النص والاجتهاد

النص والاجتهاد9%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170741 / تحميل: 8297
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قريب الوضع من وضع الروم، فقد كان الاجتماع المدني - وكذا الاجتماع البيتي - عندهم متقوّماً بالرجال، والنساء تبع لهم؛ ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولا فعل إلاّ تحت ولاية الرجال، لكنّهم جميعاً ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإنّ قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال ولا تحكم لهنّ إلاّ بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تُعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تُثاب لحسناتها ولا يراعى جانبها إلاّ بالتبع وتحت ولاية الرجل.

وهذا بعينه من الشواهد الدالّة على أنّ جميع هذه القوانين، ما كانت تراها جزءاً ضعيفاً من المجتمع الإنساني، ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدّر أنّها كالجراثيم المضرّة، مفسدة لمزاج المجتمع مضرّة بصحّتها، غير أنّ للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يُعتنى بشأنها، وتُذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درّها إذا أحسنت أو نفعت، ولا تُترك على حيال إرادتها صوناً من شرّها، كالعدوِّ القويّ الذي يُغلب فيؤخَذ أسيراً مسترقّاً، يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها، وإن جاء بالحسنة لم يُشكر لها.

وهذا الذي سمعته - إنّ الاجتماع كان متقوّماً عندهم بالرجال - هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أنّ الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأنّ بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبنّي والإلحاق بينهم، فإنّ البيت الذي ليس لربّه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب، والنسل مكتوباً عليه الفناء والانقراض، فاضطرّ هؤلاء إلى اتّخاذ أبناء؛ صوناً عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناءً لأنفسهم، فكانوا أبناء رسماً، يرثون ويورثون ويرتّب عليهم آثار الأبناء الصُلبيين، وكان الرجل منهم إذا زعم أنّه عاقر لا يولَد منه

١٠١

ولد، عمد إلى بعض أقاربه، كأخيه وابن أخيه، فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولداً يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته.

وكان الأمر في التزويج والتطليق في اليونان قريباً منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدُّد الزوجات، غير أنّ الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية، والباقية غير رسمية.

- 4 -

حال المرأة عن العرب ومُحيط حياتهم (محيط نزول القرآن)

وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة، وهي منطقة حارّة جدبة الأرض، والمعظم من أُمّتهم قبائل بدوية، بعيدة عن الحضارة والمدنية، يعيشون بشنّ الغارات، وهم متّصلون بإيران من جانب، وبالروم من جانب، وببلاد الحبشة والسودان من آخر.

ولذلك؛ كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحّش، وربّما وجِد خلالها شيء من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحياناً.

كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالاً في الحياة، ولا حرمة ولا شرافة، إلاّ حرمة البيت وشرافته، وكانت لا تورّث النساء، وكانت تجوِّز تعدُّد الزوجات من غير تحديد بعدد معيّن كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات ابتداء بذلك بنو تميم؛ لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أُسرت فيه عدّة من بناتهم، والقصّة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثمّ سرت السجية في غيرهم، وكانت العرب تتشاءم إذا ولِدت للرجل منهم بنت يعدُّها عاراً لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به، لكن يسرُّه الابن مهما كثر ولو بالدعاء والإلحاق، حتى إنّهم كانوا يتبنُّون الولد لزنا مُحصنة ارتكبوه، وربّما نازع رجال من صناديدهم وأُولي الطول منهم في ولد ادّعاه كل لنفسه.

١٠٢

وربّما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في أمر الازدواج، فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها، فيُشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.

وكيف كان، فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركّبة من معاملة أهل المدنية من الروم وإيران، كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الأمور العامة الاجتماعية، كالحكم والحرب وأمر الازدواج إلاّ استثناءً، ومن معاملة أهل التوحّش والبربرية، فلم يكن حرمانهنّ مستنداً إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القويّ واستخدامه للضعيف.

وأمّا العبادة، فكانوا يعبدون جميعاً (رجالاً ونساءً) أصناماً، يُشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين، أصحاب الكواكب وأرباب الأنواع، وتتميّز أصنامهم بحسب تميّز القبائل وأهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه بزعمهم) ، ويتّخذونها على صور صوّرتها لهم أوهامهم، ومن أشياء مختلفة، كالحجارة والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نُقل عن بني حنيفة، أنّهم اتّخذوا لهم صنماً من الحيس فعبدوه دهراً طويلاً، ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقيل فيهم:

أكلت حنيفة ربَّها

زمن التقحُّم والمجاعة

لم يحذروا من ربِّهم

سوء العواقب والتباعة

وربّما عبدوا حجراً، حتى إذا وجدوا حجراً أحسن منه، طرحوا الأول وأخذوا بالثاني، وإذا لم يجدوا شيئاً جمعوا حفنة من تراب، ثم جاؤوا بغنم فحلبوه عليها، ثمّ طافوا بها يعبدونها.

وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفاً في الفكرة، يُصوّر لها أوهاماً وخرافات عجيبة، في الحوادث والوقائع المختلفة، ضبطتها

١٠٣

كُتب السير والتاريخ.

فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني، من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التامّ، ويستنتج من جميع ذلك:

أولاً: إنّهم كانوا يرونها إنساناً في أُفق الحيوان العُجَم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطّاً، لا يؤمَن شرُّه وفساده لو أُطلق من قيد التبعية، واكتسب الحرّية في حياته، والنظر الأول أنسب لسيرة الأُمم الوحشية والثاني لغيرهم.

وثانياً: إنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركّب غير داخلة فيه، وإنّما هي من شرائطه التي لا غناء عنها، كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنّها كالأسير المسترقِّ الذي هي من توابع المجتمع الغالب، يُنتفع من عمله ولا يؤمَن كيده على اختلاف المسلكين.

وثالثاً: إنّهم كانوا يرون حرمانها من عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها، إلاّ بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيِّمين بأمرها.

ورابعاً: إنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا، هو غلبة القويّ على الضعيف، وبعبارة أُخرى: قريحة الاستخدام، هذا في الأُمم غير المتمدّنة.

وأمّا الأُمم المتمدّنة فيُضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخِلقة، لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمَن شرُّها، وربّما اختلف الأمر اختلاطاً باختلاف الأُمم والأجيال.

١٠٤

- 5 -

ماذا أبدعه الإسلام في أمرها؟

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان، حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها، وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المُترادفة، بعدما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط، بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أُمّة من الأُمم - وحشيها ومدنيها - إلاّ وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع، من الاستعارة والكناية والتشبيه، مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجَبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويُلام بها المخذول المُستهان والمُستذلِّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليتَ أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئات وألوف من النَّظم والنثر في كل لغة.

وهذا - في نفسه - كافٍ في أن يحصل للباحث ما كان يعتقده المجتمع الإنساني في أمر المرأة، وإن لم يكن هناك ما جمعته كُتب السير والتواريخ من مذاهب الأُمم والمِلل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها ويهمّ بأمرها، إلاّ بعض ما ورد في التوراة، وما وصّى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

وأمّا الإسلام - أعني الدين الحنيف النازل به القرآن - فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بُنية فطرية، عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت

١٠٥

تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً، وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيَّن أنّ المرأة كالرجل إنسان، وأنّ كل إنسان ذكر أو أُنثى، فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر وأُنثى، ولا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى.

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... ) (1) .

فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلّفاً من إنسانين، ذكر وأُنثى، هما معاً، وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو - سواء كان ذكراً أم أنثى - مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما أمّهات الناس أوعية

.....................................

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعد

بل جعل تعالى كُلاّ ًمخلوقاً مؤلّفاً من كل، فعاد الكل أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى: ( ... أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (2) .

فصرَّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مُضيَّع عند الله، وعلّل ذلك بقوله: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) ، فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: ( ... إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى... ) ، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد

____________________

(1) سورة الحجرات، الآية: 13.

(2) سورة آل عمران، الآية: 195.

١٠٦

من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بَيّن بذلك أنّ عمل كل واحدٍ من هذين الصنفين غير مُضيّع عند الله، لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنَّ عليهن سيِّئاتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ. وسيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلٍّ منهما ما عمل ولا كرامة إلاّ بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخُلق الحسن، والصبر والحِلم، فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خُلقاً أكرم ذاتاً، وأسمى درجة ممَّن لا يُعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان مَن كان، فلا كرامة إلاّ للتقوى والفضيلة.

وفي معنى الآية السابقة، وأوضح منها قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (1) .

وقوله تعالى: ( ... وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (3) .

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله، وهو من أبلغ

____________________

(1) سورة النحل، الآية: 97.

(2) سورة المؤمن، الآية: 40.

(3) سورة النساء، الآية: 124.

١٠٧

الذمّ: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) (1) .

ولم يكن تواريهم إلاّ لعدهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات / وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه، حيث قال: ( وَإِذَا المًوءودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (2) . وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدُّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت، دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

____________________

(1) سورة النحل، الآيتان: 58 - 59.

(2) سورة التكوير، الآيتان: 8 - 9.

١٠٨

الوزن الاجتماعي للمرأة في الإسلام:

فالإسلام ساوى بينها وبين الرجل، من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل، فإنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البُنية الإنسانية، في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (1) ، فلها أن تستقلّ بالإرادة، ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما، كما للرجل ذلك، من غير فرق ( ... لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... ) ، فهما سواء فيما يراه الإسلام ويُحقّه القرآن، والله يُحق الحق بكلماته، غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصُّنع الإلهي.

إحداهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوُّن النوع ونمائه، فعليها يعتمد النوع من بقائه، فتختصُّ من الأحكام بمثل ما يختصُّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.

والثانية: أنّ وجودها مبنيٌّ على لطافة البُنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها الوظائف الاجتماعية المحولّة إليها.

فهذا وزنها

____________________

(1) سورة آل عمران، الآية: 195.

١٠٩

الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما، وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى: ( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (1) .

يريد أنّ الأعمال التي يُهديها كلٌّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وإنّ من هذا الفضل ما تعيَّن لحوقه بالبعض دون البعض، كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه مُتمنٍّ، ومنه ما لم يتعيّن إلاّ بعمل العامل، كائناً مَن كان، كفضل الله يؤتيه مَن يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ... ) على ما سيجيء بيانه.

مُساواة في الأحكام:

وأمّا الأحكام المشتركة والمختصّة، فهي تُشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الاجتماعية، فلها أن تستقلّ فيما يستقلُّ به الرجل، من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة، ولا تعليم وتعلُّم، ولا اقتناء حق، ولا دفاع عن حق وغير ذلك، إلاّ في موارد يقتضي طباعها ذلك.

وعمدة هذه الموارد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة، لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها الحجاب وستر

____________________

(1) سورة النساء، الآية: 32.

١١٠

مواضع الزينة، وعليها أن تُطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتُّع منها، وتُدرِك ما فاتها بأنَّ نفقتها في الحياة على الرجل - الأب أو الزوج - وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حق تربية الولد وحضانته.

وقد سهَّل الله لها أنّها محميّة النفس والعرض حتى عن سوء الذِّكْر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحول.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلاّ العلم بأُصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل، فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة الفردية - بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت - وكذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العام، كتعلُّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها، فلا يجب عليها شيء من ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد، من علم أو كسب، أو شغل أو تربية، ونحو ذلك، كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام، بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبوية تؤيّد ما ذكرناه، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام، لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مع زوجته خديجة، ومع بنته سيد النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومع نسائه، ومع نساء قومه وما وصّى به في أمر النساء، والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم، كزينب بنت علي، وفاطمة وسكينة بنتي الحسين، وغيرهن على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء، ولعلَّنا نُوفَّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية

١١١

المتعلِّقة بآيات النساء، وإنَّما الأساس الذي بُنيت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد عُلِم من الكلام في وزنها الاجتماعي، كيفية هذا البناء، ونزيده هاهنا إيضاحات، فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتَّصل بها من المباحث العلمية، أنَّ الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرِّعة عليها، يجب انتهائها - بالآخرة - إلى الطبيعة، فخصوصية البُنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي، الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يُخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يُخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخِلقة، أو عن صحّته الطبيعية إلى القسم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤونه وجهاته - سواء كان اجتماعاً فاضلاً أم اجتماعاً فاسداً - ينتهي في النهاية إلى الطبيعة، وإن اختلف القسمان، من حيث إنّ المجتمع الفاسد يُصادف في طريق الانتهاء ما يُفسده في آثاره، بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها - تصريحاً أو تلويحاً - الباحثون من هذه المباحث، وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي، فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى: ( ... الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1) .

وقال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (2).

وقال تعالى: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا

____________________

(1) سورة طه، الآية: 50.

(2) سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3.

١١٢

وَتَقْوَاهَا ) (1) .

إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء - ومن جملتها الإنسان - إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خُلقت له، وجُهِّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيِّمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً، وهذا هو الذي يُشير إليه قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... ) (2) .

والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يُساوي بينهم في الحقوق والوظائف، من غير أن يُحبا بعض ويُضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية، التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبي - مثلاً - على صباوته والسفيه على سفاهته، ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر في الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لما لهما معاً.

بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي، ويُفسّر به معنى التسوية، أن يُعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه ويُنزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كل ذي حقٍّ خصوص حقَّه، من غير أن يُزاحم حقٌّ حقَّاً، أو يُهمَل أو يُبطَل حقٌّ بغياً أو تحكُّماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يُشير إليه قوله تعالى: ( ... وَلَهُنَّ

____________________

(1) سورة الشمس، الآيتان: 7 - 8.

(2) سورة الروم، الآية: 30.

١١٣

مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ... ) (الآية)، كما مرَّ بيانه، فأنّ الآية تُصرِّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.

ثمَّ إنّ اشتراك القبيلين، أعني الرجال والنساء، في أصول المواهب الوجودية - أعني الفكر والإرادة المولِّدتين للاختيار - يستدعي اشتراكها مع الرجل، في حرِّية الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرُّف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية، عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرِّية على أتمِّ الوجوه، كما سمعت فيما تقدّم، فصارت - بنعمة الله سبحانه - مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها، وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: ( ... فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ... ) (1) .

لكنَّها - مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها - تختلف مع الرجال من جهة أُخرى، فإنّ المتوسِّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال، في الخصوصيات الكمالية من بُنيتها، كالدماغ والقلب، والشرايين والأعصاب، والقامة والوزن - على ما شرحه فَنُّ وظائف الأعضاء - واستوجب ذلك أنَّ جسمها ألطف وأنعم، كما أنَّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة، كالحبِّ ورقَّة القلب والميل إلى الجمال والزينة، أغلب عليها من الرجل، كما أنّ التعقُّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية، كما أنّ حياة الرجل حياة تعقُّلية.

ولذلك؛ فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية، التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين: أعني التعقُّل، العواطف (الإحساسات)

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 234.

١١٤

فخصَّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال؛ لاحتياجها المُبرم إلى التعقُّل، والحياة التعقلية إنَّما هي للرجل دون المرأة، وخصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وعوّض ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين، ثمَّ تُعطي المرأة ثُلث سهمها للرجل، في مقابل نفقتها، أي للانتفاع بنصف ما في يده، فيرجع بالحقيقة إلى أنَّ ثُلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثُلثيها للنساء انتفاعاً، فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقُّلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء؛ لغلبة إحساسهن، وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة، مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذُكِر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب تعطُّلها عن العمل، فإن ارتفعت الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل، يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمُّل مشاقِّ الأعمال والأشغال، فتنمو على ذلك نماءً رديّاً، وتنبت نباتاً سيِّئاً غير صالح لتكامل المجتمع، وقد أيَّدت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرٌ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تُنبت الإنسان نباتاً حسناً أمرٌ آخر. والذي أُصيب به الإسلام في مدَّة سيرها الماضي، هو فقد الأولياء الصالحين، والقوَّام المجاهدين، فارتدَّت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقَّفت التربية ثمَّ رجعت القهقري.

ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يُثمر أثره، ما لم يُثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحَين، والمسلمون - في غير بُرهة يسيرة - لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيِّمين بأمورهم تربية صالحة، يجتمع فيها العلم والعمل.

فهذا معاوية، يقول على

١١٥

منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنِّي ما كنت أُقاتلكم لتُصلُّوا أو تصوموا، فذلك إليكم، وإنَّما كنت أقاتلكم لأتأمَّر عليكم، وقد فعلت.

وهذا غيره من الأُمويّين والعباسيين فمَن دونهم، ولولا استغاثة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ، والله مُتمُّ نوره ولو كره الكافرون، لقضي عليه منذ عهد قديم.

حرّية المرأة في المدنية الغربية:

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدُّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسر، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ أُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنَّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثِّرة أتمَّ التأثير في سلسلة السير الاجتماعية، وهي متوسّطة مُتخلِّلة، ومن المُحال أن يتَّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة؛ فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة، بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين، مع ما في المرأة من التأخُّر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت (إجماله).

والرأي العام عندهم تقريباً: أنّ تأخُّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية، التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا، مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوُّنه قضى على تأخُّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه، ولو في بعض الأحيان، ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

١١٦

ويؤيِّد ذلك أنّ المدنية الغربية - مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال - تُقدِّم الرجال وتؤخُّر النساء، وأمّا ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل المجتمع الحاضر، فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إن شاء الله تعالى.

قوانين الإسلام الاجتماعية وقوانين العرب:

عمل النكاح في أصول الأعمال الاجتماعية، والبشر منذ أول تكوُّنه وتكثُّره حتى اليوم لم يخلُ عن هذا العمل الاجتماعي، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعي ترجع إليه، ابتداءً أو أنتهاءً.

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والإناث؛ إذ من البيِّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والإناث - لم يوضع هباءً باطلاً، ومن البيِّن - عند كلِّ مَن أجاد التأمُّل - أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريدُّ إلاّ الإناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلاّ إنتاج المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة، وجميع الأحكام المتعلِّقة به تدور مدارها؛ ولذلك وضِع التشريع على ذلك - أي على البُضع - ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة، واختصاص الزوجة بالزوج، وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الأُخر الحاضرة، فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوعُ اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك؛ ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة

١١٧

متعرّضة لشيء ممّا تعرّض له الإسلام، من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية - على ما سنُبيّن إن شاء الله العزيز - لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان، من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي، هو أنّ بُنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتّى، لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً، إلاَّ بالاجتماع والتعاون، فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصة المتعلِّق كل واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال، متفرِّقة في الأفراد، يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنَّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيَّا ما كانا، وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة، فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء الازدواج على أساس التعاون الحيوي، انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد، إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا - أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة - كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج في الأحكام الاجتماعية بشيء أصلاً، إلاّ الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً، وإبطال أحكام الأنساب والمواريث - كما التزمه الشيوعية - وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية، التي جُهِّز بها الذكور والإناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلٍّ يُناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح.

وأمّا الطلاق، فهو من مخافر هذه الشريعة الإسلامية، وقد وضع جوازه على الفطرة؛ إذ لا دليل من الفطرة يدلُّ

١١٨

على المنع عنه، وإمّا خصوصيات القيود المأخوذة من تشريعه، فسيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وقد اضطرّت المِلل المُعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

١١٩

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629