أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 88013
تحميل: 8523

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88013 / تحميل: 8523
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أوّل ما نلاحظ في سلسلة النسب السابقة أمران ذوا خطرٍ:

أوّلهما: أنّ العدنانيّة وُلد إبراهيم - في إحدى السلسلتين من عابر - كان فيهم كعبة العرب بمكّة، كما كان فيهم النبوّة والكتاب.

وثانيهما: أنّ اللخُميين من قحطان، وهوالذي سكن الجنوب، قد عرفنا منازلهم بالحيرة من تخوم فارس بالشمال.

فالأمر إذاً ليس كما أسلفنا في تبسيط عرب الجنوب والشمال، وإنّما لا بدّ أنّه أعمّ من ذلك وأكثر غوراً، خاصّة وقد علمنا من التاريخ أنّه كانت هناك إحنٌ وضغائن غلبت في الأعمّ على قبائل الشمال، وظهرت جلية واضحة في كلّ الأحداث التي تلت من بعد.

عرفنا ذلك في الجمل، وعرفناه في صفّين، كما عرفناه في حكومة الأشعري وابن العاص، فإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ إذاً من تعديل صيغة السؤال لتنحية القسمة الجغرافيّة واستبدالها بعلاقة الانتماء، أي: السؤال عن علّة الصراع بين مَن ينتمون لعرب الشمال، ومَن ينتمون لعرب الجنوب على اختلاف منازلهم.

إنّ إدراك هذا المطلب يتطلّب منّا البحث في أمرين:

أوّلهما: الاستمرار في تعقّب أنساق الأنساب حتّى استقرارها، وعدم الرضا بالوقوف عند حدّ قسمة العدنانيّة والقحطانيّة.

وثانيهما: الإيغال في معرفة منازل شعوب العرب، واضطراب قبائلها في الأقاليم وتوزّع بطونها في الأنحاء، أو ما يسمى: بالمورفولوجيا الاجتماعيّة.

ولعلّه ممّا يفيد معرفةً، أنّ العرب ترتب نفسها على ستِّ طبقات:

١ - شعوب: ومفردها شعب، مثل: ربيعة ومضر، والأوس والخزرج.

٢ - قبائل: وهي دون الشعب، مثل: بكر من ربيعة.

٣ -عمائر: ومفردها عمّارة وهي دون القبيلة، مثل: قريش من كنانة.

٢١

٤ - بطون: واحدها بطن، وهي دون العمّارة، مثل: قصي.

٥ - أفخاذ: واحدها فخذ، وهم دون البطن، مثل: هاشم.

٦ - فصائل: وهم عشيرة الرجل ورهطه الأدنون، مثل: بني العبّاس.

ونستعين في استخلاص شجرات الأنساب، ومعرفة منازل القوم بنتائج إحدى الدراسات الحديثة: ( أطلس تاريخ الإسلام )(١) .

____________________

(١) د. حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، عام : ١٩٨٧ م.

٢٢

٢٣

٢٤

ونحن إذا تفحّصنا سلاسل الأنساب وتتبّعنا حركات القبائل، نجد أنّ الحركة أخذت دائماً اتّجاهاً واحداً من الجنوب إلى الشمال، فبينما سكن ولد عدنان شبه الجزيرة من غير اليمن، فإنّ ولد قطحان سكنوا اليمن ثمّ غشوا ولد عدنان في شمالهم.

فهذان الشعبان الرئيسان: ربيعة ومضر من عدنان، تتوزّع أشهر قبائلهما في الشمال على النحو التالي:

أسد من ربيعة، ويسكنون وادي الرمة.

وائل من ربيعة، وتضم بكر وتغلب وبني حنيفة، باليمامة.

قيس عيلان من مضر، ومنها هوازن وسليم وغطفان (عبس وذبيان) وتسكن غربي نجد.

تميم وتسكن بادية البصرة.

هذيل وتسكن بقرب مكة.

كنانة، ومنها قريش، وتسكن جنوبي الحجاز.

وأما شعبا قحطان الكبيران، كهلام وحمير، فقد تفرقا على النحو التالي:

طئ وتسكن الجبلين أجا وسلمى، وهما المعروفان بجبل شمَر في الشمال.

همذان ومذحج، وهؤلاء ظلوا يسكنون اليمن، إلّا من كان منهم من بني الحارث الذين سكنوا جنوب الطائف.

عاملة وجذام، وكانوا يسكنون بادية الشام. وإلى جذام تنتسب لخم ومنهم ملوك الحيرة، وكندة بحضرموت ثم غلبت بني أسد باليمامة.

الأزد التي غلبت على عمان، ومنهم الغساسنة ملوك الشام، وخزاعة التي غلبت على مكة، والأوس والخزرج بيثرب.

وأما حمير فأشهر من انتسب إليها:

قضاعة، وكانت تسكن شمالي الحجاز.

٢٥

كلب، ببادية الشام.

جهينة، ونزلوا بوادي إضم بالحجاز.

هذه إذاً جملة أنساب العرب ومنازلهم في شبه جزيرتهم وما جاورها من تُخوم الروم والفرس.

فماذا تُخبرنا به علاقة ( النّسب - الجغرافيا ) هذه؟

يقول أحمد أمين(١) في معرض تعليقه على هذه العلاقة:

(  ... وبنَوا عليها عصبيّتهم، وانقسموا في كلّ مملكة حلّوها إلى فِرق وطوائف حسْبما اعتقدوا في نسبهم، وأصبحت هذه العصبيّة مفتاحاً نصل به إلى معرفة كثير من أنساب الحوادث التاريخيّة، وفهم كثير من الشعر والأدب، ولا سيّما الفخر والهجاء. والإسلام جاء، وكان قد تمّ اعتقاد العرب بأنّهم في أنسابهم يرجعون إلى أصول ثلاثة: ربيعة ومضر واليمن، وأخذ الشعراء يتهاجون ويتفاخرون طبقاً لهذه العقيدة، واستغلّها خلفاء بني اُميّة ومن بعدهم، فكانوا يضربون بعضاً ببعض ).

على أنّه لا ينبغي أنْ يفوتنا ذكر، أنّ تلك العصبيّة لمْ تكن مقصورة على النّسب الصريح وحده، وإنّما وجدت دونها عصبيّات من أنواع اُخر؛ فمنها ما كان من الموالاة رقّاً واصطناعاً، ومنها ما كان من المحالفة، ومنها ما كان من آثار نظام الزواج لديهم، ومنها ما كان من قدم العهد بالتبنّي.

ولعلّنا - بإشارتنا إلى هذه النُّظم - نكون قد استكملنا دراسة نسق القرابة الذي نتعهّده.

____________________

(١) أحمد أمين، فجر الإسلام ( القاهرة، مكتبة النّهضة المصريّة، عام ١٩٧٨ م، ط١٢) : ٨.

٢٦

فمن العصبيّة تحالفاً حلف المطيبين والأحلاف، إذ تنازع القيام بأمر الكعبة بنو عبد مناف وبنو عبد الدار وكلاهما من قصي، فاجتمع مع بني عبد مناف بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر بن مالك، وهؤلاء هم المطيّبون، واجتمع مع بني عبد الدار بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب، فهؤلاء هم الأحلاف، وثبت كلّ قوم مع من حالفوا حتّى جاء الإسلام(١)

ومن العصبيّة موالاة سالم مولى أبي حذيفة.

ومن العصبيّة استلحاقاً عنترة بن شدّاد بعبس.

وفي ذلك يقول ابن خلدون(٢) : إذا اصطنع أهل العصبيّة قوماً من غير نسبهم أو استرقّوا العبدان والموالي والتحموا بهم - كما قلنا - ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبيّة، ولبسوا جلدتها كأنّهم عُصبتهم.

ثمّ إنّهم كانوا يتبنّون، فيلحقوا نسب المتبنّى بمَن تبنّاه، وأشهر مثل لذلك زيد بن حارثة، إذ كانوا يدعونه زيد بن محمّد حتّى نزلت الآيات بتحريمه:( ادْعُوهُمْ لِأَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ ) (٣) .

وكذلك كان نظام الزواج عندهم يُمكن أنْ ينشأ عنه خلط في الأنساب، فيجوز للوليد أنْ يُنسب إلى أبٍ - تواضعت عادات القوم على تحديده - من غير أبيه الطبيعي(٤) . فقد كانت هناك حريّة في الاتصال الجنسي، ينشأ

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ١ : ٣٥٠، بيروت، دار الكتب العلميّة، عام ١٩٨٧ م.

(٢) ابن خلدون، مرجع سابق : ١١٤.

(٣) سورة الأحزاب : ٥.

(٤) وهو ما يُسمّى في الدراسات الاجتماعيّة الحديثة بـ ( الأب الاجتماعي )، تفرقة بينه وبين ( الأب البيولوجي ).

٢٧

عنها أنواع متعدّدة من العلاقات، وربما كان حديث عائشة زوج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجمع حديث عن ذلك النّظام، تقول عائشة(١) :

( النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَليَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرأَتِهِ إِذا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَداً حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذي تستَبْضِعُ مِنْهُ، فَإذا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصابَهَا زَوْجُهَا إذا أَحَبَّ، وَإِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذا النِّكَاحُ نِكاحَ الاسْتِبْضاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصيبُها، فإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيالٍ بَعْدَ أنْ تَضَع حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَها، تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يا فُلانُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لَا يَسْتَطيعُ أنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ، وَنِكَاحُ الرَّابع يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الَمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَها وَهُنَّ الْبَغايا كُنَّ يُنْصِبْنَ عَلَى أَبْوابِهِنَّ رَاياتٍ تَكُونُ عَلَماً فَمَنْ أَرادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذا حَمَلَتْ إحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوا لَهُم الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَها بِالَّذي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِليَّةِ كُلَّهُ إلّا نِكَاحَ النَّاس الْيَوْمَ ).

فالعصبيّة إذاً كان لها روافد كثيرة تغذّيها، بمثل ما كانت تحتفر لنفسها مجاري في صميم الحياة العربيّة.

____________________

(١) صحيح البخاري، باب النّكاح.

٢٨

والآن نظنّ أنّنا قد عرّجنا إلى موقع يُمكننا من إطلالة شاملة على مسرح الأحداث المقبلة - وأعني به البيئة العربيّة الأولى قُبيل الإسلام -، فاقبلوا ننظر معاً:

١ - أوّل ما نُلاحظه أنّ الأنساب - وخاصّة كلّما صعدت - محلّ شكّ غير قليل، إمّا لقدم العهد بها ممّا لا تستطيع معه ذاكرة النسّابين حفظه، وآية ذلك اختلاف النسّابين في سلاسلها، أو لأنّه لمْ تكن هناك شواهد ماديّة وآثار تحفظ لنا ذلك التاريخ مع قلّة الوثائق التي تناولته، فلمْ يتبقَّ إلاّ ما أُخذ من التوراة وأقوال اليهود، مع شذرات في الكتابات اليونانيّة والرومانيّة.

وقد احتجّ بعض السّلف بقول الله تعالى:( وَالذينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلّا اللّهُ ) (١) . بعدم علم النسّابين. فقد ذكر ابن إسحاق، أنّ عبد الله بن مسعود كان يقول في تفسير هذه الآية: كذب النّسابون(٢) . وكذلك ما أورده ابن خلدون(٣) في هذه المسألة من حديث ابن عبّاس، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بلغ نسبه إلى عدنان، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من ههنا كذب النّسابون » (٤) .

وسواء صدق النّسابون أو كذبوا فهذا ما اعتقده العرب، ونسبوا أنفسهم على أساسه وفيه كانت حميّتهم.

٢ - العدنانيّة من إسماعيل بن إبراهيم من سام بن نوح، وكذلك القحطانيّة من سام بن نوح، إلاّ أنّ العدنانيّة تميّزوا بالسّلف ذوي النبوّة والكتاب من دون القحطانيّة. وقد قال الله تعالى:

____________________

(١) سورة إبراهيم : ٩.

(٢) تفسير ابن كثير.

(٣) التاريخ، مرجع سابق ٢ : ٣.

(٤) ورد كذلك في تفسير القرطبي.

٢٩

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (١) .

وقال تعالى على لسان إبراهيم:( رَبّنَا إِنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ ) (٢) .

ثمّ إنّ البيت بمكّة، وهو مقدّس العرب الأوّل وحرمهم، ولا يزال - حتّى قبل البعثة - مبعث فخرهم وأعتزازهم، بل إنّ القيام بأمره كان مثار تنافسهم وتشاحنهم لمَا جعلوه أعلى مراتب شرفهم.

ولعلّ في قصّة إعادة بناء الكعبة الغناء في الدلالة على عظم البيت في نفوسهم، إذ تنازعوا وتداعوا للقتال، أيّهم يضع الحجر الأسود موضعه حتّى تراضوا بحكم مُحمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته بخمس سنين.

ثمّ هذا أبو طالب يقوم خطيباً في حفل خطبة خديجة لابن أخيه مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيُعدّد مناقب رهطه فيقول: ( الحمد لله الذي جعلنا من ذرّيّة إبراهيم وزرع إسماعيل، وضِئضئ معد وعنصر مضر، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا اُمناء بيته وسوّاس حرمه، وجعلنا الحكّام على النّاس )(٣) .

فإذا كانت هذه هي نظرة بعض قريش لنفسها، فلنا أنْ نتوّقع مدى إحفاظ نفوس غيرهم عليهم، خاصّة وقد علمنا من سير العرب أنّ الاختيال والفخر سمتان أساسيّتان لهم جميعاً.

وهكذا، فإنّه رُغم اتّحاد الأصل فإنّ الفروع قد تفرّقت، وجُعلت العصبيّة للفرع دون الفرع عندما تميّز أحد مستويات الأفرع بمزية خاصّة، وهذا يتّفق

____________________

(١) سورة الحديد : ٢٦.

(٢) سورة إبراهيم : ٣٧.

(٣) ابن خلدون، مرجع سابق : ٥.

٣٠

تماماً والدراسات الاجتماعيّة الحديثة التي أثبتت، أنّ انقسام البدنات في المجتمعات التقليديّة يحدث عند تميز إحدى شخصيات جماعات السلسلة النسبيّة بمكانة اجتماعية خاصّة (STATUS )، أو مركز اقتصادي مرموق.

فإذا كانت القحطانيّة تزهو بحضارتها ورُقيها المادي، فإنّ العدنانيّة تفاخر بالبيت وهم أمناؤه وسدنته ممّا أوغر صدور غيرهم عليهم وأشبع نفوسهم غيرةً وحَنقاً على هؤلاء الذين تهوي أفئدة النّاس إليهم، وتجبى الثمّرات ويأتونها لبناء بديل للكعبة، سعى بناتها لجذب أنظار العرب بها إليهم.

فهذا أبرهة ملك اليمن للأحباش يمكث غير بعيد بصنعاء، فيبتني كنيسته ( القليس ) لمْ يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض - فيما يروي ابن الأثير(١) - ثمّ يكتب إلى النّجاشي، أنّه ليس بمنتهٍ حتّى يصرف إليها حاجّ العرب. ولمْ ينتهِ فعلاً إلاّ بقدومه إلى مكّة قاصداً هدم بيتها في القصّة المشهورة، عام الفيل.

وهؤلاء هم بنو بغيض من غطفان، لمّا أثّروا وأكثروا في البلاد أطمعتهم كثرتهم فأقسموا: لنتّخذنّ حرما مثل مكّة لا يُقتل صيده، ولا يُهاج عائذه. فبنوا حرماً إلى أنْ هدمه زهير بن جناب(٢) .

٣ - رأينا من قبل كيف أنّ القحطانيّة ضاقوا بمواطنهم، فغشوا العدنانيّة في منازلهم وظهروا عليهم، فكانوا ملوكاً ورؤساء فيهم حتّى صار إذعان عرب الشمال لعرب الجنوب كالفرض لا يجوز نقضه، بل إنّ ابن الأثير(٣) يذكر: أنّ تابعة اليمن كانوا لعرب الشمال بمنزلة الخلفاء للمسلمين. ويرجع ذلك

____________________

(١) ابن الأثير، مرجع سابق ١ : ٣٤٢.

(٢) مرجع سابق : ٣٩١.

(٣) مرجع سابق : ٣٩٩.

٣١

- في الأغلب - لأسباب، منها: انهيار سدّ مأرب في القرن الخامس قبل الميلاد وخراب البلاد، وغلبة الأحباش على اليمن وإمعانهم في التسلط والإيذاء، وكذلك محاربة الرومان لأهل الجنوب في أرزاقهم ووسيلة عيشهم في التجارة بين شرق أفريقيا والهند وبين الشمال، لمّا حوّلوا طرق التجارة من البرّ إلى البحر، إلى أنْ كانت غزوة جاليوس من قبل الإمبراطور أغسطس لليمن عام (٢٤ ق. م)(١) .

وأيّاً ما كان السّبب، فقد دان عرب الشمال العدنانيّون لعرب الجنوب القحطانيّين بالطاعة، واعتادوا أنْ يؤدّوا إليهم الإتاوة أو الخِراج مقابل النّجعة والمرعى، إلى أنْ كان يوم العدنانيّة الأكبر المعروف بيوم (خزاز)(٢) ، حين اجتمعت: ربيعة ومضر وقضاعة وإياد ونزار وحاربوا اليمن وظهروا عليهم، فكان ذلك اليوم آخر عهدهم بسلطان اليمن. فإذا كان هذا السّلطان قد انقضى على بعض قبائل عرب الشمال، فإنّ آثاره لمْ تنقضِ لمَا يرين في نفوس المغلوبين من مشاعر الضغن نحو الغالبين، خاصّة إذا علمنا أنّ هؤلاء اليمنيين ظلّوا يُقيمون بين ظهراني عرب الشمال، ولمْ ينزحوا عنهم من ديارهم أبداً.

تمعّن هذه المفاخرة - فيما يرويه المسعودي(٣) - بين قحطاني وعدناني بعد أمدٍ طويلٍ، وفي مجلس (السفّاح) لمّا فخر بعض أولاد قحطان على ولد نزار من عدنان، فقال (السفّاح) للعدناني: ألاَ تنطق، وقد غمرتكم قحطان بشرفها وعلت عليكم بقديم مناقبها؟ فقال العدناني: ماذا أقول لقوم ليس فيهم إلاّ دابغ جلد، أو ناسج بُرد، أو سائس قرد أو راكب عرد، أغرقتهم فأرة وملكتهم امرأة ودلّ عليهم هُدهد

____________________

(١) كارل بروكلمان، مرجع سابق : ١٦.

(٢) ابن الأثير، مرجع سابق ١ : ٤٠٧.

(٣) المسعودي، مروج الذهب ٢ : ١٨٣، بيروت، المكتبة الإسلاميّة.

٣٢

وبعد، فهذه إذاً جمّة أسباب تفسّر هذه العداوة المرّة بين القحطانيّة والعدنانيّة، ولا نعلم سبب جعل الباحثين السّابقين لا ينتبهون إليها في تبريرهم لتلك العصبيّة.

فهذا كارل بروكلمان(١) يقول في تردّد: الذي يبدو أنّ هذه الظاهرة قد نشأت منذ البدء من عداوة قائمة على أساس الجنس بين عرب الشمال وهم شرقيّون خلّص، وبين عرب الجنوب الذين تسري في عروقهم دماء غريبة مختلطة.

ثمّ هو يُورد رأياً غريباً لجولدزيهر: تُعتبر العداوة بين عرب الشمال وعرب الجنوب نتيجةً ثانويّةً للخصومة بين قريش والأنصار الذين يُعدّون من عرب الجنوب.

وأمّا أحمد أمين(٢) ، فيقرّر في كثير من التجريد: أصل هذا العداء على ما يظهر، هو ما بين البداوة والحضارة من نزاع طبيعي، وكان توالي الحوادث والوقائع الحربيّة يزيد في العداء، ويقوّي بينهم روح الشرّ.

٤ - على أنّ هناك أمراً آخر لا أقطع فيه برأي وإنْ وُجدت شواهد عليه، وإنّما أطرحه لمزيد من البحث ليس هاهنا مجاله.

فقد علمنا أنّ اليهود تفرّقوا في بلاد العرب في القرن الأوّل الميلادي بعد أنْ مزقّهم تيتوس الروماني، فنزلت اليهود: تيماء وخيبر وفدك ويثرب وغيرها.

ثمّ علمنا ما كان بين الأوس والخزرج بيثرب من حروب مريرة كادوا يتفانون فيها، ومنها يوم بعاث، وقبله يوم الفجار، وقد كان لليهود في هذه الأيّام يد ظاهرة في إضرام نار الحرب، والتلاعب بالتحالف مع الأوس تارةً والخزرج تارةً اُخرى.

____________________

(١) تاريخ الشعوب الإسلاميّة : ١٣٠.

(٢) فجر الإسلام، المرجع السابق : ٦.

٣٣

وكان اليهود قد غلبوا على أمر النّاس باليمن بعض الوقت، فيما تُحدّثنا به الأخبار الواردة بتفاسير القرآن في قصّة أصحاب الأخدود، حين حرق أبو نواس ملك اليمن اليهودي نصارى نجران. فهناك إذاً يهود في الشمال، ويهود في الجنوب وبينهما صلات متّصلة وتجارة رابحة غادية.

أفلا يبعث ذلك على التساؤل عن صلة اليهود بإذكاء نار العصبيّة حتّى يَسلم لهم مقامهم ببلاد العرب؟

سؤال نطرحه للبحث.

٥ - والحقّ أنّ الصراع لمْ يكن قاصراً على ما بين الفئتين العظيمتين من العرب شماليين وجنوبيين، وإنّما كادت كلّ فئة تأكل نفسها بنفسها إنْ كانت أحشاؤها تكاد تميز من الغيظ لأوهى الأسباب وجلّها معاً، ممّا جعل الباحثين في حيرة من أمرهم، فجعلوا يردّون ذلك إلى طبع عميق وخلق متأصّل في نفوس العرب أجمعين.

فقد حدّثتنا الأخبار بالحروب الطويلة بين قبائل العرب والتي عُرفت بأيّام العرب، تلك الأيّام التي شبّ فيها الولدان وشاخ فيها الشباب، وهلك فيها الشيوخ وهي بعد لمْ تضع أوزارها.

وقد تنطوي بعض الأيّام على أسباب قابلة للفهم، مثل الخروج للإغارة والسّلب إذا أعوزتهم الحاجة، أو لأسباب ماديّة بسيطة، كأيّام الفجار بين قريش وكنانة وبين قيس عيلان، وأيّام داحس والغبراء؛ وأمّا أنْ تظلّ حرب أربعين عاماً بين بكر وتغلب - وكلّهما من ربيعة - ويكون مشعلها ضرب كليب لناقة في حمى جساس، فشيء لا يكاد فهمه يستقيم.

٣٤

البِناء القِيمي ودلالاته

حاولنا فيما سبق استكشاف مدى فاعليّة أظهر العوامل حسماً في تحديد بنية المجتمع العربي قبل الإسلام، ورغم عدم تطرقّنا إلى كافة العوامل تفصيلاً، إلاّ أنّ الجانب المتفحَّص منها - نظّنه - كافياً للإحاطة بالمتنحّى، أو توقّع ماهيته بدرجة كبيرة من الصحّة.

ولمّا كان نسق القيم السّائد في مجتمع بعينه، يُعدّ مستودع جماع تفاعل الأفراد والجماعات تفاعلاً بيئيّاً واجتماعيّاً، فإنّ دراسة هذا النّسق تجعلنا نعتقد أنّ بالإمكان توقّع الكشف عن محدّدات هذا المجتمع وغاياته، وهذا هو همّنا في المقام الأوّل.

وقد أثبتت الدراسات الاجتماعيّة - النفسيّة الحديثة(١) - أثر طبيعة البِناء الاجتماعي في السلوكيّات الاجتماعيّة. كما أنّ هذه السلوكيّات - كما يرى نيوكوم(٢) (Newcomb) - تخضع لنظام متكامل يتمثّل في نسق القيم.

ولعلّ خير دليل على هذه العلاقة ومدى انطباقها على مجتمعا محلّ الدراسة - المجتمع العربي قبل الإسلام - شهادة شاهد من أهله:

____________________

(١) وليم و. لامبرت، دولاس أ. لامبرت، ترجمة د. سلوى الملاّ، علم النّفس الاجتماعي : ٢٠٢، القاهرة، دار الشروق : ١٩٨٩ م.

(٢) د. محيي الدين حسين، القيم الخاصّة لدى المبدعين : ٢١، القاهرة، دار المعراف : ١٩٨١ م.

٣٥

يقول جعفر بن أبي طالب واصفاً مجتمعه في حضرة النّجاشي ملك الحبشة - مهجر المسلمين الأوّل - عندما استدعاه؛ ليتبين صحّة دعاوى مبعوثي قريش عمرو بن العاص ومَن معه؛ لاسترداد المهاجرين وإرجاعهم قسراً إلى مكّة: (أيّها الملك، كنّا أهل جاهليّة نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف ...)(١)

ولا يكاد يخرج عن هذا الإطار من التحديد رأي أحد الباحثين المحدثين، وهو المستشرق (جولد تسيهر) بقوله(٢) : (ومن الحقّ أنْ نُلاحظ أنّ الجماعة التي تقوم على حياة القبائل العربيّة وأعرافها وتقاليدها فحسب، لا يُمكن أنْ يكون لها أخلاق عالية بسبب وثنيتها الغليظة الجوفاء. لقد كان مسقط رأس مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مركزاً من المراكز الهامّة الخطيرة لعبادة الأوثان والأصنام، كما كان مقرّاً للكعبة المقدّسة والحجر الأسود، ومع هذا كانت الماديّة وكبرياء الجاهلّية وتحكّم الأغنياء في الفقراء، هي المميّزات السّائدة عند أشراف تلك المدينة الذين كانوا يفيدون من سدانة الكعبة فوائد ماديّة لها خطرها، إلى جانب ما كان في هذه السّدانة من ميزة دينيّة وشرف قومي). على أنّ لابن خلدون رأياً خطيراً في العرب وقيمهم، نقتطف منه قوله(٣) :

بطبيعة التوحّش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر.

العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب؛ والسبب في ذلك أنّهم اُمّة وحشيّة باستحكام عوائد التوحّش، وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً.

____________________

(١) ابن الأثير، المرجع السابق ١ : ٥٩٩.

(٢) جولد تسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام : ٧، بيروت، دار الرائد العربي : ١٩٤٦ م.

(٣) ابن خلدون، التاريخ، المرجع السابق ١ : ١٢٥.

٣٦

وأيضاً، فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ضلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه.

وأيضاً، فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عند المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، وإنّما همّهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو مغرماً. ربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها.

وأيضاً، فهم متنافسون في الرياسة، وقلّ أنْ يُسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه كبير عشيرته، إلاّ في الأقلّ وعلى كره. قال الأعرابي الوافد على عبد الملك بن مروان، لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران، فقال: تركته يظلم وحده.

والعرب لا يحصل لهم الملك إلاّ بصبغة دينيّة من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنّهم لخُلق التوحّش الذي فيهم أصعب الاُمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة، وبُعد الهمّة والمنافسة في الرياسة، فقلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوّة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع من التحاسد والتنافس.

وهم مع ذلك أسرع النّاس قبولاً للحقّ والهُدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلاّ ما كان من خُلق التوحّش القريب المعاناة المتهيّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عمّا ينطبع في النّفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات، فإنّ:« كلّ مولودٍ يُولد على الفطرة ». كما ورد في الحديث.

٣٧

ويكاد يتطابق مع الآراء السابقة رأي لمستشرق آخر، وهو بروكلمان بقوله(١) :

(إذا انتقلنا إلى أحوال بلاد العرب الشمالية، وجدنا الصحراء التي تؤلّف معظم البلاد هي التي تقرّر الأحوال الاجماعيّة ...).

(والبدوي كائن فردي النزعة مفرط الأنانيّة قبل كلّ شيء. ولا تزال بعض الأحاديث تسمح للعربي الداخل في الإسلام أنْ يقول في دعائه: اللهمّ، ارحمني ومُحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ترحمْ معنا أحداً)(٢) .

ويقول: (إنّ حاسّة الشرف الساميّة هي التي تسم جميع أعمال البدوي، وهي ألأساس الذي ينهض عليه صرح الأخلاق عنده).

 * * *

تلك إذاً آراء اُختلفت مصادرها وتعدّدت مشارب معتنقيها، إلاّ أنّها تكاد تجمع على سمات خاصّة لقيم بعينها امتثل لها عرب ما قبل الإسلام.

وربما كان أحد الأصول الأولى المنشئة لهذا النّسق من القيم هو انفراط عقد العرب، بحيث لمّ يُدينوا لسلطة جامعة قط.

ورغم ذهاب البعض إلى أنّ العرب في زمانهم ذاك قد خبروا نوعاً من التنظيم السّياسي مثل: (ملكيّة كندة) في نجد وما وراءها، ومثل: نظام مكّة - الذي عدّه لامانس جمهوريّة - إلاّ أنّ الواقع أنّ هذه الأنظمة كانت قبليّة محلّية،

____________________

(١) تاريخ الشعوب الإسلاميّة، المرجع السابق : ١٨.

(٢) هذا الذي أورده بروكلمان تجد تفصيله في البخاري، كتاب الأدب كالتالي: (عن أبي هريرة، قال: قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي، وهو في الصلاة: اللهمّ، ارحمني ومحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ترحمْ معنا أحداً. فلمّا سلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال للأعرابي:« لقد حجَرت واسعاً ». يُريد رحمة الله).

٣٨

ولمْ ترقَ قط إلى نظام سياسي جامع يلمّ شتات العرب ويخضعهم لسلطة واحدة، ويشعرون هم أنفسهم بانتمائهم لهذا الكيان الواحد، شأن الكيانات الاُخرى المعاصرة كالروم والفرس.

هذا الانتماء الشديد المحلّية يُقلّص حتماً الاهتمامات ويحجمها بأبعاده، فلمّا تعدّدت الانتماءات داخل الإقليم الواحد وما نتج عنها من صراعات بينيّة، انعدمت فيهم رؤية أهداف مشتركة يسعون إليها، وقصر بهم نظرهم عن البصر بالمصالح التي يمكّنهم اجتماعهم معاً من إدراكها.

على أنّه يبرز هنا تساؤل: فقد تسيّدت بلادهم، وعلى الأخصّ أطرافها اُمم من غيرهم أحباش وروم وفرس، هذه الاُمم كانت تفرض على العرب دفع الإتاوات وهم صاغرون، فلماذا لمْ يكن ذلك دافعاً لهم للوحدة والتناصر ذوداً عن حماهم، ودرءاً لأخطار تغشاهم، ومنعاً لأرضهم ألاّ تكون مرتعاً لغيرهم؟

ثمّ ألاَ يتناقض ذلك الخفض وتلك الاستكانة مع ما زعموه من مروءة، وما تشدقوا به من فروسيّة، وما كانوا يستذكرونه دوماً من حسن بلائهم في أيّامهم؟

لمْ تزل تلك سمات الانفراط وعدم الاجتماع المورث للأنانيّة المفرطة، والمفضي إلى نزوع كلّ امرئ لتلمس حلّ مشكله على مستوى الذات، والمؤدّي في النّهاية إلى أنْ يكون بأسهم شديداً بينهم وليس على المتربّصين بهم من غيرهم.

ولعلّك تكون على صواب إذا وقفت طويلاً متحيّراً أمام معنى البطولة التي لحقت بسيف بن ذي يزن، لمّا أراد أنْ يتخلّص من غلبة الأحباش على بلاده اليمن، فذهب مستنصراً الفرس ليأتي بهم سادة لليمن بدلاً من الأحباش!

٣٩

ولا يجهد المرء طويلاً في اكتشاف حقيقة عدم تجزّؤ التناقضات، فكما تجدها بيّنة في ناحية مجتمعيّة، تجدها كذلك في غيرها من النواحي.

وهكذا، فإنّ التناقضات السّابغة للحياة السياسيّة - كما رأينا - تبدو ماثلة للأعين لأوّل وهلة على المستوى الروحي. فالازدواجيّة والتناقض الصارخ في المعتقد سمتان بيّنتان للحياة الروحيّة لعرب ذلك الزمان.

فقد عرفت أطراف الجزيرة الديانتين: اليهوديّة والمسيحيّة. فكانت اليهوديّة باليمن إضافة إلى بؤر متناثرة شمالاً، وكانت المسيحيّة بنَجران في الجنوب، كما كانت في غسان وبعض بكر وتغلب وطيء في الشمال، إلاّ أنّ القلب ظلّ وثنيّاً خالصاً بعد أنْ كان حنيفيّاً على دين إبراهيم، فلمّا طال عليهم الأمد، تحرّفت حنيفيّتهم فلمْ يبقَ منها سوى ممارسات وطقوس يؤدّونها دوريّاً، وفي مناسبات مختلفة يُشبعون بها حاجاتهم الروحيّة وفق ما هيّئت لها نفوسهم، وبما يفي بأغراض نشاطهم الاجتماعي.

والأمر المُلفت للنظر ها هنا، أنّ العرب ظلّوا على التوجّه للكعبة قبلة لهم معظّمة ومزاراً وحجّاً ملّة إبراهيم، وفي الوقت ذاته اتّخذوا الأصنام والأدوثان آلهة لهم.

وبالرغم من وجود آلهة قوميّة، كاللات والعزّى وهُبل، إلاّ أنّه كان هناك العديد من الآلهة القبليّة التي تخصّ قبيلة بعينها، أو مجموعة من القبائل، مثل: ود ومناة وإساف، ونائلة ويغوث وسواع وذريح ....

على أنّ الأمر الأكثر مدعاة للنظر أنّ العرب - بالرغم من وثنيّتهم هذه - كانوا يعرفون الله؛ اقرأ قول زهير بن أبي سُلمى الشاعر الجاهلي:

فلا تكتمن الله ما في صدوركم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجلّ فينقم

٤٠