أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)23%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160065 / تحميل: 9445
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة :( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسىعليه‌السلام طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة ، والتي كانت بنفسها دليلا حيّا على أحقّيته ، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسىعليه‌السلام ومعجزاته الجديدة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين :( قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للانتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا ، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد ، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل ، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض ، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على امتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر ، والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب ، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل ، الذين كانوا قوما أقوياء ، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط ، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها ، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين ، وبناء على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل ـ حسب طلب موسى ـ

٢١

يعني اقتدار هذه الأمّة ، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة ، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر ، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 ـ 53) من سورة الذاريات :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) .

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا ، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة ، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم ، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة ، كما في بعض آيات القرآن :( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (1) .

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ) ، ولكي يظهر حزما أكثر فإنّه قال :( فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) .

وذكر البعض في تفسير( مَكاناً سُوىً ) : إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية ، وقال بعضهم : أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس ، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماما ، وقال بعض : المراد أن تكون الأرض أرضا مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع ، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني. ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة ، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة ، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة

__________________

(1) النساء ، 66.

٢٢

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة ، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة ، ويثيرون الصخب حولها!

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقا ، بل قال بحزم :( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (1) .

إنّ التعبير بـ( يَوْمُ الزِّينَةِ ) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة ، إلّا أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه ، وكانوا حتما مستعدّين للمشاركة في مثل هذا «المشهد».

على كلّ حال ، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسىعليه‌السلام بالاستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الاتّفاق المذكور مع موسى( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ) .

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء ، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون ، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين ، وأتباعه المستكبرين ، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة ، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسىعليه‌السلام ، وامور أخرى ليس هنا مجال بحثها ، إلّا أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث :( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى ) (2) .

وأخيرا حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم السّحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسّرين ـ إثنين وسبعين

__________________

(1) «الضحى» في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو ارتفاع الشمس ، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

(2) بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالافتراق عن موسى ، أن عن ذلك المجلس ، إلّا أنّ من الممكن أن تعكس ـ مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية ـ حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

٢٣

ساحرا ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيرا القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرّجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة ، والسّحرة ، و( قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) . وواضح أنّ مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم ، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله ، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسىعليه‌السلام نبيّا إليها ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصّة وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) .

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون ، ويحتمل أيضا أن لا تكون أمامه ، وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة ، فأوّلا( قالُوا إِنْ هذانِ

٢٤

لَساحِرانِ ) (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم ، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضا أن يجعلا مقدّساتكم أضحوكة ومحلّا للسخرية( وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) (2) .

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقا مطلقا ، بل( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) لأنّ الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) .

* * *

__________________

(1) إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي : (إن) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها ، إضافة إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

(2) «الطريقة» تعني العادة والأسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢٥

الآيات

( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام ينزل إلى الساحة :

لقد اتّحد السّحرة ظاهرا ، وعزموا على محاربة موسىعليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ اقتراح السّحرة ، هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسىعليه‌السلام ، أو إنّه كان احتراما منهم لموسى ، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسىعليه‌السلام ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

٢٦

إلّا أنّ هذا الموضوع يبد وبعيدا جدّا ، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما أوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته ، وبناء على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسىعليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز( قالَ بَلْ أَلْقُوا ) . ولا شكّ أنّ دعوة موسىعليه‌السلام هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ ، ولم يكن من وجهة نظر موسىعليه‌السلام أمرا مستهجنا ، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضا ، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة ألقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) !

أجل ، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ، وفي أشكال مختلفة ومخيفة ، ونقرأ في الآيات الأخرى ، من القرآن الكريم في هذا الباب :( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء :( وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) .

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما ، إلّا أن إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ، والمشهد

__________________

(1) الأعراف ، 116.

٢٧

الخاص الذّي ظهر هناك ، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، وكذلك تعبير( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).

على كلّ حال ، فإنّ المشهد كان عجيبا جدّا ، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيرا ، وتمرسهم واطلاعهم في هذا الفن عميقا ، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.

فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناء على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّا وخفيفا ، ولم يكن يعني أنّه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة ، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته ، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم ، كما نقرأ في خطبة الإمام عليعليه‌السلام الرقم (6) من نهج البلاغة : «لم يوجس موسىعليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(1) . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسىعليه‌السلام .

__________________

(1) لقد قال الإمام عليعليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعا من شكّي في الحقّ.

٢٨

على كلّ حال ، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن :( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) .

إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير ، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى ، وكذلك كون الجملة اسميّة ـ وبهذه الكيفيّة ، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أخرى بقوله تعالى :( وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) .

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع ، إلّا أنّ الراغب يقول في مفرداته : إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق ، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئا ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضا وهي : إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة ، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس ، وربّما كان هذا الاختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السّحرة ، ومعنى الجملة : إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلّا مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام ، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط ، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.

* * *

٢٩

بحثان

1 ـ ما هي حقيقة السحر؟

بالرغم من أنّنا تحدّثنا بصورة مفصّلة فيما مضى عن هذا الموضوع ، إلّا أنّنا نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أنّ «السحر» في الأصل يعني كلّ عمل وكلّ شيء يكون مأخذه خفيا ، إلّا أنّه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة للعادة التي تؤدّى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمّى سحرا أيضا فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.

وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.

وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية المجهولة.

وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.

وكلّ هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.

إنّنا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسّحرة ، وفي عصرنا الحاضر فإنّ الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين ، إلّا أنّ كثيرا من خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى ، قد اتّضحت في زماننا الحاضر ، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة العجيبة ، فكشفت كثيرا من سحر السّاحرين وسلبته من أيديهم.

فمثلا ، إنّنا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخفّ من الهواء ، وإذا ما وضعت داخل جسم فإنّ من الممكن أن يتحرّك ذلك الجسم ، ولا يتعجّب من ذلك أحد ، فحتّى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربّما كانت تبدو سحرا في الماضي!

اليوم يعرضون في «السيرك» فعاليّات تشبه سحر السّحرة الماضين بالاستفادة من كيفيّة الإضاءة وتوليد النور ، والمرايا ، وخواص الأجسام

٣٠

الفيزياوية والكيمياوية ، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجّب.

طبعا ، إنّ أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصّة أخرى عجيبة جدّا.

وعلى كلّ حال ، فانّه لا مجال لإنكار وجود السحر ، أو اعتباره خرافة سواء في الأزمنة الماضية أو هذه الأيّام.

والملاحظة التي تستحقّ الانتباه ، هي أنّ السحر ممنوع في الإسلام ، ويعدّ من الذنوب الكبيرة ، لأنّه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس ، وتحريف الحقائق ، وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أنّ لهذا الحكم الإسلامي ـ ككثير من الأحكام الاخرى ـ موارد استثناء ، ومن جملتها تعلّم السحر لإبطال ادّعاء المدّعين للنبوّة ، أو لإزالة أثره ممّن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدّثنا حول هذه المسألة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين 102 ـ 103 من سورة البقرة.

2 ـ السّاحر لا يفلح أبدا

يسأل الكثيرون : إنّ السّحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة للعادة وشبيهة بالمعجزة ، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين المعجزة؟

والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة ، وهي : إنّ عمل السّاحر يعتمد على قوّة الإنسان المحدودة ، والمعجزة تستمدّ قوتها وتنبع من قدرة الله الأزليّة غير المتناهية ، ولذلك فإنّ أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة ، وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز ، فهو يستطيع أن يؤدّي ما تمرّن عليه كثيرا من قبل ، وتمكّن منه وسيطر عليه ، وأصبح مطّلعا وعارفا بكلّ دقائق وزوايا وعقد ذلك العمل ، إلّا أنّه سيكون عاجزا فيما عداه ، في حين أنّ الأنبياء لمّا كانوا يستمدّون العون من قدرة الله الأزليّة ، فإنّهم قادرون على القيام بأي عمل خارق

٣١

للعادة ، في الأرض ، والسّماء ، ومن كلّ نوع وشكل.

السّاحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس ، إلّا أن يكون ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرّن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من بين الناس ويقترحوا ابتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلّا أنّ الأنبياء كانوا يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمّة كان يطلبها أناس يبتغون الحقّ دعما للنبوّة ودليلا على صحتها ، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصّة موسى هذه.

ومع ما مرّ ، فإنّ السحر لما كان عملا منحرفا ، ونوعا من الخدعة والمكر ، فإنّه يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه ، والسّحرة ـ بدون استثناء ـ أفراد خدّاعون ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم ، في حين أنّ إخلاص وطهارة وصدق الأنبياءعليهم‌السلام أمور مقرونة بمعاجزهم ، وتضاعف من تأثيرها.

(دقّقوا ذلك).

وربّما لهذه الأسباب تقول الآية :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) لأنّ قوّته محدودة ، وأفكاره وصفاته منحرفة.

إنّ هذا الموضوع لا يختص بالسّحرة الذين هبّوا لمحاربة الأنبياء ، بل هو صادق في شأن السّحرة بصورة عامّة ، لأنّهم سوف يفتضحون بسرعة ، ولا يفلحون في عملهم.

* * *

٣٢

الآيات

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) )

التّفسير

الإنتصار العظيم لموسىعليه‌السلام :

انتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل

٣٣

التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وارتبك ، وفغر أتباعه أفواهمم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيدا بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّا معجزة إلهيّة ، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ) . إنّ التعبير بـ (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات ، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي ، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة ، بتعابير لا يشوبها أي إبهام ، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون ، حتّى يرجع أولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم ، ولا تبقى على عاتقهم مسئولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة ، وهزّ كلّ أركانها ، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر ، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد ، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!

إلّا أنّه يرى الآن أنّ أولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة ، قد استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية ، ولم يسلموا وحسب ، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه ، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا ، ولا شكّ أنّ

٣٤

جمعا من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّا إلّا أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السّحرة و( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضا ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني ، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه ، والبعض احتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام ، وطوابير العملاء ، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في التفكير ، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال ، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) .

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر ، وكان فرعون قد ربّى موسىعليه‌السلام في أحضانه ، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه ، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كلّ مكان ، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلّا أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عند ما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

٣٥

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) (1) .

في الحقيقة إنّ جملة( أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً ) إشارة إلى تهديد موسىعليه‌السلام له من قبل ، وكذلك تهديده للسحرة في البداية( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) . والتعبير بـ( مِنْ خِلافٍ ) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة ، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأ وأشدّ عذابا في هذه الحالة ، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ ، وسيعانون عذابا أشدّ ، وربّما أراد أن يقول : سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل ، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية ، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم ، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه ، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب( إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وعلى هذا ، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون :

الأولى : إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا ، ولا نستبدله بأي شيء.

__________________

(1) من المعلوم أنّ (في) في جملة( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) تعني (على) ، أي أعلّقكم على جذوع النخل ، إلّا أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها ، لأنّ (في) للظرفيّة ، والظرفيّة تناسب كلّ شيء ، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلّا أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.

٣٦

والأخرى : إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.

والثّالثة : حكومتك وسعيك سوف يدومان إلّا أيّاما قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر ، فـ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا ، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة ، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب : إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية ، بل إنّ ظاهر جملة( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) (1) ، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة ، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّا في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة ، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نيّاته ، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم ، لأنّنا رأينا ـ كثيرا ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوّة.

ويحتمل أيضا أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسىعليه‌السلام تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسىعليه‌السلام على الحقّ ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ ، ونشب بينهم نزاع وجدال ، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) ، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى ، فأجبروهم على الاستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ( إِنَّهُ مَنْ

__________________

(1) الأعراف ، 112.

٣٧

يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) بل إنّه يتقلّب دائما بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمر من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون ، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم اعتبرها تابعة لكلام السّحرة ، وربّما كان الابتداء بـ (انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة ، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلّا أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين ، والكافرين المجرمين ، الذي ينتهي بجملة( وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار ، تؤيّد الرأي الثّاني ، وهو أنّها من كلام الله ، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلّقوا حظّا وافرا من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع ، وعن علم واطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلّا أن نقول : إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم ، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواء كان الله تعالى قد قال ذلك ، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله ، خاصة وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

* * *

٣٨

بحوث

1 ـ العلم أساس الإيمان والوعي

إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات ـ محلّ البحث ـ هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسىعليه‌السلام ، فإنّهم عند ما وقفوا بوجه موسىعليه‌السلام كانوا أعداء ألدّاء ، إلّا أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى ، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع.

إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان ، ومن الانحراف إلى الاستقامة ، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم ، ومن الظلمة إلى النور ، قد جعل الجميع في دهشة ، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه ، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل ، واتّفق عليه مسبقا ، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الاتّهام كذب محض.

أي عامل كان السبب في هذا التّحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج ، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل ، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده ، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟

هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره ، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحرا ، بل هو معجزة إلهيّة ، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم ، ومن هنا نعلم جيدا أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين ، أو المجتمع المنحرف ، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(1) .

__________________

(1) لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 ـ 126 من سورة الأعراف.

٣٩

2 ـ لن نؤثرك على البيّنات

ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي ، فقالوا أوّلا : إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقيّة موسى ودعوته الإلهيّة ، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة ، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته ـ مع ملاحظة كلمة (فطرنا) ـ إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة ، فكأنّهم قالوا : إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا ، وكذلك بالدليل العقلي ، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم ، ونسير في طريقك المنحرف؟

ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أنّ جمعا من المفسّرين لم يعتبروا جملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) قسما ، بل عدّوها عطفا على( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة : إنّنا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلّة الجلية ، وعلى الله الذي خلقنا.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة ، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. «فلاحظوا بدقّة»!

3 ـ من هو المجرم؟

بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول :( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) والتي يظهر منها خلود العذاب ، يتبادر هذا السؤال : ترى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟

إلّا أنّه بالالتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك ، وجاءت فيها كلمة «المؤمن» يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر ، إضافة إلى أنّه ورد في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وصلّينا عليهم ودفنّاهم(١) . أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسينعليه‌السلام مكتوف اليد، فقد احتجّ على معاوية ثم ثار على ولده يزيد، إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الأمة من الجور الهائل.

٧ - تشويه القيم الإسلامية ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام :

اجتهد الحكم الأموي أن يغيّر الصورة الصحيحة للرسالة الإسلامية والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الأمويون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين والتمييز بين العرب و غيرهم وبثّ روح التناحر القبلي، والعمل على تقريب قبيلة دون أخرى من البلاط وفق المصالح الأُموية في الحكم.

وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشخصيّة والإقبال على اللهو(٢) .

ولمّا كان لأهل البيتعليهم‌السلام الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلامية ورعاية هموم الرسالة الإسلامية; فقد عمد الأمويون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم بأسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد(٣) .

٨ - الاستجابة لأمر الله و رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير ومبلّغها العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السماء دون تخطيط وعناية ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود مستعيناً بدرايته وبعلمه الشامل

____________________

(١) تأريخ اليعقوبي: ٢ / ٢٠٦.

(٢) تأريخ الطبري: ٨ / ٢٨٨، والأغاني: ٤ / ١٢٠.

(٣) نهج البلاغة: ٣ / ٥٩٥ و ٤ / ٦١ و و ١١ / ٤٤.

١٤١

بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى و تبقى كلمة الله هي العليا. والمتتبّع لسيرة الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبي وتكاملها، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.

وقد أدلى الإمام الحسينعليه‌السلام بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقالعليه‌السلام : (أمرني رسول الله بأمر وأنا ماض له)(١) .

كما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسينعليه‌السلام بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتى بات ذلك من الأمور المتيقّنة لدى المسلمين(٢) .

أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام :

إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسينعليه‌السلام الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدسة - التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه - لا نجد من السهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.

لقد تفانى الحسينعليه‌السلام في الله ومن أجل دينه، فكانت أهدافه - التي

____________________

(١) البداية والنهاية: ٨ / ١٧٦، وتأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومقتل الحسين للخوارزمي: ١ / ٢١٨، والفتوح: ٥ / ٧٤.

(٢) مستدرك الحاكم: ٤ / ٣٩٨ و ٣ / ١٧٦، وكنز العمال: ٧ / ١٠٦، ومجمع الزوائد: ٩ / ١٨٧، وذخائر العقبى: ١٤٨، وسير أعلام النبلاء: ٣ / ١٥.

١٤٢

تمثّل رضى الله وطاعته - سامية جليلة، كما أنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسينعليه‌السلام من ثورته كما يلي(١) :

١ - تجسيد الموقف الشرعي تجاه الحاكم الظالم:

لقد أصابت الأمة حالة من الركود حتى أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم، فالجميع يعرف من هو يزيد وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم الأمة الإسلامية.

في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى يتردّدون في قرارهم، فتحرّك الإمام الحسينعليه‌السلام ليجسّد الموقف الرسالي الرافض للظلم و الفساد، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء، من أجل العقيدة الإسلامية، لتتّخذ الأمة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان.

٢ - فضح بني أُمية وكشف حقيقتهم:

إنّ الحكّام الذين تولّوا أُمور المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة شرعية عند الجماهير. وكان بنو أُمية من أكثر الحكام المستفيدين من هذا الأُسلوب الماكر; إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه، بل سعى بكلّ وسيلة لتضليل الأمة، وتمكّن من فعل ذلك مع عامة الناس.

وأصبح الأمر أكثر خطورة حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام، ولهذا كان لابدّ من فضح التيار الأموي وتصويره على حقيقته، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره ورسالته ويقوم بواجبه ووظيفته،

____________________

(١) للمزيد من التفصيل راجع: أضواء على ثورة الحسينعليه‌السلام للسيّد محمد الصدر: ٥٧.

١٤٣

فتحرّك الحسينعليه‌السلام بصفته الإمام المعصوم ليواجه زيف الحكم وضلالته. وفعلا أسفر التيار الأموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة في كربلاء بقتل خير الناس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال، ثم أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرة وإباحة المدينة ثلاثة أيام قتلا ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل(١) .

وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير الجهاز الحاكم المتوغّل في الظلم والطغيان، حتى غدت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام أنموذجاً يحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد، وقد أفصح الإمامعليه‌السلام عن الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله: (فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله)(٢) .

٣ - إحياء السنّة وإماتة البدعة:

انحدرت الأمة الإسلامية في منحدر صعب يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشرعي في يوم السقيفة، فإنّها قبلت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها من يحتاج إلى المشورة والنصيحة ويخطئ في حقّها ويعتذر، فكانت النتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله، بل ويظهر الحقد على الإسلام والمسلمين، فتعرّض الإسلام -

____________________

(١) راجع: الفتوح لابن أعثم: ٥ / ٣٠١، والإمامة والسياسة للدينوري: ٢ / ١٩، مروج الذهب: ٢ / ٨٤.

(٢) تأريخ الطبري: ٦ / ١٩٧.

١٤٤

عقيدةً وكياناً وأمةً - للخطر الحقيقي والتشويه المقيت المغيّر لكلّ شيء، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السماوية السابقة.

في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسينعليه‌السلام ومعه أهل بيته وأصحابه، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الأمة، مفتدياً العقيدة والأمة بدمه الطاهر الزكي، ومن قبل قال فيه جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). كما قال غير مرّة: (حسين منّي و أنا من حسين). فكان الحسينعليه‌السلام ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ، فقد كان الخط الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

وقد صرّح الإمام الحسينعليه‌السلام في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها.

٤ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة منها: لزوم إطاعة الوالي وحرمة نقض بيعة تمّت حتى لو كانت منحرفة، وكذلك حرمة شقّ وحدة الكلمة، وقد وصف الإمامعليه‌السلام هذه الحالة بقوله: (ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله)(١) . لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للجهاد وهو يحمل السيف في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أدلىعليه‌السلام

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٥/٤٠٣.

١٤٥

بذلك في وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية حين كتب له: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).

إنّ الإصلاح المقصود هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة، وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قامعليه‌السلام بها فكانت الهداية و الرعاية للبشر دينياً ومعنوياً وإنسانياً وأخروياً بمقتله وشهادته، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من الأمة، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة.

٥ - إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف:

في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولا عن عنصر العاطفة لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير، وقد ابتليت الأمة الإسلامية في عهد الإمام الحسينعليه‌السلام وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة وعدم التحسّس للأخطار التي تحيط بها وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة الإسلامية، لهذا لم يكتف الإمام الحسينعليه‌السلام بتثبيت الموقف الشرعي وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي بل سعى إلى إيقاظ ضمائر الناس وتحريك وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية، فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل العقيدة والدين، واتّخذ أسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب الجماهير، وقد ضرب لنا مثلا رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة على فئة أو مستوىً معيّن من

١٤٦

الأمة، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن الشباب.

وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام، فكانت ثورة التوّابين التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السنة الثانية من بعد واقعة الطفّ.

لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة الإسلامية، كما أنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الأمة الإسلامية، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين، ولم تُبقِ عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة الله.

لماذا لم ينهض الإمام الحسين بالثورة في حكم معاوية؟

إن الأحداث السياسية التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشام ومحاربة الإمام عليعليه‌السلام وبالتالي اضطرار الإمام الحسنعليه‌السلام لإبرام صلح معه; لأسباب موضوعية كانت تكتنف الأمة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسنعليه‌السلام تجاه معاوية حتى بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام ، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسنعليه‌السلام إلى قبول الصلح فمن ذلك:

١ - حالة الأمة الإسلامية:

كان الوضع النفسي والاجتماعي للأمة الإسلامية متأزّماً، إذ كانت تتطلع إلى حالة السلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم

١٤٧

الإمام عليعليه‌السلام ، فكان رأي الإمام الحسنعليه‌السلام هو أن يربّي جيلا جديداً وينهض بعد حين، فقد قالعليه‌السلام :

(إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن)(١) .

وهو نفسه موقف الإمام الحسينعليه‌السلام بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الأمة، فكان قوله لمن فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسنعليه‌السلام عنها: (صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً).

وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام لبقاء نفس الأسباب، فقد كتبعليه‌السلام يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة: (أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً)(٢) .

٢ - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن:

لقد كانت زعامة الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك. ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً، إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السلطة

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٢١.

(٢) المصدر السابق: ٢٢٢.

١٤٨

بيده متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يغطّي جرائمه الأخلاقية واللاإنسانية والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام الناس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسنعليه‌السلام وسعد بن أبي وقّاص(٢) وقضى على عبد الرحمن بن خالد(٣) ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز أسلوبه هذا في كلمته المشهورة: (إنّ لله جنوداً منها العسل)(٤) .

كما أنّ معاوية كان يضع كلّ من يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فترفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه.

في مثل هذا الأُسلوب - أي التصرّف تحت ستار الإسلام - لو قام الإمام الحسينعليه‌السلام بحركة واسعة ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام مباشرةً; لما كان قادراً على فضح معاوية وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها وتضيع جهود كبيرة، كان من شأنها أن تبني في الأمة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ. وما كان الإمام الحسينعليه‌السلام ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة(٥) المتمثّلة في إنقاذ الأمة من الظلم وصيانة الرسالة

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد: ٢ / ٣٥٧.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٢٩، ومختصر تأريخ العرب: ٦٢.

(٣) التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان: ٤ / ٧١.

(٤) عيون الأخبار: ١ / ٢٠١.

(٥) للتفصيل راجع: ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: ١٢٢.

١٤٩

الإسلامية من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.

وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة وهو من قد عرفه الناس باللهو والفسق والشغف بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة لتجاوزه وعدوانه على كل المقاييس الشرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين. فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح.

٣ - احترام صلح الإمام الحسنعليه‌السلام :

لقد كان العهد والميثاق الذي تم بين معاوية وبين الإمام الحسنعليه‌السلام ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي وما كان برضا الإمامينعليهما‌السلام وتم في ظروف كان لابد من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية.

وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسينعليه‌السلام وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمامعليه‌السلام : أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله إنّ من أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الأمة(١) .

____________________

(١) الإمامة والسياسة: ١ / ١٨٨، والأخبار الطوال: ٢٢٤، وأعيان الشيعة: ١ / ٥٨٢.

١٥٠

من هنا لجأ الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده الحسينعليه‌السلام إلى أسلوب آخر لنشر الدعوة والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، حتى إذا مات معاوية كان كثير من الناس وعامّة أهل العراق - بشكل خاص - يرون بغض بني أُمية وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً(١) .

المواقف من ثورة الحسينعليه‌السلام قبل انطلاقها:

لم تكن نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسينعليه‌السلام في الأمة يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها الإسلام في الأمة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسينعليه‌السلام . وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الأمويين الفاسدة تجاه رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلامية وأمته المؤمنة برسالته.

وقد وقف أهل البيتعليهم‌السلام بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

وفي عصر الإمام الحسينعليه‌السلام كان لتراخي وفتور الأمة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه أسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل.

____________________

(١) الفتنة الكبرى - علي وبنوه، طه حسين: ٢٩٠، وللمزيد من التفصيل راجع: ثورة الحسينعليه‌السلام ، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية: ١٢٧.

١٥١

ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسينعليه‌السلام تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الأمة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الأمة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة، وبين التثبيط وفتّ العزائم.

وتبنّى شيعة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، وأودع البعض الآخر السجن أو حوصر من قبل قوّات السلطة الأُموية.

كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمامعليه‌السلام - مثل عبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفيّة - موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى اليمن؛ نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها(١) .

وتبنّى آخرون موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمامعليه‌السلام بالدخول فيما دخل فيه الناس، والصبر على الظلم، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسينعليه‌السلام (٢) .

____________________

(١) مقتل الحسين ( الخوارزمي ): ١ / ١٨٧ و ٢١٦، ومروج الذهب: ٣ / ٦٤.

(٢) مقتل الحسين ( الخوارزمي ): ١ / ١٩١.

١٥٢

البحث الرابع: توجّه الإمامعليه‌السلام إلى مكّة.

خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته وبني عمومته و بعض الخواصّ من شيعته، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمد بن الحنفية، وأفادت بعض المصادر التاريخية بأنّ الإمامعليه‌السلام أقام في بيت العباس بن عبد المطلب(١) ، فيما تحدّثت مصادر أخرى عن إقامتهعليه‌السلام في شِعْب عليّ(٢) ، وأقام الإمامعليه‌السلام في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ويتعلّمون منه الحلال و الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمامعليه‌السلام وشأنَه فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شهر رمضان من تلك السنة (٦٠ هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة، لأنّه كان معتدلا في موقفه من الإمامعليه‌السلام ولم يستجب لطلب مروان(٣) .

رسائل أهل الكوفة إلى الإمامعليه‌السلام :

وقد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسينعليه‌السلام عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار و بخاصّة أهل الكوفة، فقد كانوا يومذاك من أشدّ الناس نقمةً على يزيد و أكثرِهم ميلا إلى الإمامعليه‌السلام فاجتمعوا في دار سليمان ابن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيباً فقال: (إنَّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر: ١٣ / ٦٨.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر: ٢ / ٥٨.

١٥٣

تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه، فاكتبوا إليه وأعلموه، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه و نقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه:

(بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن عليّعليهما‌السلام من سليمان بن صرد والمسيّب بن نَجَبَة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمَّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، و تأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وانّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، وإننا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى).

ثم سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني و عبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء(١) ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسينعليه‌السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي وعبد الله وعبد الرحمن ابني

____________________

(١) النجاء: السرعة.

١٥٤

شداد الأرحبي وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسينعليه‌السلام ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثم لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمَّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام).

ثم كتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي:(أمَّا بعد، فقد اخضرّ الجَناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة، والسلام) (١) .

جواب الإمامعليه‌السلام على رسائل الكوفيّين:

تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسينعليه‌السلام وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة إن تأخّر عن إجابتهم، ورأى الإمام - قبل كلّ شيء - أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته و كبير أهل بيته مسلم بن عقيل، وهو من أمهر الساسة

____________________

(١) الإرشاد: ٢ / ٣٨، وروضة الواعظين: ١٧١، وتذكرة الخواص: ٢١٣، وتأريخ الطبري: ٤ / ٢٦٢، والفتوح لابن أعثم: ٥ / ٣٣، ومقتل الحسين للخوارزمي: ١ / ١٩٥.

١٥٥

وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصعبة والصمود أمام الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد، وهي كما يلي:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعد، فإنّ هانئاً و سعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه على ذات الله، والسلام)(١) .

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة:

لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره (بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك)(٢) .

وفي النصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة، فعرّج

____________________

(١) الإرشاد: ٢/٣٩، وإعلام الورى: ١ / ٤٣٦، والفتوح لابن أعثم: ٥ / ٣٥، ومقتل الحسين للخوارزمي: ١ / ١٩٥.

(٢) الفتوح: ٥ / ٣٦، ومقتل الحسين للخوارزمي: ١ / ١٩٦.

١٥٦

على المدينة فصلّى في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.

وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة(١) ، وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(٢) ، وقيل: في بيت هاني بن عروة(٣) .

وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسينعليه‌السلام إلى مدينتهم; ازدحموا للقائه و بيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(٤) .

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسينعليه‌السلام :

ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشعبية ويأخذ البيعة للإمامعليه‌السلام وتوالت الوفود تقدم ولاءها، و الجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار; بادر بالكتابة إلى الإمامعليه‌السلام ناقلا إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له

____________________

(١) الإرشاد: ٢ / ٤١، وإعلام الورى: ١ / ٤٣٧.

(٢) الإصابة: ١ / ٣٣٢.

(٣) تهذيب التهذيب: ٢ / ٣٤٩.

(٤) الإرشاد: ٢ / ٤١، ومناقب آل أبي طالب: ٤ / ٩٠، وتذكرة الخواص: ٢٢٠.

١٥٧

الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

وقد جاء في رسالة مسلم للإمامعليه‌السلام : (أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلَّهُم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوىً)(١) .

رسالة الإمامعليه‌السلام إلى زعماء البصرة:

وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام - بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق - بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أرسل به، و كنّا أهلَه و أولياءه و أوصياءه وورثته و أحقَّ الناس بمقامه، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، و نحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة قد أُحييت، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد)(٢) .

وقد بعثعليه‌السلام عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلٍّ من: مالك بن مسمع البكري، والأحنفِ بن قيس، والمنذر بن الجارود، و مسعود بن عمرو، وقيس ابن الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي، وأرسل الإمامعليه‌السلام النسخ مع مولىً له يقال له: سليمان أبو رزين.

ولم يجب على رسالة الإمامعليه‌السلام غيرُ الأحنف بن قيس و يزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد - وكان

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ٢ / ٣٤٨، عن تأريخ الطبري: ٦ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الحسين للمقرّم: ١٥٩ - ١٦٠، وتأريخ الطبري: ٤ / ٢٦٦، وأعيان الشيعة: ١ / ٥٩٠.

١٥٨

حينها والياً على البصرة - فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(١) . وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.

جواب الأحنف بن قيس:

وأمّا الأحنف بن قيس - وهو أحد زعماء البصرة - فقد أجاب على رسالة الإمامعليه‌السلام برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة ولم يزد عليها:( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ) (٢) .

وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.

جواب يزيد بن مسعود النهشلي:

واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ، فاندفع بوحي من إيمانه و عقيدته إلى نصرة الإمام، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له وهي: ١ - بنو تميم. ٢ - بنو حنظلة. ٣ - بنو سعد.

وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال: إنَّ معاوية مات، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، و هيهات الذي أراد، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٤ / ٣٣٩، وأعيان الشيعة: ١ / ٥٩٠.

(٢) سير أعلام النبلاء: ٣ / ٣٠٠، والآية (٦٠) من سورة الروم.

١٥٩

على الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه، وقِدمه وقرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . يعطف على الصغير، ويُحسن إلى الكبير، فأكرم به راعي رعية، و إمام قوم و جبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ، و لا تسكعوا في وهد الباطل... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. من لم يُقْتَلْ يَمُتْ، و مَن يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب).

ولما أنهى النهشلي خطابه; انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له، فرفع النهشلي رسالة للإمامعليه‌السلام دلّت على شرفه ونبله و هذا نصها:

(أمّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير ودليل على سبيل نجاة، و أنتم حجّة الله على خلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمدية، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها، وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد، و غسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع)(١) .

ويقول بعض المؤرّخين: إنّ الرسالة انتهت إلى الإمامعليه‌السلام في اليوم العاشر من المحرم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيد فريد قد أحاطت

____________________

(١) اللهوف: ٣٨، وأعيان الشيعة: ١ / ٥٩٠، وبحار الأنوار: ٤٤ / ٣٣٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244