أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)23%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159946 / تحميل: 9439
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أعدائه، حيث استطاع أن يكشف حقيقة الحكم الأموي الجاهلي الذي ارتدى لباس الإسلام ورفع شعار الصلح والسلم، ليقضي على الإسلام باسم الإسلام وبمن ينتسب إلى قريش قبيلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن خطّط بشكل حاذق خطّةً يتناسى المسلمون بسببها أنّ آل أبي سفيان الذين يتربّعون اليوم على كرسي الحكم الإسلامي، ويحكمون المسلمين باسم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلافته هم الذين حاربوا الإسلام بالأمس القريب.

* - وبهذا هيّأ الإمام الحسنعليه‌السلام - بتوقيعه على وثيقة الصلح - الأرضية اللازمة للثورة على الحكم الأموي الجاهليّ الذي ظهر بمظهر الإسلام من جديد، وذلك بعد أن أخلف معاوية كلّ الشروط التي اشترطها عليه الإمام الحسنعليه‌السلام بما فيها عدم تعيين أحد للخلافة من بعده، وعدم التعرّض لشيعة عليّ وللإمام الحسن والحسينعليهما‌السلام بمكروه.

ولم يستطع معاوية أن يتمالك نفسه أمام هذه الشروط حتى سوّلت له نفسه أن يدسّ السمّ الفاتك إلى الإمام الحسنعليه‌السلام ليستطيع توريث الخلافة لابنه الفاسق يزيد.. ولكنّه لم يعِ نتائج هذا التنكّر للشروط ولنتائج هذه المؤامرة القذرة... وقد أيقن المسلمون - بعد مرور عقدين من الحكم الأموي - بشراسة هذا الحكم وجاهليّته، ممّا جعل القواعد الشعبية الشيعية تستعدّ لخوض معركة جديدة ضدّ النظام الحاكم، وبذلك تهيّأت الظروف الملائمة للثورة، واكتملت الشروط اللازمة بموت معاوية ومجيء يزيد الفاسق شارب الخمور والمستهتر بأحكام الدين إلى سدّة الحكم، والإقدام على أخذ البيعة من وجوه الصحابة وعامّة التابعين، والإصرار على أخذها من مثل أبيّ الضيم أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام سيّد أهل الإباء وإمام المسلمين.

* - لقد حكم معاوية بن أبي سفيان ما يقارب عشرين سنة متّبعاً سياسة

٢١

التجويع والإرهاب والخداع والتزوير، ممّا أدّى إلى انكشاف حقيقته للأمة من جهة، في حين أنّها كانت قد ابتليت بداء موت الضمير وداء فقدان الإرادة من جهة اُخرى، وهكذا استيقظت الأمة من سباتها وزال شكّها بحقّانية خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، بعد أن ارتفع جهلها بحقيقة الأمويين، ولكنّها لم تقوَ

على مقارعة الظلم والظالمين، وأصبحت كما قال الفرزدق للإمام الحسينعليه‌السلام حين كان متوجّهاً إلى العراق ومستجيباً لدعوة الكوفيين: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

ومن هنا تأكّد الموقف الشرعي للإمام الحسينعليه‌السلام بعد أن توفّرت كلّ الظروف اللازمة للقيام في وجه الأمويين الجاهليّين، بينما لم تكن النهضة مفيدة للأمة في حالة الابتلاء بمرض الشكّ والترديد التي كانت تعاني منه في عصر الإمام الحسن السبطعليه‌السلام . لقد تمّت الحجّة على الإمام الحسين بن علىّعليهما‌السلام حينما راسله أهل العراق وطلبوا منه التوجّه نحوهم، بعد أن أخرجوا عامل بني أمية من الكوفة وتمرّدوا على الأمويين حيث كان هذا أحد مظاهر رجوع الوعي إلى عامّة شيعة أهل البيتعليهم‌السلام .

فاستجاب الإمام الحسينعليه‌السلام لطلبهم، وتحرّك نحوهم بالرغم من علمه بعدم ثباتهم وضعف إرادتهم أمام إغراءات الحاكمين واضطهادهم وإرهابهم، وذلك لأنّه كان لابد له من معالجة هذا المرض الجديد الذى يؤدّي باستشرائه إلى ضياع معالم الرسالة وفسح المجال لتحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة، وإعطاء المشروعية لمثل حكم يزيد وأضرابه من الجاهليّين الذين تستّروا بستار الشريعة الإسلامية لضرب الشريعة وتمزيقها.

* - وبعد أن استجمعت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كلّ الشروط اللازمة

٢٢

لنجاحها وبلوغ أهدافها(١) ; نهض مستنفراً كلّ طاقاته وقدراته التي كان قد أعدّها وهيّأها في ذلك الظرف التأريخي في صنع ملحمته الخالدة، فحرّك ضمير الأمة، وأعادها لتسلك مسيرة رسالتها، وبعث شخصيّتها العقائدية من جديد، وسلب المشروعية من الحكام الطغاة، ومزّق كلّ الأقنعة الخدّاعة التي كانوا قد تستّروا بها، وأوضح الموقف الشرعي للأمة على مدى الأجيال. ولم يستطع الطغاة أن يشوّهوا معالم نهضته، كما لم يستطيعوا أن يقفوا بوجه المدّ الثوري الذي أحدثه على مدى العصور، ذلك المدّ الذي أطاح بحكم بني أُمية وبني العباس ومن حذا حذوهم، فكانت ثورته مصدر إشعاع رسالي لكل الأمم، كما كانت القيم الرساليّة التي طرحها وأكّد عليها محفّزاً ومعياراً لتقييم كل الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

____________________

(١) راجع الشروط الضرورية الخمسة للنجاح والتي توفّرت في ثورة الحسينعليه‌السلام في كتاب (ثورة الحسين: النظرية - الموقف - النتائج) السيّد محمد باقر الحكيم الطبعة الأولى، منشورات مؤسسة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٦٢ - ٩٢. وراجع مجلّة الفكر الإسلامي العدد (١٧) مقال الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر حول الثورة الحسينية تحت عنوان (التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة).

٢٣

٢٤

الفصل الثاني:

انطباعات عن شخصية الإمام الحسينعليه‌السلام

١ - مكانة الإمام الحسينعليه‌السلام في آيات الذكر الحكيم:

لم تتّفق كلمة المسلمين في شيء كاتّفاقهم على فضل أهل البيتعليهم‌السلام وعلوّ مقامهم العلمي والروحي، وانطوائهم على مجموعة الكمالات التي أراد الله للإنسانية أن تتحلى بها.

ويعود هذا الاتّفاق إلى جملةٍ من الأصول، منها تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاص لأهل البيتعليهم‌السلام من خلال التنصيص على تطهيرهم من الرجس، وأنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة التي أتحف الله بها الإنسانية جمعاء، وأنّهم الأبرار الذين أخلصوا الطاعة لله وخافوا عذاب الله وتجلببوا بخشيته، فضمن لهم الجنّة والنجاة من عذابه.

والإمام الحسينعليه‌السلام هو من أهل البيتعليهم‌السلام المطهّرين من الرجس بلا ريب، بل هو ابن رسول الله بنصّ آية المباهلة التي جاءت في حادثة المباهلة مع نصارى نجران. وقد خلّد القرآن الكريم هذا الحدث بمداليله العميقة في قوله تعالى:

( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ

٢٥

وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) .

وروى جمهور المحدّثين بطرق مستفيضة أنّها نزلت في أهل البيت، وهم: رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، كما صرّحوا على أنّ الأبناء هنا هما الحسنان بلا ريب.

وتضمّنت هذه الحادثة تصريحاً من الرسول بأنّهم خير أهل الأرض وأكرمهم على الله، ولهذا فهو يباهل بهم، واعترف أسقف نجران بذلك أيضاً قائلاً: (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله)(٢) .

وهكذا دلّت القصة كما دلّت الآية على عظيم منزلتهم وسموّ مكانتهم وأفضليّتهم، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله ورسوله، وأنّهم لا يدانيهم في فضلهم أحد من العالمين. ولم ينصّ القرآن الكريم على عصمة أحد غير النبيّ من المسلمين سوى أهل البيتعليهم‌السلام الذين أراد الله أن يطهّرهم من الرجس تطهيراً(٣) . ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت; فإنّهم لم يختلفوا قط في دخول عليّ والزهراء والحسنَيْنعليهم‌السلام في ما تقصده الآية المباركة(٤) .

____________________

(١) آل عمران (٣): ٦١.

(٢) نور الأبصار: ١٠٠، وراجع تفسير: الجلالين وروح البيان والكشّاف والبيضاوي والرازي، وصحيح الترمذي: ٢ / ١٦٦، وسنن البيهقي: ٧ / ٦٣، وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، ومسند أحمد: ١ / ٨٥، ومصابيح السنة: ٢ / ٢٠١.

(٣) كما نصّت على ذلك الآية ٣٣ من سورة الأحزاب.

(٤) راجع التفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير النيسابوري، وصحيح مسلم: ٢ / ٣٣ وخصائص النسائي: ٤، ومسند أحمد: ٤ / ١٠٧، وسنن البيهقي: ٢ / ١٥٠، ومشكل الآثار: ١ / ٣٣٤، ومستدرك الحاكم: ٢ / ٤١٦، واُسد الغابة: ٥ / ٥٢١.

٢٦

ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الكامن في وجوب مودّتهم والالتزام بخطّهم وترجيح حبّهم على حبّ من سواهم بنص الكتاب العزيز(١) .

فإنّ عصمة أهل البيتعليهم‌السلام أدلّ دليل على أنّ النجاة في متابعتهم حينما تتشعّب الطرق وتختلف الأهواء، فمن عصمه الله من الرجس وكان دالاًّ على النجاة كان متّبعه ناجياً من الغرق.

ونصّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما عن ابن عباس - بأنّ آية المودّة في القربى حينما نزلت وسأله بعض المسلمين عن المقصود من القرابة التي أوجبت على المسلمين طاعتهم بقوله: إنّهم عليّ وفاطمة وابناهما(٢).

ولا يتركنا القرآن الحكيم حتّى يبيّن لنا أسباب هذا التفضيل في سورة (الدهر) التي نزلت لبيان عظمة الواقع النفسي الذي انطوى عليه أهل البيتعليهم‌السلام والإخلاص الذي تقترن به طاعتهم وعباداتهم بقوله تعالى:( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) (٣) .

لقد روى جمهور المفسّرين والمحدّثين أنّ هذه السورة المباركة نزلت في أهل البيت بعد ما مرض الحسنان، ونذر الإمام صيام ثلاثة أيام شكراً لله إن برئا، فوفوا بنذرهم أيّما وفاء، إنّه وفاءٌ جسَّد أروع أنواع الإيثار حتّى نزل قوله تعالى:( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (٤) فشكر الله

____________________

(١) قال تعالى في سورة الشورى الآية ٢٣ مخاطباً رسوله الكريم:( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) . وقال في سورة سبأ:( مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) .

(٢) راجع التفسير الكبير، وتفسير الطبري، والدر المنثور في تفسير آية المودّة.

(٣) الإنسان (٧٦): ٩ - ١٢.

(٤) الإنسان (٧٦): ٥ - ٧.

٢٧

سعيهم على هذا الإيثار والوفاء بما أورثهم في الآخرة وبما حباهم من الإمامة للمسلمين في الدنيا حتّى يرث الأرض ومن عليها.

٢ - مكانة الإمام الحسينعليه‌السلام لدى خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد خصّ الرسول الأعظم حفيديه الحسن والحسينعليهما‌السلام بأوصاف تنبئ عن عظم منزلتهما لديه، فهما:

١ - ريحانتاه من الدنيا وريحانتاه من هذه الأمّة(١) .

٢ - وهما خير أهل الأرض(٢) .

٣ - وهما سيّدا شباب أهل الجنّة(٣) .

٤ - وهما إمامان قاما أو قعدا(٤) .

٥ - وهما من العترة (أهل البيت) التي لا تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة، ولن تضلّ أمة تمسّكت بهما(٥) .

٦ - كما أنّهما من أهل البيت الذين يضمنون لراكبي سفينتهم النجاةمن الغرق(٦) .

٧ - وهما ممّن قال عنهم جدّهم: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف)(٧) .

____________________

(١) صحيح البخاري: ٢ / ١٨٨، وسنن الترمذي: ٥٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٦٢.

(٣) سنن ابن ماجة: ١ / ٥٦، والترمذي: ٥٣٩.

(٤) المناقب لابن شهر آشوب: ٣ / ١٦٣. نقلاً عن مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهم.

(٥) جامع الترمذي: ٥٤١، ومستدرك الحاكم: ٣ / ١٠٩.

(٦) حلية الأولياء: ٤ / ٣٠٦.

(٧) مستدرك الحاكم: ٣ / ١٤٩.

٢٨

٨ - وقد استفاض الحديث عن مجموعة من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنينعليهما‌السلام : (اللهمّ إنّك تعلم أنّي أحبهما فأحبَّهما وأحبّ من يحبّهما)(١) .

٣ - مكانة الإمام الحسينعليه‌السلام لدى معاصريه:

١ - قال عمر بن الخطاب للحسينعليه‌السلام : فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(٢) .

٢ - قال عثمان بن عفان في الحسن والحسينعليهما‌السلام وعبد الله بن جعفر: فطموا العلم فطماً(٣) وحازوا الخير والحكمة(٤) .

٣ - قال أبو هريرة: دخل الحسين بن عليّ وهو معتم، فظننت أنّ النبيّ قد بعث(٥) .

وكانعليه‌السلام في جنازة فأعيا، وقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال له:يا أبا هريرة وأنت تفعل هذا ، فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم(٦) .

٤ - أخذ عبد الله بن عباس بركاب الحسن والحسينعليهما‌السلام ، فعوتب في ذلك، وقيل له: أنت أسنّ منهما! فقال: إنّ هذين ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفليس

____________________

(١) خصائص النسائي: ٢٦.

(٢) الإصابة: ١ / ٣٣٣، وقال: سنده صحيح.

(٣) فطموا العلم فطماً: أي قطعوه عن غيرهم قطعاً، وجمعوه لأنفسهم جمعاً.

(٤) الخصال: ١٣٦.

(٥) بحار الأنوار: ١٠ / ٨٢.

(٦) تاريخ ابن عساكر: ٤ / ٣٢٢.

٢٩

من سعادتي أن آخذ بركابهما(١) ؟

وقال له معاوية بعد وفاة الحسنعليه‌السلام : يا ابن عباس أصبحت سيّد قومك، فقال: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا(٢) .

٥ - قال أنس بن مالك - وكان قد رأى الحسينعليه‌السلام -: كان أشبههم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

٦ - قال زيد بن أرقم لابن زياد- حين كان يضرب شفتي الحسينعليه‌السلام -: اعل بهذا القضيب، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هاتين الشفتين يقبّلهما، ثم بكى.

فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك، فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم! قتلتم الحسين ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة! فهو يقتل خياركم ويستبقي شراركم(٤) .

٧ - قال أبو برزة الأسلمي ليزيد حينما رآه ينكث ثغر الحسينعليه‌السلام : أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرشفه. أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك! ويجيء هذا ومحمّد شفيعه(٥) .

٨ - وحين قال معاوية لعبد الله بن جعفر: أنت سيّد بني هاشم؟ أجابه

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر: ٤/٣٢٢.

(٢) حياة الإمام الحسين، للقرشي: ٢ / ٥٠٠.

(٣) أعيان الشيعة: ١ / ٥٦٣.

(٤) أُسد الغابة: ٢ / ٢١.

(٥) الحسن والحسين سبطا رسول الله: ١٩٨.

٣٠

قائلاً: سيّد بني هاشم حسن وحسين(١) .

وكتب إليه: إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين(٢) .

٩ - سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض يكون في الثوب أفيصلَّى فيه؟ فقال له: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: اُنظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: هما ريحانتاي من الدنيا(٣) .

١٠ - قال محمد بن الحنفية: إنّ الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رحماً، كان إماماً فقيهاً...)(٤) .

١١ - مرّ الحسينعليه‌السلام بعمرو بن العاص وهو جالس في ظلّ الكعبة فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السماء اليوم(٥) .

١٢ - قال عبد الله بن عمرو بن العاص وقد مرّ عليه الحسينعليه‌السلام : من أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز(٦) .

١٣ - وحين أشار يزيد على أبيه معاوية أن يكتب للحسينعليه‌السلام جواباً عن كتاب كتبه له، على أن يصغّر فيه الحسينعليه‌السلام ، قال معاوية رادّاً عليه: وما

____________________

(١) الحسن بن عليّ لكامل سليمان: ١٧٣.

(٢) البداية والنهاية: ٨ / ١٦٧.

(٣) تاريخ ابن عساكر: ٤ / ٣١٤.

(٤) بحار الأنوار: ١٠ / ١٤٠.

(٥) تأريخ ابن عساكر: ٤ / ٣٢٢.

(٦) بحار الأنوار: ١٠ / ٨٣.

٣١

عسيت أن أعيب حسيناً، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً(١) .

١٤ - قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (والي المدينة) لمروان بن الحكم - لمّا أشار عليه بقتل الحسينعليه‌السلام إذا لم يبايع -: والله يا مروان ما أُحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها وأنّي قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال لا أبايع؟ والله إنّي لأظنّ أنّ من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة(٢) .

١٥ - لمّا قبض ابن زياد على قيس بن مسهر الصيداوي - رسول الحسينعليه‌السلام إلى أهل الكوفة - أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين وأباه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة فأجيبوه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ والحسين. فأمر به ابن زياد، فألقي من رأس القصر، فتقطّع(٣) .

١٦ - من خطبة ليزيد بن مسعود النهشلي (رحمه الله): وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول اللهعليه‌السلام ، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته. يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير. فأكرم به راعي رعيّة، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة(٤) .

____________________

(١) أعيان الشيعة: ١ / ٥٨٣.

(٢) البداية والنهاية: ٨ / ١٤٧.

(٣) المصدر السابق: ١٨ / ١٦٨.

(٤) أعيان الشيعة: ١ / ٥٩٠.

٣٢

١٧ - قال عبد الله بن الحرّ الجعفي: ما رأيت أحداً قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين(١) .

١٨ - قال إبراهيم النخعي: لو كنتُ فيمن قاتل الحسين ثم أُدخلت الجنّة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

٤ - الإمام الحسينعليه‌السلام عبر القرون والأجيال:

١ - قال الربيع بن خيثم لبعض من شهد قتل الحسينعليه‌السلام : والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقبّل أفواههم، وأجلسهم في حجره(٣) .

٢ - قال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسينعليه‌السلام ، ولمّا قتل اسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً، حتّى رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر، ومكثت السماء سبعة أيام بلياليها كأنّها علقة(٤) .

٣ - قال علي جلال الحسيني: السيّد الزكي الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته، وابن أمير المؤمنيين عليّ كرم الله وجهه، وشأن بيت النبوّة له أشرف نسب وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من علوّ الهمّة، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحقّ، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عزّ، والعدل، والصبر، والحلم، والعفاف، والمروءة، والورع وغيرها.

____________________

(١) أعيان الشيعة: ٤ / ق ١ / ١١٨.

(٢) الإصابة: ١ / ٣٣٥.

(٣) بحار الأنوار: ١٠ / ٧٩.

(٤) تأريخ ابن عساكر: ٤ / ٣٣٩.

٣٣

واختصّ بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير، كالصلاة والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مرشداً بعمله، مهذّباً بكريم أخلاقه، ومؤدّباً ببليغ بيانه، سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، معظّماً عند الخلفاء، موصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة... كان الحسين في وقته علم المهتدين ونور الأرض، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار فضله(١) .

٤ - قال محمد رضا المصري: هو ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلم المهتدين، ورجاء المؤمنين(٢) .

٥ - قال عمر رضا كحالة: الحسين بن عليّ، وهو سيّد أهل العراق فقهاً وحالاً وجوداً وبذلاً(٣) .

٦ - قال عبد الله العلايلي: جاء في أخبار الحسين: أنّه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جدّه العظيم، فأفاض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إشعاعة غامرة من حبّه، وأشياء نفسه، ليتمّ له أيضاً من وراء الصورة معناها فتكون حقيقة من بعد كما كانت من قبل إنسانية ارتقت إلى نبوّة (أنا من حسين) ونبوة هبطت إلى إنسانية (حسين منّي) فسلام عليه يوم ولد(٤) .

٧ - قال عباس محمود العقّاد: مثل للناس في حلّة من النور تخشع لها

____________________

(١) راجع كتابه ( الحسين )عليه‌السلام : ١/٦. وراجع أيضاً: مجمع الزوائد: ٩/٢٠١ وبحار الأنوار: ٤٤/١٩٣.

(٢) الحسن والحسين سبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٧٥.

(٣) أعلام النساء: ١ / ٢٨.

(٤) تاريخ الحسينعليه‌السلام : ٢٢٦.

٣٤

الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان، غير مستثنىً منهم عربي ولا عجمي، وقديم وحديث، فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم اُسرة الحسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في تأريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين(١) .

٨ - قال عمر أبو النصر: هذه قصة أسرة من قريش. حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها. قصة ألّف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس، ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أنّ الله شرّف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوّة والوحي والإلهام في منازلها، وزاد ندى فلم يشأ لها حظّ الرجل العادي من عبادة، وإنّما أرادها للتشريد والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها أن تتزعّم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذرّيتها(٢) .

٩ - قال عبد الحفيظ أبو السعود: عنوان النضال الحرّ، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(٣) .

١٠ - قال أحمد حسن لطفي: إنّ الموت الذي كان ينشده فيها كان يمثّل في نظره مثلاً أروع من كلّ مثل الحياة، لأنّه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ واليه المنتهى، ولأنّه السبيل إلى الانتصار وإلى الخلود، فهو أعظم بطل ينتصر بالموت على الموت(٤) .

____________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن عليّعليهما‌السلام : ١٥٠، طبعة النجف، مطبعة الغري الحديثة.

(٢) آل محمد في كربلاء: ٣٠.

(٣) سبطا رسول الله الحسن والحسين: ١٨٨.

(٤) الشهيد الخالد الحسين بن عليّ: ٤٧.

٣٥

٣٦

الفصل الثالث:

مظاهر من شخصية الإمام الحسينعليه‌السلام

ولد الإمام الحسين بن علىّعليهما‌السلام في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسماء طوال يومها بلا انقطاع، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن التي تتلى آناء الليل والنهار، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه. فكان الحسينعليه‌السلام صورة لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمته، يتحرّك فيها على هدى القرآن، ويتحدّث بفكر الرسالة، ويسير على خطى جدّه العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق، ويرعى للأمة شؤونها، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها ونصرتها، جاعلاً من نفسه المقدسة أنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول، فكانعليه‌السلام نور هدىً للضالّين وسلسبيلاً عذباً للراغبين وعماداً يستند إليه المؤمنون وحجّة يركن إليها الصالحون، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون، وسيف عدل يغضب لله ويثور من أجل الله. وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدافع عن دينه ورسالته العظيمة.

ومن الإمعان في شخصيّة الإمام الحسينعليه‌السلام الفذّة نتلمّس المظاهر التالية:

٣٧

١ - تواضعهعليه‌السلام :

جُبل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام على التواضع ومجافاة الأنانية، وهو صاحب النسب الرفيع والشرف العالي والمنزلة الخصيصة لدى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانعليه‌السلام يعيش في الأمة لا يأنف من فقيرها ولا يترفّع على ضعيفها ولا يتكبّر على أحد فيها، يقتدي بجدّه العظيم المبعوث رحمةً للعالمين، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الأمة، وقد نُقلت عنهعليه‌السلام مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع مظهراً سماحة الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك:

إنّهعليه‌السلام قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت معكم. ثمّ قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.

وروي: أنّهعليه‌السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة، فقالوا: الغداء، فقالعليه‌السلام : إنّ الله لا يحب المتكبّرين، فجلس وتغدّى معهم ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم، فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته: أخرجي ما كنت تدّخرين(١) .

٢ - حلمه وعفوهعليه‌السلام :

تأدّب الحسين السبطعليه‌السلام بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عفى عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلامية، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ الناس، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل

____________________

(١) أعيان الشيعة: ١ / ٥٨٠، تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام حديث ١٩٦، وتفسير البرهان: ٢ / ٣٦٣.

٣٨

عن إساءة جاهلهم، يحدوه رضا الله تعالى، يقرّب المذنبين ويطمئنهم ويزرع فيهم الأمل برحمة الله، فكان لا يردّ على مسيء إساءة، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال.

فقد روي عنهعليه‌السلام أنّه قال: (لو شتمني رجل في هذه الأُذن - وأومأ إلى اليمنى - واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام حدّثني أنّه سمع جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لا يرد الحوض مَن لم يقبل العذر من محق أو مبطل(١) .

كما روي أنّ غلاماً له جنى جنايةً كانت توجب العقاب، فأمر بتأديبه فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي والكاظمين الغيظ، فقالعليه‌السلام : خلّوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس، فقالعليه‌السلام : قد عفوت عنك، قال: يا مولاي والله يحب المحسنين، فقالعليه‌السلام : أنت حرّ لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطك(٢) .

٣ - جوده وكرمهعليه‌السلام :

وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب الوافدين عليه، ويقضي حوائج السائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة، ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه وهذه سجية الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السماحة.

فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً مملوءً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين

____________________

(١) إحقاق الحقّ: ١١ / ٤٣١.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ٣١، والفصول المهمة لابن الصبّاغ: ١٦٨ مع اختلاف يسير، وأعيان الشيعة: ٤ / ٥٣.

٣٩

بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به اللبن(١) .

وفي موقف مفعم باللطف والإنسانية والحنان جعل العتق رداً للتحية، فقد روى عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى. وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقالعليه‌السلام : كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى:( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) ، وكان أحسن منها عتقها(٢) .

ومن كرمه وعفوه أنّه وقفعليه‌السلام ليقضي دين أسامة بن زيد وليفرّج عن همّه الذي كان قد اعتراه وهو في مرضه(٣) ، رغم أنّ أسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسينعليه‌السلام وأنشد قائلاً:

لم يخب الآن من رجاك

حرّك من دون بابك الحلقة

أنت جواد أنت معتمد

أبوك قد كان قاتل الفسقة

فأسرع إليه الإمام الحسينعليه‌السلام وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر وقال متسائلاً: ما تبقّى من نفقتنا؟ قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقالعليه‌السلام : هاتها فقد أتى مَن هو أحقّ بها منهم، فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:

خذها فإنّي إليك معتذر

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصاً

أمست سمانا عليك مندفقة

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ١ / ١٢٨ عن عيون الأخبار.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ٣١، والفصول المهمة: ١٦٧.

(٣) بحار الأنوار: ٤٤ / ١٨٩، ومناقب آل أبي طالب: ٤ / ٦٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

العسكريعليه‌السلام فقال :يا أحمد ، ما كان حالكم فيما كان فيه الناس من الشك والارتياب ؟ فقلت له : يا سيدي لما ورد الكتاب لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقالعليه‌السلام :أحمد الله على ذلك يا أحمد ، أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة ، وأنا ذلك الحجة ، أو قال :أنا الحجة »(1) .

الثاني : اظهار الدلالة

فقد طالب بعض المشككين الإمامعليه‌السلام بالدلالة ، وكانعليه‌السلام يستجيب بما اُوتي من الحكمة وفصل الخطاب ، لمن يعتقد أنه يسكن إليها. ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن القاسم الهروي ، قال : خرج توقيع من أبي محمدعليه‌السلام إلى بعض بني أسباط ، قال : « كتبت إليهعليه‌السلام أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل. فكتب إليّ :إنّما خاطب الله عزوجل العاقل ، ليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين ، فقالوا : ساحر وكاهن وكذاب ، وهدى الله من اهتدى ، غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس ، وذلك أن الله عزوجل يأذن لنا فنتكلم ، ويمنع فنصمت ، ولو أحب أن لا يُظهِر حقاً ما بعث النبيين مبشرين ومنذرين ، فصدعوا بالحقّ في حال الضعف والقوة ، وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ حكمه ».

ثمّ أشارعليه‌السلام إلى طبقات الناس في أخلاصهم له أو ابتعادهم عنه ، مبيناً أن بعضهم يعيش البصيرة في عقله وفي قلبه وفي روحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله ، وهذا متمسك بهدي الإمام وسبيله ، وبعضهم أخذ العلم ممن

__________________

(1) إكمال الدين : 222 / 9 باب 22.

١٢١

يملك مسؤولية العلم وعمقه وممن لا يملكهما ، أو ممن يملك تقوي الحقيقة وممن لا يملكها ، وهؤلاء مذبذبون ليس لديهم قاعدة ثابتة ينطلقون منها ولا أرض يقفون عليها ، وبعضهم استحوذ عليهم الشيطان فأعمى بصيرتهم ، وليس لهم شأن إلا مواجهة أهل الحق.

قالعليه‌السلام : مواصلاً كتابه الأول : « الناس فيَّ طبقات شتّى ، فالمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق ، متعلق بفرع أصيل ، غير شاك ولا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأً ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله ، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ، ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ودفع الحقّ بالباطل ، حسداً من عند أنفسهم ، فدع من ذهب يميناً وشمالاً ، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.

ذكرت ، ما اختلف فيه مواليّ ، فإذا كانت الوصية والكبر فلا ريب ، ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم ، احسن رعاية من استرعيت ، وإياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فانهما يدعوان إلى الهلكة.

ذكرت شخوصك إلى فارس ، فاشخص خار الله لك ، وتدخل مصر إن شاء الله آمناً ، واقرأ من تثق به من موالي السلام ، ومرهم بتقوى الله العظيم ، وأداء الأمانة ، وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا. قال : فلما قرأت : وتدخل مصر إن شاء الله ، لم أعرف معنى ذلك ، فقدمت إلى بغداد ، وعزيمتي الخروج إلى فارس ، فلم يتهيأ ذلك فخرجت إلى مصر »(1) .

__________________

(1) إثبات الوصية : 247 ، الخرائج والجرائح 1 : 448 / 35 ، بحار الأنوار 50 : 296 / 70.

١٢٢

وهكذا كانعليه‌السلام يثبت إمامته لبعض المشككين باظهار الدلالة ، مما يسكّن قلوبهم ، ويكون له الأثر في هدايتهم إلى سواء السبيل.

روى علي بن جعفر عن الحلبي ، قال : « اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمدعليه‌السلام يوم ركوبه ، فخرج توقيعه :ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ولا يؤمئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم. قال : وإلى جنبي شاب فقلت : من أين أنت ؟ قال : من المدينة. قلت : ما تصنع هاهنا ؟ قال : اختلفوا عندنا في أبي محمدعليه‌السلام فجئت لأراه وأسمع منه ، أو أرى منه دلالة ليسكن قلبي ، وإني لولد أبي ذرّ الغفاري.

فبينما نحن كذلك ، إذا خرج أبو محمدعليه‌السلام مع خادم له ، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي. فقال :أغفاري أنت ؟ قال : نعم. قال :ما فعلت اُمك حمدويه ؟ فقال : صالحة ، ومرّ. فقلت للشاب : أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم ؟ قال : لا. قلت : فينفعك هذا ؟ قال : ودون هذا »(1) .

وعن يحيى بن المرزبان ، قال : « التقيت مع رجل من أهل السيب سيماه الخير ، فأخبرني أنه كان له ابن عم ينازعه في الإمامة والقول في أبي محمدعليه‌السلام وغيره ، فقلت : لا أقول به أو أرى منه علامة ، فوردت العسكر في حاجة فأقبل أبو محمدعليه‌السلام فقلت في نفسي متعنتاً : ان مدّ يده إلى رأسه ، فكشفه ثمّ نظر إليّ ورده قلت به. فلما حاذاني مدّ يده إلى رأسه فكشفه ، ثم برق عينيه فيّ ثم ردّها ، وقاليا يحيى ، ما فعل ابن عمك الذي تنازعه في الإمامة ؟ فقلت : خلّفته

__________________

(1) الخرائج والجرائح 1 : 439 / 20 ، بحار الأنوار 50 : 269 / 24.

١٢٣

صالحاً. فقال :لا تنازعه ، ثم مضىٰ »(1) .

كما كانعليه‌السلام يحذّر من لايعتقد بإمامته إلا ببرهان ثم يعطى ذلك ويبقى على عناده بمصير وخيم يوم يفد على الله فرداً بلا ناصر أو معين.

روى المسعودي بالاسناد عن الربيع بن سويد الشيباني ، قال : حدثني ناصح البارودي ، قال « كتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام اُعزيه بأبي الحسنعليه‌السلام وقلت في نفسي وأنا أكتب : لو قد خبر ببرهان يكون حجة لي. فأجابني عن تعزيني ، وكتب بعد ذلك :من سأل آية أو برهاناً فاُعطي ، ثمّ رجع عمن طالب منه الآية ، عذب ضعف العذاب ، ومن صبر أعطي التاييد من الله ، والناس مجبولون على جبلة إيثار الكتب المنشرة ، فاسأل السداد ، فإنّما هو التسليم أو العطب ، ولله عاقبة الأمور » (2) .

* * *

__________________

(1) الخرائج والجرائح1 : 440 / 21 ، بحار الأنوار 50 : 270 / 25.

(2) إثبات الوصية : 247 ، تحف العقول : 360 مختصراً.

١٢٤

الفصل الخامس

منزلته عليه‌السلام ومكارم أخلاقه

منزلته عليه‌السلام :

حظي الإمام العسكريعليه‌السلام كسائر آبائه المعصومينعليهم‌السلام بمنزلة رفيعة ومكانة اجتماعية مرموقة ، تتمثّل بوافرٍ من مظاهر التعظيم والتبجيل والاحترام التي يكنّها له غالب من عاصره بمن فيهم الذين خاصموه وناوؤه وسجنوه ، وذلك للدرجات العالية من صفات الكمال ومعالي الأخلاق التي يتحلّى بها من العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة التي ميزت شخصه الكريم.

ولو استعرضنا ما نقله كتّاب سيرتهعليه‌السلام يتبيّن لنا سموّ مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك ، وأنّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره ، بما في ذلك الوزراء والقوّاد والقضاء والفقهاء وطبقات المجتمع كلّها.

وهناك وثيقة تاريخية معتبرة تنقل لنا بعض أجواء ومظاهر ذلك التقدير والاحترام والمكانة والإجلال ، صادرة من بعض رجال الدولة ، وهو أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، عامل السلطان على الضياع والخراج في قم ، وكان

١٢٥

أبوه وزير المعتمد(1) ، فقد جرىٰ يوماً ذكر العلوية ـ أي المنتسبين إلى الإمام عليعليه‌السلام ـ ومذاهبهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ فقال : « ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هَديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة ، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامة الناس ».

فأنت ترى أن لهعليه‌السلام امتداداً من التعظيم في مواقع المجتمع كلّها ، سواء الذين يدينون بإمامته أو الذين يقفون ضدها ، وهو أمر يستحقّ التأمّل ، فكيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يحظىٰ بالتقديم على ذوي السن والخطر ؟ وأن يتمتع بهذه المنزلة العالية والمكانة الكبيرة عند القواد والوزراء ، وعامة الناس ، وهو في خط مضاد لموقع الخلافة ، بل ويزدحم حوله الذين ينصبون له ولآبائهعليهم‌السلام العداوة ويكنّون لهم البغضاء ؟ لقد فرض الإمامعليه‌السلام نفسه على الواقع كلّه ، بسموّه الروحي والخلقي ، وعناصر العظمة التي يختزنها في شخصه ، ونشاطه الحركي في أوساط الاُمّة.

ويتابع ابن خاقان حديثه فيقول : « فأذكر أنني كنت يوماً قائماً على رأس أبي ، وهو يوم مجلسه للناس ، إذ دخل حجّابه فقالوا : أبو محمد ابن الرضا بالباب ، فقال بصوتٍ عالٍ : ائذنوا له ، فتعجّبت ممّا سمعت منهم ، ومن جسارتهم

__________________

(1) وهو عبيد الله بن يحيى بن خاقان التركي ، ولد سنة 209 ه‍ ، واستوزره المتوكل والمعتمد ، واستمر في الوزارة إلى أن توفّي سنة 263 ه‍ ، وكان عاقلاً سمحاً جواداً حازماً. سير أعلام النبلاء 13 : 9 / 5 ، أعلام الزركلي 4 : 198.

١٢٦

أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي ، ولم يكن يُكنّى عنده إلا خليفة ، أو وليّ عهد ، أو من أمر السلطان أن يكنّى » ذلك لأن ذكر الكنية مظهر من مظاهر التكريم والإجلال ، فكيف يكنّى رجل بحضرة الوزير ، وليس هو خليفة ولا ولي عهد ولا ممن أمر السلطان بتكنيته ؟ إنّه أمر ملفت للنظر ومثير للتعجّب.

ويواصل فيقول : « فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، حديث السنّ ، له جلالة وهيئة حسنة ، فلما نظر إليه أبي قام فمشىٰ إليه خُطىً ، ولا أعلمه فَعَل هذا بأحدٍ من بني هاشم والقوّاد ، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده ، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه ، وأنا متعجّب مما أرى منه ، إذ دخل الحاجب فقال : الموفق ـ وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء ، وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّه قوّاده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سِماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يُحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذٍ له : إذا شئتَ جعلني الله فداك ، ثم قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا ـ يعني الموفق ـ فقام وقام أبي فعانقه ومضى.

فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي ، وفعل به أبي هذا الفعل ؟ فقالوا : هذا علويّ يقال له : الحسن بن علي ، يعرف بابن الرضا ، فازددت تعجّباً ، ولم أزل يومي ذلك قلقاً مفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل ، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات ـ أي المراجعات ـ وما يرفعه إلى السلطان.

١٢٧

فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه ، وليس عنده أحد ، فقال لي : يا أحمد ، ألك حاجة ؟ فقلت : نعم يا أبه ، فإن أذنت سألتك عنها ، فقال : قد أذنت. قلت : يا أبه ، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفدّيته بنفسك وأبويك ؟

فقال : يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي ، المعروف بابن الرضا ، ثم سكت ساعة وأنا ساكت ، ثم قال : يا بني ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره ، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ، ولو رأيت أباه ، رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً ، فازددت قلقلاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه فيه ، ورأيت من فعله به ، فلم يكن لي هِمّة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدوّاً إلا وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه »(1) .

ولسنا نريد من خلال شهادة أحد رجال الدولة أن ندخل في تقييم الإمام لمجرد أنّ هذا الرجل شهد له ، لأنّهعليه‌السلام يختص من موقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند الله ، ويتمتّع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 503 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 40 ـ مقدمة المصنف ، الإرشاد 2 : 321 ، روضة الواعظين : 249 ، إعلام الورى 2 : 147.

١٢٨

والخلق الرفيع ، وهي التي جعلت هذا الرجل وسواه يذعن لشخصيتهعليه‌السلام ويظهر له الإكبار والاحترام والثناء.

الذي نريد أن نقوله من خلال هذه الشهادة ، أنه ليس ثمة شخصية كبيرة وفاعلة في المجتمع إلا وهناك من يسيء القول فيها ، كما أنّ هناك من يحسن القول فيها ، لكننا نجد أنّ الغالبية العظمى قد اتفقت على تقدير الإمامعليه‌السلام واحترامه وإجلاله ، وعلى حسن القول فيه ، بحيث أخذ بمجامع قلوب وعقول الأعداء والأصدقاء ، هذا مع أنهعليه‌السلام عاش في مجتمع يقف من الناحية الرسمية ضد خطّ ولايته ، ويعمل على محاصرته ويضيق عليه ويسعى إلى أن ينقص من قدره.

وتلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح وصولة السلطان ، ولا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الإمامعليه‌السلام ، بل هي إحدى مظاهر التسديد الإلهي الذي لا تعمل معه جميع محاولات السلطة الساعية إلى الحطّ من منزلته والوضع منه ، الأمر الذي اعترف به رأس السلطة آنذاك.

فقد روى الشيخ الصدوق والقطب الراوندي أنه ورد في ردّ الخليفة المعتمد على جعفر الكذاب حينما جاء بعد وفاة أخيه الإمامعليه‌السلام يطلب مرتبته ، قوله : « إن منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنّما كانت بالله ، ونحن كنا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلا أن يزيده كلّ يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة »(1) .

ويقع بعض النصارى في دائرة التقدير والاحترام للإمامعليه‌السلام ، ومنهم أحد رجال الدولة الذي كان يتولّى الكتابة للسلطان ، واسمه أنوش النصراني ، الذي

__________________

(1) إكمال الدين : 479 ـ آخر باب 43 ، الخرائج والجرائح3 : 1109.

١٢٩

سأل السلطان أن يدعو الإمامعليه‌السلام إلى بيته ليشارك في مناسبة خاصة يدعو فيها لولديه بالسلامة والبقاء ، فأرسل السلطان خادماً جليل القدر إلى دار الإمام كي يدعوه إلى حضور دار كاتبه أنوش ، فأخبر الخادم الإمامعليه‌السلام أن أنوش يقول : « نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة. فقال الإمامعليه‌السلام :الحمد لله الذي جعل النصراني أعرف بحقنا من المسلمين. ثم قال :اسرجوا لنا. فركب حتى ورد دار أنوش ، فخرج إليه مكشوف الرأس ، حافي القدمين ، وحوله القسيسون والشمامسة(1) والرهبان ، وعلى صدره الانجيل ، فتلقّاه على باب داره وقال : يا سيدنا ، أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلا غفرت لي ذنبي في عنائك. وحق المسيح عيسىٰ بن مريم وما جاء به من الانجيل من عند الله ، ما سألت أمير المؤمنين مسألتك [ في ] هذا إلا لأنّا وجدناكم في هذ الانجيل مثل المسيح عيسىٰ بن مريم عند الله. فقالعليه‌السلام :الحمدُ لله »(2) .

ولعلّ أبرز وأصدق مظاهر التبجيل والتعظيم التي تعبّر عن مكانة الإمامعليه‌السلام عند سائر الناس ، هو ازدحام الناس على جنازتهعليه‌السلام إلى حدّ وصفه بعض الرواة بالقيامة ، فقد قال أحمد بن عبيد الله ابن خاقان في حديثه الذي قدّمناه : « لمّا ذاع خبر وفاته صارت سرّ من رأى ضجّه واحدة ( مات ابن الرضا ). وعطلت الاسواق ، وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس

__________________

(1) الشسامة : جمع شماس ، وهو خادم الكنيسة بالسريانية.

(2) مدينة المعاجز / السيد هاشم البحراني 7 : 670 / 2655 عن الهداية الكبرى للخصيبي.

١٣٠

الى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة »(1) .

هيبته عليه‌السلام

يحظى الإمام العسكريعليه‌السلام بهيبة حقيقية فرضت نفسها على الناس وسواهم من خلال اجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والاخلاص والخلق الرفيع فيهعليه‌السلام .

وقد جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :« المؤمن يخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء » وقالعليه‌السلام :« إذا كان مخلصاً أخاف الله منه كلّ شيء حتى هوام الأرض والسباع وطير الهواء » (2) . فهذا حال المؤمن المخلص ودرجته ، فكيف إذا كان إماماً معصوماً وحجةً على الخلق ؟

قال القطب الراوندي في صفة الإمام العسكري : « له بسالة تذلّ لها الملوك ، وله هيبة تسخّر له الحيوانات كما سخّرت لآبائهعليهم‌السلام بتسخير الله لهم إياها ، دلالة وعلامة على حجج الله ، وله هيئة حسنة ، تعظّمه الخاصة والعامة اضطراراً ، ويبجّلونه ويقدّرونه لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وصلاحه وإصلاحه »(3) .

من هنا فقد وصف أحد خَدَم الإمامعليه‌السلام في حديث له ، حضور الناس يوم ركوبهعليه‌السلام إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس ، بأن الشارع كان يغصّ

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 505 / 1 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 43 ـ المقدمة ، الإرشاد 2 : 324.

(2) الدعوات / الراوندي : 227.

(3) الخرائج والجرائح 2 : 901.

١٣١

بالدواب والبغال والحمير ، بحيث لا يكون لأحد موضع قدم ، ولا يستطيع أحد أن يدخل بينهم ، فإذا جاء الإمامعليه‌السلام هدأت الأصوات وسكنت الضجّة وتفرّقت البهائم وتوسّع له الطريق حين دخوله وخروجه(1) .

وقد امتدت آثار هيبتهعليه‌السلام حتى إلى ساجنيه ، فكانوا يرتعدون خوفاً وفزعاً بمجرد أن ينظر إليهم ، حيث قال بعض الأتراك الموكلون به في سجن صالح ابن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا »(2) .

مكارم أخلاقه

نأتي هنا إلى ذكر مقومات تلك المنزلة والهيبة التي تتمثل بالملكات القدسية والخصال الروحانية التي اجتمعت في شخصهعليه‌السلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من معالي الفضيلة وعناصر العظمة التي تحلّىٰ بها أهل هذا البيتعليهم‌السلام.

وقد وصفه أبوه علي الهاديعليه‌السلام بقوله :« أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجة وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها » (3) .

__________________

(1) راجع الحديث في غيبة الشيخ الطوسي : 215 / 179.

(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.

(3) أصول الكافي 1 : 327 / 11 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمدعليه‌السلام من كتاب الحجة.

١٣٢

وشهد لهعليه‌السلام بخلال الفضل ومعالي الأخلاق بعض المعاصرين له وغيرهم ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان ( ت 263 ه‍ ) الذي وصفه فيما تقدم بالفضل والعفاف والهدي والزهد والعبادة وجميل الأخلاق والصلاح والنبل.

وذكر ابن أبي الحديد عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ت 255 ه‍ ) في تعداد صفاته وصفات آبائه المعصومينعليهم‌السلام قوله : « من الذي يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق ؛كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ ؟ فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشّحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا إلى عشرة ، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليعليهم‌السلام ، وهذا لم يتّفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم »(1) .

وذلك لأنهم غرس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرعه النامي ، ومنه استوحوا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهم شخصيته ، فكانوا اختصاراً لجميع عناصر الأخلاقية والروحية والانسانية ، وصاروا رمزاً للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للانسانية.

قال قطب الدين الراوندي : « أما الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام ، فقد كانت خلائقه كأخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان جليلاً نبيلاً فاضلاً كريماً ، يحتمل الأثقال ولا يتضعضع للنوائب أخلاقة على طريقة واحدة ، خارقة

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 15 : 278.

١٣٣

للعادة »(1) .

وفيما يلي نذكر ما يسمح به المقام من مناقبة الفذّة وخصاله الفريدة :

1 ـ العلم

كان الإمام العسكريعليه‌السلام أعلم أهل زمانه ، وقد بدت عليه مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه ، فقد روى المؤرخون « أنه رآه بهلول(2) وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون ، فظنّ أنه يتحسّر على ما في أيديهم ، فقال : اشتري لك ما تلعب به ؟ فقال :ما للعب خُلِقنا. فقال له : فلماذا خلقنا ؟ قال :للعلم والعبادة. فقال له : من أين لك هذا ؟ قال :من قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (3) ثمّ وعظه بأبيات من الشعر حتى خرّ مغشياً عليه »(4) .

وشهد للإمامعليه‌السلام برجاحة العلم طبيب البلاط بختيشوع ، وكان ألمع شخصية في علم الطبّ في عصره ، فقد احتاج الإمامعليه‌السلام إلى طبيب فأرسل اليه

__________________

(1) الخرائج والجرائح 2 : 901.

(2) لعلّ المراد به بهلول بن إسحاق بن بهلول ( 204 ـ 298 ه‍ ) أو أخوه المعروف بابن بهلول ، وهو أحمد بن إسحاق بن بهلول ( 231 ـ 318 ه‍ ) وكلاهما من العلماء المعاصرين له.عليه‌السلام راجع : سير أعلام النبلاء 13 : 535 / 268 و 14 : 497 / 281 ، أعلام الزركلي 1 : 95.

(3) سورة المؤمنون : 23 / 115.

(4) راجع : إحقاق الحق 12 : 473 و 19 : 620 و 29 : 65 عن عدة مصادر منها : الصواعق المحرقة لابن حجر ، ونور الأبصار للشبلنجي ، ووسيلة المآل للحضرمي ، وروض الرياحين لعفيف الدين اليافعي وغيرها.

١٣٤

بختيشوع بعض تلامذته وأوصاه قائلاً : « طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به »(1) .

واستطاع الإمامعليه‌السلام بعلمه الذي لا يجارى وفكره الثاقب ونظره الصائب أن يكشف الحقائق ويظهر الدقائق ، ومن ذلك أن السلطة أخرجته من السجن بعد أن شكّ الناس في دينهم وصبوا إلى دين النصرانية ، لأن أحد الرهبان كان يستسقي فيهطل المطر ، بينما يستسقي المسلمون فلم يسقوا ، فكشف الإمامعليه‌السلام عن حيلة الراهب الذي كان يُخفي عظماً لأحد الأنبياءعليهم‌السلام بين أصابعه ، فأزال الشك عن قلوب الناس وهدأت الفتنة(2) .

قال الحرّ العاملي في ارجوزته :

وفي حديث الراهب النصراني

معجـزة من أوضح البرهانِ

إذ كان في الحبس فصار جدب

وكان سؤال المسلمين الخصب

فخرجوا يدعون للاستسقا

ثلاثة والأرض ليس تسقي

فخرج الراهـب والنصاري

يستمطرون الصيّب المـدرارا

فجـاءهم غيثٌ غزيـر هاطل

وكلّمـا دعوا أجاب الوابل

فافتتن النـاس وراموا الـردّة

لـمّا رأوا مـن فرجٍ وشـدّة

فطلـبوا الإمام حتى خرجا

ثمّ دعـا الله فنـال الفرجا

وعندمـا أراد يدعـو الراهب

وقرب الغيث وفاز الطالب

__________________

(1) الخرائج والجرائح 1 : 422 / 3 ، بحار الأنوار 50 : 260 / 21.

(2) راجع تخريجات الحادثة في آخر الفصل الثاني.

١٣٥

أمر عبده الإمام فأخذ

من يده عظماً فعندهما نبذ

انقشع الغيم وزال المطر

وزال عن دين الإله الخطر

قال الإمام إنه عظم نبيّ

فليس ما رأيتم بعجبِ

إذ كلّما أظهر للسماء

أمطرت الغيث بلا دعاء(1)

وللإمامعليه‌السلام رصيد علمي وعطاء معرفي على صعيد ترسيخ أصول الاعتقاد والأحكام والشرائع ، والتصدي لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة ، سنأتي إلى ذكره في الفصل السادس باذن الله.

2 ـ العبادة

كان دأب الإمام العسكريعليه‌السلام التوجّه إلى الله تعالى والانقطاع إليه في أحلك الظروف وأشدّها ، فقد كان يحيى الأيام التي أمضاها في السجن بالصيام والصلاة وتلاوة القرآن على رغم التضييق عليه.

قال الموكلون به في سجن صالح بن وصيف : « أنه يصوم النهار ويقوم الليل كلّه لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة »(2) .

وحينما أودع في سجن علي بن جرين ، كان المعتمد يسأله عن أخباره في كلّ وقت ، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل(3) .

وكانعليه‌السلام معروفاً بطول السجود ، فقد روي عن أحد خدمه المعروف

__________________

(1) إحقاق الحق 12 : 462 ـ 463.

(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.

(3) إثبات الوصية : 252 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 314.

١٣٦

بمحمد الشاكري أنه قال : « كان استاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين كان يجلس في المحراب ويسجد ، فأنام وانتبه وأنام وهو ساجد »(1) .

3 ـ الزهد

كان الإمام العسكريعليه‌السلام مثالاً للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها ، والرغبة فيما أعدّه الله له في دار الخلود من النعيم والكرامة.

قال كامل بن إبراهيم المدني ، وهو أحد أصحابهعليه‌السلام : « لما دخلت على سيّدي أبي محمدعليه‌السلام نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه ، فقلت في نفسي : وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب ، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله ؟ فقال : متبسماً :يا كامل ـ وحسر عن ذراعية ، فإذا مسح أسود خشن على جلده ـهذا لله وهذا لكم »(2) .

وجاء في حديث خادمه محمد الشاكري « أنهعليه‌السلام كان قليل الأكل ، وكان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله ، فيأكل منه الواحدة والثنتين ، ويقول :شل هذا يا محمد إلى صبيانك ، فأقول : هذا كلّه ؟ فيقول :خذه »(3) .

4 ـ الكرم والسماحة

كان الإمام العسكريعليه‌السلام معروفاً بالسماحة والبذل ، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومينعليهم‌السلام. قال خادمه محمد الشاكري : « ما رأيت قطّ

__________________

(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179 ، بحار الأنوار 50 : 253.

(2) الغيبة / الشيخ الطوسي : 247 / 216.

(3) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179.

١٣٧

اسدىٰ منه ». وقال الشيخ الطوسي : « كانعليه‌السلام مع إمامته من أكرم الناس وأجودهم »(1) .

وكانعليه‌السلام يحثّ أصحابه على المعروف ، فقد روى أبو هاشم الجعفري عنهعليه‌السلام أنه قال :« إن في الجنّة باباً يقال له المعروف ، لا يدخله إلا أهل المعروف ، قال : فحمدت الله تعالى في نفسي وفرحت بما أتكلّف به من حوائج الناس ، فنظر إليّ أبو محمدعليه‌السلام فقال :نعم فَدُم على ما أنت عليه ، فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك » (2) .

وسجل الإمام العسكريعليه‌السلام دوراً بارزاً في الانفاق والبذل في سبيل الله وإعانة المعوزين والضعفاء من أبناء المجتمع الاسلامي آنذاك ، رغم حالة الحصار والتضييق الذي مارسته السلطة ضدّه ، وكان مصدر تلك العطاءات والمساعدات الأموال والحقوق الشرعية التي تجلب إليه أو إلى وكلائه من مختلف بقاع الاسلام التى تحتوي على قواعد شعبية تدين بإمامته ، وكان يسدّ بها حاجة ذوي الفاقة على قدر ما يزيل عنهم حالة العوز دون إسراف في العطاء والبذل ، فهوعليه‌السلام يقول :« إن للسخاء مقداراً ، فإن زاد عليه فهو سرف » (3) .

ومن جملة عطاءاته التي سجلتها كتب الحديث ، أنه أعطى علي بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر مائتي درهم للكسوة ، ومائتي درهم للدَّين ، ومائة درهم

__________________

(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217.

(2) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 464 ، الفصول المهمة 2 : 1082.

(3) بحار الأنوار 78 : 377 / 3.

١٣٨

للنفقة ، وأعطى لابنه محمد بن علي بن إبراهيم مائة درهم في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة(1) .

وشكا إليه أبو هاشم الجعفري الحاجة فأعطاه مرة خمسمائة دينار ، وأرسل إليه مرة اُخرى مائة دينار حينما أخلي سبيله من السجن(2) .

وشكا إليه إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس الفاقة والحاجة ، فأعطاه مائة دينار(3) .

وأعطى برذونه الكميت إلى على بن زيد بن علي بن الحسين بعد موت فرسه(4) ، وأكرمه مائة دينار في ثمن جارية بعد أن ماتت جاريته(5) .

ووهب حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين ثلاثمائة دينار ، وكان مصاباً بالشلل ، على رغم عدم قوله بإمامتهعليه‌السلام (6) .

وبعث إلى عمرو بن أبي مسلم خمسين ديناراً على يد محمد بن سنان الصوّاف في ثمن جارية(7) ، وغير ذلك كثير.

* * *

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 506 / 3 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة.

(2) أصول الكافي 1 : 507 / 5 و 508 / 10 من الباب المتقدم.

(3) أصول الكافي 1 : 509 / 14 من الباب المتقدم.

(4) أصول الكافي 1 : 510 / 15 من الباب المتقدم.

(5) بحار الأنوار 50 : 264 / 23.

(6) الثاقب في المناقب : 573 / 520.

(7) بحار الأنوار 50 : 282 / 58 ، عن فرج المهموم لابن طاوُس.

١٣٩
١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244