليه‌السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية والمطالبة بسيادة الحقّ والعدل الإلهي.

تذكير الأمة بمسؤوليّتها:

عقد الإمامعليه‌السلام في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرىعليه‌السلام خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر ونصّ خطاب الإمامعليه‌السلام حيث قال: ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومن حجّ من الأنصار ممّن

١٢٢

يعرفهم الحسين وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً وقال لهم: لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمعوهم لي، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادق، عامّتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية - قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبتُ فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب،( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ).

قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه: اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا، وممّا اشدهمعليه‌السلام أن قال:

(اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: اُنشدكم هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه؟ فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان بجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى

١٢٣

عليه، ثم خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنّه كانت له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليها‌السلام : زوّجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة؟ والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنة، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال:

١٢٤

أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها:أ يّها النّاس! إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

فلم يدعصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللّهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي: اللّهم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان.

ثم ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول: من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض عليّاً، فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟ فقالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعناه، وتفرّقوا على ذلك(1) .

موت معاوية:

لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة(2) .

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان(3) .

____________________

(1) كتاب سُليم بن قيس: 323، تحقيق محمد باقر الأنصاري.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 54.

(3) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 239 - 240.

١٢٥

البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسينعليه‌السلام .

بدايات النهضة:

ذكرنا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان - والتي نقلنا صوراً عديدةً منها - رفض التحرّك لخلع معاوية; التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية.

وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسينعليه‌السلام فقالوا:

لمّا مات الحسنعليه‌السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسينعليه‌السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(1) .

من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسينعليه‌السلام أنه في حلّ من أيّ التزام، ومن ثم فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق، لذلك كان الإمام الحسينعليه‌السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.

رسالة يزيد إلى حاكم المدينة:

قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية - أن يأخذ على الحسينعليه‌السلام بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك(2) . وذكرت مصادر

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 32.

(2) المصدر السابق.

١٢٦

تأريخية أخرى أنّه جاء في الرسالة: إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم(1) .

الوليد يستشير مروان بن الحكم:

حار الوليد في أمره، إذ يعرف أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لا يبايع ليزيد مهما كانت النتائج، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الأسرة الأُموية فبعث إليه، فأشار مروان على الوليد قائلاً له: إبعث اليهم(2) في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية; فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد، ولا يرى له عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان(3) .

وعظم ذلك على الوليد وهو أكثر بني أُمية حنكةً، فقال لمروان: ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً(4) .

فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً: لا تجزع ممّا قلتُ لك; فإنّ

____________________

(1) تأريخ اليعقوبي: 2 / 215.

(2) المقصود هنا الإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم جميعاً مثل تأريخ الطبري: 6 / 84.

(3) حياة إلامام الحسينعليه‌السلام : 2 / 25.

(4) المصدر السابق: 2 / 251.

١٢٧

آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر(1) ، ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان إعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن فاطمة فإنّه بقية النبوة(2) .

واتّفق رأيهما على استدعاء الإمامعليه‌السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السلطة.

الإمامعليه‌السلام في مجلس الوليد:

أرسل الوليد إلى الحسينعليه‌السلام يدعوه إليه ليلاً، فجاءه الرسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين الناس، وجال في خاطر الحسينعليه‌السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشام، فاستدعى الحسين مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وأضاف: إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه(3) .

وقال الإمامعليه‌السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السلاح: (كونوا معي فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه)(4) .

ودخل الإمامعليه‌السلام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقالعليه‌السلام : (الصلةُ خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما)(5) ثم نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام 2 / 251.

(2) المصدر السابق.

(3) إعلام الورى: 1 / 434، وروضة الواعظين: 171، ومقتل أبي مخنف: 27، وتذكرة الخواص: 213.

(4) الإرشاد: 2 / 33.

(5) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 254.

١٢٨

ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال الحسينعليه‌السلام : (إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى اُبايعه جهراً).

فقال الوليد: أجل، فقال الحسينعليه‌السلام : (فتصبح وترى رأيك في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسينعليه‌السلام عند ذلك وقال:(أنت ياابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت). وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله.

فقال مروان للوليد: عصيتني. لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما اُحب أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال: لا أبايع؟ والله إنّي لأظنّ امرءاً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة(1) .

وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمامعليه‌السلام وبين مروان، حتى أعلنعليه‌السلام رأيه لمروان بصراحة قائلاً: (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة)(2) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 33 - 34.

(2) مقتل الحسين للمقرّم: 144، وإعلام الورى: 1 / 435.

١٢٩

الإمامعليه‌السلام مع مروان:

والتقى الإمام الحسينعليه‌السلام في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال الإمامعليه‌السلام : (وما ذاك يا مروان؟).

قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك. فردّ عليه الإمامعليه‌السلام ببليغ منطقه قائلاً: (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد... سمعت جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به)(1) .

حركة الإمامعليه‌السلام في الليلة الثانية:

ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام أقام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة، فلمّا أصبح الوليد سرح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني أُمية في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسينعليه‌السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : اصبحوا ثم ترون ونرى. فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184.

١٣٠

فخرجعليه‌السلام من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجَلَّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفية - رحمة الله عليه - فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسينعليه‌السلام : فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن (نَبَتَ بك)(1) لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه; فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال الإمامعليه‌السلام : (يا أخي، قد نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً)(2) . فسار الحسينعليه‌السلام إلى مكة وهو يقرأ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3) .

____________________

(1) أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب: 15/302 مادة نبأ.

(2) الإرشاد: 2 / 35.

(3)القصص (28): 21.

١٣١

وصايا الإمام الحسينعليه‌السلام :

لقد كتب الإمامعليه‌السلام قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا:

منها: وصية لأخيه هذا نصّها: (هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)(1) .

ومنها: وصيّته لأم المؤمنين أم سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك يقول: يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلا. فقال لها: (يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمه أُريك حفرتي ومضجعي).

ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً شديداً

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 156.

١٣٢

وسلّمت أمره إلى الله.

فقال لها: (يا أمه، قد شاء الله عَزَّ وجَلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً).

وفي رواية أخرى: قالت أم سلمة: وعندي تربة دفعها إلي جدّك في قارورة، فقال: (والله إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً) ثم أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال: (اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت)(1) .

وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : (لمّا توجه الحسينعليه‌السلام إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: (إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك)، فلمّا قتل الحسينعليه‌السلام أتى عليّ بن الحسينعليه‌السلام أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسينعليه‌السلام )(2) .

وروى عليّ بن يونس العاملي في كتابالصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسينعليه‌السلام في حديث ثم قال: وكتب الحسينعليه‌السلام وصيّته وأودعها أم سلمة وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام فطلبها الإمام زين العابدينعليه‌السلام (3) .

____________________

(1) بحار الأنوار: 44 / 331، والعوالم: 17 / 180، وينابيع المودة: 405... إلى قوله: بكت أم سلمة بكاءً شديداً.

(2) الغيبة للطوسي: 118 حديث 148، واثبات الهداة: 5 / 214.

(3) إثبات الهداة: 5 / 216 حديث 8.

١٣٣

توجّه الإمام إلى مكة:

قال المؤرّخون: إن الإمام الحسينعليه‌السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(1) . ولمّا دخل الإمام الحسينعليه‌السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)(2) .

ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسينعليه‌السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسينعليه‌السلام في البلد وأنّ الحسينعليه‌السلام أطوع في الناس منه وأجلّ(3) .

____________________

(1) الفتوح: 5 / 24، وينابيع المودّة: 402 الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

(2) القصص (28): 22.

(3) الإرشاد: 2 / 36، وبحار الأنوار: 44 / 332.

١٣٤

البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة

إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلامية بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الأمة الإسلامية الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.

إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينية هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائرعليه‌السلام وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّتهعليه‌السلام فها هو الحسينعليه‌السلام يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ولم يسمح له بتغيير مساره قائلا:

(أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي

١٣٥

مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة)(1) .

وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربة الإمامعليه‌السلام وطاعة يزيد الفاسق قالعليه‌السلام : (فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذّاذ الأحزاب ونَبَذَة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرّفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون...).

ثم قالعليه‌السلام : (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...)(2) .

من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كما يلي:

1 - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة:

لم يعد في مقدور الإمام الحسينعليه‌السلام أن يتوقّف عن الحركة وهو يرى الانحراف الشامل في زعامة الأمة الإسلامية، فإذا كانت السقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشرعي وهو الإمام عليعليه‌السلام وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة وحرمة تفريق كلمة الأمة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليعليه‌السلام يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسينعليه‌السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.

ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ

____________________

(1) تأريخ الطبري: 4 / 304، والكامل في التأريخ: 3 / 280.

(2) أعيان الشيعة: 1 / 603.

١٣٦

أسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلا لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف; إذ بعد موت معاوية لم يبق أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر الإمام المعصوم وصاحب الحقّ الشرعي - الحسينعليه‌السلام - فلم يعد في الإمكان ولو نظرياً القبول بصلاحيّة يزيد وبني أُمية للحكم.

على أنّ نتائج انحراف السقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمامعليه‌السلام : (أيّها الناس! إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله).

وقد كان يزيد يتصف بكل ما حذّر منه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان الحسينعليه‌السلام وهو الوريث للنبيّ وحامل مشعل الرسالة - أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.

2 - مسؤولية الإمام تجاه الأمة:

كان الإمام الحسينعليه‌السلام يمثّل القائد الرسالي الشرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السامية.

وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الأمة، وقد وقفعليه‌السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الأمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته(1) ونبّه الأمة إلى مسؤولياتها ودورها(2) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الأمة على رفض الظلم(3) ،

____________________

(1) الإمامة والسياسة: 1 / 284.

(2) كتاب سُليم بن قيس: 166.

(3) شرح نهج البلاغة: 4 / 327.

١٣٧

وحاول جمع كلمة الأمة في وجه الظالمين(1) .

ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الأمة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره وعطائه لينهض بالأمة لتغيير واقعها الفاسد.

3 - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة:

لم يكن بوسع الإمام الحسينعليه‌السلام أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام أمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسينعليه‌السلام بمثابة الغطاء السياسي الذي يعطي الصفة الشرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي ولا مطمع شخصي، لا سيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.

4 - محاولة إرغامهعليه‌السلام على الذلّ والمساومة:

لقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباء وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسينعليه‌السلام أن يعيش ذليلا في ظلّ حكم فاسد: وقد صرّحعليه‌السلام قائلاً: (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ونفوس أبيّة وأنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

وفي موقف آخر قالعليه‌السلام :(لا أرى الموت إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

____________________

(1) أنساب الأشراف: ق 1 / ج 1، وتأريخ ابن كثير: 8 / 162.

١٣٨

بهذه الصورة الرائعة سنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سنّة الإباء لكلّ من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.

5 - نوايا الغدر الأموي والتخطيط لقتل الحسينعليه‌السلام :

استشفّ الإمام الحسينعليه‌السلام - وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك الساحة السياسية والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الأمة - نوايا الغدر والحقد الأموي على الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام وتجارب السنين الأولى من الدعوة الإسلامية، ثم ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام عليعليه‌السلام ومن بعده مع الإمام الحسنعليه‌السلام .

وأيقن الحسينعليه‌السلام أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقية النبوّة والشخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلامية في نهجها الحقيقي وطريقها الصحيح.

ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:

لستُ من خندف إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ

وقد أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ بني أُمية لا يتركونه بحال من الأحوال فقد صرّح لأخيه محمد بن الحنفية قائلاً: (لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقتلوني).

وقالعليه‌السلام لجعفر بن سليمان الضبعي: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة - يعني قلبه الشريف - من جوفي).

١٣٩

فتحرّك الإمامعليه‌السلام من مكة مبكّراً ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الأمة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الأمويون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.

6 - انتشار الظلم وفقدان الأمن:

قام الحكم الأموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين وإمام الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للأمة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الأمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الأمة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتى قال الناس فيولاية زياد بن أبيه: (انج سعد، فقد هلك سعيد) للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(1) .

ومن جانب آخر أمعنت السلطة الأُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الأمة بنظرة استعلائية قبلية(2) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين وبالأخص من عرف منه ولاء أهل البيتعليهم‌السلام (3) .

وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك فحنّطناهم وكفّناهم

____________________

(1) تأريخ الطبري: 6 / 77، وتأريخ ابن عساكر: 3 / 222، والاستيعاب: 1 / 60، وتأريخ ابن كثير: 7 / 319.

(2) العقد الفريد: 2 / 258، وطبقات ابن سعد: 6 / 175، ونهاية الإرب: 6 / 86.

(3) شرح النهج: 11 / 44، وتأريخ الطبري: 4 / 198.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244