أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)23%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159659 / تحميل: 9403
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بمن قام الف دليل على سوء افعاله وركاكة اقواله كما سيتضح إنشاء الله تعالى والملخص إن نصب الإمام واجب على الله تعالى عقلاً كما برهن عليه في موضعه مفصلاً وقد أبان عن ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونص على من كان أهلاً للإمامة في يوم الغدير وغيره من المواقف والأزمان وحيث كان هذا الإيجاب عند اهل البيتعليهم‌السلام وسائر بني هاشم واتباعهم شائعاً ذائعاً بحيث لم يظنوا صدور الخلاف لأحد من الأصحاب لم يشتغلوا به عن دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيعترف به هذا الشيخ الجاهل في أوائل الفصل الأول من الباب الأول وإنما إشتغل به من الأصحاب من قصد غصب منصب الإمامة وعادى علياً طلباً لثارات الجاهلية فاغتنموا الفرصة بإشتغال بني هاشم بتجهيز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجلوس عليعليه‌السلام للمصيبة فسارعوا الى تقرير ولي الأمر ولبسوا الأمر على الناس بإيهام إن قعود عليعليه‌السلام في قعر بيته إنما كان لتركه الخلافة وإعراضه عنها فانخدع الناس بذلك وضم اليه إختلاف الأنصار فيما بينهم فلم يصبروا أن يفرغ بني هاشم من مصاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيستقر الأمر مقره فبايعوا أبا بكر بحضوره وعقدوا البيعة الفلتة الفاسدة لأبي بكر بعد أعمال وجوه أخرى من التلبيس وتطميع الناس واستمالتهم بتفويض إمارة البلاد ونحوها فظهر إن قول هذا الشيخ حيث إشتغلوا به عن دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على عمومه في محل المنع فتأمل

وأما تاسعاً فلأن ماذكره أولاً في وجه الوجوب على الأمة سمعاً غير متجه لأنه لا يقتضي كون نصب الإمام واجباً سمياً على الأمة كما إدعاه لظهور إن أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإقامة الحدود وسد الثغور ونحوهما على آحاد الأمة ليس

٤١

على أن يفعلها كل أحد منهم بإستقلال بل بأمر الإمام كما يرشد اليه قوله وهي لا تتم إلا بالإمام فهذا راجع الى بيان مايجب على معاونة الإمام في الأمور المذكورة لا الى وجوب أصل الإمامة فالواجب المطلق في الأمر بما ذكر هو الوجوب المتعلق بإطاعة الأمة لا الوجوب المتعلق بنصب الإمام ولا يلزم من سمعية الأول سمعية الثاني على إن لقائل أن يمنع قولهم « إن ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف كان واجباً » وإنما تصدق هذه المقدمة لو إمتنع تكليف مالا يطلق وهو غير ممتنع عندهم فلم يتم الدليل للأشاعرة وايضاً الذي يقوم عليه الدليل هو وجوب مقدمة الواجب بمعنى كونه مما لا بد منه في تحقيق ماهي مقدمة له لا الوجوب الشرعي الذي قصدوه في هذا المقام وتحقيق ذلك يطلب من كتب الأصول لأصحابنا أيدهم الله تعالى.

وأما عاشراً فلأن ماذكره ثانياً بقوله « ولأن في نصبه جلب منافع لا تحصى ودفع مضار لا تستقصى الخ » مردود بأن الضرر المضنون أما ديني وهو تقريب المكلفين وتبعيدهم وذلك لايحصل إلا من إمام مؤيد من عند الله بالآيات والبينات عارف بجزئيات التكاليف العقلية والشرعية مما لا يعرفها إلا الراسخون ولا يرضى بحكمه إلا المتقون، بخلاف من نصبه الرعية على وفق آرائهم، ومقتضى شهواتهم ، حيث جوزوا ترجيح المرجوح وتفضيل المفضول واستأثروا إتباع الظالم الجاهل الذي لا يعرف شيئاً من ضروريات الدين كما ينبغي، بل لا يهتدي بضروريات العقل أيضاً لينالوا بوسيلته الى مرداتهم الجاهلية والمالية

وأما دنيوي كالهرج والمرج والفتن ولا نزاع لنا في حصوله في الجملة من نصب رئيس يختاره طائفة من الناس بينهم لئلا يختل

٤٢

أمر معاشهم إلا إن نصبه ربما يؤدي الى المفاسد الدينية كإتباع العلماء القاصرين لرأيه وإعتقاده وتأليفهم كتباً على طبق مرضاته ووضعهم أحاديث كذلك فاستمر بينهم كابراً عن كابر حتى شاع في وقته كما وقع في زمان بني أمية وبني العباس فقالوا بعد مدة إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون.

١٢ ـ قال : المقدمة الثالثة الإمامة تثبت أما بنص من الإمام على إستخلاف واحد من أهلها وأما بعقدها من أهل الحل والعقد لمن عقدت له من اهلها كما سيأتي بيان ذلك في الأبواب وأما بغير ذلك كما هو مبين في محله واعلم إنه يجوز نصب المفضول مع وجود من هو أفضل منه لإجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على إمامة بعض من قريش مع وجود أفضل منه منهم ولأن عمر جعل الخلافة بين ستة من العشرة منهم عثمان وعلي وهما أفضل أهل زمانهما فلوا تعين الأفضل لعين عثمان فدل عدم تعيينه إنه يجوز نصب غير عثمان وعلي مع وجودهما والمعنى في ذلك إن غير الأفضل قد يكون أقدر منه على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الملك وأوفق لإنتظام حال الرعية وأوثق في إندفاع الفتنة انتهى.

اقول : اولاً التحقيق إن الإمامة لا تثبت إلا بنص من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من الإمام المنصوص على إمامته وأما القسمان الآخران اللذان ذكرهما هذا الشيخ الجامد فقد أشرنا الى بطلانهما إجمالاً وسيأتي الكلام فيهما تفضيلاً إنشاء الله تعالى

وثانياً إنه إن اراد بدعوى إجماع العلماء على إمامة المفضول مع وجود الفاضل إجماع جميع العلماء فالمنع عليه ظاهر كيف وسائر أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم الى هذا الزمان على طرف الخلاف وإن

٤٣

أراد إجماع علماء اهل السنة فهو مصادرة ظاهرة لاتقوم حجة على الخصم الشيعى كما لايخفى وتفضيل الكلام وتحقيق المرام إنه قد دل العقل والنقل على إنه يجب أن يكون الإمام أكمل وافضل في جميع اوساط المحامد كالعلم والزهد والكرم والشجاعة والعفة وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق المرضية وبالجملة يجب أن يكون أشرفهم نسباً واعلاهم قدراً واكملهم خلقاً وخلقاً كما وجب ذلك في النبي بالنسبة الى إمته وهذا الحكم متفق عليه من أكثر العقلاء إلا إن أهل السنة خالفوا في أكثره كالأعلمية والأشجعية لأن أبا بكر لم يكن كذلك مع إن عمر وأبا عبيدة نصباه إماماً وكذا عمر لم يكن كذلك وقد نصبه ابو بكر إماماً ولم يفطنوا بأن هذا الإختيار السوء قد وقع مواضعة ومخادعة من القوم حرصاً على الخلافة وعداوة لإمام الكافة كما يكشف عنه قول طلحة حين كتب أبو بكر وصيته لعمر بالولاية والخلافة بعده حيث قال مخاطباً لعمر « وليته أمس وولاك اليوم » الى غير ذلك من المكائد والحيل والخدع التي إستعملوها في غصب الخلافة عن اهلها وكذلك فريق من المعتزلة منهم عبدالحميد بن أبي الحديد المدائني قالوا يجوز تقديم المفضول على الفاضل لمصلحة ما وقالوا إن علياًعليه‌السلام أفضل من أبي بكر لكن جاز تقديم أبي بكر عليه لمصلحة وهذا القول غير مقبول إذ يقبح من اللطيف الخبير أن يقدم المفضول المحتاج الى التكميل على الفاضل الكامل عقلاً ونقلاً كما في النبوة ومنشأ شبهتهم في هذا التجويز إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قدم عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وكذا قدم أسامة بن زيد عليهما مع إنهما أفضل من كل منهما والجواب بعد تسليم افضليتهما والإغماض عن إن هذه الأفضلية إنما توهم لهما بعد

٤٤

غصبهما للخلافة إنهما إنما قدما عليهما في أمر الحرب فقط وقد كانا أعلم من منهما فيه قطعاً كما دلت عليه الأخبار والآثار هذا إن جعلنا التقديم والتأخير منوطاً بإختيار الله تعالى وأما إن جعلناه منوطاً بإحتيار الأمة كما هو مذهب الجمهور فهو أيضاً غير مقبول لأنه يقبح في العقول ايضاً أن يجعل المفضول المبتدي في الفقه مقدماً على إبن عباسرضي‌الله‌عنه وذلك بين عند كل عاقل والمخالف فيه مكابر.

ومن العجائب إن إبن أبي الحديد المعتزلي خالف هاهنا مقتضى ما أجمع عليه من القول بالحسن والقبح العقليين ونسب هذا التقديم الذي ذهب اليه الى الله عز وجل فقال في خطبة شرحه لنهج البلاغة « وقدم المفضول على الفاضل لمصلحة إقتضاها التكليف » وهذا في غاية مايكون من السخف، ولأنه نسب ما هو قبيح عقلاً الى الله عز وجل ، مع إنه عدلي المذهب ، فقد خالف مذهبه، ولهذا حملت الشكايات الواردة من عليعليه‌السلام عن الصحابة، والتظلم منهم في الخطبة الموسومة بالشقشقية وغيرها على ذلك ولا يخفى إن الحمل على ذلك مما لا وجه له سوى التحامل على عليعليه‌السلام لأن هذا التقديم إن كان من الله تعالى، لم يصح من عليعليه‌السلام الشكاية مطلقاً لأنها حينئذ تكون رداً على الله، والرد عليه على حد الكفر وإن كان من الخلق فإن كان هذا التقديم لمصلحة المكلفين وعلم بها جميع الخلق غير عليعليه‌السلام فقد نسبهعليه‌السلام الى الجهل بما عرفه عامة الخلق وإن كان لا لمصلحة كان تقديماً بمجرد التشهي فلم تكن الشكاية على الوجه الذي توهمه فلا وجه لحملها عليه هذا والعقل والنقل كما اشرنا اليه دال على قبح ذلك أما العقل فظاهر وأما النقل فلأن القرآن نص على إنكار ذلك حيث قال تعالى أفمن يهدي الى الحق

٤٥

احق أن يتبع أمن لايهدي الى أن يهدي فمالكم كيف تحكمون وقال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ثم أقول يمكن أن يستدل على عدم جواز تفضيل المفضول يقول أبي بكر « أقيلوني فإني لست بخيركم وعلي فيكم » فاحفظ هذا فإنه بذلك حقيق.

وثالثاً إنما ذكره من التعليل العليل بقوله « ولأن عمر جعل الخلافة الخ » قد مر مافيه مع إبتنائه لمجرد حسن الظن الذي لايغني من الحق شيئاً.

ورابعاً إن قوله « والمعنى في ذلك إن غير الأفضل قد يكون اقدر منه الخ » فيه إنه إن عنى بالأقدر المذكور فيه إنه لايعرف مصالح الدين لكنه أقدر على إقامتها فهذا لايسمن ولايغني من جوع لأن إقامة مصالح الدين فرع العلم بها وهو ظاهر وإن عنى به إنه أقدر بإقامتها مع العلم بها من غير أحتياج وإستناد الى إستعلامها عن غير فهو خلاف المفروض لأن مثل هذا الشخص ليس بمفضول في العلم بل أقل الأمر أن يكون مساوياً لغيره وأما مجرد معرفة تدبير الملك وإنتظام حال الرعية فلا يجدي في الدين لأن ذلك التدبير والإنتظام يجب أن يكون على الوجه الشرعي الخالي عن شوائب الجور والظلم الذي لا يحصل إلا ممن إتصف بالعلم والعفة والزهد والشجاعة بل بالعصمة كما سنحققه دون الوجه العرفي السياسي الحاصل من معاوية الباغي وجروه يزيد، والوليد الجبار العنيد ، الذي إستهدف المصحف المجيد، والحجاج الظالم الفاتك الشديد ، واللص المتغلب الدوانيقي ونحوهم من كل شيطان مريد، فإنهم كانوا يدفعون الفتنة الموهمة على الملك والرعية وعلى خصوص سلطنتهم وجاههم وقتل كل متهم، وصلب كل عدو مظنون وإحراق بيوتهم وبيوت اقوامهم وجيرانهم وضرب أعناقهم الى غير ذلك من العذاب والنكال بلا ثبوت ذنب

٤٦

منهم شرعا نعم ظلم الشيخين كان مختصاً بأهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ولهذا إستقام لهم الأمر بمعونة غيرهم من أعداء أهل البيت بخلاف عثمان فإنه لما عم ظلمه وظلم عماله على البلاد والعباد، إختل أمره وآل الى قتله على رؤوس الأشهاد، وبالجملة إن حفظ الحوزة على الوجة المشتمل على الإنتظام الظاهري ودفع الهرج والمرج ورفع تطاول بعض الآحاد قد يترتب على وجود الخلفاء المجازية والملوك الجائرة بل بوجود الشحنة والعسس بل وربما يحصل هذا القسم من الإنتظام بهم دون غيرهم من الخلفاء الحقيقة فإنهم بموجب سياساتهم العرفية المذكورة ونحوها ربما يدفعون تطاول آحاد الناس على غيرهم من الرعية بوجه لايتيسر لغيرهم من الخلفاء الأمجاد لكنهم أنفسهم وأولياء دولتهم يعملون مع ضعفاء العباد ، ما يشاؤون من الجور والفساد ، ولو وقع خلل في أحكام الدين القويم، واعوجاج في اركان الطريق المستقيم، عجزوا عن الإصلاح والقويم كما اشار اليه عبدالله بن الحر في جملة قوله

( شعر(١) )

تبيت النشاوى من أمية نوماً

وبالطف قتلى ما ينام حميمها

وما ضيع(٢) الإسلام إلا قبيلة(٣) تأمر نوكها ودام نعيمها(٤)

وأضحت(٥) قناة الدين في كف ظالم إذا إعوج منها جانب لايقيمها

____________________

(١) نقل إبن شهر آشوب ره هذه الأبيات في كتاب المناقب من دون تسمية لقائلها [ صفحة ٢٣٢ من ج ٢ من النسخة المطبوعة في سنة ١٣١٧ القمرية الهجرية ونقلها المجلسي ره عن المناقب في البحار « ص ٢٥٦ من ج ١٠ من النسخة المطبوعة بنفقة أمين الضرب ره ]

(٢) المناقب والبحار « قتل »

(٣) المناقب والبحار « عصابة »

(٤) المناقب والبحار « نام زعيمها »

(٥) المناقب والبحار « فاضحت »

٤٧

وليتأمل ذو الرأي السديد إن فيما وقع في ايام من صحاح أهل السنة سلطنه بل خلافته كيزيد، عليه من اللعنة مايربو ويزيد، من قتل الحسينعليه‌السلام وشيعته من حفظ حوزة الإسلام أو في قتله لأهل المدينة الطيبة وإفتضاض الف بكر من أولاد الصحابة والتابعين الكرام رعاية نظام الأنام أو في رمي المناجيق على الكعبة وتخريب بيت الله الحرام أمارة لما إختل من النظام أو دعوة لمن دخلها الى دار السلام هذا مع إنا لا نسلم إن الثلاثة كانوأ أعرف بحفظ الحوزة وحفظ حال الرعية ولو كانوا كذلك لما أمر النبي عليهما عمرو بن العاص مرة وزيد بن حارثة مرة وزيد بن أسمامة تارة أخرى وقد إشتهر إن أكثر ما إستعمله عمر من تدبير فتح العجم ونشر الإسلام في بلادهم إنما كان بإشارة عليعليه‌السلام وإنه كتب صفحة من قبيل الجفر والتكسيرا وجب عقدها على راية أهل الإسلام إنتكاس رايه العجم وقد ذكر بعض الجمهور على ما في كتاب الشافي من مقاتلة أبي بكر لأصحاب مسيلمة الكذاب وأمثالهم مشهورين بين أهل السنة بأهل الردة إنما كان بإشارة عليعليه‌السلام نعم كانعليه‌السلام محترزاً عن إستعمال الغدر والمكيدة والحيلة والخديعة التي يعد العرب مستعملها من الدهاة وكانوا يصفون معاوية بذلك ويقولون إنما وقع الإختلاف في عسكر عليعليه‌السلام لأن معاوية كان صاحب الدهاء دونه ولما سمععليه‌السلام قال « لولا الدين(١) لكنت من أدهى العرب » فتدبر.

____________________

(١) نقل السيد الرضي ره في نهج البلاغة مايحقق هذا المرام بهذه العبارة « ومن كلام لهعليه‌السلام : والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة والله ما إستغفل بالمكيدة ولا إستغمز بالشديدة » وقال إبن أبي الحديد في شرحه كلاماً مفصلاً منه هذا « أعلم إن السائس لايتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه وبما يرى فيه صلاح ملكه وتمهيده امره وتوطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ماقلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله وأمير المؤمنين كان مقيداً بقيود الشريعة مدفوعاً الى إتباعها ورفض مايصلح إعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن الشرع موافقاً فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين اليه ما هو منزه عنه لكنه كان مجتهداً يعمل بالقياس والإستحسان والمصالح والمرسلة ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء بالإستنباط من اصول يقتضي خلاف مايقتضيه عموم النصوص ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة ويؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه إنه يستوجب ذلك ويصفح من آخرين قد إجترموا مايستحقون به التأديب كل ذلك بقوة إجتهاده وما يؤديه اليه نظره ولم يكن أمير المؤمنينعليه‌السلام يرى ذلك وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها الى الإجتهاد وإلا قيسته ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين ويسوق الكل مساقاً واحداً ولا يرفع إلا بالكتاب والنص فاختلفت طريقتاهما بالخلافة والسياسة وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة وكان عليعليه‌السلام كثير الحلم والصفح والتجاوز فازدادت خلافة ذاك قوة وخلافة هذا ليناً ولم يمن عمر بما مني به عليعليه‌السلام من فتنة عثمان الخ » وهو كلام نافع طويل الذيل جداً ينبغي إن يلاحظ ويراجع ومن اراده فليطلبه منه هناك « وهو أواخر الجزء العاشر من شرح النهج لصاحب الكلام ».

٤٨

١٣ ـ قال : واشتراط العصمة في الإمام وكونه هاشمياً وظهور معجزة على يده يعلم بها صدقه من خرافات نحو الشيعة وجهالاتهم لما سيأتي بيانه وإيضاحه من حقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان مع إنتفاء ذلك فيهم ومن جهالاتهم ايضاً قولهم إن غير المعصوم يسمى ظالماً فيتناوله قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين وليس

٤٩

كما زعموا إذ الظالم لغة من يضع الشيء في غير محله وشرعاً العاصي وغير المعصوم قد يكون محفوظاً فلا يصدر عنه ذنب او صدر عنه ويتوب منه حالا توبة نصوحا فالآية لاتتناوله وانما تتناول العاصي على أن العهد في الآية كما يحتمل ان يكون المراد به الإمامة العظمى يحتمل ايضاً ان يكون المراد به النبوة أو الإمامة في الدين او نحوهما من مراتب الكمال وهذه الجهالة منهم انما اخترعوها ليبنوا عليها بطلان خلافة غير علي كرم الله وجهه وسيأتي مايرد عليهم ويبين عنادهم وجهلهم وضلالهم نعوذ بالله من الفتن والمحن انتهى.

اقول : يتوجه عليه :

اولاً ان الإمامية الذين ينبغي ان يكون وجه الكلام معهم انما اشترطوا العصمة دون الهاشمية وان اتفق كون الأئمة المعصومين من بني هاشم ودون اظهار المعجزة وان صدر عنهم ذلك حسبما ذكره مؤلف شواهد النبوة وغيره.

وثانياً ان اثبات حقية خلافة ابي بكر وعمر مع انتفاء العصمة فيهم انما يوجب خرافة من اشترط العصمة في الإمامة لو لم يثبت ذلك ببرهان من العقل والنقل وإلا فغاية الأمر تعارض الإثباتين فجاز ان يكون الخرافة والجهل في هذا الشيخ الخرف والجهلاء من اهل نخلته على إن لنا بحمد الله تعالى على ذلك دلائل عقلية ونقلية لايخفي وقعها على أولي الطبائع الزكية

أما النقلية فما ذكره هذا الشيخ الجامد بعيد ذلك من قوله تعالى لاينال عهدي الظالمين وسنوضح دلالته على المقصود بحيث لا يبقى للخصم مجال الإنكار والجحود وقوله تعالى كونوا مع الصادقين و

٥٠

غير المعصوم لايعلم صدقه فلا يجب الكون معه فيجب الكون مع المعصوم وهم أهل البيتعليهم‌السلام كما نطق به آية التطهير على ماأوضحناه في شرح كشف الحق ونهج الصدق

وأما العقلية فلأن الإمام قائم مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وله الولاية العامة في الدين والدنيا وساد مسده فكما انه إشترط في النبي اتفاقاً فكذا في الإمام الزاماً وبالجملة ان الأدلة على عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دالة على عصمة الأمامعليه‌السلام وهي إنتفاء فائدة بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم يكن معصوماً لظهور انتفاء نصب الإمام ايضاً على تقدير عدم عصمته وللزم والتسلسل لو لم يكن الأمام معصوماً وقد شبهوا هذا بدليل وجوب انتهاء سلسلة الممكنات على الواجب لئلا يلزم التسلسل ولأن الأمر بإتباعه امر مطلق فلو وقع منه معصية لزم ان يكون الله آمراً لنا بفعل المعصية وهو قبيح عقلاً لا يفعله الحكيم تعالى لما ثبت من الأدلة الدالة على إمتناع القبائح منه تعالى ولأنه لو فعل المنكر فان لم يعترض عليه لزم سقوط النهي والمنكر وان انكر عليه لزم سقوط محله عن القلوب فلا يحصل فائدة نصبه ولأن الإمام حافظ للشرع بمعنى انه مؤيد منفذ لأحكامه بين الناس جميعاً وكل من كان حافظاً للشرع بهذا الوجه لابد من عصمته.

أما الصغرى فلا إعتبار عموم الرياسة في الدنيا والدين في الإمامة كما سبق

وأما الكبرى فلأن من كان حافظاً للشرع بالوجه المذكور لابد ان يكون آمناً عند الناس من تغيير شيء من احكامه بالزيادة والنقصان وإلا لم يحصل الوثوق بقوله وفعله فلا يتابعه العباد فيهما فتختل الرياسة العامة وتنتفي فائدة الإمامة لا يقال إن هذا الدليل يقتضي ان تكون العصمة شرطاً في المجتهد ايضاً لأنه حافظ للشرع فلا بد ان يكون معصوماً ليؤمن

٥١

من الزيادة والنقصان وكذا الكلام في الدليل المذكور قبله لأنه لو فعل المعصية سقط من القلوب وانتفت فائدة الآجتهاد او سقط حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلاهما باطل لكنها ليست بشرط اتفاقاً لأنا نقول المجتهد ليس حافظاً للشرع بين جميع الناس بل مظهر له على من قلده فلا يجب فيه أن يكون آمناً من الزيادة والنقصان على سبيل القطع بل يكفي حسن الظن بصدقه بعد ثبوت الإجتهاد ولذلك شرط العدالة فيه وبالجملة مرتبة الإجتهاد لكونها دون مرتبة الإمامة تحصل باستجماع شرائطها المشهورة المسطورة في كتب الأصول ويكفي في وجوب العمل بقول المجتهد حسن الظن بصدقه المتفرع على ثبوت عدالته بعد حصول شرائط الإجتهاد كما تقرر في محله بخلاف مرتبة الإمامة فإنها رياسة عامة بحسب الدين والدنيا ومن البين إنها لاتحصل لشخص إلا بعد أن يكون آمناً من الزيادة والنقصان في أحكام الشرع وإلا لإختلت تلك الرياسة العامة وإنتفت فائدة الإمامة كما لايخفى على من له طبع سليم وعقل مستقيم.

ولا يبعد ان يقال ايضاً إن كلاً من جواز الإجتهاد وجواز تقليد المجتهد في ايام غيبة الإمام من باب الرخصة في أكل لحم الميتة عند الخمصة لئلا تتعطل الأحكام الشرعية وإنما الجائز بحسب اصل الشرع هو الإجتهاد في زمن حضور النبي أو الإمام عند كونه في ناحية بعيدة عنهما يمكنه إستعلام ما إستبهم من الأحكام بالكتابة اليهما ونحوها إذ مع حضور النبي والإمام المعصومين في الأحوال والأقوال يرجع المجتهدون اليهما في مواضع الإشتباه والإشكال وبإعلام كل منهما يحصل التقصي عن الحق والضلال فلا يحتاج الى إعتبار عصمة المجتهد مع حضور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

٥٢

والإمام الذي يمكن الرجوع اليه في تحقيق الأحكام والكشف عن مسائل الحلال والحرام فإن قيل عمدة ماذكرتم معشر الإمامية في عصمة الأنبياء والأئمة إن تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الإمام أعني قبول أقوالهم وإمتثال أوامرهم ونواهيهم فبينوا لنا وجه القدح إذ قد طال الكلام في هذه المسألة بين الفريقين قلت لاشك إن من تجوز عليه الكبائر والمعاصي فإن النفس لا تسكن ولا تطمئن الى قبول قوله مثل ما تطمئن الى قول من لايجوز عليه شيء من ذلك جزماً قال الشريف الرضيرضي‌الله‌عنه هذا معنى قولنا إن وقوع الكبائر والمعاصي منفرّ عن القبول والإمتثال والمرجع فيها الى العادات وليس ذلك مما يستخرج بالدليل ومن رجع الى العادة علم صدق ماذكرناه فإن الكبائر في باب التنكير لا تنحط عن المهاجاة التي تدل على خسة صاحبها وعن المجون والسخافة ولا خلاف في إنها ممتنعة منهم فإن قيل أو ليس قد جوز كثير من الناس الكبائر على الأنبياء والأئمة ومع ذلك لم ينفروا عن قبول أقوالهم وإمتثال أوامرهم وهذا يناقض قولكم إن الكبائر منفرة قلنا هذا كلام من لم يعرف معنى النفس وحصول الإطمئنان ولا يشك عاقل في إن النفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها الى ذلك عند تجويزها وقد يبعد الأمر عند الشيء ولا يرتفع كما يقرب من الشيء ولا يقع عنده إلا ترى إن عبوس الداعي الى طعامه وتضجره منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه وقد يقع ماذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من الحضور والتناول وقد يرتفع عنده ذلك لايقال هذا يقتضي أن لاتقع الكبائر عنهم حال النبوة

٥٣

والإمامة وأما قبلها فلا لزوال حكمها بالتوبة المسقطة للعقاب والذم ولم يبق وجه يقتضي التنكير لأنا نقول إنا لم نجعل المانع عن ذلك إستحقاق العقاب والذنب فقط بل ولزوم التنفير أيضاً وذلك حاصل بعد النبوة ولهذا نجد ذلك من حال الواعظ الداعي الى الله وقد عهد منه الإقدام على كبائر الذنوب وإن تاب عنها بخلاف من لم يعهد منه ذلك والضرورة فارقة بين الرجلين فيما يقتضي القبول والنفور وكثيراً مانشاهد إن الناس يعيرون من عهد منه القبائح المتقدمة وإن حصلت منه التوبة والنزاهة ويجعلونها نقصاً وعيباً وقدحاً غاية ما في الباب إن الكبائر بعد التوبة أقل تنفيراً منها قبل التوبة ولا يخرج بذلك عن كونها منفرة إن قلت فلم قلتم إن الصغائر لاتجوز عليهم مطلقاً ولا تنفير فيها قل بل التنفير حاصل فيها ايضاً عن التأمل لأن إطمئنان النفس وسكونها إنما هو مع الأمن عن ذلك لا مع تجويزها والفرق بأن الصغائر لا توجب عقاباً وذماً ساقط لأن المعتبر التنفير كما ذكرنا مراراً ألا ترى إن كثيراً من المباحاة منفرة ولا ذم ولا عقاب فيها وكيف لايكون ذلك موجباً للتنغير مع إن الخصم حصل على بعض الإجتهادات البعيدة من المشاهدة بكونه منفراً للعوام مع تصريحهم لأن المجتهد المخطيء مثاب قال أبو المعاني الجويني في رسالته المعمولة في بيان حقية مذهب الشافعي قد إتفق للشافعي أصل مقطوع ببطلانه على وجه أجمعت الأمة شارقة وغاربة أرضاً فأرضاً طولاً وعرضاً على بطلان ذلك الأصل وهو إنه لم يجوز نسخ السنة بالكتاب ولم يجوز نسخ الكتاب بالسنة وهذا أمحل المحالات والعامي إذا سمع هذا يستنفر طبعه وينزوي عن تقليده والإقتداء به الجواب قلنا هذا الأصل غير مقطوع ببطلانه فإنه إنما لم يجوز نسخ السنة المتواترة بالكتاب

٥٤

لأن الله تعالى الى آخره وتقرير الكلام على هذا التفصيل والتنقيح من نفائس المباحث فاحفظة فإنه بذلك حقيق.

وثالثاً إن أحداً من الشيعة سيما من الإمامية لم يقل بأن غير المعصوم يكون ظالماً كيف وغير المعصوم قد يكون عادلاً في جميع ايام عمره كما ذكره نعم قد إستدلوا بالآية التي ذكرها على عدم صلاحية المشايخ الثلاثة للإمامة بما حاصله إنهم كانوا كفاراً في الأصل وإنما أسلموا بعد تماديهم في الكفر والضلالة والكافر ظالم بقوله تعالى والكافرون هم الظالمون والظالم لايصلح للإمامة لأن ابراهيم على نبينا وعليه‌السلام حين طلب الإمامة لذريته وقال « ومن ذريتي » قال الله تعالى في جوابه لا ينال عهدي الظالمين يعني إن الإمامة لاتصل مني ومن جانبي الى أحد من الموصوفين بالظلم وأورد عليه الفاضل القوشچي في شرحه على التجريد بأن غاية ماتدل عليه الآية إن الظالم في حال الظلم لا ينال عهد الإمامة ولا يلزم من ظلم الثلاثة وكفرهم قبل الخلافة أن لا ينالوها حال إسلامهم وعدم إتصافهم بالظلم وفيه نظر ظاهر لأن لفظة من في قوله ومن ذريتي تبعيضة كما هو الظاهر وصرح به المفسرون وحينئذ نقول إن سؤال ابراهيمعليه‌السلام الإمامة لذريته الظالمين أما إن كان لبعض ذريته المسلمين العادلين في تمام عمره أو لذريته الظالمين في تمام عمرهم أو لذريته المسلمين العادلين في بعض أيام عمره الظالمين في بعضه الآخر لكن يكون مقصودهعليه‌السلام نيلهم لذلك حال إسلامهم وعدالتهم أو الأعم من هذا القسم والقسم الأول فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال وعلى الثاني يلزم طلب الجليل ، وذلك المنصب الجليل ، للكافر والظالم حال الكفر والتضليل ، وهذا مما لايصدر عن أدنى عاقل ، بل جاهل من رعية وعن الثالث والرابع يحصل

٥٥

المطلوب وهو إن الإمامة مما لا ينالها من كان كافراً ظالماً في الجملة وفي بعض أيام عمره فظهر إن الخرافة والجهالة إنما صدرت عن هذا الشيخ الخرف المبهوت الذي ينسج عليه أموراً واهية كنسج العنكبوت فمقصود الإمامة عنه يفوت.

ورابعاً إن ماذكره في العلاوة مردود بأن أكثر المفسرين من أهل السنة أيضاً حملوا العهد على الإمامة وهو الظاهر أيضاً من سوق الآية ومدار الإستدلال في النقليات على هذا ما لم يقم دليل آخر على خلافه يستدعي العدول عنه وإقامة الحجة على شطر من علماء مذهبكم كاف لنا في الإلزام بل يلزم الباقين التقصي عن مقتضاها لقولهعليه‌السلام « الكفر ملة واحدة » على إنه يلزم من إشتراط العصمة والعدالة في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ايام عمره إشتراطه في الإمام بطريق أولى لعدم تأييد الإمام بالوحي العاصم عن الخطأ.

وخامساً إن مانسبه الى الإمامية من إختراع إشتراط العصمة في الأئمة معارض بمثله فإن لهم أن يقولوا إن أهل السنة إنما إخترعوا نفي إشتراط عصمة الأئمة حفظاً لحال مشايخهم الثلاثة الفاقدين للعصمة وبناء لصحة خلافتهم والله ولي العصمة.

١٤ ـ : الباب الأول في بيان

كيفية خلافة الصديق والإستدلال على حقيتها بالأدلة النقلية والعقلية وما يتبع ذلك وفيه فصول الفصل الأول في بيان كيفيتها

روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به إن عمر خطب الناس مراجعة من الحج فقال في خطبته

٥٦

قد بلغني ان فلاناً منكم يقول لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن امره ان يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا وأنها كذلك إلا إن الله وقى شرها وليس فيكم اليوم من يقطع اليه الأعناق مثل أبي بكر وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون الى أبي بكر وقلت له يا أبا بكر إنطلق بنا الى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نؤمهم أن نقصدهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم قالا اين تريدون يامعشر المهاجرين فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى وجدناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت من هذا فقالوا سعد بن عبادة فقلت ماله قالوا وجع فلما جلسنا قام خطيبهم فاثنى على الله بما هو أهله وقال أما بعد فنحن انصار الله وكتيبة الإسلام وانتم يامعشر المهاجرين رهط منا وقد رفت رافة منكم أي ذب قوم منكم بالإستعلاء والترفع علينا تريدون أي تخزنونا من أصلها وتخضنونا من الأمر أي تنحونا عنه وتستبدون به دوننا فلما سكت اردت أن أتكلم وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن اقولها بين يدي أبي بكر وقد كنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحلم مني وأوقر فقال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني والله ماترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهة وأفضل حتى سكت فقال أما بعد فما ذكرتم من خير فانتم اهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هو أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لك أحد هذين الرجلين وأخذ بيدي ويد ابي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها وكان والله إن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني

٥٧

ذلك من أثم أحب اليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر فقال قائل من الأنصار أي جذيلها المحكك وغديقها المرحب منا أمير ومنكم أمير يامعشر قريش وكثر اللفظ وارتفعت الأصوات حتى خشيت الإختلاف فقلت إبسط يدل يا أبا بكر فبسط يده وبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار والله ماوجدنا فيما حضرنا أمر هو أوفق من مبايعة أبي بكر وخشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فأما أن نبايعهم على مانرضى وأما أن نخالفهم فيكون فيه فساد انتهى

أقول يتوجه عليه إنه إن اراد إجماع من يعتد به من أهل السنة على صحة ما في الكتابين فهو مصادرة لا يتمشى مع من هو طرف البحث من الشيعة وإن اراد إجماع من يعتد به من الشيعة على صحة مافيهما فبطلانه ظاهر لأن البخاري ومسلم وأضرابهما وضاعون كذابون عند الشيعة بل حكموا بحماقة البخاري وقصور فهمه عن التميز بين الصحيح والضعيف لأمور شتى منها ماصرح به بعض الجمهور من إن البخاري حدث عن المتهم في دينه كعباد بن يعقوب الرواجي واحتج بحديث من اشتهر عنه النصب والبغض لعليعليه‌السلام كمحمد بن زياد الأبهاني وحريز بن عثمان الرحبي واتفق البخاري ومسلم على الإحتجاح بحديث أبي معاوية وعبيد الله بن موسى وقد إشتهر عنهم الغلو ومنها ماذكره فقهاء الحنفية في بحث الرضاع من كافيهم وكفايتهم من بلادته وقصور إدراكه عن فهم معاني الأخبار والفتوى بما يضحك منه الصبيان حتى أجمعوا علماء بخارا على إخراجه منها وطرده بأسوأ حال ومن هذا حاله كيف يعتمد على نقله وكيف يقال إن كتابه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى على إن الكرماني شارح البخاري قد روى في أوائل شرحه مايدل على إن صحيح البخاري لن يتم في أيام حياته بل كان كثيراً من مواضعه مبيضاً كان على حواشيه ملحقات وعلى أوساطه

٥٨

قطعات إستصعبوا الإهتداء الى مواضع ربطها وإنما رتبه عدة من تلامذته البخاريين على حسب ماوصل اليه فهمهم ومن البين إنه لو بقي البخاري بعد ذلك مدة لجاز ان يرجع عن الحكم بصحة بعض ما أودع فيه وتصرف فيه بزيادة ونقصان فكيف يعتمد بمثل هذا الأبتر الواهي الذي قد لعب به جماعة من نواصب بخارى وفساقها في تحقيق الكلام الإلهي سيما الأوامر والنواهي وكذا الكلام في مسلم كما فصلنا في شرح كتاب كشف الحق ونهج الصدق ولو سلم صحة نقلهما ذلك عن عمر فالكلام مع عمر وإنه هو الذي عقد البيعة لأبي بكر ظلماً وجوراً على أهل البيتعليهم‌السلام ولعلمه بأن أبا بكر يجعل الخلافة فيه بعده قال طلحة وليته أمس وولاك اليوم فكيف يسمع كلامه في كيفية خلافة أبي بكر مع ما إشتمل عليه من الأكاذيب الظاهرة وناهيك في ذلك ماقال إبن أبي الحديد المعتزلي من مصححي خلافة الثلاثة إن عمر هو الذي وطأ الأمر لأبي بكر وقام فيه حتى وقع في صدر المقداد وكسر سيف الزبير وكان قد اشهر سيفه عليهم ولهذا إن أبا بكر لما صعد المنبر قام إثني عشر رجلاً ستة من المهاجرين وستة من الأنصار فانكروا على أبي بكر في فعله وقيامه مقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورووا أحاديث في حق علي (ع) ووجوب خلافته لما سمعوا من النص عليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى إن ابا بكر أفحم على المنبر ولم يرد جواباً فقام عمر وقال يالكع إذا كنت لا تستطيع أن ترد جواباً فلم أقمت نفسك هذا المقام وانزله من المنبر وجاءوا في الإسبوع الثاني ومع معاذ بن جبل مائة رجل ومع خالد بن الوليد كذلك شاهري سيوفهم حتى دخلوا المسجد وعليعليه‌السلام جالس في نفر من أصحابه فقال عمر والله ياأصحاب علي لئن ذهب رجل منكم يتكلم بالذي تكلم به أمس لنأخذن الذي فيه عيناه فقام سلمان الفارسي وقال سمعت رسول الله (ص) قال بينما حبيبي وقرة عيني جالس

٥٩

في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريد قتله ولا شك إنكم هم فأومى اليه عمر بالسيف فجذبه علي حتى جلد به الأرض وقال ياإبن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا وبجمعكم تكافروننا والله لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم لأريتكم أينا أقل عدداً واضعف ناصراً وقال لأصحابه تفرقوا انتهى فاحسن تأمله وهل هذا إلا مصادرة.

١٥ ـ قال : وفي رواية إن أبا بكر إحتج على الأنصار بخبر الأئمة من قريش وهو حديث صحيح ورد من طرق نحو أربعين صحابياً.

أقول : الحديث صحيح ويؤيده قولهعليه‌السلام في صحاح الأحاديث إن الإسلام لايزال عزيزاً ما مضى فيهم إثني عشر خليفة كلهم من قريش لكن المراد من الخليفة الأول القريشي علي (ع) إلا إنهم لما أوقعوا في القلوب إنهعليه‌السلام تقاعد من تصدى الخلافة كما ذكرناه سابقاً موهوا ذلك بجواز العدول الى قريشي آخر فتدبر.

١٦ ـ قال : وأخرج النسائي وأبو يعلى والحاكم وصححه عن إبن مسعود رض إنه قال لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فاتاهم عمر بن الخطاب فقال يامعشر الأنصار الستم تعلمون إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقال الأنصار نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر انتهى.

اقول : أولاً إن رواية الحاكم لهذا الحديث عن إبن مسعود كاذبة بل هي مما رواه الحسن البصري عن عائشة وقال إنه نص خفي على إمامة أبي بكر والحسن البصري ممن قدح فيه الشيعة والشافعي حيث نقل عنه إبن المعالي الجويني إنه قال فيه كلام وأما عائشة

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقد اشتد به العطش وأحاط القوم بالعبّاسعليه‌السلام فاقتطعوه عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(١) .

ونظر الحسينعليه‌السلام إلى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

وهكذا بقي الإمامعليه‌السلام وحده يحمل سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و بين جنبيه قلب عليعليه‌السلام وبيده راية الحق البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.

الحسينعليه‌السلام وحيداً في الميدان:

حينما التفت أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يميناً وشمالاً ولم ير أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟ فخرج الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع. فقال: (يا عمّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وإذا بالحسينعليه‌السلام ينادي: (يا أم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

ويقول المؤرخون: إنه لما رجع الحسينعليه‌السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسينعليه‌السلام وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه

____________________

(١) الإرشاد: ٢ / ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٥ / ٤٦.

٢٠١

فامتلأت القلنسوة دما، فقال له الحسينعليه‌السلام : (لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين).

ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنْسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به)(١) .

حمل الإمام الحسينعليه‌السلام سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة.

قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(٢) .

ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب.

فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه،

____________________

(١) الإرشاد: ٢ / ١١٠، إعلام الورى: ١ / ٤٦٧.

(٢) الإرشاد: ٢ / ١١١، إعلام الورى: ١ / ٤٦٨.

٢٠٢

وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد.

ثم أقبلوا على سلب الحسينعليه‌السلام فأخذ قميصه إسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه(١) .

امتداد الحمرة في السماء:

ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لأولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(٢) .

وصبغ فرس الحسينعليه‌السلام ناصيته بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسينعليه‌السلام ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي: (فلما نظرت النساء إلى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات).

ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وهي ثكلى: وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع

____________________

(١) الإرشاد: ٢ / ١١٢، إعلام الورى: ١ / ٤٦٩.

(٢) راجع كشف الغمة: ٢ / ٩، سير أعلام النبلاء: ٣ / ٣١٢، تاريخ الإسلام للذهبي: ١٥، حوادث سنة ٦١، إعلام الورى: ١ / ٤٢٩.

٢٠٣

بكربلاء، ليت السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!(١)

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة:

وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام غير حافلين بمن في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدينعليه‌السلام : (والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين!)(٢) .

وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.

الخيل تدوس الجثمان الطاهر:

لقد بانت خِسّة الأمويين لكل ذي عينين، وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير إنساني.

فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوةعليهم‌السلام في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:

أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على

____________________

(١) مقتل الحسين للمقرم: ٣٤٦.

(٢) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، نقلاً عن تاريخ المظفري: ٢٣٨.

٢٠٤

الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئاً، ولكن علي قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(١) .

على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم الأموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الأمويين.

وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسينعليه‌السلام بخيولهم حتى رضّوا ظهره(٢) .

عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم:

ووقفت حفيدة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وابنة أمير المؤمنينعليه‌السلام العقيلة زينبعليها‌السلام على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: (اللهم تقبّل هذا القربان)(٣) . إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السر الوحيد في خلود تضحية الحسينعليه‌السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٤ / ٣١٤، إعلام الورى: ١ / ٤٥٣.

(٢) إعلام الورى: ١ / ٤٧٠، مقتل الحسين للخوارزمي: ٢ / ٣٩.

(٣) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام : ٣ / ٣٠٤.

٢٠٥

٢٠٦

الفصل الثالث:

نتائج الثورة الحسينية

انبعثت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام من ضمير الأمة الحيّ ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدسة ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما، حتى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوض الذل والاستسلام وتدك عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكل المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظل طاعة الله تعالى.

ولا يمكن لأحد أن يغفل عما تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسنوات التي تلتها رغم كل التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلامية بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً. وأهم تلك الآثار هي:

١ - فضح الأمويين وتحطيم الإطار الديني المزيّف:

بفعل ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام تكشفت للناس حقيقة النزعة الأُموية المتسلطة على الحكم، ونسفت تضحيات الثائرين كل الأطر الدينية المزيّفة

٢٠٧

التي استطاع الأمويون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة، مستعينين بحالة غياب الوعي وشيوع الجهل الذي خلّفته السقيفة. ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوة والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق، ويفتخر بموقفه قائلاً: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته(١) .

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة الجيش الأموي - يحفّز الناس لمواجهة الإمام الحسينعليه‌السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل الكوفة إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام(٢) . فالدين في دعوى الأمويين طاعة يزيد ومقاتلة الحسينعليه‌السلام .

ولكن حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الأمة، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل. فقد وقف الإمام الحسينعليه‌السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي: أمّا بعد فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟!

هذا بالإضافة إلى كل الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثم ما آلت إليه نتيجة المعركة من

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٤ / ٢٨١.

(٢) المصدر السابق: ٤ / ٣٣١.

٢٠٨

بشاعة في السلوك والفكر فاتضحت خسّة الأمويين ودناءتهم ودجلهم.

وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينية بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو أُمية ومن ثم توضيح رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام .

إنّ جميع المسلمين متفقون - على اختلاف مذاهبهم وآرائهم - بأن الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأن يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشرع الإلهي والموازين الدينية.

٢ - إحياء الرسالة الإسلامية:

لقد كان استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام هزّة لضمير الأمة وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة وعامل انتباه مستمر للمنحدر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني أُمية ومن سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى من يليهم من الأجيال.

لقد استطاع سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيّن الموقف النظري والعملي الشرعي للأمة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطغاة، فهل انتصر الحسينعليه‌السلام في تحقيق هذا الهدف؟ لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدينعليه‌السلام حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: من الغالب؟ قالعليه‌السلام : (إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب)(١) .

لقد كان الحسينعليه‌السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السامية بعد محاولات الجاهلية لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : ٣ / ٤٤٠ عن أمالي الشيخ الطوسي.

٢٠٩

٣ - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الأمويين:

اشتعلت شرارة الشعور بالإثم في نفوس الناس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وزينب بنت عليّ بن أبي طالب وبقية أفراد عائلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله التي ساقها الطغاة الأمويون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.

فقد وقفت زينبعليها‌السلام في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت:

أما بعد:

يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرّنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟).

وتكلم عليّ بن الحسينعليهما‌السلام فقال:

أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي؟ فلستم من أمتي(١) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : ٣ / ٣٤١ عن مثير الأحزان.

٢١٠

وروي أيضاً أن يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً وأكرم عبيد الله بن زياد ولكن ما لبث أن ندم ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال الناس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(١) .

ولقد كان الشعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الأموي، مما دفع بالكثير في الجماعات الإسلامية إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسينعليه‌السلام بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الأموي الظالم.

صحيح أنه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الأموي وبعده عن الرسالة الإسلامية إلاّ أنه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني، فكان الحكام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبويعليهم‌السلام يحسبون له ألف حساب.

٤ - إحياء إرادة الأمة وروح الجهاد فيها(٢):

كانت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قوية في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالأمة كيف يشاء، مؤطّراً تحركه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعاظ السلاطين أحياناً وأخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

فتعلم الإنسان المسلم من ثورة الحسينعليه‌السلام أن لا يستسلم ولا يساوم،

____________________

(١) تأريخ الطبري: ٤ / ٣٨٨، تأريخ الخلفاء: ٢٠٨.

(٢) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (النظرية، الموقف، النتائج ) للسيّد محمد باقر الحكيم:١٠٠.

٢١١

وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظل حكم يتمتع بالشرعية أو على الأقل برضا الجماهير.

ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح; إلاّ أنها توالت حتى سقط النظام. ورغم أن أهدافها كانت متفاوته إلاّ أنها كانت تستلهم من معين ثورة الحسينعليه‌السلام أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوابين(١) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينية، وثورة المدينة(٢) ، وثورة المختار الثقفي(٣) الذي تمكن من محاكمة المشاركين في قتل الحسينعليه‌السلام ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثم ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة زيد بن عليّ ابن الحسينعليهما‌السلام (٤) وثورة أبي السرايا(٥) .

لقد أحيت الثورة الحسينية روح الجهاد وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الأمة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات. إلاّ أن الأمة الإسلامية أثبتت حيويّتها وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الأمويين أسلافهم.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٤ / ٤٢٦، ٤٤٩.

(٢) المصدر السابق: ٤ / ٤٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٤٨٧.

(٤) مقاتل الطالبيين: ١٣٥.

(٥) المصدر السابق: ٥٢٣.

٢١٢

الفصل الرابع:

من تراث الإمام الحسينعليه‌السلام

نظرة عامّة في تراث الإمام الحسينعليه‌السلام :

الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام قائد مبدئي وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته، وجعلهم أمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كل رجس ليصونوها من أي تحريف أو تحوير.

إن المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة; لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خط الرسالة; ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشرعي في ممارسة الحكم فحسب; وإنما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمة والشريعة.

إن هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمون بإحكام قواعد الشريعة في الأمة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها. ومن هنا كانت تربية الجماعة الصالحة والسهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال

٢١٣

خمسين عاماً بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كل من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً جدّاً. حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهمعليهم‌السلام . وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام ووثائق الثورة الحسينية، وبلاغة الحسين ومجموعة خطبه ورسائله; ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمل ومستفيد. وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث:

في رحاب العقل والعلم والمعرفة:

قالعليه‌السلام :

١ - خمس من لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع: العقل والدين والأدب والحياء وحسن الخلق(١) .

٢ - وسُئل عن أشرف الناس، فقال: من اتّعظ قبل أن يوعَظ واستيقظ قبل أن يوقظ(٢) .

٣ - وقالعليه‌السلام : لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحق(٣) .

٤ - العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبَه، ولا يَسأل من يخاف منعَه ولا يثِقُ بمن يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَن لا يوثقُ برجائه(٤) .

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ٧٤٣ عن حياة الإمام الحسين: ١ / ١٨١.

(٢) المصدر السابق: ٧٤٣ عن إحقاق الحق: ١١ / ٥٩٠.

(٣) المصدر السابق: ٧٤٢ عن اعلام الدين: ٢٩٨. وورد هذا النص عن الإمام عليعليه‌السلام أيضاً.

(٤) المصدر السابق: ٧٤٢ عن حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١/١٨١.

٢١٤

٥ - العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب زيادةٌ في العقل، والشرف التقوى، والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومن أحبَّكَ نهاكَ ومن أبغضك أغراك(١) .

٦ - من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ وعلمه بحقائق فنونِ النظر(٢) .

٧ - لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لاَوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَن يكثرُ صَوابُه.

٨ - وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسينعليه‌السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها وقيمة كل سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا:

قالعليه‌السلام :

أ - إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟....

ب - إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء....

ج - إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!. ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً.

د - إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها مَصونَ السرِّ عن النظرِ إلَيْها ومرفوع

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام : ٧٤٢ و ٧٤٣ عن بحار الأنوار: ٧٨ / ١٢٨، الحديث ١١.

(٢) المصدر السابق.

٢١٥

الهمّة عن الاعتمادِ عليها.

هـ - منك أطلُبُ الوصول إليك وبك استدلُّ عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدْق العبودّية بين يديك.

و - إلهي علّمني من علمك المخزون وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ القُرب....

ز - إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي.

ح - إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة اسرني، فكن أنت النصير لي حتَى تنصرني وتبصرني.

ط - أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدكَ؟! وما الذي فقد من وجدك؟!.

ي - أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كل شيء... كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟!(١) .

في رحاب القرآن الكريم:

لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون بالقرآن الكريم اعتناء وافراً فعكفوا على تعليمه وتفسيره وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد أثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمل نختار نماذج منها:

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ٨٠٣ - ٨٠٦ عن إقبال الأعمال: ٣٣٩.

٢١٦

أ - قالعليه‌السلام : (كتاب الله عَزَّ وجَلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص واللطائفُ للأولياء، والحقائق للأنبياء)(١) .

ب - (من قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكل حرف مِئةُ حَسَنَة، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكل حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكل حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يُصبِحَ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتى يُمسيَ. وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ وكان خيراً له ممّا بين السماءِ والأرضِ)(٢) .

ج - وعنهعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) يعني بها (أرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرة)(٣) .

د - وسأله رجل عن معنى( كهيعص ) فقال له: لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء(٤) .

هـ - وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبد الله حَدِّثني عن قول الله عزَّ وجَلَّ:( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ، قال: (نحن وبنو أمية اختصمنا في الله عَزَّ وجَلَّ، قلنا صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة)(٥) .

و - وفي قوله تعالى:( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ ) قالعليه‌السلام : (هذه فينا أهل البيت)(٦) .

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ٥٥١ عن جامع الأخبار: ٤٨.

(٢) المصدر السابق: ٥٥١، عن الكافي: ٢ / ٦١١، الحديث ٣.

(٣) المصدر السابق: ٥٦٠ عن تفسير البرهان: ٢ / ٣٢٣.

(٤) المصدر السابق: ٥٦١ عن ينابيع المودّة: ٤٨٤.

(٥) المصدر السابق: ٥٦٣ عن حياة الحسين: ٢ / ٢٣٤.

(٦) المصدر السابق: ٥٦٤ عن بحار الأنوار: ٢٤ / ١٦٦.

٢١٧

ز - في قوله تعالى:( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قالعليه‌السلام : (إن القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها وعظم حقّها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم)(١) .

ح - وفسّر النعمة في قوله تعالى:( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (بما أنعم الله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من دينهِ)(٢) .

ط - وفسّر الصَمَد بقوله: إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (٣) .

ي - وقال: (الصمد: الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد: الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال)(٤) .

ك - وروي أن عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسينعليه‌السلام سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاهعليه‌السلام ألف دينار وألف حُلّة وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك، فقالعليه‌السلام : وأين يقع هذا من عطائه؟ يعني بذلك تعليمه القرآن(٥) .

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة:

لقد عاصر الحسين جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاش في كنف الوحي والرسالة وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كأمه وأبيه وأخيه، وعلم أن سنة الرسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي،

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ٥٦٥ عن بحار الأنوار: ٢٣ / ٢٥١ الحديث ٣٧.

(٢) المصدر السابق: ٥٦٧ عن المحاسن: ١ / ٣٤٤ الحديث ١١.

(٣) المصدر السابق: ٥٦٨ عن التوحيد: ٩٠ الحديث ٥ ثم نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

(٤) المصدر السابق: ٥٦٩ عن معادن الحكمة: ٢ / ٥١.

(٥) المصدر السابق: ٨٢٧ عن بحار الأنوار: ٤٤ / ١٩١.

٢١٨

وأيقن بضرورة الاهتمام بهما وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصحابة وكيف واجهوا جدّه بكل صلف، حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسلطة أو تعكّر عليهم صفوها.

ومن هنا نجد الحسينعليه‌السلام يقف بكل شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه: (حسين منّي وأنا من حسين)، (ألا وإن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).

وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السيرة النبوية الشريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو بلغ مستوى الثورة على من يتسلّح بها لمسخها وتشويهها.

قال صلوات الله عليه:

١ - (كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً)(١) .

٢ - وروى الحسينعليه‌السلام - كأخيه الحسن وصفاً دقيقاً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما عليعليه‌السلام وهو الذي ربّاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السيرة. قال الحسينعليه‌السلام فسألته عن سكوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

(كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ٥٧١، عن كنز العمّال: ٧ / ٢١٧.

٢١٩

الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا والآخرة)(١) .

٣ - وروى أيضاً أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال: (إني رأيت في المنام كأنّ بني أُمية يتعاورون منبري هذا). فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دُنيا تنالهُمُ، فأنزل الله:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ... ) (٢) .

٤ - وروى أيضاً أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أكل طعاماً يقول: (اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه)، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول: (اللهم بارك لنا فيه وارزقنا منه)(٣) . وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(٤) .

٥ - وسُئل عن الأذان وما يقول الناس فيه، قال: (الوحي ينزل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: أهبَطَ الله عَزَّ وجَلََّ ملكاً حين عُرِج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذّن مثنى مثنى، وأقامَ مثنى مثنى، ثم قال له جبرئيل: يا محمّد هكذا أذان الصلاة)(٥) .

٦ - وروى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مع عليّعليه‌السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل فقال: (يا عليّ أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل):( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام : ٥٧١ - ٥٧٥ عن مجمع الزوائد: ٨ / ٢٧٤ ومعاني الأخبار: ٧٩.

(٢) المصدر السابق: ٥٧٥ عن الغدير: ٨ / ٢٤٨.

(٣) المصدر السابق: ٥٧٨ عن عيون أخبار الرضا: ٢ / ٤٢.

(٤) المصدر السابق: عن بحار الأنوار: ١٦ / ٢٨٧.

(٥) المصدر السابق: ٦٨٣ عن مستدرك الوسائل: ٤ / ١٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244