المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره42%

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره مؤلف:
المحقق: فارس حسون
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 126

  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18566 / تحميل: 6559
الحجم الحجم الحجم
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

تأليف

السيد عبد الحسين شرف الدين الموسويقدس‌سره

تحقيق

فارس الحسّون

مركز الأبحاث العقائدية

١

بسم الله الرحمن الرحيم

مُقدّمة المركز:

إنّ الحسينَعليه‌السلام ليس حُكراً على الشيعة فحسب، وإنّ مأتمهعليه‌السلام ليس من مختصّات الشيعة، كما قد يظنّ البعض ذلك، بل الحسينعليه‌السلام حسين جميع المسلمين، والأحرى أنْ يكون حسينُ جميع الإنسانيّة.

وإنّ مأتم الحسينعليه‌السلام ومأساته جرح ما زال لم يندمل، ومصاب لا زال المسلمون يأنّون من ألمه حتّى يأخذ الله تعالى بثأرهعليه‌السلام .

مِنَ الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم الشيعة درس التضحية لأجل العقيدة والدفاع عنه.

مِنَ الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم المسلمون درس التضحية في سبيل البحث عن العقيدة الحقّة ; لأنّ المأتم الحسيني يجعل النّفوس ملتهبة بالعواطف النقيّة، فتكون النّفوس عندئذٍ أقرب ما تكون لاستماع الحقيقة والتجرّد عن التعصّب.

٢

مِن الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم جميع بني آدم درس الإنسانيّة والرجوع إلى الفطرة.

بالحسين عليه‌السلام ومأتمه يمكن تبديد غيوم العصبيّة وغبار الجهل والأفلات من الوقوع في براثن الفتن وتيّارات الضلال.

وبالحسين عليه‌السلام ومأتمه يمتلك الإنسان القدرة على اجتياز الطريق الشائك لمعرفة الحقّ، وتحطيم عقبة:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١) ؛ لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الله، ومأتمَهُ مأتمُ أمر الله عزّ وجل بإحيائه.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الحقِّ، ومأتمَهُ درسٌ للوصول إلى الحقِّ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ المُصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومأتمَهُ مأتمُهُ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ عليٍّ وفاطمة وأهلِ البيتعليهم‌السلام ، ومأتمَهُ مأتمُهُمْ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الأنبياءِ والمُرسَلينعليهم‌السلام ، ومأتمَهُ مأتمُهُمْ.

____________________

(١) سورة الزخرف / ٢٣.

٣

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حُسينُنا جميعاً، ومأتمَهُ مأتمُنا.

وقسماً بالله الذي لا إله إلاّ هو، إنّ البشريّة لو عرفت الحسينعليه‌السلام على حقيقته لأسلمت عن بكرة أبيها، إلاّ مَن كان قد تخلّى منهم عن إنسانيّته.

وكذلك لو عرف المسلمون الحسينعليه‌السلام على حقيقته، لاهتدوا بهديه واتّبعوا نهجه وركبوا سفينة النّجاة وما تركوا أهل البيتعليهم‌السلام طرفة عين، إلاّ مَن كان منهم وفي قلبه مرض، وعليه؛ فإنّ مسؤوليّة أتباع الحسينعليه‌السلام تتضاعف في إيصال حقيقة الحسينعليه‌السلام وأهمّيّة إقامة مأتمه إلى الجميع؛ ليؤدّي كلّ منهم هذه المهمّة على قدر وسعِه.

وهذا الكتاب الماثل بين يدَي القارئ العزيز، وإنْ كان صغيراً في حجمه، إلاّ أنّه عظيم في محتواه، قد جمع بين دفّتيه على اختصاره زبدة ما يتعلّق بمشروعيّة المأتم وأسراره، وهو بقلم علَم الأعلام وسيّد السّادات - الذي اهتدى أكثر من اهتدى إلى مذهب أهل البيتعليهم‌السلام بسبب كتابه

٤

( المراجعات ) - آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدِّين الموسوي (رضوان الله عليه).

وهذا الكتاب في الواقع هو مُقدّمة كتابه ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة )، الذي أحرقته الأيدي الأثيمة، وما بقي منه سوى المُقدّمة التي قمنا بتحقيقها والتعليق عليها، وإخراجها بهذا الكتاب الذي سمّيناه( المأتم الحسيني مشروعيّتُهُ وأسرارُه ) ؛ ليكون الكتاب الثاني من ( سلسلة الكتب الإهدائيّة ) المخصّصة لروّاد المركز من المشتركين والمساهمين في المسابقات الهادفة؛ وذلك لإيجاد ثقافة علميّة عقائديّة لمجتمعاتنا المؤمنة، التي نأمل منها كلّ الخير في نشر مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ودرء الشبهات عنه.

مركز الأبحاث العقائديّة

فارس الحسّون

٥

تمهيد:

الحمد لله على جميل بلائه وجليل عزائه، والصلاة والسّلام على اُسوة أنبيائه، وعلى الأئمّة المظلومين من أوصيائه، ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد، فهذا كتاب ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة )(١) وضعته تقرّباً إليهم في الدُّنيا، وتوسّلاً بهم في الآخرة،

____________________

(١) ألّفه في أربع مجلّدات ضخمة، تضمّنت سيرة النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترتهعليهم‌السلام ، وحياتهم وبعض خطبهم.

وقال عنه المؤلّفقدس‌سره : كتاباً اجتماعيّاً سياسيّاً عمرانيّاً، مِن أحسن ما كُتب في الإمامة والسّياسة.

وكانقدس‌سره قد كتب له مُقدّمة حول مشروعيّة أصل المأتم وأسراره، طُبعت قبل طبع الكتاب، وهذه المُقدّمة هي كتابنا الحاضر الذي سمّيناه ( المأتم الحسيني مشروعيّته وأسراره ).

وأمّا أصل الكتاب، فقد أعدّه المؤلّف للنشر، ولكنّ شعلة الحرب العالميّة الاُولى حالت المؤلّف عن طبعه حتّى أصبح هذا الكتاب ومؤلّفاته الاُخرى - ما يقرب من ثلاثين مُجلّداً مخطوطاً كلّها بقلمه الشريف - طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي؛ حيث سلّطت النّار على داره في ( شحور )، وبعده احتلّت داره الكبرى في ( صور ) واُبيحت للأيادي الأثيمة سلباً ونهباً.

٦

سائلاً من الله سبحانه أنْ يكون خالصاً لوجهه الكريم، إنّه الرؤوف الرحيم.

٧

المُقدّمة:

الأصل العملي يقتضي إباحة:

١ - البكاء على مطلق الموتى.

٢ - رثائهم بالقريض.

٣ - تلاوة مناقبهم ومصائبهم.

٤ - الجلوس حزناً عليهم.

٥ - الإنفاق عنهم في وجوه البرّ.

ولا دليل على خلاف هذا الأصل، بل السّيرة القطعيّة والأدلّة اللفظيّة حاكمان بمقتضاه، بل يُستفاد من بعضها استحباب هذه الاُمور إذا كان الميّت من أهل المزايا الفاضلة والآثار النافعة، وفقاً لقواعد المدنيّة وعملاً باُُصول العمران ; لأنّ تمييز المُصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين

٨

على منوالهم، وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلى اقتفاء آثارهم.

وهنا مطالب:

٩

المطلب الأوّل: في البكاء

ولنا على ما اخترناه فيه - مضافاً إلى السّيرة القطعيّة - فِعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله وتقريره:

أمّا الأوّل ، فإنّه متواتر عنه في موارد عديدة منها: يوم اُحد، إذ علم النّاس كافّة بكاءه يومئذٍ على عمّه أسد الله وأسد رسوله، حتّى قال ابن عبد البرّ في ترجمة حمزة من استيعابه: لمّا رأى النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة قتيلاً بكى، فلمّا رأى ما مُثّل به شهق.

وذكر الواقدي، كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة(١) للعلاّمة المعتزلي: أنّ النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) في أواخر صفحة ٣٨٧ من المُجلّد الثالث - طبعة مصر ( المؤلّف ).

١٠

كان يومئذٍ إذا بكت صفيّة يبكي، وإذا نشجت ينشج(١) . قال: وجعلت فاطمة تبكي لمّا بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ومنها: يوم نعى زيداً وذا الجناحين وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه، وذكر ابن عبد البرّ في ترجمة زيد من استيعابه: أنّ النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على جعفر وزيد، وقال:« أخَواي ومُؤنساي ومُحَدّثاي » (٣) .

ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكى عليه، فقال له عبد الرحمن بن عوف، كما في صفحة ١٤٨ من الجزء

____________________

(١) قد اشتمل هذا الحديث على فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقريره، فهو حجّة من جهتين، على أنّ بكاء سيّدة النّساءعليها‌السلام كافٍ كما لا يخفى. ( المؤلّف ).

(٢) وراجع أيضاً في بكاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على عمّه حمزة وتحريض النّساء على البكاء: مسند أحمد ٢ / ٤٠، الفصول المهمّة / ٩٢، شفاء الغرام ٢/٣٤٧، ذخائر العقبى / ١٨٠، السّيرة الحلبيّة ٢ / ٢٤٧، الروض الاُنف ٦ / ٢٤.

(٣) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ٢١٨، أنساب الأشراف / ٤٣، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٦، تذكرة الخواصّ / ١٧٢، المعجم الكبير ٢ / ١٠٥.

١١

الأوّل من صحيح البخاري: وأنت يا رسول الله! قال:« يابنَ عَوف، إنّها رَحمَة » (١) . ثمّ أتبعها - يعني عبرته - باُخرى، فقال:« إنّ العَينَ تدمعُ، والقلبَ يَحزنُ، ولا نَقولُ (٢) إلاّ ما يُرضي ربنَّا، وإنّا بفراقِكَ يا إبراهيمُ لمَحزونون » (٣) .

ومنها: يوم ماتت إحدى بناتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ جلس على قبرها، كما في صفحة ١٤٦ من الجزء الأوّل من صحيح البخاري، وعيناه تدمعان(٤) .

ومنها: يوم مات صبي لإحدى بناته، إذ فاضت عيناه يومئذٍ، كما في الصحيحين(٥) وغيرهما، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟!

____________________

(١) لا يخفى ما في تسميتها ( رحمة ) من الدلالة على حُسن البكاء في مثل المقام. ( المؤلّف ).

(٢) أراد بهذا: أنّ الملامة والإثم في المقام إنّما يكونان بالقول الذي يسخط الربّ عزّ وجل، كالاعتراض عليه والسّخط لقضائه، لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب. ( المؤلف ).

(٣) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ١٥٥، سيرة ابن إسحاق / ٢٧٠، العقد الفريد ٣/١٩٠.

(٤) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ١٦٦، المُحلّى ٥ / ١٤٥.

(٥) راجع: صحيح البخاري ١ / ١٤٦، وصحيح مسلم - باب البكاء على الميّت. ( المؤلّف ).

١٢

قال:« هذه رَحمَةٌ جَعلَها اللهُ فِي قلوبِ عبادِه، وإنَّما يرحَم اللهُ مِن عِبادِه الرُّحَماء » (٢) .

ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحَين عن ابن عمر، قال: اشتكى سعد، فعاده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع جماعة من أصحابه، فوجده في غشية، فبكى. قال: فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا. الحديث(٣) .

والأخبار في ذلك لا تُحصى ولا تُستقصى(٤) .

____________________

(١) دلالة قوله:« وإنّما يرحمُ اللهُ مِن عبادِه الرُّحماء » على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى. ( المؤلّف ).

(٢) فراجعه في صحيح البخاري - باب البكاء عند المريض، وفي صحيح مسلم - باب البكاء على الميّت، ولا يخفى اشتماله على كلٍّ مِن فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقريره، فهو حجّة من جهتين. ( المؤلّف ).

(٣) كبكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله على عترته من بعده، المُصنّف ٨ / ٦٩٧، الفصول المهمّة / ١٥٥.

وبكائه على عليِّ بن أبي طالبعليه‌السلام لِما سيلقاه من بعده، مناقب الخوارزمي / ٢٤، ٢٦، تذكرة الخواصّ / ٤٥.

وبكائه على الحسينعليه‌السلام لمّا أخبره جبرئيل بما سيجري عليه، كما سيأتي عن قريب.

وبكائه على شهداء فخ لمّا أخبره جبرئيل بالواقعة، مقاتل الطالبيِّين / ٤٣٦.

وبكائه على جدّه عبد المطّلب، تذكرة الخواصّ / ٧.

وبكائه على أبي طالب، الطبقات ١ / ١٠٥، تذكرة الخواصّ / ٨، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٥.

وبكائه على فاطمة بنت أسد، ذخائر العقبى / ٥٦، الفصول المهمّة / ١٣، مناقب ابن المغازلي / ٧٧، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤.

وبكائه على اُمّه عند قبرها، المستدرك على الصحيحين ١/٣٧٥، تاريخ المدينة المنوّرة ١ / ١١٨، ذخائر العقبى / ٢٥٨، المُصنّف لابن أبي شيبة ٣ / ٢٢٤.

وبكائه على عثمان بن مظعون، المستدرك على الصحيحين ١/٣٦١، سنن البيهقي ٣ / ٤٠٧.

وبكائه على سعد بن ربيع، المغازي ١ / ٣٢٩.

١٣

وأمّا قوله وتقريره فمستفيضان، ومواردهما كثيرة:

فمنها: ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه، قال: لمّا جاء النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله نعيُ جعفر(١) ، أتى

____________________

(١) هذا الحديث مشتمل على تقريرهصلى‌الله‌عليه‌وآله على البكاء وأمره به، على أنّ مجرّد صدوره من سيّدة النّساءعليها‌السلام حجّة كما لا يخفى. ( المؤلف ).

١٤

امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها.

قال: ودخلت فاطمةعليها‌السلام وهي تبكي، وتقول:« وا عَمّاه! » . فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« عَلى مِثلِ جعفر فلتبكِ (١) البَواكِي » (٢) .

ومنها: ما ذكره ابن جرير وابن الأثير وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السّيَر، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة ٤٠ من الجزء الثاني من مسنده، قال: رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد، فجعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنَّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . قال: ثمّ نام فاستنبه وهُنَّ يبكين حمزة، قال: فهنّ اليوم إذا بكين يبدأن بحمزة.

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأة من الأنصار على ميّت بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة(١) .

____________________

(١) هذا أمرٌ منهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الاُمّة، وحسبك به حجّة على الاستحباب. ( المؤلّف ).

(٢) وراجع أيضاً: أنساب الأشراف / ٤٣، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٦.

(٣) وراجع أيضاً: شفاء الغرام ٢ / ٣٤٧، السّيرة النبويّة ٣ / ١٠٥، الروض الاُنف ٦ / ٢٤، ذخائر العقبى / ١٨٣، الفصول المهمّة / ٩٢.

١٥

وحسبك تلك السّيرة في رجحان البكاء على مَن هو كحمزة، وإنْ بَعُد العهد بموته.

ولا تنسَ ما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . من البعث على البكاء والملامة لهنّ على تركه، وحسبك به وبقوله:« على مِثل جعفر فلتَبكِ البَواكِي » . دليلاً على الاستحباب.

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عبّاس، في صفحة ٣٣٥ من الجزء الأوّل، من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقيّة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبكاء النّساء عليها، قال: فجعل عمر يضربهنّ بسوطه، فقال النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دَعهنَّ يبكينَ » . ثمّ قال:« مَهما يكُنْ مِن القلبِ والعَينِ فمِن اللهِ والرَّحمة ». وقعد على شفير القبر وفاطمةعليها‌السلام إلى جنبه تبكي، قال: فجعل النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عين فاطمة بثوبه رحمةً لها.

١٦

وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة، الجزء الثاني صفحة ٣٣٣ من مسنده، حديثاً جاء فيه: إنّه مرّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة معها بواكي، فنهرهنّ عمر، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دَعهُنَّ، فإنّ النَّفسَ مُصابةٌ والعَينَ دامِعةٌ » . إلى غير ذلك ممّا لا يسعنا استيفاؤه.

وقد بكى يعقوب إذ غيّب الله ولده:( وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزَنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) (١) . حتّى قيل - كما في تفسير هذه الآية من الكشّاف -: ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عام، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في تفسير هذه الآية من الكشّاف أيضاً -:« أنَّهُ سُئلَ جبرئيل عليه‌السلام : ما بلغ وَجدُ يعقوبَ على يُوسفَ؟ قال: وَجْدُ سبعينَ ثكلَى. قال: فما كانَ لهُ مِنَ الأجرِ؟

____________________

(١) سورة يوسف / ٨٤.

١٧

قال: أجرُ مئةِ شهيدٍ (١) ، وما ساء ظنُّه باللهِ قَط » .

قلتُ: أيّ عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء:( وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (٢) .

وأمّا ما جاء في الصحيحين: منْ أنّ الميّت يُعذّب لبكاء أهله عليه. وفي رواية: ببعض بكاء أهله عليه. وفي رواية: ببكاء الحيّ. وفي رواية: يُعذّب في قبره بما نيح عليه. وفي رواية: مَن يبكِ عليه يُعذّب. فإنّه خطأ من الراوي بحكم العقل والنّقل.

قال الفاضل النّووي(٣) : هذه الروايات كلُّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله.

____________________

(١) هذا كالصريح في استحباب البكاء، إذ ليس المستحب إلاّ ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح. ( المؤلّف ).

(٢) سورة البقرة / ١٣٠.

(٣) عند ذكر هذه الروايات في باب الميّت يُعذّب ببكاء أهله عليه، من شرح صحيح مسلم. ( المؤلّف ).

١٨

قال: وأنكرت عائشة عليهما، ونسبتهما إلى النّسيان والاشتباه، واحتجّت بقوله تعالى:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (١) .

قلتُ: وأنكر هذه الروايات أيضاً عبد الله بن عبّاس، واحتجّ على خطأ راويه، والتفصيل في الصحيحَين وشروحهما.

وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، حتّى أخرج الطبري(٢) في حوادث سنة ١٣ من تاريخه، بالإسناد إلى سعيد بن المسيّب، قال: لمّا تُوفّي أبو بكر، أقامت عليه عائشة النّوح، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر، فأبين أنْ ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليَّ ابنة أبي قُحافة. فقالت عائشة لهشام - حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك.

____________________

(١) سورة الأنعام / ١٦٤.

(٢) عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه. ( المؤلّف ).

١٩

فدخل هشام وأخرج اُمَّ فروة اُخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرّة فضربها ضربات، فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك.

قلتُ: كأنّه لم يعلم تقريرَ النّبيِّ نساء الأنصار على البكاء على موتاهنَّ، ولم يبلغه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . وقوله:« على مِثل جعفر فلتَبكِ البَواكِي ». وقوله:« وإنّما يَرحم اللهُ مِن عِبادِه الرُّحماء ».

ولعلّه نسي نهي النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهنّ في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.

ثمّ إذا كان البكاء على الميّت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أنْ يبكين على خالد بن الوليد(١) ؟ حتّى ذكر

____________________

(١) وبكى هو على النّعمان بن مقرن واضعاً يده على رأسه، كما نصّ عليه ابن عبد البرّ في ترجمة النّعمان من استيعابه، وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولمّا نعي النّعمان بن مقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح: يا أسفاً على النّعمان!... وبكائه على أخيه زيد معلوم بالتواتر. ( المؤلّف ).

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

قـل لابـن عباس سمي محمد

لا تـعطين بـني عدي درهما

احـرم بـني تيم بن مرة أنهم

شـر الـبرية آخـراً، ومقدما

إن تـعطهم لا يشكروا لك نعمة

ويـكافؤوك بـأن تـذم وتشتما

وإن ائـتـمنتهم أو اسـتعملتهم

خانوك، واتخذوا خراجك مغنما

ولـئن مـنعتهم لـقد بـدؤوكم

بـالمنع، إذ ملكوا وكانوا أظلما

مـنعوا تـراث مـحمد أعمامه

وابـنيه، وابـنته عديلة مريما

وتـأمروا من غير أن يستخلفوا

وكـفى بـما فعلوا هنالك مأثما

لـم يـشكروا لـمحمد إنـعامه

أفـيشكرون لـغيره إن أنـعما

والله مــن عـلـيهم بـمحمد

وهداهم، وكسا الجنوب، وأطعما

ثـم انـبروا لـوصيه وولـيه

بـالمنكرات، فـجرعوه العلقما

قال: فرمى بها إلى عبد الله معاوية بن يسار، الكاتب للمهدي، ثم قال: إقطع العطاء، فقطعه. وانصرف الناس. ودخل السيد إليه، فلما رآه ضحك، وقال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل. ولم يعطهم شيئاً..)(١) .

ونرى السيد الحميري في مناسبة أخرى ينشد المنصور أبياتاً يهجو بها سوارا القاضي، من جملتها:

إن سـوار بن عبد

الله من شر القضاء

نـعثلي، جـملي

لكم غير مواتي(٢)

____________

(١) الأغاني ج ٧ ص ١٦، طبع دار الفكر، والغدير ج ٢ ص ٢٥٤، ٢٥٥، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٧، ومستدرك أخبار السيد الحميري للمرزباني ص ٥٨، باختصار وديوان السيد الحميري ص ٣٧٧، ٣٧٨، نقلاً عن الأولين، وعن: أعيان الشيعة ج ١٢ ص ١٧٨، وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤٧، وتاريخ آداب اللغة العربية ج ٢ ص ٦٧، ٦٨.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٤، والأغاني ج ٧ ص ٢٦١، والغدير ج ٢ ص ٢٥٦.

٦١

ويقول القاسم بن يوسف:

هـاشم فـخر قـصي كلها

أيـن تـيم وعدي والفخار

لـهم أيـد طوال في العلى

ولـمن سـاماهم أيد قصار

لـهم الـوحي وفـيهم بعده

آمـر الحق وفي الحق منار

وهــم أولـى بـأرحامهم

في كتاب الله إن كان اعتبار

مـا بـعيد كـقريب سـبباً

لا ولا يعدل بالطرف الحمار

إلى أن قال:

خـسر الآخـذ مـا ليس له

عمد عين والشريك المستشار

ولـفـيف ألـفـوا بـينهم

بـيعة فيها اختلاط وانتشار

ورسـوله الله لـم يدفن فما

شـغل القوم اغتمام وانتظار

كان منهم قبل آل المصطفى

أن يلوا الأمر حذار ونفار(١)

إلى آخر الأبيات.

والقاسم بن يوسف معاصر لكل من الرشيد والمأمون، وتوفي سنة ٢١٣ ه‍.

وكل ما ذكرناه يدل على إنكار العباسيين لشرعية خلافة أبي بكر وعمر. ومثل ذلك كثير لا مجال لنا هنا لاستقصائه، وحسبنا هنا أقوال المؤرخين، فإنها القول الفصل، والحكم العدل.

هذا ما كان في بداية الأمر. أي أنهم كانوا يصلون حبل وصايتهم بعليعليه‌السلام ، وينكرون شرعية خلافة الثلاثة، ثم عدلوا عن ذلك بعد فترة. وذلك لما يتضمنه من الاعتراف بأن الوصاية كانت في ولد عليعليه‌السلام .

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٦٢

فأسس المهدي فرقة(١) تدعي: أن الإمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو العباس بن عبد المطلب، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إليهم. هذا. مع الاستمرار على البراءة من أبي بكر، وعمر، وعثمان. ولكنهم أجازوا بيعة علي ابن أبي طالب، لأن العباس نفسه كان قد أجازها(٢) . وتسمى هذه الفرقة ب‍: (الراوندية والشيعة العباسية).

ولكننا لا نجد لهذه الفرقة أثراً في عصر المأمون، لأن سياسة الخليفة قد اقتضت تجميد هذه المقالة، ولو لفترة من الزمان كما سنوضحه وعلى كل حال فيقول منصور النمري يمدح الرشيد:

لـولا عدي وتيم لم تكن وصلت

إلـى أمـية تـمريها وترتضع

إن الـخلافة كانت إرث والدكم

من دون تيم، وعفو الله متسع(٣)

____________

(١) هذا. ولكن الذي يبدو هو أن صاحب الفكرة الحقيقي هو المنصور. كما يظهر من رسالته لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ومن كثير من كلماته، وخطبه. والمهدي كان هو المنفذ لها، والمخرج من عالم القوة إلى عالم الفعل.. بل لقد سار المنصور في إشاعة هذه الفكرة، وتركيزها شوطا بعيداً، حتى لقد تقرب إليه بها الشعراء، فهذا السيد الحميري يقول ـ على ما يرويه لنا المرزباني في أخباره ص ٣٧ ويروي أيضاً مكافأة المنصور المهمة له على ذلك ـ يقول السيد:

يا رهط أحمد إن من أعطاكم

مـلك الورى وعطاؤه أقسام

رد الـخلافة والوراثة فيكم

وبـنو أمية صاغرون رغام

لـمتمم لـكم الـذي أعطاكم

ولـكم لـديه زيـادة وتمام

أنـتم بـنو عم النبي عليكم

من ذي الجلال تحية وسلام

وورثـتموه وكـنتم أولى به

إن الـولاء تحوزه الأرحام

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه.

(٢) فرق الشيعة للنوبختي ص ٤٨، ٤٩، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٣٦، إلا أن النوبختي ذكر أنهم لم يجيزوا حتى بيعة علي أيضاً.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٤٤، والشعر والشعراء ص ٥٤٦.

٦٣

تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه:

وقد شجع الخلفاء هذه النحلة، أو فقل هذا الاتجاه، واستمروا يناصرونه إلى زمن هارون.

وقد حصل مروان ابن أبي حفصة من الخليفة العباسي (المهدي) على أعظم جائزة تعطى لشاعر في تلك الفترة، على قوله مخاطبا آل علي:

هل تطمسون من السماء نجومها

بـأكفكم أو تـسترون هـلالها

أو تـدفعون مـقالة عـن ربكم

جـبريل بـلغها الـنبي فقالها

نـزلت مـن الأنـفال آخر آية

بـتـراثهم، فـأردتم إبـطالها

يشير إلى آية: (أولوا الأرحام..).

فزحف المهدي من صدر مصلاه إعجاباً، وأعطاه مئة ألف درهم، لكل بيت ألف درهم. وكانت هذه أول مئة ألف تعطى لشاعر في دولة بني العباس(١) .

وأعطاه هارون بدوره على هذه الأبيات، بعد أن أصبح خليفة مئة ألف أيضاً.

كما أن المهدي قد أعطى مروان هذا على قوله:

أنى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

أعطاه ثلاثين ألفاً من صلب ماله، وكساه جبة، ومطرفاً، وفرض على أهله ومواليه ثلاثين ألفاً أيضاً(٢) .

____________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٤٤، ١٤٥، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٢١.

(٢) ولكن في العقد الفريد ج ١ ص ٣١٢، الطبعة الثالثة، والمحاسن والمساوي ص ٢١٩: أنه أخذ منه ثلاثين، ومن أهل بيته سبعين. ولعل هذا هو الأقرب إلى الواقع، فقد ذكر في المحاسن والمساوي ص ٢٢٠: أن مروان هذا قال في هذه المناسبة: بسبعين ألفاً راشي من حبائه وما نالها في الناس من شاعر قبلي بل هذا البيت يدل على أن السبعين كانت منه، لا من أهل بيته..

وفي طبقات الشعراء ص ٥١ اكتفى بالقول: أنه أخذ بهذا البيت مالاً عظيماً..

٦٤

وينسب هذا الشعر لبشار بن برد كذلك.

وبعد ذلك يقف مروان بن أبي الجنوب (ويقال: بل مروان بن أبي حفصة، وقد أنشدها المتوكل، على ما في الغدير ج ٤ ص ١٧٥)، وينشد الخليفة قصيدته التي مطلعها:

لـكم تـراث مـحمد

وبعدلكم تشفى الظلامة

إلى أن يقول:

مـا للذين تنحلوا

ميراثكم إلا الندامة

فيخلع عليه أربع خلع، وينثر ثلاثة آلاف دينار، يأمره بالتقاطها، ويعطيه عشرة آلاف درهم،. ثم يعقد له ـ مع ذلك كله ـ ولاية على البحرين واليمامة(١) .

بل لقد تمادى هارون، وأراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أراد أن ينكر حتى شرعية خلافة الإمام عليعليه‌السلام ، فأحضر (أبا معاوية الضرير) وهو أحد محدثي المرجئة(٢) ، وقال له: (هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت..). فنهاه أبو معاوية عن ذلك، واستدل له بما أعجبه، فارتدع، وانصرف عما كان عزم عليه (٣) .

____________

(١) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٧ ص ٣٨، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني، جزء ٣، ص ٢٢٨.

(٢) المرجئة الأولى كانوا لا يتولون عثماناً ولا علياً، ولا يتبرأون منهما.

(٣) راجع تفصيل ذلك في تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٤٤، ونكت الهميان في نكت العميان ص ٢٤٧.

٦٥

بل إن بعض النصوص التاريخية تفيد أن المهدي أيضاً كان لا يريد أن يجيز بيعة عليعليه‌السلام (١) .

الإمام علي في ميزان الاعتبار:

وإذا ما عرفنا أن إظهار المأمون حبه لعلي بن أبي طالب، وولده، ليس إلا لظروف سياسية معينة كما سيأتي توضيحه. فإننا سوف نرى أنفسنا مقتنعين بأن تأرجح الإمام عليعليه‌السلام في ميزان الاعتبار في تلك الفترة والتي بعدها عند العباسيين، لم يكن إلا أمراً ظاهريا أملته الظروف السياسية، والاجتهادات المختلفة في أساليب مواجهة العلويين.

ولهذا نرى ارتباكهم في ذلك ظاهراً للعيان من وقت لآخر، ومن فترة لأخرى. وهكذا. نجد أن الإمام علياً لم يكن معتبراً عند المأمون، وغير معتبر عند المنصور والرشيد، بل هو غير معتبر عندهم جميعاً.. ولسنا هنا في صدد تحقيق هذا الأمر، ولكن قد تكفي الإشارة في كثير من الأحيان.

____________

(١) فقد ذكر ابن الأثير في الكامل ج ٥ ص ٧٢، والطبري في تاريخه حوادث سنة ١٦٩ ه‍.: أن المهدي عندما رأى في وصية القاسم بن مجاشع التميمي المروزي عبارة: (.. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله، ووارث الإمامة من بعده. الخ).. رماها من يده، ولم ينظر في باقيها..

كما أنه عندما ذهب لعيادة أبي عون، الذي كان من كبار رجال الدعوة، والذي أرسله أبو مسلم في ثلاثين ألفاً في طلب مروان بن محمد، وكان هو الذي أنهى أمره في مصر على ما في الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٦، ١١٩، ١٢٠. ـ عندما ذهب المهدي لعيادته ـ، وطلب منه أبو عون أن يرضى عن ولده، الذي كان يرى رأي الشيعة في الخلافة، أجاب: أنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا. فقال له أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين، على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم، فمرونا، حتى نطيعكم.. راجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول، جزء ٢ ص ٥٦٩، وقاموس الرجال ج ٥ ص ٣٧٣، والطبري، وغير ذلك.

٦٦

استغلال لقب المهدي:

هذا.. ونلاحظ: أن المنصور أيضاً قد حاول أن يقارع العلويين بالحجة، ولكن بنحو آخر، وأسلوب آخر..

فإنه عندما رأى أن الناس قد قبلوا على نطاق واسع (ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ) بأن محمد بن عبد الله العلوي هو المهدي.. حاول أن يموه هو بدوره على الناس، فلقب ولده، والخليفة بعده ب‍ـ (المهدي) من أجل أن يصرف الناس عن محمد بن عبد الله هذا..

فقد أرسل مولى له إلى مجلس محمد بن عبد الله، وقال له: (اجلس عند المنبر، فاسمع ما يقول محمد) قال: فسمعته يقول:

إنكم لا تشكون أني أنا المهدي، وأنا هو (فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال): كذب عدو الله، بل هو ابني)(١) .

ثم. ومن أجل إقناع الناس بهذا الأمر، وجد المنصور من يضع له الأحاديث، ويكذب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطبق واضعوها (مهدي الأمة) على ولده الخليفة (المهدي)(٢) . ويقول القاضي النعمان الإسماعيلي في أرجوزته:

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٢) تجد بعض هذه الأحاديث في: الصواعق المحرقة ٩٨، ٩٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، ٢٦٠، ٢٧٢، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤٦، ٢٤٧، وغير ذلك.

٦٧

مــن انـتظاره وقـد تـسمى

بـهـذه الأسـماء نـاس لـما

تـغـلبوا لـيـجعلوها حـجـة

فـعدلوا عـن واضـح المحجة

إذ مـثـلوا الـجوهر بـالأشباه

مـنـهم مـحمد بـن عـبد الله

ابـن عـلي مـن بـني العباس

ذوي التعدي الزمرة الأرجاس(١)

وقد أقر أحمد أمين المصري بكذب هذه الأحاديث، ووضعها(٢) ، كما أقر غيره بذلك..

بل إن المنصور نفسه ـ الذي كان قد اعترف بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي، وتبجح، وافتخر بها(٣) ـ قد كذب نفسه في ذلك، وكذبها في مهدوية ولده أيضاً.

يقول مسلم بن قتيبة: (أرسل إلي أبو جعفر، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمد بن عبد الله، وتسمى بالمهدي، ووالله، ما هو به، وأخرى أقولها لك. لم أقلها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك.. وابني والله، ما هو بالمهدي، الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به، وتفاءلت به..)(٤) والخليفة المهدي نفسه يقر بأن أباه فقط يروي أنه المهدي الذي بعده في الناس (٥) .

وأما اتخاذهم الزندقة ذريعة للقضاء على خصومهم، سواء من العلويين، أو من غيرهم.. فسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

____________

(١) الأرجوزة المختارة ص ٣١.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٤٠.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٢٣٩، ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٦، وجعفر بن محمد لعبد العزيز سيد الأهل ص ١١٦، (٤) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٧، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٥) الوزراء والكتاب ص ١٢٧.

٦٨

وكل ذلك لم يكفهم:

ولكن العباسيين قد وجدوا أن ذلك كله لم يكن ينطلي على أحد، وأن الأمور ـ مع ذلك ـ تسير في غير صالحهم، ولهذا فإن من الأفضل والأجدى لهم أن لا يفسحوا المجال للعلويين للمنطق والحجاج، فإن ذلك من شأنه أن يظهر كل ما كان يتمتع به العلويون من خصائص ومميزات عليهم. هذا إن لم ينته الأمر بفضيحة ساحقة للعباسيين، وكشف حقيقتهم وواقعهم أمام الملأ، الأمر الذي كان يزعجهم، ويقض مضاجعهم إلى حد كبير..

وإذن.. فإن من الحكمة أن يتبعوا أساليب أخرى من أجل القضاء على العلويين..

ولم تكفهم مراقبتهم لهم، حتى لم يكونوا يغفلون عنهم طرفة عين أبداً، من أجل التعرف على أحوالهم، وإحصاء كل حركاتهم، ابتداء من السفاح، ثم اتبعه الخلفاء على ذلك من بعده.

كما لم يكفهم.. التهديد والوعيد الذي كانوا يواجهونهم به، بهدف إضعاف شخصياتهم، وتحطيم معنوياتهم..

كما لم يكفهم مصادرة أموالهم، وهدم بيوتهم، ومنعهم من السعي من أجل الحصول على لقمة العيش، حتى لقد بلغ البؤس بهم أن: العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة(١) .

وكذلك لم يكفهم. عزلهم عن الناس، ومنع كل أحد من الوصول إليهم، تمهيداً لتشويه سمعتهم بما أمكنهم من أساليب الكذب والافتراء، وإن كانت سيرتهم الحميدة، وخصوصاً أهل البيت منهم، كانت تدفع كل شائعة، وسلوكهم المثالي يدحض كل افتراء.

____________

(١) كان ذلك في زمن المتوكل، راجع: بند تاريخ ج ١ ص ٧٢، ومقاتل الطالبيين ص ٥٩٩.

٦٩

وأما الاضطهاد والتشريد، وزج العشرات والمئات منهم في السجون الرهيبة، التي كان من يدخل إليها لا يأمل بالخروج منها، حيث إن دخول السجن إنما كان يعني في الحقيقة دخول القبر.. وأما دسهم السم لكل شخصية لا يستطيعون الاعتداء عليها جهاراً ـ أما ذلك ـ فلم يكن ليكفيهم أيضاً، ولا ليقنعهم قطعا. حيث إنهم إنما كانوا متعطشين إلى الولوغ في دمائهم، ومشتاقين إلى التفنن في تعذيبهم، واختراع أساليب جديدة في ذلك، فسمروا بالحيطان من سمروا، وأماتوا جوعاً من أماتوا، ووضعوا في الأسطوانات منهم من وضعوا. إلى غير ذلك مما يظهر لكل من له أدنى اطلاع على تاريخهم، وتاريخ سلوكهم مع أبناء عمهم العلويين..

وأما قتلهم لهم جماعات، فأشهر من أن يحتاج إلى بيان.. وقضية المنصور مع بني حسن لا يكاد يخلو منها كتاب تاريخي. وكذلك قضية الستين علوياً، الذين قتلوا بأمر من الخليفة (المنصور) باستثناء غلام منهم، لا نبات بعارضيه(١) .

____________

(١) هذا ما نقله في شرح شافية أبي فراس ص ١٧٤ عن الدر النظيم، عن أحمد بن حنبل، الذي رأى رجلاً متعلقا بأستار الكعبة، يضرع إلى الله بالمغفرة، وأقر له بأنه بنى على هؤلاء ما عدا الغلام المذكور بأمر من المنصور.. وفي عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٠٨، فما بعدها، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٧٦، ١٧٧، والبحار ج ٤٨ ص ١٧٦ فما بعدها. قصة شبيهة بهذه ينقلها عن حميد بن قحطبة الذي كان يفطر في شهر رمضان، ليأسه من مغفرة الله، لأنه قتل ستين علوياً في ليلة واحدة بأمر من الرشيد.. ولكن الظاهر أن ذكر الرشيد اشتباه من الراوي، ولعله عمدي، لأن حميدا قد مات سنة ١٥٨، على ما صرح به في البحار ج ٤٨ ص ٣٢٢، وخلافة هارون الرشيد إنما بدأت سنة ١٧٠، ولعل القصة الحقيقية هي ما عن أحمد بن حنبل، وإنما حرفها المحرفون لحاجة في نفس يعقوب، لا تخفى على المتتبع الخبير، والناقد البصير.

٧٠

موقف كل خليفة منهم على حدة:

وإننا من أجل أن نلم بموقف كل خليفة منهم على حدة من أبناء عمهم العلويين، نقول:

أما السفاح:

فقد قال عنه أحمد أمين: (.. وكانت حياته حياة سفك للدماء، وقضاء على المعارضين..)(١) .

وقال عنه الجنرال جلوب: (.. وكان السفاح والمنصور قد نُشِئا نشأة المتآمرين، ولذا وطدا ملكهما ـ بعد نجاح الثورة ـ بكثير من سفك الدماء، ولا سيما من دماء أولاد أعمامهم، من بني أمية، وبني علي بن أبي طالب..)(٢) .

ويقول الخوارزمي عن السفاح: (.. وسلط عليهم -يعني على العلويين- أبا مجرم، لا أبا مسلم، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل، وجبل..)(٣) .

ومن ذلك يعلم أن إظهاره اللين اتجاههم أمام الناس ما كان إلا من أجل تثبيت دعائم حكمه، وتحكيم قواعد سلطانه، لكنه لم يغفل لحظة واحدة عن مراقبتهم، والتجسس على أحوالهم، بل وقتلهم، إذا ما سنحت الفرصة له لذلك، كما قدمنا.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٠٥.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٩٩.

(٣) رسائل الخوارزمي ص ١٣٠، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧، وسيأتي شطر من هذه الرسالة. راجع ما علقناه على هذه الفقرة في فصل: قيام الدولة العباسية.

٧١

وأما المنصور:

الذي لم يتورع عن قتل ابن أخيه السفاح(١) ، وعمه عبد الله بن علي. وأبي مسلم. مؤسس دولته. والذي سافر سنة ١٤٨ ه‍. إلى الحج، وعزم على القبض على الإمام الصادقعليه‌السلام ، إن كان لم يتم له ذلك(٢) .

والذي سمى نفسه المنصور بعد انتصاره على العلويين(٣) .

أما المنصور هذا. فهو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين(٤) . وقد اعترف عندما عزم على قتل الإمام الصادق عليه‌السلام ، بعدد ضخم من ضحاياه من العلويين، حيث قال: (.. قتلت من ذرية فاطمة ألفاً، أو يزيدون، وتركت سيدهم، ومولاهم، وإمامهم، جعفر بن محمد) (٥) .

ولقد كان هذا القول منه في حياة الإمام الصادقعليه‌السلام ، أي في صدر خلافة المنصور. فكيف بمن قتلهم بعد ذلك!!

وقد ترك خزانة رؤوس ميراثاً لولده المهدي، كلها من العلويين، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما يستدل به على صاحبه، ومن بينها رؤوس شيوخ، وشبان، وأطفال(٦) .

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٩٤، نقلاً عن: نفح الطيب ج ٢ ص ٧١٥.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٦.

(٣) التنبيه والإشراف ص ٢٩٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ١١٩.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦١، ومروج الذهب ج ٤ ص ٢٢٢. وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٧، ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، ٢٣.

(٥) شرح ميمية أبي فراس ص ١٥٩، والأدب في ظل التشيع ص ٦٨.

(٦) تاريخ الطبري ج ١٠ ص ٤٤٦، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وغير ذلك.

٧٢

وهو الذي يقول لعمه عبد الصمد بن علي، عندما لامه على أنه يعاجل بالعقوبة، حتى كأنه لم يسمع بالعفو ـ يقول له ـ: (إن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ـ ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا بنسيان العفو، واستعمال العقوبة..)(١) .

وهو الذي يقول للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي على الأرض منكم قامة سوط..)(٢) .

وعندما قال المنصور للمسيب بن زهرة: إنه رأى أن الحجاج أنصح لبني مروان. أجابه المسيب: (يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجاج إلى أمر، فتخلفنا عنه، والله، ما خلق الله على جديد الأرض خلقاً أعز علينا من نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمرتنا بقتل أولاده، فأطعناك، وفعلنا، فهل نصحناك؟!)(٣) .

وهو أول من سن هدم قبر الحسينعليه‌السلام في كربلاء(٤) .

وهو الذي كان يضع العلويين في الأسطوانات، ويسمرهم في الحيطان ـ كما نص عليه اليعقوبي، وغيره ـ ويتركهم يموتون في المطبق جوعاً، وتقتلهم الروائح الكريهة، حيث لم يكن لهم مكان يخرجون إليه لإزالة الضرورة، وكان يموت أحدهم، فيترك معهم، حتى يبلى من غير دفن، ثم يهدم المطبق على من تبقى منهم حيا، وهم في أغلالهم ـ كما فعل ببني حسن، كما هو معروف ومشهور.

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٧، وإمبراطورية العرب ص ٤٩١، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ٢ ص ٥٣٤.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٣٥٧، والبحار ج ٤٧ ص ١٧٨.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٢٤.

(٤) تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار آل طعمه ص ١٩٣.

٧٣

ولقد قال أحد العلويين، وهو أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا، إسماعيل الديباج. عندما هرب من المنصور إلى السند:

لـم يـروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلب

وليس يشفي غليلا في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابن لبنت نبي(١)

وعلى كل: فإن معاملة المنصور لأولاد علي، تعتبر من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٢) .

وستأتي عبارة الخضري عنه عن قريب..

وأما المهدي:

الذي حبس وزيره يعقوب بن داوود، وبني على المطبق الذي هو فيه قبة، وبقي فيه حتى عمي، وطال شعر بدنه، حتى صار كالأنعام ـ وحبسه ـ لاتهامه إياه بأنه يمالئ الطالبيين، كما قدمنا..

المهدي الذي عرفنا فيما تقدم موقفه من أبي عون، وولده، الذي كان يذهب مذهب الشيعة في الخلافة.. وكذلك موقفه من وصية القاسم ابن مجاشع.

أما المهدي هذا فقد اتخذ الزندقة ذريعة للقضاء على كل مناوئيه، وخصوصاً العلويين، والمتشيعين لهم:

وقال الدكتور أحمد شلبي: (إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للإيقاع بالأبرياء في كثير من الأحايين)(٣) .

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥١.

(٢) مختصر تاريخ العرب، للسيد أمير علي ص ١٨٤.

(٣) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٠٠.

٧٤

وقال الدكتور أحمد أمين المصري: (الحق أن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك: الشعراء، والعلماء، والأمراء، والخلفاء)(١) .

وقد ألف له ـ أي للمهدي ـ ابن المفضل كتاباً في الفرق، اخترع فيه فرقا من عند نفسه، ونسبها لأولئك الذين يريد المهدي أن يتتبعهم، ويقضي عليهم. مع أنهم لم يكونوا أصحاب فرق أصلاً. كزرارة، وعمار الساباطي، وابن أبي يعفور، وأمثالهم، فاخترع فرقة سماها (الزرارية) نسبة لزرارة. وفرقة سماها (العمارية) نسبة لعمار، وفرقة سماها (اليعفورية) وأخرى سماها (الجواليقية)، وأصحاب سليمان الأقطع.

وهكذا. إلا أنه لم يذكر (الهشامية) نسبة لهشام بن الحكم(٢) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٥٧. هذا. وقد اتهم شريك بن عبد الله القاضي بالزندقة، لأنه لم يكن يرى الصلاة خلف الخليفة المهدي، فراجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٥٣، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢. وأيضاً. فقد أراد هارون أن يقتل عمه، الذي قال: كيف لقي آدم موسى؟ عندما ذكرت رواية مفادها ذلك. وذلك بتهمة الزندقة، راجع: تاريخ بغداد ج ١٤ ص ٧، ٨ والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٥، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٨، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٨٥، والبصائر والذخائر ص ٨١..

وهذا يعني أن لفظ الزنديق قد أطلق على كل من يناقش في أحاديث الصحابة، وعلى كل من يعارض نظام الحكم، والحكام وأهوائهم، وأطلق أيضاً على كل ماجن خليع كما يبدو لمن راجع رواية شريك القاضي في مظانها وغيرها..

ولا بأس بمراجعة عبارة هامة لأحمد أمين تتعلق بهذا الموضوع في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢.

(٢) رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩٦، وقاموس الرجال ج ٩ ص ٣٢٤، والبحار ج ٤٨ ص ١٩٥، ١٩٦، ورجال الكشي ص ٢٧، طبع كربلاء،. وأشار إلى ذلك المسعودي أيضاً، فراجع: ضحى الإسلام ج ١ ص ١٤١، واليعقوبي في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

٧٥

وقال عبد الرحمان بدوي: (إن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر، كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة، كما لاحظ ذلك الأستاذ (فيدا))(١) .

يقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له:

ومـتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد(٢)

إلى غير ذلك مما لا يمكننا تتبعه واستقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وأما الهادي:

(فقد أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألح في طلبهم، وقطع أرزاقهم وأعطياتهم، وكتب إلى الآفاق بطلبهم..)(٣) .

ولم تكن واقعة فخ المشهورة إلا بسبب الاضطهاد الذي لحق العلويين، والمعاملة القاسية لهم. حسبما نص عليه المؤرخون.. والتي بلغ عدد الرؤوس فيها مئة ونيفا، وسبيت فيها النساء والأطفال، وقتل السبي حتى الأطفال منهم على ما قيل.

وأما الرشيد:

(الذي حصد شجرة النبوة. واقتلع غرس الإمامة)، على حد تعبير الخوارزمي.

____________

(١) من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص ٣٧.

(٢) نسب إلى الأول ملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٨٨ نقلاً عن مفتاح النجا في مناقب آل العبا للعلامة البدخشي ص ١٢ مخطوط وعن قلندر الهندي الحنفي في روض الأزهر ص ٣٥٩ طبع حيدر آباد وهو منسوب للطغرائي أيضاً وهو مثبت في إحدى قصائده في ديوانه فلعله أخذه على سبيل الاستشهاد على عادة الشعراء في ذلك..

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٣٦، ١٣٧.

٧٦

والذي (لم يكن يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليعليهم‌السلام ، وهم أولاد بنت نبيه، لغير جرم، تدل على عدم خوفه من الله تعالى..)(١) .

والذي كان على حد تعبير أحمد شلي: (يكره الشيعة ويقتلهم..)(٢) .

والذي بلغ من كرهه لهم: أن الشعراء كانوا يتقربون إليه بهجاء آل عليعليه‌السلام ، كما يظهر بأدنى مراجعة للتاريخ.

أما الرشيد هذا.

فقد أقسم على استئصالهم، وكل من يتشيع لهم. فقال: (.. حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لأقتلنهم، ولأقتلن شيعتهم، ولأفعلن وافعلن..)(٣) .

وعندما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعاً من بغداد، إلى المدينة(٤) كرهاً لهم ومقتاً.

(وكان شديد الوطأة على العلويين يتتبع خطواتهم، ويقتلهم)(٥) .

(.. وأمر عامله على المدينة بأن يضمن العلويون بعضهم بعضاً)(٦) .

وكان: (يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم)(٧) .

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٠.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٥٢.

(٣) الأغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ ص ٢٢٥.

(٤) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٨٥، والطبري ج ١٠ ص ٦٠٦، وغير ذلك.

(٥) العقد الفريد ج ١ ص ١٤٢.

(٦) الولاة والقضاة للكندي ص ١٩٨، وليراجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٦.

(٧) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٢ ص ١٨٠.

٧٧

وكان (مغرى بالمسألة عن آل أبي طالب، وعمن له ذكر ونباهة منهم)(١) .

وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب، وحلي. ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً(٢) .

وعندما حضرته الوفاة كان يقول: (.. واسوأتاه من رسول الله)(٣) .

وهدم قبر الحسين، وحرث أرض كربلاء، وقطع السدرة التي كان يستظل بها الزائرون لتلك البقعة المباركة، وذلك على يد عامله على الكوفة، موسى بن عيسى بن موسى العباسي(٤) .

ثم توج موبقاته كلها، وفظائعه تلك، بقتل سيد العلويين، وقائدهم، الإمام موسى بن جعفر، (صلوات الله وسلامه عليه).

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٩٣، وبعد ذلك قال: (فسأل يوماً الفضل بن يحيى ـ بعد أن عاد من خراسان ـ: هل سمعت ذكرا لأحد منهم؟ قال: لا والله، ولقد جهدت فما ذكر لي أحد منهم، إلا أني سمعت رجلاً إلخ)..

(٢) أعيان الشيعة، طبعة ثالثة، ج ٤ قسم ٢ ص ١٠٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٦.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٣٠، ويلاحظ هنا: أن الإنسان غالباً ما ينكشف على حقيقته حين موته. وقول الرشيد هذا يكشف لنا الرشيد على حقيقته، ويبين لنا مدى ما فعله الرشيد مع ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٤) تاريخ الشيعة ص ٨٩، وأمالي الشيخ. طبع النجف ص ٣٣٠، والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٧ وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٩، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ١٩، وتاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٧، ١٩٨، نقلاً عن: نزهة أهل الحرمين ص ١٦، والبحار ج ١٠ ص ٢٩٧، وتظلم الزهراء ص ٢١٨، ومجالي اللطف ص ٣٩، وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٣٠٤، وتسلية المجالس، لمحمد بن أبي طالب، وغير ذلك..

٧٨

ولقد خاطبه العقاد مشيراً إلى نبشه لقبر الحسينعليه‌السلام ، فقال: (.. وكأنهم خافوا على قبرك أن ينبشه أشياع علي، رضي الله عنه، فدفنوك في قبر الإمام العلوي، لتأمن فيه النبش والمهانة بعد الممات. فمن عجب أن يلوذ أبناء علي بملكك الطويل العريض، فيضيق بهم، وأن يبحث أتباعك عن ملاذ يحتمي به جثمان صاحب الملك الطويل العريض بعد مماته، فيجدوه في قبر واحد من أولئك الحائرين اللائذين بأكناف البلدان، من غير قرار، ولا اطمينان..)(١) .

يشير بذلك إلى قبر علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، حيث إن الرشيد مدفون إلى جانبه، كأنه يريد أن يقول: إن دفن المأمون للرضاعليه‌السلام إلى جانب أبيه الرشيد كان لأجل الحفاظ على قبر أبيه من النبش.

ولكن المعلوم: أن العلويين وشيعتهم ما كانوا ليقدموا على أمر كهذا مهما بلغ بهم الحقد والغضب بسبب اضطهاد الحكام لهم..

يقول محمد بن حبيب الضبي، رحمه الله مشيراً إلى ذلك:

قبران في طوس الهدى في واحد

والـغي فـي لـحد ثراه ضرام

قرب الغوي من الزكي مضاعف

لـعـذابه، ولأنـفـه الإرغـام

ويقول دعبل رحمه الله:

قـبران في طوس خير الناس كلهم

وقـبر شـرهم هـذا مـن الـعبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

ولقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن جعل الناس يعتقدون فيه بغض عليعليه‌السلام ، حتى اضطر إلى أن يقف موقف الدفاع عن نفسه،

____________

(١) راجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٩، نقلاً عن: مجلة (الهلال)، عدد اكتوبر سنة ١٩٤٧ م. ص ٢٥، من مقال بعنوان: (حديث مع هارون الرشيد) للأستاذ العقاد.

٧٩

ويقسم على أنه يحبه، قال إسحاق الهاشمي: (كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب. ووالله، ما أحب أحداً حبي له، ولكن هؤلاء (يعني العلويين) أشد الناس إلخ)(١) .

ثم يلقي التبعة في ذلك عليهم، ويقول: إنهم إلى بني أمية أميل منهم إلى بني العباس الخ كلامه.

بل لقد رأيناه يعلن أمام أعاظم العلماء عن توبته مما كان منه من أمر الطالبيين ونسلهم(٢) .

وذلك أمر طبيعي بعد أن كان يتتبع خطواتهم ويقتلهم (وبعد أن كانت سجون العباسيين، وخصوصاً المنصور والرشيد، قد امتلأت من العلويين، وكل من يتشيع لهم) على حد تعبير أحمد أمين(٣) .

وأخيراً.. فقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن توهم البعض أن المأمون إنما بايع للرضا بولاية العهد، من أجل أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في آل عليعليه‌السلام ، كما عن البيهقي، عن الصولي(٤) .

وأما المأمون:

فستأتي الإشارة إلى بعض ما فعله في آل علي في تضاعيف الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

والشعراء أيضاً قد قالوا الحقيقة:

وهكذا. يتضح لنا كيف أن العباسيين قد انقلبوا ـ بدافع من

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ١٢٧.

(٣) راجع: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧.

(٤) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٢، وغير ذلك.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126