أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 88016
تحميل: 8523

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88016 / تحميل: 8523
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولا حقّه المسلوب استنفره، ولكن تبدّل الحال بالكلّية:« فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت » . فلا مناص إذاً من الخروج.

ولو أنّ الناس حفظوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوضعوا أهل البيتعليهم‌السلام موضعهم، ولو أنّهم أفاقوا قبلاً ممّا غمّ عليهم، فتداركوا الأمر قبل استفحاله، ولمْ يفرطوا في أداء الواجب نحو أنفسهم بالأساس، ما انتهى بهم الحال إلى الظلم الواقع بهم.

يؤكّد الحُسينعليه‌السلام ذلك، محاولاً تنبيه جيش يزيد بقيادة الحرّ بن يزيد لعلهم يفيقوا عندما صلّى بهم، فيقول(١) :« فإنّكم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله، يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان » .

وفي موضع آخر يخطبهم بالبيضة، فيقول(٢) :« ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر، قد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحُسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة » .

ويُعيد الحُسينعليه‌السلام بيان سبب خروجه في خطبته بذي حسم، فيقول:« ألاَ ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه؟!

ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فأنا لا أرى الموت إلاّ شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً » .

* * *

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٤٠٢.

(٢) المرجع السابق : ٤٠٣.

٢٨١

بمثل هذا التحديد والوضوح كانت دواعي الحُسينعليه‌السلام للخروج، ولكن نحن يَعنينا كذلك الوقوف على مدى استيعاب الخارجين معه لقضيّتهم، وتبيين أبعاد التغيير الذي يرومون، من أجل ذلك تعالَوا نستعرض بعض نصوص خطابهم.

هذا كتاب أهل الكوفة إلى الحُسينعليه‌السلام عقيب هلاك معاوية، يأتي موجّهاً من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر(١) :

سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام.

فاقبل لعّل الله أنْ يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إنْ شاء الله، والسّلام ورحمة الله عليك.

ثمّ اقرأ تلك المحاورة(٢) بين مسلم بن عقيل رسول الحُسينعليه‌السلام إلى الكوفة، وبين عبيد الله بن زياد والي الكوفة من قبل يزيد، وذلك بعد أسر مُسلم في قصر الإمارة:

ابن زياد: إيه يابن عقيل!

أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض.

____________________

(١) المرجع السابق : ٣٥٢.

(٢) المرجع السابق : ٣٧٧.

٢٨٢

ابن عقيل: كلاّ، لستُ أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق! أوَ لمْ نعمل بذاك فيهم، إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟!

ا بن عقيل: أنا أشرب الخمر! والله، إنّ الله ليعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلت بغير علم، وأنّي لست كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس التي حرّم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لمْ يصنع شيئاً.

ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تُمنّيك ما حال الله دونه ولمْ يَرك أهله.

ابن عقيل: فمَن أهله يابن زياد؟

ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد.

ابن عقيل: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم!

ابن زياد: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً.

ابن عقيل: والله ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين.

ابن زياد: قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلةً لمْ يقتلها أحد في الإسلام.

ابن عقيل: أمَا إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن فيه، أمَا إنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك.

* * *

٢٨٣

وبمثل يقين مسلم يتحدّث زهير بن القين أحد أصحاب الحُسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، حينما زحف جيش يزيد على الحُسينعليه‌السلام ، فيقول زهير(١) : يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذا الله نذار!

إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة وعلى دين واحد وملّة واحدة، ما لمْ يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة. إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّيّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تُدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.

هل كان الخروج على يزيد تحديداً؟:

من الأمور المُثيرة للدهشة أنّك عندما تُطالع ما يتعلّق بخروج الحُسينعليه‌السلام في كتب التاريخ والمقاتل، تجد أنّ نقدهم ينصرف فقط إلى يزيد، فيسردون حكايات عن مجونه وانحرافه وأحدوثاته في الإسلام، واستحلاله الحرم المكّي، واستباحته لحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن كلّ ذلك أو معظمه - باستثناء ما عُرف عن مجونه وفسقه - قد حدث بعد خروج ومقتل الحُسينعليه‌السلام الذي خرج، ولمّا تمضِ أيّام على قبض يزيد على الملك.

____________________

(١) المرجع السابق : ٤٢٦.

٢٨٤

وإنا نحسب أنّ ذلك قد تمّ من جانب المؤرّخين الرسميّين عن عمد، لحصر المسألة حصراً في يزيد، وصرف النظر عن حقيقة الخروج الحُسينيعليه‌السلام ؛ لئلاّ يمتدّ إلى أبيه معاوية، وهو ما يُعبّر عنه بالقول الشائع: العن يزيد ولا تزيد. وربما شارك هؤلاء عن غير قصد مشايعو الحُسينعليه‌السلام ، ولكن عن عدم تمحيص.

إلاّ أنّنا نزعم أنّ الحُسينعليه‌السلام لمْ يخرج على حكم يزيد على وجه التحديد، ولكنّه خرج على نظام الحكم الاُمّوي الذي وضع أُسسه معاوية، ورسّخه بممارساته الفعليّة، وكذلك كان الخروج على العوامل التي مهّدت لقيام هذا النظام، وحجّتنا في ذلك ما يلي:

١ - أ - من استقراء نصوص خطب الحُسينعليه‌السلام في المواضع المختلفة منذ خروجه، تجد أقواله:« فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت ». « ألاَ إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله ». « ألاَ ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه؟! » .

وواضح أنّ كلّ تلك الأعمال لمْ يأتِ بها يزيد يوم اعتلائه العرش، ولكنّها تنسحب على فترة ماضية.

ب - في كتاب أهل الكوفة إلى الحُسينعليه‌السلام المذكور من قبل، تجدهم يحدّدون موقفهم بالخروج بناءً على ما خبّروه من معاوية ونظامه: الحمد لله الذي قسم عدوّك الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الاُمّة، فبُعداً له كما بعدت ثمود!

وهنا أيضاً لمْ يأتِ ذكر ليزيد، باعتباره امتداداً طبيعيّاًَ لنظام معاوية.

ج - وكذلك في المحاورة التي أوردناها توّاً بين مسلم بن عقيل وعبيد الله ابن زياد يتأكّد ذات المعنى، إذ يُعدّد مسلم الشنائع التي اُرتكبت:

٢٨٥

قتل خيار الناس.. سفك الدماء.. عمل كسرى وقيصر.. قتل النفس المحرّمة بغير سبب ....

ومن الجلي أنّ ذلك كلّه كان من فعل معاوية وعمّاله، ومن بينهم زياد بن أبيه أبو عبيد الله.

د - في خطاب زهير بن القين يوم عاشوراء يحذّر ممّا عاينوه من قبل: سمل الأعين.. تقطيع الأيدي والأرجل التمثيل قتل القرّاء والأماثل، مثل: حجر بن عدي ....

وكل ذلك كان على عهد معاوية، وعلى يديه ويدي عامله زياد.

٢ - كان الحُسينعليه‌السلام منذ البداية على رأي أبيه عليّعليه‌السلام ، وشهد معه حروبه كلّها في الجمل وصفّين، وبعد مقتل عليّعليه‌السلام كان رأيه الاستمرار في قتال معاوية وجيشه، إلاّ أنّه نزل على رأي الحسنعليه‌السلام لمّا وجد إصراره على ذلك(١) .

٣ - عندما جاء كتاب يزيد إلى عامله على المدينة، الوليد بن عتبة يخبره بموت معاوية، ويدعوه لأخذ البيعة له، بعث الوليد إلى الحُسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير وكانا بالمسجد، فسأل ابن الزبير الحُسينعليه‌السلام عن ظنّه فيما بعث إليهما، فقال الحُسينعليه‌السلام (٢) :« أرى طاغيتهم قد هلك » . وهكذا فإنّ الحُسينعليه‌السلام ظلّ على يقينه بطغيان معاوية حتّى هلاكه.

٤ - امتنع الحُسينعليه‌السلام عن مبايعة يزيد بولاية العهد في حياة معاوية؛ اعتراضاً على نظام معاوية كلّه، ومنه ابتداعه لولاية العهد وراثة.

وقد كان مبدأ الأمر أنّ المغيرة بن شعبة كان والياً على الكوفة، فنما إليه أنّ معاوية ينوي أنْ يستعفيه، ولمّا كان المغيرة على علم بدخائل معاوية، فقد بادر

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ١٥٣.

(٢) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٣٣٩.

٢٨٦

بخبثه المعهود إلى محادثة يزيد، أنْ يُؤيّد بيعته كوليٍّ لعهد معاوية، فسارع يزيد إلى أبيه بهذا الخبر، فما كان من معاوية إلاّ أنْ أجابه بإقراره على ولاية الكوفة، وقال المغيرة في ذلك(١) : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

يقول حسن البصري(٣) ، أفسد أمر الاُمّة اثنان: عمرو بن العاص، يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحُملت، ونال من القرّاء فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة، فإنّه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولاً، فأبطأ عنه، فلمّا ورد عليه، قال: ما أبطأك؟ قال أمر كنت أوطئّه وأهيّئه. قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك. قال: أوَ قد فعلت؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى عملك.

فلمّا خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرز غيّ، لا يزال فيه إلى يوم القيامة.

ومن المشكوك فيه أن تكون تلك مبادرة خالصة من المغيرة، فلمْ تكن تلك لتغيب عن تدبير أصلي من معاوية الذي شرى الدين بالملك، فلا يسلّمه لغير يزيد مهما يكن السبب، وغاية الأمر أنّ المغيرة يسلك سلوكه المعتاد، شأنه في ذلك شأن كلّ انتهازي على مرّ العصور أمام المستبد المطلق، وكلّ طرف يعلم بدقّة حقيقة الآخر، والطرفان يتغافلان ما دام يُحقّّق ذلك لهما المصلحة.

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل، مرجع سابق ٣ : ٣٥٠.

(٢) ممّا لا يستقيم ولا يُمكن تبريره في إطلاق صفة التعديل على الصحابة، وتصحيح روايتهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما بعضهم يسهم في إفساد حال الاُمّة على نحو ما فعل المغيرة وعمرو - بشهادة الحسن البصري -، وفي الوقت ذاته عدم الأخذ برواية راوٍ للحديث، أنْ عُلم عنه أنّّه كان يأكل في الطريق على أنّها من خوارم المروءة.

(٣) السيوطي، تاريخ الخلفاء، مرجع سابق : ٢٠٥.

٢٨٧

على أيّة حال، دبّر معاوية إخراج المهزلة بالاشتراك مع الضحّاك بن قيس الفهري رئيس شرطته، لمّا جمع الوفود عنده ليستخرج منهم بيعة يزيد، وكان الاتّفاق على أنْ يُبادر الضحّاك بترشيح يزيد في حضرة الوفود، ثمّ يقدم أتباعه الحضور للبيعة. فما هي إلاّ أنْ تسابقت الوفود في تزلف معاوية ونفاقه حتّى قام يزيد بن المقنع العذري، فحسم الأمر بلا ضياع وقت ولا مواربة، بقوله الشهير(١) : هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية، فإنْ هلك فهذا وأشار إلى يزيد، ومَن أبى فهذا وأشار إلى سيفه.

فقال معاوية: اجلس، فأنت سيّد الخطباء(٢) .

وجاء دور مروان بن الحكم والي المدينة من قبل معاوية، ليأخذ البيعة ليزيد من رؤوسها، فخطب فيهم محتجّاً بأنّ ولاية العهد سنّة أبي بكر وعمر، فردّ عليه عبد الرحمن بن أبي بكر، بأنّها سنّة هرقل وكسرى، فتشاتما، فعيّره عبد الرحمن بأنّه الملعون في صلب أبيه، لمّا كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن أباه الحكم بن العاص.

ثمّ ذهب معاوية إلى المدينة ليأخذ البيعة بنفسه لابنه، فامتنع عليه الحُسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأقام عليهم بالمسجد حرساً بأيديهم السيوف، وزعم كذباً أنّهم بايعوا.

____________________

(١) الكامل، مرجع سابق ٣ : ٣٥٢.

(٢) يتهافت العلمانيّون لإثبات وجهة نظرهم بمثل هذه الأحداث، وهذا ما فعله أحدهم: فرج فودة، قبل السقوط : ١١٥ - القاهرة - لا يُذكر الناشر : ١٩٨٥ م. وهو يذكر تحديداً هذه الحادثة. ومن المفارقات أنّ بعض الفقهاء يدعمونه من حيث لا يدرون، لمّا كانوا يصرّون على نعت معاوية بأنّه صحابي عدل ويروون عنه الحديث، وعادةً ما يسبق ذكر اسمه ( سيّدنا ). وقد كان الأولى إعلان البراءة منه، ومن ممارساته البعيدة كلّيةً عن الإسلام.

٢٨٨

ولم يكن أمر يزيد خافياً على أحد في فسقه وبعده عن الدين، سواء قبل ولايته أو بعدها. يذكر ابن كثير(١) أنّه: كان قد اُشتهر: بالمعازف وشرب الخمر، والغنا والصيد، واتّخاذ الغلمان والقيان، والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلاّ يصبح فيه مخموراً.

وكان يشدّ القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويُلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه. وقِيل: إنّ سبب موته أنّه حمل قردةً، وجعل ينقزها فعضّته.

ومع ذلك فإنّك تجد مَن يُبرئ - كابن تيمية وغيره - معاوية من هذه أيضاً، بل ربما جعلها في ميزان حسناته أنْ اجتهد للاُمّة، فله أجره لاجتماع كلمتها، وربّ مبرّر الشرّ شرّ من فاعله، أنّهم يعلمون أنّ اجتماع الكلمة ليس غرضاً بحدّ ذاته، ولكنّه لاجتماعه على الحقّ لا على الباطل.

وقد لعن الكثيرون يزيد، مثل السيوطي الذي قال في قاتل الحُسينعليه‌السلام (٢) : لعن الله قاتله وابن زياد معه، ويزيد أيضاً.

ومن المحدثين الشيخ رشيد رضا الذي قال(٣) : أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوّة والرشوة. ثمّ يعلّق على ما قاله الحسن البصري بشأن إفساد المغيرة وعمرو أمر الاُمّة، بقوله: وهذا الذي قاله الحسن البصري من أئمّة التابعين، موافق لمَا قاله ذلك السياسي الألماني الذي قال لأحد أشراف الحجاز من أنّه: لو لا معاوية لظلّت حكومة الإسلام على أصلها، ولساد الإسلام أوروبّا كلّها.

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ٢٣٩.

(٢) تاريخ الخلفاء، مرجع سابق : ٢٠٧.

(٣) الخلافة، مرجع سابق : ٥٢.

٢٨٩

كما تناول أبو الأعلى المودودي هذه المسألة، وأوضح كيف كان تهالك معاوية على الملك لنفسه وبنيه ذا آثار مدمّرة للاُمّة، فيقول(١) : ...؛ لأنّ معاوية كان يُريد أنْ يصبح خليفةً بأيّ حالٍ من الأحوال، ولذلك قاتل إلى أنْ اعتلى الخلافة، كما أنّ خلافته لمْ تكن عن رضاً من المسلمين، ولمْ يختره الناس اختياراً حرّاً، إنّما تأمّر عليهم بقوّته وسيفه.

هكذا كانت بداية التحوّل، ثمّ استحكم وتعمّقت جذوره بعد ولاية عهد يزيد لدرجة أنّه لمْ يتزلزل يوماً واحداً من وقتها، وإلى إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة في القرن الحالي، فانشقّ بذلك طريق دائم للبيعة الجبريّة وملك العائلات العضوض.

وبدلاً من أنْ تكون القوّة أساسها البيعة، صارت البيعة أساسها القوّة، وأضحى المسلمون غير أحرار في أنْ يُبايعوا أو يمتنعوا عن البيعة.

إنّ ما بدأ في عهد معاوية من تفضيل السياسة على الدين ورفعها فوقه، والإطاحة بحدود الشريعة من أجل الأغراض السياسيّة، أثمر أعفن الثمار في عهد خليفته الذي اختاره نفسه.

* * *

هذه الأسباب المجتمعة تقودنا إلى القول: إنّ خروج الحُسينعليه‌السلام كان على النظام الاُموي ومؤسّسه معاوية وامتداده يزيد، ولا يختزل الخروج في كونه فقط على يزيد.

____________________

(١) الخلافة والملك، تعريب أحمد إدريس ١٠٠، وما بعدها - الكويت - دار القلم : ١٩٧٨ م.

٢٩٠

شرعيّة الخروج على الحاكم الظالم

ربما كانت هذه المسألة منطوية على كثير من التعقيد، بحيث أشكلت على المسلمين - ولا تزال - منذ عرفوا نظام الدولة؛ وربما كان السبب الرئيس في تعقيدها، وجود نصوص تحتمل اختلاف الفهم بذاتها فضلاً عن تعارضها مع نصوص اُخرى، في الوقت الذي يصعب فيه للغاية لأسباب عديدة وجود ضابط يقيني للفرز.

ونحن نحاول هنا استفراغ الجهد لفضّ الاشتباك الواقع، والذي نحسبه قد تمّ عمداً وبإصرار من جانب السلطة المهيمنة، بكامل قوّتها من أجهزة فقهيّة وإعلاميّة وقهريّة لتثبيت أركانها، وسدّ جميع الطرق في وجه أيّ ناقد لها، ومن هنا أصبحت عمليّة التغيير الاجتماعي ضرباً من المستحيل، أنّها أصبحت مرادفة للحرام. وهكذا فإنّ المسلمين لمْ يؤتوا من شيء بمثل ما أوتوا من نظامهم السياسي.

والمشكل الذي نحن بصدده الآن يتحدّد على خليفة النظام الإسلامي - في صورته النقيّة كما تعرف من النصوص، لا كما صوّرتها أو خلّفتها في الذهنيّة العامّة، الممارساتُ السلطويّة الفعليّة - في التساؤل عن قابليّة النظام للنقد والتصحيح والمراجعة الذاتيّة، وآليات تحقيق ذلك، فإن تعطّلت تلك الآليّات، فكيف يُمكن تقييم النظام؟ ثمّ كيفيّة التعامل مع نتائج هذا التقييم؟

٢٩١

والواقع أنّنا درسنا من قبل الأنظمة الثلاثة: الجاهلي، والإسلامي، والاُموي. ودلّلنا على مطابقة محدّدات النظام الاُموي لتلك التي للنظام الجاهلي، ومفارقته لتلك التي للنظام الإسلامي(١) ، وهي ذات النتيجة التي توصّل إليها الكثيرون من قبل، ونستعيد آراء بعضهم للتذكر:

أحمد أمين: الحقّ إنّ الحكم الاُموي لمْ يُكن حكماً إسلاميّاً ...، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهليّة لا النزعة الإسلاميّة.

سيّد قطب: فلمّا جاء الاُمويّون، وصارت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً في بني اُميّة، لمْ يكن ذلك من وحي الإسلام، إنّما كان من وحي الجاهليّة الذي أطفأ إشراقة الروح الإسلامي.

ومن هنا فإنّ التعامل مع النظام الاُموي، يعني: اتّباع ذات طُرق مواجهة النظام الجاهلي، فيتوجّب تغييره بالقوّة بلا خلاف. ولكن هناك مَن ينزع عن النظام الاُموي صفة الجاهليّة باعتبارها مرادفة للكفر بأحكامه، ويصمه فقط بالجور نظراً للمشابهة الجزئيّة في بعض النواحي مع النظام الإسلامي، وتلك هي حالة الالتباس المشبّهة.

____________________

(١) ممّا تجدُر الإشارة إليه، أنّ أحد دعاة العلمانيّة المعاصرين استدلّ بنظام حكم معاوية على فساد نظام الحكم الإسلامي، ممّا اضطر أحد كبار علماء الدين بمصر، نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة إلى الردّ عليه بقوله: ومَن قال إنّ الحجاج بن يوسف أو معاوية، أو العبّاسيّين أو غيرهم ممّن ذكرت كانوا حكّاماً دينيين؟ أو حتّى حكّاماً بالإسلام؟

لقد كانوا حكّاماً لكن بغير الدين، أي: بغير الإسلام، بل لقد عدوا عليه واستمر عدوانهم منذ أشعل معاوية الفتنة الكبرى التي لمْ تخب نارها حتّى اليوم. وحسبك أنّ التاريخ لمْ ولنْ يغفر لهؤلاء جنايتهم على الإسلام. نص ردّ، د. عبد الصبور مرزوق على أحمد عبد المعطي حجازي في جريدة الأهرام بتاريخ ١٧ : ٤ : ١٩٩٦.

ولعلّك تلاحظ أنّ نظام حكم معاوية مصدر طعن دائم على النظام الإسلامي، كما سبق وذكرنا طعن د. فرج فودة.

٢٩٢

ولكن الإسلام حقيقة كلّية متكاملة، لا انفصام فيه بين عرى الاعتقاد والشعائر والشرائع، وإذا كان ذلك واجباً في حقّ الفرد فهو في حقّ النظام أوجب لمّا كان ينتظم حياة جماعات الناس كلّهم، وإنْ التقت بعض جزئيّات النظام مع مقرّرات الإسلام، فلا يعني ذلك كون النظام إسلاميّاً، وإنّما تصحّ هذه الصفة فقط عندما يتخلّل الإسلام النظام بكامله.

يقول سيّد قطب(١) : إنّ الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهليّة لا من ناحية التصوّر، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصوّر؛ فإمّا إسلام وإمّا جاهليّة.

وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهليّة يقبله الإسلام ويرضاه فنظرة الإسلام واضحة في أنّ الحقّ واحد لا يتعدّد، وأنّ ما عدا هذا الحقّ فهو الضلال، وهما غير قابلين للتلّبس والامتزاج، وأنّه؛ إمّا حكم الله، وإمّا حكم الجاهليّة، وإمّا شريعة الله، وإمّا الهوى.

فالنظام الاُموي بهذا المعيار نظام جاهلي وإنْ صلّى معاوية وإنْ صام، وإنْ جيّش الجيوش وبعث يزيد لغزو الروم باسم الفتح، في الوقت الذي يأتي بالموبقات - كما قال الحسن البصري - ويردّ أحكام الشريعة علانيّة - كما قال ابن الأثير - ويغيّر حكم النبيعليه‌السلام - كما قال السيوطي - ويكفّر الصالحين على أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر - كما فعل بحجر بن عدي وأصحابه - ويقتل على الظنّة ويأخذ بالشبهة، ويستحلّ أموال المسلمين ويمنع العطايا بالهوى، وكلّ ذلك بعدما خرج على حكم الإمام العادل في جريمة حرابة كاملة الأركان.

ولكن إذا افترضنا جدلاً أنّ النظام جائر وليس بكافر، فهل لا يجيز الإسلام حقّاً الخروج على حكم الجور؟

____________________

(١) معالم في الطريق : ١٦٤، ط ١٧ - القاهرة - دار الشروق : ١٩٩٣ م.

٢٩٣

يروي البخاري: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدّوا إليهم حقّهم وسلوا الله حقّكم.

ورُوي أيضاً عن ابن عبّاس، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: مَن كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنّه مَن خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً.

ورُوي عن عبادة بن الصامت قوله: دعانا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأنْ لا نُنازع الأمر أهله: إلاّ أنْ تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.

ويروي مسلم عن حذيفة، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركت ذلك؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تسمع وتطيع للأمير، وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع.

وروى مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أنّه عارض ثورة المدينة على يزيد في وقعة الحرّة، وقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: مَن خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتةً جاهليةً.

ويذكر ابن كثير(١) : والإمام إذا فسق لا يُعزل بمجرد فسقه على أصح قول العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لمَا في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام،

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ٢٢٦.

٢٩٤

ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهنّ، وغير ذلك ممّا كلّ واحدة فيه من الفساد أضعاف فسقه.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في التمهيد: قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام لفقسه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرّمة وتضييع الحقّوق وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله. واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإنْ جاروا واستأثروا بالأموال، وأنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد حبشي، وصلّوا وراء كلّ برّ وفاجر. وروي أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أطعهم وإنْ أكلوا مالك، وضربوا ظهرك.

وذكر الشوكاني(١) : وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه، وأنّ طاعته خير من الخروج عليه، لمَا في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولمْ يستثنوا من ذلك إلاّ إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمَن قدر عليها كما في الحديث.

ويلخّص أبو زهرة(٢) موقف أهل السنّة في الآتي:

١ - إذا خرج الحاكم عن شروط الولاية بأنْ كانت توليته بغير رضا المؤمنين، أو كان من غير قريش على رأي الجمهور، أو كانت المبايعة غير حرّة، أو خرج عن حدود العدالة، ففي هذه الحال قرّر جمهور الفقهاء أنّ ولايته لا تُعتبر خلافة

____________________

(١) نيل الأوطار، مرجع سابق ٧ : ١٧٥.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، مرجع سابق : ٩٣.

٢٩٥

نبويّة، ولكنّها تُعتبر ملكاً دنيويّاً، ولذا قالوا في ولاية يزيد بن معاوية: إنّها ولاية ملك، لا ولاية خلافة.

٢ - إذا كان هناك إمام قد استوفى شروط الولاية، فإنّ الطاعة له واجبة، ويُعتبر الذي تغلّب على الملك باغياً يجب قتله، أو حمله على الحقّ ومعاونة العادل عليه.

وإذا لمْ يكن هناك حاكم عدل سواه، فإنّ الطاعة واجبة لهذا الملك الذي لمْ يستوفِ شروط الخلافة.

ولقد قال الحسن البصري في وجوب طاعة ملوك بني اُميّة ما نصّه: هم يلون من أمورنا خمسةً: الجمعة والجماعة والفيء، والثغور والحدود، لا يستقيم الدين إلاّ بهم وإنْ جاروا وإنْ ظلموا، والله، لمَا يصلح الله بهم أكثر ممّا يفسدون.

وكان يقول أيضاً: هؤلاء الملوك وإنْ رقصت بهم الهماليك - الخيل والبغال المزينة تركب تفاخراً - ووطأ الناس أعقابهم، فإنّ ذلّ المعصية في قلوبهم، إلاّ أنّ الحقّ ألزمنا طاعتهم، ومنعنا من الخروج عليهم، وأمرنا أنْ نستدفع بالتوبة والدعاء مضرّتهم.

٣ - نُقل في شرح الموطأ: أنّ رأي الإمام مالك ورأي جمهور أهل السنّة أنّه إذا ظلم الإمام، فالطاعة أولى من الخروج.

وقال ابن عبد البرّ: أمّا أهل السنّة، فقالوا: الاختيار أنْ يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسناً، فإنْ لمْ يكن فاصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه، لمَا فيه من استبدال الخوف بالأمن، وإهراق الدماء وشنّ الغارات والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أنّ أقوى المكروهين أولى بالترك.

٢٩٦

وصرّح الإمام أحمد بوجوب الصبر عند الجور بقوله: الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور، ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإنْ جاروا.

ويقول ابن تيميّة بالطاعة في العدل وعدم الطاعة في الظلم.

٤ - كلمة الحقّ واجبة عند الحاكم الظالم لقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر ».

تحليل موقف أهل السنّة من حكام الجور:

إنّنا نبادر بالقول: إنّ المفهوم الشائع الموروث لدى أهل السنّة تجاه حكّام الجور - كما سلف بيانه - ينطوي على مفارقة حادّة لحقيقة هذا الدين، بمثل ما يحوي من تناقضات صارخة تجعل من العسير جدّاً على المرء المحايد فهم، كيف غابت تلك التناقضات على طارحي هذا المفهوم، إلاّ أن يكون ذلك نابعاً من محاولة أولى للخلط المتعمد من فقهاء وقفوا أنفسهم على سلاطين الجور، ثمّ تلاهم من اتّبعهم، إمّا لدأبهم على تقديس الماضي بغير تمحيص وبغير رغبة في بذل جهد، أو إمعان فكر، وإمّا لذات أسباب الأوّلين في مداهنة واسترضاء حكام الجور.

وإنّنا ندلّل على تلك المفارقة بما يلي:

أوّلاً: الحقيّة الإسلاميّة:

١ - التوحيد والعدل لحمة وسداة الكيان الإسلامي، ولا يفترقان، يقول الله تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ الناس بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (١) .

____________________

(١) سورة الحديد : ٢٥.

٢٩٧

وإذا تمعنّا في تفسير هذه الآية كما أورده المفسّرون، سنجد الآتي: أرسل الله الرسل مدعمين بالحجج والدلائل والمعجزات؛ ليؤمن الناس بكتب الله.

هذه الكتب تتضمّن المعايير والضوابط المطلقة الدقّة، الميزان لكلّ شيء في حياة الناس؛ هذه الكتب الإلهيّة لمْ ترسل إلاّ لكي يعمل الناس بمضامينها، ولكي يفعّلوها في حياتهم، ليقوم الناس بها على أساس من العدل الذي أتت به.

ولمْ تُرسل هذه الكتب لمجرد التبرك بها، أو التشرّف بها أو التزيّن بها أو قراءتها على القبور؛ وإنّما للتدبّر بها والعمل بمقتضاها، وتدبّر قوله تعالى:( لِيَقُومَ الناس بِالْقِسْطِ ) (١) .

ثمّ تدبّر قوله تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ تُقِيمُوا التّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبّكُم ) (٢) .

وقوله تعالى:( مَثَلُ الذينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل». وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ربّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوع، وربّ قائمٍ ليس له من قيامه إلاّ السهر» .

____________________

(١) سورة الحديد : ٢٥.

(٢) سورة المائدة : ٦٨.

(٣) سورة الجمعة : ٥.

٢٩٨

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« مَن لمْ يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه ». مَن لم يقمْ بالعدل كما بيّنه الله، فجهاده بالسيف واجب:( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) (١) . ويفسرها ابن كثير بقوله: أي وجعلنا الحديد رادعاً لمَن أبى الحقّ وعانده بعد قيام الحجّة عليه.

شرع الله الجهاد ليبلو الناس، من منهم ينصر دين الله ويقيمه:( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) (٢) ، وفهيا يقول ابن كثير: مَن نيّته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله.

إذاً الأساس الشرعي والعقلي، بل والبديهي من تنزيل الكتب وبعث الرسول، هو إقامة دين الله والتمكين له في الأرض، فإذا ما عُطّل في الواقع وصار مجرد عنوان يتمسّك به، فهذا هو الباطل بعينه.

٢ - الإمامة عهد الله لا ينالها ظالم:

يقول الله تعالى:

( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١) .

وأنت ترى كيف ربط الله عزّ وجلّ بين استحقاق إبراهيم للإمامة، وبين إتمامه للكلمات التي ابتلي بها، أي: تنفيذه للتكاليف من أوامر ونواهي وجميع ما شرّع له، كما يقول المفسرون:

فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يكون لي إمام ظالم. وفي رواية: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به.

____________________

(١) سورة الحديد : ٢٥.

(٢) نفس الآية.

(٢) سورة البقرة: ١٢٤.

٢٩٩

وقال مجاهد كذلك: أمّا من كان منهم صالحاً فأجعله إماماً يُقتدى به، وأمّا مَن كان ظالماً، فلا ولا نعمة عين.

وعن ابن عبّاس قوله: يخبره أنّه كائن في ذرّيّته ظالم لا ينال عهده، ولا ينبغي أنْ يولّيه شيئاً من أمره.

ويعلّق ابن كثير بقوله: فهذه أقوال مفسّري السلف في هذه الآية، وإنْ كانت ظاهرة في الخبر أنّه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالم، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليلعليه‌السلام أنّه سيوجد من ذرّيّتك مَن هو ظالم لنفسه، كما تقدّم عن مجاهد وغيره، والله أعلم.

وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أنْ يكون؛ خليفةً ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.

ويقول سيّد قطب(١) : الظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي.. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كلّ معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة وكلّ معنى من معاني الإمامة والقيادة. فالعدل بكلّ معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أيّة صورة من صورها، ومَن ظلم - أيّ لون من الظلم - فقد جرّد نفسه من حقّ الإمامة، وأسقط حقّه فيها بكلّ معنى من معانيها.

وهذا الذي قِيل لإبراهيمعليه‌السلام ، وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها، ولا غموض قاطع كذلك في تنحية مَن يسمّون أنفسهم المسلمين اليوم بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله.

____________________

(١) في ضلال القرآن.

٣٠٠