أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)15%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160002 / تحميل: 9444
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

والخلافُ في مجرّد الاصطلاح ؛ وإلاّ فقد يقبلون الخبرَ الشاذّ، والمعلَّل ؛ ونحن قد لا نقبلهما، وإنْ دخلا في الصحيح بحسبِ العوارض.

وقد يُطلَقُ الصحيحُ عندنا على سليمِ الطريقِ من الطّعنِ(١) ، بما يُنافي الأمرين ؛ وهما: كون الراويباتصالٍ، عدلاً إمامياً ، وإن اعتراه مع ذلك الطريقِ السالمِ إرسالٌ أو قطع(٢) .

وبهذا الاعتبار، يقولونَ كثيراً: روى ابن أبي عُمير(٣) في الصحيحِ كذا، أو في صحيحتهِ كذا(٤) ، مع كونِ روايته المنقولة كذلك مرسلَة.

ومثله وقع لهم في المقطوع كثيراً.

وبالجملة، فيطلقونالصحيح على ما كان رجال طريقه، المذكورين فيه، عدولاً إمامية، وإنْ اشتملَ على أمرٍ آخر بعد ذلك ؛ حتّى أطلقوا الصحيحَ على بعضِ الأحاديث المرويّة عن غير إمامي ؛ بسبب صحّةِ السّندِ إليه، فقالوا في صحيحةِ فلان: وجدناها صحيحة بِمَن عداه.

وفي الخُلاصة وغيرها: إنَّ طريقَ الفقيهِ إلى معاوية بن ميسرة(٥) ، وإلى عائذ الأحمَسيّ(٦) ،

____________________

(١) ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) يُنظر: المصدر نفسه.

وقد علَّق المددي هنا بقوله: (بحسب إطلاق اللفظ ؛ إذ الظاهر من (الاتّصال إلى المعصوم بعدلٍ إمامي)، باعتبار العدالة والإيمان في الراوي، عن المعصوم مباشرةً، ولا يدلّ على اعتبار العدالة والإيمان في جميع الطبقات).

(٣) محمد...، لقي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ... وروى عن الرِّضاعليه‌السلام ، جليلُ القدر،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٤/ ٢٩٥ - ٣١١.

(٤) قال المددي: هذه العبارات وقعت كثيراً، في كلام مَن تأخّر عن العلاّمة الحليّ كثيراً. وأمَّا قبله، فلم يكن مُتعارفاً عندَ الأصحاب. قالَ فخر المحقّقين - وهو نجلُ العلاّمة - في إيضاح الفوائد (١/ ٢٥ - ٢٦) في مسألة العجين النجس، وأنَّه هل يجوز بيعه أم لا؟ قالقدس‌سره ما نصُّه: (أقولُ: رواية البيع هي رواية محمد بن عليّ بن محبوب في الصحيح، عن محمد بن الحُسين، عن ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابنا،...، قال: قيل لأبي عبد اللهعليه‌السلام : العجين يُعجن من الماء النّجس كيف يُصنع به؟ قال: (يُباع ممَّن يستحِلُّ أكل الميتة). وروى محمد بن أبي عُمير في الصحيح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (يُدفَن ولا يُباع،...).

(٥) ابن شريح بن الحارث الكندي القاضي، روى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام .... ينظر: رجال ابن داوود، ق١، عمود ٣٥٠ - ٣٥١.

(٦) من أصحاب السجّادعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢١٣ - ٢١٤.

٨١

والِى خالدِ بن نجيح(١) ، وإلى عبدِ الأعلى مولى آل سام(٢) ، صحيحٌ(٣) ؛ مع أنَّ الثلاثةَ الأُوَلَ لم يُنَصّ عليهم بتوثيقٍ ولا غيره، والرابع لم يوثِّقه، وإنْ ذكرَهُ في القسم الأوَّل(٤) .

وكذلك نقلوا الإجماع(٥) على تصحيح ما يصحُّ، عن أبانِ بنِ عُثمان(٦) ، مع كونِه فَطحِيّاً(٧) .

وهذا كلّهُ خارجٌ عن تعريفِ الصَّحيح الذي ذكروه في التعريفين ؛ خصوصاً الأوّلَ المشهور.

ثُمَّ في هذا الصحيح ما يُفيدُ فائدةَ الصحيح المشهور(٨) ، كصحيحِ أبان.

ومنهُ ما يُرادُ منهُ وصفُ الصحَّةِ دونَ فائدتِها(٩) ، كالسالم طريقُهُ مع لُحوقِ الإرسالِ به، أو القطع، أو الضعف، أو الجهالة بِمَنْ اتَّصلَ بهِ الصحيحُ، فينبغي التدبّر لذلك ؛ فقد زلّ فيه أقدامُ أقوامٍ.

____________________

(١) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام .... ينظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٣٨ - ٤٠.

(٢) من أصحاب الصادقعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢٦٥ - ٢٦٧.

(٣) ينظر: خلاصة الأقوال في معرفة الرِّجال، ص٢٧٧ - ٢٧٨.

(٤) ينظر: المصدر نفسه، ص١٢٧.

وأَضاف المددي هنا بقوله: (لكنَّ العلاّمة جعلَ القسمَ الأوّل مختصّاً بالثّقات).

(٥) قال المددي: (الناقلُ هو الكشّيّ ؛ حيثُ قال: (أجمعت العُصابةُ على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم كما يقولون، وأقرّوا لهم

بالفقه...، ستة نفر: جميل بن درّاج، وعبدالله بن مسكان، وعبدالله بن بكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان). وحولَ مغزَى هذا الإجماع وقعتْ أبحاث عميقةٌ في كتُب الرّجال، ويُعَبّر عنهم ب- : أصحاب الإجماع ).

(٦) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١/ ٣٢ - ٤٠.

(٧) نسبةً إلى الفطحيَّة ؛ وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر... ؛ سُمّوا بذلك لأنَّ عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضُهُم: كان أفطح الرِّجلين.... كتابُ المقالات والفِرَق، ص٨٧.

(٨) قال المددي: أي: يصحّ الاعتماد عليه، والاحتجاج به، كسائر الروايات الصحاح.

(٩) وعلَّق المددي هنا بقوله: (يعني: هذا القسم، وإنْ صدَقَ عليه أنَّه صحيحٌ، إلاّ أنَّه لا يصح الاعتماد عليه، والعملُ به ؛ للإرسال، أو

الضعف، أو غيرهما، الطارئة له.

٨٢

الحَقلُ الثاني:

في

الحَسَن(١)

وهو: ما اتّصلَ سندُهُ كذلك - أي إلى المعصوم - بإمامي ممدوحٍ، من غير نصٍّ على عدالته، مع تَحقُّق ذلك في جميع مراتبه - أي جميع [مراتب] رواة طريقه - أو تحقّق ذلك في بعضها ؛ بأن كانَ فيهم واحدٌ إمامي ممدوحٌ غير موثَّق، مع كون الباقي من الطريقِ من رجالِ الصحيح ؛ فيُوصفُ الطريقُ بالحسَن لأجلِ ذلك الواحد.

واحترز بكونالباقي من رجال الصحيح عمَّا لو كان دونه، فإنَّه يلحق بالمرتبة الدُّنيا، كما لو كان فيه واحدٌ ضعيفٌ فإنَّه يكون ضعيفاً، أو واحدٌ غير إمامي عدلٌ فإنَّه يكونُ مِن الموثَّق.

وبالجملة، فيَتْبع أخَسَّ ما فيه من الصفاتِ، حيثُ تتعدَّد.

وهذا كُلُّهُ واردٌ على تعريفِ مَنْ عرَّفه من الأصحاب - كالشهيدِرحمه‌الله - بأنَّه: (ما رواه الممدوح من غير نصٍّ على عدالته)(٢) .

أ - فإنَّه يشملُ: ما كان في طريقه واحدٌ كذلك(٣) ، وإن كانَ الباقي ضعيفاً، فضلاً عن غيرهِ.

ب - ويُزيد: أنَّهُ لم يُقيِّد الممدوحَ بكونه إمامياً، مع أنَّه مُراداً.

ويُطلقُ الحسنُ أيضاً على ما يشملُ الأمرين - وهما كونُ الوصفِ المذكور:في جميعِ مراتبهِ، وفي بعضها ؛ بمعنى كونُ روَاتهِ متَّصِفين بوصفِ الحسَن - إلى واحدٍ مُعيَّن،

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة (ورقة ١٣، لوحة ب، سطر ١٠): (الثاني: الحسن) فقط، بدون: (الحقل الثاني: في الحسن).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) أي: الإمامي الممدوح. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٤.

٨٣

ثم يصيرُ بعد ذلك ضعيفاً أو مقطوعاً أو مرسلاً - كما مرَّ في الصحيح - مع اتصاف رواته بالوصفين ؛ وهما: كونُ كُلِّ واحدٍ إمامياً، وممدوحاً على وجهٍ لا تبلغُ العدالةُ كذلك ؛ أي كما أنَّ الصحيحَ يُطلقُ على سليمِ الطريقِ ممَّا يُنافي الأمرين - [وهما كونُ الراوي: عدلاً، إمامياً] - وإنْ لم يتّصلْ.

ومن هذا القسم حُكْمُ العلاّمةِ(١) وغيرُهُ: بكونِ طريقِ الفقيهِ(٢) إلى منذرِ بن جبير(٣) حسَناً ؛ مع أنَّهم لم يذكروا حالَ منذرٍ بمدحٍ ولا قَدح.

ومثلهُ طريقُه إلى إدريسِ بن يزيد(٤) .

وإنَّ طريقَه إلى سُماعة بن مهران(٥) حَسَنٌ(٦) ، مع أنَّ سُماعةَ واقفي(٧) . وإن كانَ ثقةً ؛ فيكون من الموثَّق، لكنَّه حسنٌ بهذا المعنى.

____________________

(١) الحسنُ بنُ يوسف بنُ المطهَّر الحلّي(٦٤٨ه- - ٧٢٦ه-).... ينظر: الأعلام: ٢/ ٢٤٤.

(٢) أي طريق الصدوق في كتاب (مَن لا يحضره الفقيه). ينظر: شرح مشيخة الفقيه: ٤/ ٩٩.

(٣) يُنظر: خُلاصة الأقوال في معرفة الرّجال، ص٢٨٠. وفي مستدرك الوسائل(٣/ ٦٨٨): (الصحيح: أنَّ منذر هو ابن جيفر) ؛ حيثُ قد قيل أيضاً: جعفر، وجيفر.

ويُراجَع كذلك: معجم رجال الحديث(١٨/ ٣٨٠ - ٣٨١).

أمَّا في نسختنا الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٢)، فإنَّه: منذرُ بن جُبير، بدلاً مِن كُلّ ما سَبَق.

(٤) مِن أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٤/ ١٤. والذي في النسخة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٤) (إدريس بن زيد)، بدلاً من إدريس بن يزيد.

(٥) روى عن أبي عبد الله وأبي الحسنعليهما‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٨/ ٢٩٩ - ٣٠٤.

(٦) يُنظر: خلاصةُ الأقوال في معرفة الرجال، ٢٧٧.

(٧) نسبةً إلى الواقفة ؛ سُمُّوا بذلك: لوقوفهم على موسى بن جعفر، أنَّه الإمام القائم، ولم يأتمُّوا بعده، ولم يتجاوزوا إلى غيره. ينظر: كتاب المقالات والفِرق، ص٩٠.

٨٤

وقد ذكر جماعةٌ من الفقهاء(١) : أنَّ روايةَ زرارةَ(٢) - في مُفسدِ الحجِّ، إذا قضاه ؛ أنَّ الأُولى حجّةُ الإسلام(٣) - مِن الحسن(٤) ؛ مع أنَّها مقطوعةٌ(٥) .

ومثلُ هذا كثيرٌ، فينبغي مراعاتُهُ كما مرَّ في الصحيح.

_____________________

(١) قالَ المددي: (منهم المحقق الثاني، كما في (جامع المقاصد): ١/ ١٨٤ ).

(٢) مِن أصحابِ الباقر والصادق والكاظمعليهم‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٢١٨ - ٢٤٠.

أمَّا القولُ بكونه من أصحاب الكاظمعليه‌السلام ، كما ذهبَ إلى ذلك مثلُ الشيخ الطوسيّ، فإنَّما بلحاظ أنَّهُ أدرك زمانه (صلواتُ الله عليه). وأمَّا مَن يَذهب إلى أنَّه لم يكن من أصحابهعليه‌السلام ، فذلك بلحاظ كونه لم يروِ عنهعليه‌السلام .

(٣) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (روايةُ زرارة ؛ هي ما رواه الكليني - والشيخ عنه - بإسناده عن زرارة ؛ وفي ذيلها: (قلتُ: فأيُّ الحجَّ-تين لهما؟ قال: (الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والأخرى عليها عقوبة). ينظر: جامع أحاديث الشيعة: ١١/ ١٧٧).

(٤) وهنا علَّق المددي أيضاً بقوله: (باعتبار اشتمال السَّند على إبراهيم بن هاشم ؛ فهو وإن كان إمامياً، ممدوحاً، كثير الرواية، حتى أنَّه لا يُوجد أكثر روايةٍ منه في الكتب الأربعة، إلاّ أنَّه لم يُنص على توثيقه صريحاً ؛ وبذلك تكون الرواية باعتباره حسنة).

(٥) كما علَّق المددي هنا أيضاً بقوله: (مرادهُرحمه‌الله من المقطوعة: المضمرَة، وهذا دأبه في جميع مؤلَّفاتهقدس‌سره .

والمُضمرة: هي الروايةُ التي لم يُذكَر فيها المرويُّ عنه، ولم يُعلَم مَنْ هو المسؤولُ عنه.

وهذه الرواية رُويت عن زُرارة، قال: سألتهُ... إلخ، ولم يُعيِّن المسؤول عنه. وسيأتي الكلامُ في حجيَّة هذا القسم من الرّوايات).

٨٥

الحقل الثالث:

في

الموثَّقِ(١)

سُمِّيَ بذلك لأنَّ راويه ثقة، وإن كانَ مُخالفاً ؛ وبهذا فارقَ الصحيحَ مع اشتراكهما في الثقة، ويُقالُ لهُ: القويُّ أيضاً ؛ لقُوّة الظنِّ بجانبه بسببِ توثيقهِ.

وهو:

[ أوَّلاً ]:

ما دخلَ في طريقهِ (مَن نصَّ الأصحابُ على توثيقه، مع فساد عقيدته)(٢) ؛ بأن كان من إحدى الفرق المُخالفة للإمامية، وإن كانَ من الشيعة.

واحترز بقوله(٣) : (نصَّ الأصحابُ على توثيقه) عمَّا لو رواه المخالفون في صحاحهم التي وثَّقوا رُواتها ؛ فإنَّها لا تدخلُ في الموثَّق عندنا ؛ لأنَّ العبرة بتوثيق أصحابنا للمُخالف، لا بتوثيق غيرنا ؛ لأنَّا لم نقبلْ إخبارَهم بذلك(٤) .

وبهذا يندَفِعُ ما يُتَوَهَّمُ: من عدمِ الفرقِ بينَ رواية مَن خالفنا، مِمَّن ذُكر في كتب حديثنا، وما رووه في كتبهم.

وحينئذٍ، فذلك كلُّهُ يلحق بالضّعيف عندنا ؛ لِمَا سيأتي من صِدق تعريفه عليه، فيُعمل منهُ بما يُعمل بهِ منه.

[ثانياً]:

ولم يشتَمل باقيه ؛ أي باقي الطريق، على ضعيف ؛ وإلاّ لكانَ الطريقُ ضعيفاً، فإنّه يتبعُ الأَخسَّ كما سبَق.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر٨): (الموثَّق) فقط، بدون: (الحقل الثالث: في الموثَّق).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) فيما يبدو: أنَّ مرجع الضمير هو: المعرِّف، وما شابه ذلك.

(٤) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (لأنَّ مرجع التوثيق - على ما هو المعروف عندهم - مردُّه إلى الشهادة، والعدالة معتبرةٌ فيها).

٨٦

وبهذا القيد سَلِمَ ممَّا يَرِد على تعريفِ الأصحاب لهُ بأنَّ الموثَّقَ: (ما رواهُ مَن نُصَّ على توثيقهِ، مع فسادِ عقيدته)(١) ؛ فإنَّهُ يشتَمِلُ بإطلاقه ما لو كانَ في الطريقِ واحدٌ كذلك، معَ ضعفِ الباقي، وليس بِمُرادٍ كما مرَّ.

وقد يُطلق القويّ على مرويِّ الإمامي ؛ غير الممدوح ولا المذموم(٢) ، ك-: نوح بن درَّاج(٣) ، وناجية بن أبي عُمارةَ الصيداويِّ(٤) ، وأحمد بن عبد الله بن جعفرِ الحِميريِّ(٥) ، وغيرهم، وهُم كثيرون.

وقولُنا:(غيرُ المَمدوح ولا المَذموم)

[أ] خيرٌ من قولِ الشهيدرحمه‌الله وغيرهِ في تعريفهِ:(... غيرُ المذموم) (٦) ، مُقتصرين عليه ؛ لأنَّه يشمُلُ الحَسَن، فإنَّ الإمامي المَمدوحَ: غيرُ مذموم، ولو فُرِضَ كونُهُ قد مُدِحَ وذُم كما اتّفق لكثير.

[ب] وردٌّ على تعريف الحسن أيضاً ؛ والأولى: أن يطلب حينئذ الترجيحُ، ويُعملُ بِمُقتضاهُ، فإن تحقَّقَ التعارضُ، لم يكُن حسَناً. وعلى هذا ؛ فينبغي زيادة تعريفِ الحسن: بكونِ المدحِ مقبولاً ؛ فيُقالُ: ما اتّصلَ سندُهُ بإمامي ممدوحٍ مدحاً مقبولاً... إلخ ، أَو غير معارض بذمٍّ ؛ ونحو ذلك.

____________________

(١) ينظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) ينظر: المصدر نفسه.

(٣) من أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... معجم رجال الحديث: ١٩/ ٢١٩ - ٢٢٢.

(٤) من أصحاب الباقرعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٩/ ١٤٤ - ١٤٥.

(٥) كان له مكاتبة،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٢/ ١٣٧.

(٦) ويبدو أنّ في المقام اشتباهاً: إمَّا من الشهيد الثاني في نقله، وإمَّا من قول الشهيد الأوَّل في نسخه ؛ ذلك لأنَّ الذي وردَ في الكتاب المطبوع (ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة)(ص٤) جاءَ فيه: (وقد يُرادُ بالقويّ: مرويّ الإمامي، غير المذموم ولا الممدوح ؛ أو مرويّ المشهور في التقدُّم غير الموثّق ؛ والضعيف يقابلهُ ؛ وربَّما قابل الضعيف: القبيحُ، والحسنُ، والموثّقُ).

٨٧

الحقل الرابع:

في

الضعيف(١)

وهو ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدِّمةِ ؛ بأن يشتملَ طريقُهُ على مجروح بالفسقِ ونحوه، أو مجهول الحالِ، أو ما دونَ ذلك ؛ كالوضَّاعِ.

ويُمكن اندراجهُ في المجروح، فيُستغنَى به عنِ الشّقّ الأخير(٢) .

[أ] - ودرجاته في الضّعف متفاوتةٌ بحسبِ بُعده عن شروط الصحّة، فكلَّما بعُدَ بعضُ رجاله عنها، كانَ أقوى في الضّعف ؛ وكذا ما كثُر فيه الرواةُ المجروحون، بالنِّسبةِ إلى ما قلّ فيه(٣) .

كما تتفاوتُ درجاتُ الصحيح، وأخويه الحسن والمُوَثّق، بحسبِ تمكُّنه من أوصافها. فما رواهُ الإمامي الثقةُ، الفقيه الورع الضابطُ - كابنِ أبي عُميرٍ - أصحّ ممَّا رواه مَن نقصَ في بعضِ الأوصاف، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أقلِّ مراتبه.

وكذلك ما رواه الممدوح كثيراً - كإبراهيم بن هاشمٍ(٤) - أحسنُ ممَّا رواه مَن هو دونه في المدح، وهكذا إلى أن يتحقَّق مُسمَّاهُ.

وكذا القولُ في المُوَثّق ؛ فإنَّ ما كانَ في طريقه، مثلُ عليّ بن فَضَّال(٥) ، وأبانِ بن عثمان(٦) ، أقوَى مِن غَيره، وهكذا...

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٥، لوحة ب، سطر ٧): (الرابع الضعيف) فقط، بدون: (الحقل الرابع: في الضعيف).

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (ولعلّ الأحسنَ إبقاءه ؛ للفرق الواضح بينَ خبرِ شاربِ الخمر، وخبرِ الكذَّاب الوضَّاع).

(٣) سيأتي مزيدُ بيانٍ عن أنواعِ الحديثِ الضعيف في النظرِ الثاني من القسمِ الثاني مِن البابِ الأوّلِ، حسبَ الهيكل العامّ المعدَّل، الذي عملنا على رسمه.

(٤) من أصحاب الرّضاعليه‌السلام ،.... يُنظَر: معجم رجال الحديث: ١/ ١٧٧ - ١٩١.

(٥) هو عليُّ بن الحسَن بن فضّال الفطحيّ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ١٢/ ١٢٣.

(٦) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أبانُ بن عثمان: ثِقةٌ جليلٌ ؛ وقد عُدَّ مِن أصحابِ الإجماع ؛ إلاّ أنَّه نوقشَ في مذهبه ؛ فعَنْ بعضِ نُسَخِ الكشّي: وكان من الناووسيّة. وعن المحقِّق - والعلاّمة في خاتمة الخلاصةِ - : أنَّهُ فطحيُّ. كما نُسِبَ إلى العلاّمةِ في محكيّ المختلَف: أنَّه واقفيّ.

ولم يثبت شيءٌ من ذلك كُلّهِ، وللتفصيلِ مجالٌ آخر، لا يسعه هذا المختصر).

٨٨

[ب]. وَيَظهرٌ أثر القوّةعندَ التعارضِ ؛ حيث يعمَل بالأقسام الثلاثة، ويخرج أحد الأخيرين شاهداً(١) ، أو يتعارضُ صحيحان أو حسنان، حيثُ يجوزُ العملُ بهِ(٢) .

وكثيراً ما يُطلَق الضعيفُ في كلام الفُقهاء على روايةِ المجروحِ خاصة، وهو استعمالُ الضعيفِ في بعضِ مواردهِ، وأمرُهُ سهلٌ.

____________________

(١) أي: الحسن أو الموثّق، بأن جعله شاهداً للصحيح، بدون العمل به. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٧.

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أي: بالقويّ (الموثَّق) ؛ فعند تعارضِ الصحيحين أو الحسنين، يُرجعُ إلى الموثَّق، ويُعمل به ِ؛ ويكونُ مُرَجِّحاً لأحدهما على الآخر).

٨٩

النظرُ الثاني: في حُجِّيَّةِ العملِ بها

وفيه حُقول:

الحقل الأوَّل:

في

العملِ بخبرِ الواحد(١)

وأعلَم: أنَّ مَن منعَ العملَ بخبر الواحد مُطلقاً، كالسيِّدِ المرتضى، تنتَفي عندَهُ فائدةُ البحثِ عن الحديثِ غير المتواتر مُطلَقاً ؛ ومَنْ جوَّزَ العملَ بخبرِ الواحدِ، كأكثرِ المتأخّرين في الجُملة.

فائدةُ القيد: التنبيه، على أنَّ مَن عمِل بخبر الواحد، لم يعمل به مُطلقاً ؛ بَلمنهم مَن خصَّه بالصحيح،ومنهم من أضاف الحسَن،ومنهم من أضافَ الموثَّق،ومنهم من أضافَ الضعيفَ على بَعض الوجوه كما سننبّه عليهِ.

فالعاملُ بخبر الواحدِ على أيّ وجهٍ كان: قَطَعَ بالعمل بالخبر الصحيح ؛ لِعدم المانع منه، فإنَّ رواته عُدول، صحيحو العقايد ؛ لكن لم يُعمل به مطلقاً ؛ بل حيثُ لا يكون شاذّاً، أو معارضاً بغيره من الأخبارِ الصحيحة، فإنَّه حينئذٍ يُطلبُ المُرَجِّحُ.

ورُبَّما عمِل بعضهم بالشاذِّ أيضاً، كما اتّفقَ للشيخين(٢) في صحيحة زُرارة ؛ في مَن دخل في الصلاة بتيمُّم ثُمّ أحدثَ؟

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٦، لوحة ب، سطر ١٠): (النظر الثاني: في حُجِّ-يَّةِ العمل بها. وفيه حقول: الحقل الأول: في العمل بخبر الواحد) غير موجود ؛ وإنَّما أضفناه للضرورة المنهجية والإخراجيَّة.

(٢) يقول الفقيه المقداد السيوريّ في مقدِّمة كتابه (التنقيح الرائع لمختصر الشرائع)، وهو مخطوطٌ محفوظ في (مكتبة آية الله الحكيم العامّة) في النجف الأشرف، تحت رقم ٣٠٦، يقول المقدادُ: (المرادُ بالشيخ هو: الطوسيرحمه‌الله . وبالشيخين: هو مع المفيد. والثلاثة: هما مع المُرتضى. وعلَمُ الهدى: هو المُرتضى).

٩٠

إنَّه: يتوضأُ حيث الماء، ويبني على الصلاة ؛ وإنْ خصَّاها بحالة الحدث ناسياً(١) ؛ ومثل ذلك كثيرٌ.

___________________

(١) قلتُ: صحيحة زرارة هذه، إنَّما هي من الشاذ بالتفسير الذي فسَّره به بعضُ العامَّة ؛ وهو ما انفرد به راوٍ واحد.

وأمَّا الشذوذ بالتفسير الذي ذكره أكثرهم، واعتمده الوالدقدس‌سره فيما يأتي، وهو: (ما رواه الثقة مخالفاً لِمَا رواه الأكثرُ)، فليسَ ذلك بمتحقِّق فيها ؛ إذ لم يرد بخلافها رواية، فضلاً عن رواية الأكثر له.

نعم، هي مخالفة للمعهود في نظائر الحكم من منافيات الصلاة ؛ ولفظُ التفسير كما لا يخفى، غير متناول لمثل هذه المخالفة، فليُنظر.

حسنرحمه‌الله (هامش الخطِّيَّة المعتمدة: روقة ١٦، لوحة ب)

والمقصود بعبارة (حسنرحمه‌الله ) هو: الشيخ حسن صاحب كتاب (المعالم)، وهو ابن الشهيد الثاني صاحبٍ (الدراية).

وأمَّا بخصوص الصحيحة، فينظر: مَن لا يحضرهُ الفقيه: ١/ ٥٨، باب التيمّم، حديث ٢١٤/ ٤، وتهذيب الأحكام (للشيخ الطوسي، في شرحِ المقنعة للشيخ المفيد): ١/ ٢٠٥، باب التيمّم وأحكامه، حديث ٥٩٥/ ٦٩، والاستبصار: ١/ ١٦٧، بابُ مَن دخلَ في الصلاةِ بتيمّم ثُمَّ وجدَ الماءَ، حديثُ ٥٨٠/ ٦.

٩١

الحقل الثاني:

في

العمل بالخبر الحسن(١)

واختلفوا في العمل بالحسن:

فمنهم مَنعمل به مطلقاً كالصحيح، وهو الشيخرحمه‌الله - على ما يظهر من عمله - وكلّ مَن اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام، ولم يشترط ظهورها.

ومنهم مَن ردَّهمطلقاً ، وهم الأكثرون ؛ حيث أشترطوا في قبول الرواية: (الإيمانَ، والعدالةَ)، كما قطَع بهالعلاّمةُ في كتبه الأُصوليَّة،وغيره .

والعجبُ أنَّ الشيخرحمه‌الله اشترطَ ذلك أيضاً في كتبِ الأصولِ، ووقع له في الحديث وكتب الفروع الغرائب ؛ فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً، حتّى أنَّه يُخصِّص به أخباراً كثيرةً صحيحةً، حيث تعارضه بإطلاقها، وتارةً يُصرِّح بردِّ الحديث لضعفه، وأخرى يردّ الصحيح ؛ معلِّلاً بأنَّه خبر واحد، لا يوجب علماً ولا عملاً كما هي عبارة المرتضى.

وفصّل آخرون في الحسن: كالمحقِّق في المُعتبر، والشهيد في الذّكرى ؛ فقبلوا الحسن، بل الموثَّق ؛ وربَّما ترقّوا إلى الضعيف أيضاً إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بين الأصحاب ؛ حتّى قدّموهُ حينئذٍ على الخبرِ الصحيحِ حيثُ لا يكونُ العملُ بمضمونهِ مشتهِراً.

____________________

(١) الذي في النسخةِ الخطِّيَّة (روقة ١٦، لوحة ب، سطر ٩): (الحقل الثاني: في العمل بالخبر الحسن)، غير موجود.

٩٢

الحقل الثالث:

في

العمل بالخبرِ الموثَّق(١)

وكذا اختلفوا في العمل بالموثّق نحو اختلافهم في الحسن،فقبله قوم مطلقاً ،وردَّه آخرون، وفصّل ثالث [بالشهرة وعدمِها](٢) .

ويُمكنُ اشتراكُ الثلاثة في دليل واحدٍ يدلّ على جواز العمل بها مطلقاً ؛ وهو: أنَّ المانعَ من قبول خبرِ الفاسق هو فسقه ؛ لقوله تعالى:( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا... ) (٣) . فمتى لم يُعلم الفسق، لا يجب التثبُّت عند خبر المُخبر مع جهل حاله ؛ فكيف مع توثيقه ومدحه، وإن لم يبلُغ حدَّ التعديل؟ وبهذا احتجَّ مَن قبل المراسيل.

وقدأجابوا عنه ب-: أنَّ الفسقَ لمَّا كان علَّة التثبُّتِ، وجبَ العلمُ بنفيه ؛ حتّى يُعلم وجود انتفاء التثبُّت، فيجب التفحُّصُ عن الفسق، ليُعلَم أو

عدمه، حتّى يُعلَم التثبُّت أو عدمه.

وفيه نظرٌ ؛ لأنّ الأصل عدمُ وجودِ المانع في المُسلمِ. ولأنَّ مجهولَ الحال، لا يُمكن الحكمُ عليهِ بالفسقِ ؛ والمُرادُ في الآية: المحكومُ عليهِ بالفسقِ.

____________________

(١) الذي في النسخة المعتمدةِ (ورقة ١٧، لوحة أ، سطر ٩): (الحقل الثالث: في العمل بالخبر الموثق) غير موجود.

(٢) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المتداولة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ١٠)، وإنَّما هي موجودة في طبعة النعمان المتداولة، وقد أثبتناها هنا لمزيد إيضاح وتوضيح.

(٣) سورة الحجرات، آية ٧.

٩٣

الحقل الرابع:

في

العمل في الخبر الضعيف(١)

وأمَّا الضعيف ؛فذهبَ الأكثر إلى منع العمل به مُطلقاً ؛ للأمر بالتثبُّت عندَ إخبارِ الفاسق المُوجبِ لردِّهِ.

وأجازَهُ آخرون - وهُم جماعةٌ كثيرةٌ: منهم مَن ذكرناه - مع اعتضادِه بالشّهرة روايةً ؛ بأن يكثر تدوينها وروايتها: بلفظٍ واحدٍ، أو ألفاظٍ متغايرةٍ متقاربة المعنى، أوفتوىً بمضمونها في كتب الفقه ؛ لقوَّة الظنّ بصدق الرّاوي في جانبها - أي جانب الشّهرة - وإن ضعُفَ الطريقُ ؛ فإنَّ الطريقَ الضعيفَ، قد يثبُتُ بهِ الخبرُ مع اشتهارِ مضمونِهِ ؛ كما تُعلَمُ مذاهبُ الفِرَقِ الإسلاميَّة - كقول: أبي حنيفة(٢) ، والشافعيِّ(٣) ، ومالك(٤) ، و أحمد - بإخبار أهلها - مع الحكم بضعفهم عندَنا - وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر.

وبهذا اعتُذر للشيخرحمه‌الله في عمَله بالخبر الضّعيفِ.

وهذهِ، حجّةُ مَنْ عمِلَ بالموثّق أيضاً، بطريقٍ أولى.

وفيه نظرٌ ، يخرج تحريره عن وضع الرسالة ؛ فإنَّها مبنيةٌ على الاختصار، ووجهُهُ على وجه الإيجاز: إنَّا نمنع من كون هذه الشُّهرة التي ادّعوها مؤثِّرةً في جبر الخبر الضّعيف ؛ فإنَّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الشّهرة متحقّقةٌ قبلَ زمنِ الشيخرحمه‌الله ، والأمرُ ليس كذلك ؛ فإنَّ مَنْ قبله من العلماء كانوا بينَ مانع من خبر الواحد مُطلقاً - كالمرتضى والأكثر، على ما نقله جماعة - وبين جامع للأحاديث، من غير التفات إلى تصحيح ما يصحُّ، وردِّ ما يُرَدُّ. وكانَ البحثُ عن الفتوى مُجرَّدةً - لغيرِ الفريقين - قليلاً جداً كما لا يخفَى على مَن اطّلعَ على حالِهِم.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ٦): (الحقل الرابع: في العمل بالخبر الضعيف) غير موجود.

(٢) النعمان بن ثابت: ٨٠ - ١٥٠ه-،.... ينظر: الأعلام: ٩/ ٤ - ٥.

(٣) محمد بن إدريس: ١٥٠ - ٢٠٤ه-،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ٢٤٩ - ٢٥٠.

(٤) مالك بن أنس: ٩٣ - ١٧٩،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ١٢٨.

٩٤

فالعمل بمضمون الخبر الضّعيف قبل زمن الشيخ، على وجه يجبر ضعفه، ليس بمتحقّقٍ. ولمّا عمل الشيخ بمضمونه، في كتبه الفقهيَّة، جاء مَن بعده من الفقهاء واتّبعه منهم عليها الأكثر ؛ تقليداً له، إلاّ مَن شذّ منهم. ولم يكن فيهم مَن يسبر الأحاديث، وينقِّب على الأدلّة بنفسه سوى الشيخ المحقِّق ابن إدريس(١) ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً.

فجاء المتأخّرون بعد ذلك، ووجدوا الشيخ ومَن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضّعيف ؛ لأمر ما رأوه في ذلك، لعلّ الله تعالى يعذرهم فيه ؛ فحسبوا العلم به مشهوراً، وجعلوا هذه الشّهرة جابرةً لضعفه. ولو تأمّل المنصف، وحرَّر المنقِّب، لوجد مرجع ذلك كلّه إلى الشيخ، ومثل هذه الشّهرة، لا تكفي في جبر الخبر الضّعيف.

ومن هنا، يظهر الفرق بينه وبين ثبوت فتوى المخالفين بأخبار أصحابهم ؛ فإنَّهم كانوا منتشرين في أقطار الأرض من أوّل زمانهم، ولم يزالوا في أزياد(٢) .

وممَّن اطّلع على أصل هذه القاعدة - التي بيَّنتُها وتحقَّقتُها - من غير تقليدٍ: الشيخ الفاضل المحقِّق سديد الدّين محمود الحُمُّصي(٣) ، والسيّد رضيّ الدّين ابن طاووس(٤) ، وجماعة.

قالَ السيّدرحمه‌الله في كتابه (البهجة لثمرة المهجة): (أخبرني جدّي الصالح، ورّام بن أبي فراس (قدّس الله سرّه)(٥) ، أنَّ الحُمُّصي حدَّثه: أنَّه لم يبق للإماميّة مفتٍ على التّحقيق، بل كلّهم حاكٍ.

____________________

(١) صاحب كتاب: (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي)،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٦/ ٢٧٤ - ٢٩٠.

(٢) أي: العلم بمذاهب المخالفين وفتاويهم مستفادٌ من أصحابهم، وحيثُ لم يكونوا ثقة عندنا، كان إخبارُهم بمذاهبهم من باب الأخبار الضعيفة، لكن اعتبرها أصحابنا، وحكموا بأنَّ هذا القول لأبي حنيفة، وهذا للشافعي، وغيرهما، استناداً إلى الشهرة التي انجبر الضعيف بها. وليس تلك الشّهرة كالشهرة التي ادّعاها أصحابنا في بعض الأخبار ؛ لِمَا عرفت أصلها. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٠.

(٣) علاّمةُ زمانه في الأُصولَين، ورع ثقة،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٧/ ١٥٨ - ١٦٤.

(٤) السيّد الشريف: رضيّ الدين أبو القاسم علي، بن سعد الدين أبي إبراهيم موسى، بن جعفر، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن أحمد، بن أبي عبد الله محمد، بن الطاووس ؛ ينتهي نسبه الشريف إلى الحسن المثنّى.... ينظر: البحار: ١/ ١٤٣ - ١٤٦.

وكذلك له ترجمةٌ ضافيةٌ في مقدِّمة: كشف المحجّة لثمرة المهجة، المطبوع في النجف الأشرف، بقلم البحّاثة الكبير آغا بزرگ الطهراني.

(٥) من أولاد مالك الأشتر النخعيّ، عالم فقيه،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٨/ ١٧٧ - ١٧٩.

٩٥

وقالَ السيّد عقيبه: والآن، فقد ظهر أنَّ الذي يُفتى به ويُجاب عنه، على سبيل ما حُفظ من كلام العلماء المتقدّمين)(١) انتهى.

وقد كشفتُ لك بذلك بعضَ الحال، وبقيَ الباقي في الخَيال، وإنَّما يتنبّه لهذا المقال، مَن عرف الرِّجال بالحقّ، وينكره مَن عرف الحقّ بالرّجال(٢) .

وجوّزَ الأكثر العمل به - أي بالخبر الضعيف - في نحو: القصص، والمواعظ، وفضائل الأعمال، لا في نحو: صفات الله المُتعال، وأحكام الحلال والحرام.

وهو حسن حيث لا يبلغ الضعف حدّ الوضع والاختلاق ؛ لِمَا اشتهر بين العلماء المحقِّقين من التساهل بأدلَّة السُّنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخير، لِمَا ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - من طريق الخاصّة والعامّة - أنَّه قال: (مَن بلغه عن الله تعالى فضيلةً، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله ورجاء ثوابه، أعطاه الله تعالى ذلك وإنْ لم يكن كذلك)(٣) . وروى هشام بن سالم - في الحسن(٤) -، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (مَن سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه، كان له أجر، وإن لم يكن على ما بلغه)(٥) .

____________________

(١) وقد علّق المددي هنا بقوله: (إنَّ كتاب (البهجة لثمرة المهجة) لم يصل إلينا، ولكنّ السيّد ابن طاووس ذكر هذا الكلام بعينه في كتابه: (كشف المحجّة لثمرة المهجة)(ص١٢٧)، المطبوع في النجف الأشرف).

(٢) هذه العبارة - فيما يبدو - مستلهمّة من قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (يا حَار... إنَّه ملبوس عليك ؛ إنَّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فاعرف الحقّ تعرف أهله)، وهذا من التضمين الجميل. يُنظر: البيان والتبيين للجاحظ: ٣/ ١٣٦.

(٣) ينظر: عُدّة الدّاعي، ص٤.

(٤) وقد علّق المددي هنا بقوله: (وصفه ب-: الحسن ؛ باعتبار أنَّ الكليني رواه بإسناد فيه إبراهيم بن هاشم، وهو إماميّ ممدوح ؛ إلاّ أنَّ البرقي رواه في المحاسن (ص٢٥) بسند صحيحٍ عن هشام بن سالم، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

وقال السيّد ابن طاووس: ووجدنا هذا الحديث في أصل هشام بن سالم، رواه عن الصادقعليه‌السلام ). ينظر: البحار: ٢/ ٢٥٦.

(٥) ينظر: الأُصول من الكافي: ٢/ ٨٧، وعُدّة الدَّاعي، ص٣، والبحار: ٢/ ٢٥٦، وجامع أحاديث الشيعة: ج١، المقدّمات، الباب٩.

٩٦

القسم الثاني:

في

الأنواعِ والفُروع

أمَّا وقد عرَفتَ تلكَ المعاني الأربعة(١) ، التي هي أصول علم الحديث، بقي هنا عبارات لمعانٍ شتّى:

منها: ما يشترك فيها الأقسام الأربعة ، إمَّا جميعها أو بعضها، بحيث لا يختصّ بالضعيف ؛ ليدخل فيه المقبول، فإنَّه ليس من أقسام الصحيح، وإنَّما يشترك فيه الثلاثة الأخيرة، على ظاهر الاستعمال ؛ وإن كان إطلاق مفهومه، قد يفهم منه كونه أعمُّ من الصحيح أيضاً.

وجملةُ المشتركِ: ثمانيةَ عشرَ نوعاً.

ومنها: ما يختصُّ بالضعيف ؛ وهو: ثمانية.

فجملة الأنواع الفروع: ستّة وعشرون، ومع الأصول: ثلاثون نوعاً ؛ وذلك على وجه الحصرالجعليّ ، أوالاستقرائي ؛ لإمكان إبداء أقسامٍ أخر(٢) .

[وعليه، ففي هذا القسم: نظران](٣)

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ٢): (وإذ قد عرفت هذه المعاني الأربعة)، بدلاً من: (القسم الثاني: في الأنواع والفروع. أمَّا وقد عرفت تلك المعاني الأربعة).

(٢) قال أبو عمرو بن الصلاح بعد ذكر تعداد أنواع الحديث: وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنَّه قابل للتنويع إلى ما لا يُحصى ؛ إذ لا تُحصى أحوال الرواة وصفاتهم، وأحوال متون الحديث وصفاتها. ينظر: مقدمة ابن الصلاح، ص٨١.

وقال ابن كثير في تعقيبه على ابن الصّلاح: وفي هذا كلّه نظر، بل في بسطه هذه الأنواع إلى هذا العدد نظر ؛ إذ يمكن إدماج بعضها في

بعض، وكان أليق ممَّا ذكره. الباعث الحثيث، ص٢١.

(٣) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١٠) وإنَّما أثبتناها هنا للضرورة المنهجيَّة.

٩٧

النظر الأوَّل: في أنواع المشترك

وفيه حقول:

الحقل الأوَّل:

في

المسند(١)

وهو ما اتّصل سنده مرفوعاً، من راويه إلى منتهاه، إلى المعصوم.

وأكثر ما يُستعمل في ما جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

فخرج باتّصال السّند: المرسل، والمعلّق، والمعضل.

وبالغاية: الموقوف، إذا جاء بسند متّصل، فإنَّه لا يسمَّى في الاصطلاح مسنداً.

وربَّما أطلقه بعضهم على المتّصل مطلقاً(٣) ؛ وآخرون: على ما رُفع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ كان منقطعاً.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١١): (فمن القسم الأول - وهو المشترك - أمور ؛ أحدها: المسند)، بدلاً من (النظر الأوّل: في أنواع المشترك، وفيه حقول، الحقل الأوّل: في المسند)، وهذا ممَّا وضعناه للضرورة المنهجيَّة.

(٢) قال الحاكم: هو ما اتّصل إسناده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال الخطيب: هو ما اتّصل إلى منتهاه.

وحكى ابن عبد البرّ: إنَّه المرويّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سواء كان متّصلاً أم منقطعاً.

وقال أحمد محمد شاكر: وعلى تعريف الخطيب يدخل الموقوف - على الصحابة إذا روي بسند - في تعريف المسند، وكذلك يدخل فيه ما روي عن التابعين بسندٍ أيضاً، ولا يدخلان فيه على تعريف الحاكم وابن عبد البرّ.

ويدخل المنقطع والمعضل على تعريف ابن عبد البرّ، ولا يدخل على تعريف الحاكم. ينظر: الباعث الحثيث، ص٤٤ - ٤٥ (جمعاً بين المتن والهامش)، وينظر: كتاب الكفاية في علم الرواية، ص٢١، ومعرفة علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح)، ص١٧.

(٣) وقد علّق المددي هنا بقوله:

أي: سواءٌ أكان مسنداً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم إلى الصحابة ؛ وهو المسمَّى: بالموقوف.

٩٨

الحقل الثاني:

في

المتَّصل(١)

ويُسمَّى أيضاً: الموصول(٢) .

وهو ما اتّصل إسناده إلى المعصوم أو غيره، وكان كلّ واحد من رواته، قد سمعه ممَّن فوقه، أو ما هو في معنى السماع: كالإجارة، والمناولة.

وهذا القيد(٣) ، أخلّ به كثيرٌ، فورد عليهم ما تناوله ؛ سواءٌ كانَ مرفوعاً إلى المعصوم، أم موقوفاً على غيره.

وقد يُخص بما اتّصل إسناده إلى المعصوم، أو الصحابيّ، دون غيرهم.

هذا مع الإطلاق، أمَّا مع التقييد، فجائز مطلقاً [و] واقع ؛ كقولهم: هذا متّصل الإسناد بفلانٍ، ونحو ذلك.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ٣): (وثانيها المتّصل) فقط، بدون (الحقل الثاني: في المتَّصل).

(٢) الخلاصةُ في أصول الحديث، ص٤٦، وينظر: الباعث الحثيث، ص٤٥.

(٣) أي: قوله: أو ما هو في معنى السماع. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٢.

٩٩

الحقل الثالث:

في

المرفوعِ(١)

- ١ -

وهو ما أضيف إلى المعصوم(٢) ؛ من قولٍ، بأن يقول في الرواية: أنَّهعليه‌السلام قال كذا، أوفعل ، بأن يقول: فعل كذا، أوتقرير ، بأن يقول: فعل فلان بحضرته كذا ولم ينكره عليه، فإنَّه يكون قد أقرَّه عليه، وأولى منه: ما لو صُرِّح بالتقرير.

سواء كان إسناده متَّصلاً بالمعصوم بالمعنى السابق، أم منقطعاً: بترك بعض الرواة، أو إبهامه، أو رواية بعض رجال سنده عمَّن لم يلقه(٣) .

وقد تبيَّن من التعريفات الثلاثة: أنَّ بين الأخيرين منها عموماً من وجه(٤) ؛ بمعنى: صدق كلٍّ منهما على شيء ممَّا صدق عليه الآخر، مع عدم استلزام صدق شيءٍ منهما صدق الآخر.

ومادّة تصادقهما هنا: فيما إذا كان الحديث متّصل الإسناد بالمعصوم، فإنَّه يصدق عليه الاتصال والرَّفع ؛ لشمول تعريفهما له.

ويختص المتّصل: بمتّصل الإسناد، على الوجه المقرَّر، مع كونه موقوفاً على غير المعصوم.

ويختصّ المرفوع: بما أضيف إلى المعصوم بإسناد منقطعٍ.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ١٠): (وثالثها: المرفوع) فقط، بدون:(الحقل الثالث: في المرفوع).

(٢) وقد علَّقَ المددي هنا بقوله: (وعند العامّة: خصوص ما أُضيفَ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٣) ينظر: الخلاصة في أصول الحديث، ص٤٦، والباعث الحثيث، ص٤٥.

وقد علّق المددي هنا بقوله: (مثاله: ما رواه الشيخ في التهذيب(٩/ ٢٦) بإسناده عن ابن أبي عُمير، عن زرارة، عن محمد بن مسلم...، فإنَّ ابن أبي عُمير، لم يلقِ زرارة ؛ فحديثه عنه مرفوع).

(٤) العموم المطلق، والعموم من وجه، والخصوص المطلق، والخصوص من وجه، بل كذلك العموم والخصوص من وجه، كلّ هذه وغيرها اصطلاحات منطقيَّة. ينظر من مثل: (كتاب المنطق)، للشيخ المظفَّر.

ويظهر من هذا الحقل: كيف أنَّ علمَ المنطق يدخل في خدمة الحديث ؛ وكيف أنَّ العلوم في مباحثها بلحاظٍ ولحاظٍ متداخلةٌ....

١٠٠

٧ - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة; لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟

١٠١

البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام الحسينعليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(١) .

____________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤١.

١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته:

ولد يزيد سنة (٢٥ أو ٢٦ هـ )(١) وأمه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحي

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلب

بأرض الطف أولادَ النبي

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(٢) .

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(٣) .

أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٤ / ٣٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤٢.

(٤) حياة الإمام الحسين: ٢ / ١٨١ - ١٨٢.

١٠٣

وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد:

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(١) .

شغفه بالقرود:

وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتَ خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:

كم من كرام وقوم ذوو محافظة

جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس

____________________

(١) راجع الفخري لابن الطقطقي: ٤٥، وتاريخ اليعقوبي: ٢/٢٣٠، وتاريخ الطبري: ٤/٣٦٨، والبداية والنهاية: ٨/٢٣٦ - ٢٣٩.

١٠٤

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريس

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(١)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود(٢)

إدمانه على الخمر:

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السكر، ومن شعره في الخمر:

أقول لصحب ضمّت الخمر شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيم ولذّة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم(٣)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصفه ليزيد بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٢، نقلاً عن جواهر المطالب: ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف: ٢ / ٢.

(٣) حياة الإمام الحسين: ٢ / ١٨٣، نقلاً عن تأريخ المظفري.

(٤) تأريخ ابن عساكر: ٧ / ٣٧٢، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: ٨١.

١٠٥

وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(١) .

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(٢) .

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...(٣)

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:

شميسة كرم برجها قعردنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

اذا اُنزلت من دنِّها في زجاجة

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمد

فخذها على دين المسيح ابن مريمِ(٤)

وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

إسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنّين فغنّوا، وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(٥) .

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر: ٧ / ٣٧٢، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: ٨١.

(٢) البداية والنهاية: ٨ / ٢١٦، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٤٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تتمة المنتهى: ٤٣.

(٥) مروج الذهب: ٢ / ٩٤.

١٠٦

ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(١) .

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن لحيته)(٢) .

إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلحاد يزيد وحقده على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

____________________

(١) مروج الذهب: ٢ / ٩٤.

(٢) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: ٧ / ١٧٠.

١٠٧

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ

قد قتلنا القرم من أشياخهم

وعدلناه ببدر فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزلْ

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ(١)

بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:

ادع إلهك في السماء فإنّني

أدعو عليك رجال عك وأشعرا(٢)

جرائم حكم يزيد:

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم:

١ - انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه‌السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (٦١ هـ ) وهم ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

٢ - إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٧، نقلاً عن البداية والنهاية: ٨ / ١٩٢.

(٢) مروج الذهب: ٢ / ٩٥.

١٠٨

الحسينعليه‌السلام وأنكروه عليه.

٣ - إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(١) .

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أن العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة

____________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٤٢ وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢ / ١٨٠. عن المناقب: ٧١ للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في سموّ الذات: ٥٩ العلائلي.

١٠٩

حياتهم قبل الفتح الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلابدّ إذن من القول بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

١١٠

الفصل الثاني:

مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل: موقفهعليه‌السلام من البيعة ليزيد

١ - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام تكمن في صدريهما، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(١) .

وخاطب أبو سفيان بني أمية ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(٢) .

وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

____________________

(١) الاستيعاب: ٢ / ٦٩٠.

(٢) مروج الذهب: ١ / ٤٤٠، تأريخ ابن عساكر: ٦ / ٤٠٧.

١١١

الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

كما أنّ الانحراف السياسي الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ أو أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه خالف سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(٢) من بعده.

وقد خلت الساحة السياسية للزمرة الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليعليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسنعليه‌السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسنعليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسنعليه‌السلام .

يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

____________________

(١) مروج الذهب: ٢ / ٣٤٣، وشرح النهج: ٢ / ٣٥٧.

(٢) الإمامة والسياسة: ١ / ١٨٩.

١١٢

فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد. من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها(١) ، فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(٢) .

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة; ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(٣) .

____________________

(١) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٤٩، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٥، والإمامة والسياسة: ٢ / ٢٦٢.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٤٩.

(٣) وفيات الأعيان: ٥ / ٣٨٩، والإمامة والسياسة: ١ / ١٨٢، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٦.

١١٣

وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

٢ - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:

لمس معاوية رفض العائلة الأُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده الإمام الحسينعليه‌السلام - وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن تلك السبل:

أ - استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع الأمة لولايته(١) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب - بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(٢) .

ج - استقدام وفود من وجهاء الأنصار(٣) ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي ينفذ منها إليهم.

د - إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل مروان واستعمل سعيداً(٤) .

هـ - اغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام

____________________

(١) الأغاني: ٨ / ٧١، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: ٢٣٤: للويس شيخو اليسوعي.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٠.

(٣) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٠.

(٤) تأريخ الطبري: ٤ / ١٨.

١١٤

كبير في نفوس الجماهير، فاغتال الإمام الحسنعليه‌السلام وسعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(١) .

و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(٢) ; إذ وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

٣ - محاولات الإمام الحسينعليه‌السلام لإيقاظ الأمة:

لم يخلد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام - مراعياً ظروف الأمة وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمامعليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف:

١ - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد.

٢ - محاولة جمع كلمة الأمة.

٣ - فضح جرائم معاوية.

٤ - استعادة حقّ مضيّع.

٥ - تذكير الأمة بمسؤوليّاتها.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٢٩، وتأريخ الطبري: ٥ / ٢٥٣، والكامل في التأريخ: ٣ / ٣٥٢.

(٢) الكامل في التأريخ: ٣ / ٢٥٢، والإمامة والسياسة: ١ / ٢٠٠.

١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد:

أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمامعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك

١١٦

عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذْعنَ للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلى النصف.

فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمامعليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل

فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(١) .

وقد اتّسم موقف الإمام الحسينعليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ٢ / ٢١٩ - ٢٢٠.

١١٧

محاولة جمع كلمة الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمامعليه‌السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(١) .

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسينعليه‌السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الأمة، وأن تردّهم في فتنة(٢) .

فضح جرائم معاوية:

كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ٢/٢٢٣.

(٢) المصدر السابق: ٢ / ٢٢٤.

١١٨

ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء ورحلة الصيف.

وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واتّق شقّ عصا هذه الأمة

١١٩

وأن تردّهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك، فإنْ فعلتُ فإنه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني واسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)(١) .

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع:

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة لتدعيم ملكه، كما كان يهب

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢/٢٣٥ عن الإمامة والسياسة: ١ / ٢٨٤، والدرجات الرفيعة: ٣٣٤، وراجع الغدير: ١٠ / ١٦١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244