الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء27%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56006 / تحميل: 7652
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لكنّهما لم يفكّرا في أيسر شيء ولا أنفع شيء للدولة التي يخدمانها وإنّما فكّرا في النّسب المغموز والصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من همّ غير إرغام الحُسين وإشهاد الدُنيا كلّها على إرغامه.

تلّقى ابن زياد من عمر بن سعد كتاباً يقول فيه: إنّ الحُسين أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه، أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده.

والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد، أنّ الحُسين ربما اقترح الذهاب إلى يزيد ليرى رأيه، ولكنّه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده؛ لأنّه لو قبل ذلك لبايع في مكانه واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته؛ ولأنّ أصحاب الحُسين في خروجه إلى العراق قد نفوا ما جاء في ذلك الكتاب، ومنهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول: صحبت الحُسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل وسمعت جميع مخاطباته إلى يوم قتله

فوالله، ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيّروه إلى ثغر من الثغور، ولكنّه قال:(( دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر النّاس )).

* * *

ولعلّ عمر بن سعد قد تجوّز في نقل كلام الحُسين عمداً؛ ليأذنوا له

١٠١

في حمله إلى يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته وما تجر إليه من سوء القالة ووخز الضمير، أو لعلّ الأعوان الاُمويّين قد أشاعوا عن الحُسين اعتزامه للمبايعة؛ ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، ويسقطوا حجّتهم في مناهضة الدولة الاُمويّة

وأيّاً كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها، ولقد كانا على العهد بمثليهما كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه وبين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فطر عليه، فلا يصدر منهما إلاّ ما يوائم لئيمين لا يتفقان على خير

وكأنّما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر بن سعد، فابتدره شمر ينهاه ويجنح إلى الشدّة والاعتساف، فقال له: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟! والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوّة والعزّة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه؛ فإن عاقبت كنت وليّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.

ثمّ أراد أن يوقع بعمر ويتّهمه عند عبيد الله؛ ليخلفه في القيادة ثمّ يخلفه في الولاية، فذكر لعبيد الله أنّ الحُسين وعمر يتحدثان عامّة الليل بين المعسكرين فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر

١٠٢

إن هو تردّد في إكراه الحُسين على المسير إلى الكوفة أو مقاتلته حتّى يُقتل، وكتب إلى عمر يقول له: أمّا بعد، فإنّي لم أبعثك إلى الحُسين لتكفّ عنه ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء، ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعاً

انظر فإن نزل الحُسين وأصحابه واستسلموا فابعث بهم إليّ مسلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قُتل الحُسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاق شاق قاطع ظلوم فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، والسّلام.

وخُتمت مأساة كربلاء كلّها بعد أيّام معدودات ولكنّها أيّام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة، ومضت مئات السّنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيّام في تاريخ الشّرق والإسلام

١٠٣

١٠٤

هل أصاب؟

خطأ الشُهداء:

خروج الحُسينعليه‌السلام من مكّة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنّها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السّياسية لا تتكرر كلّ يوم ولا يقوم بها كلّ رجل ولا يأتي الصواب فيها - إن أصابت - من نحو واحد ينحصر القول فيه، ولا يأتي الخطأ فيها - إن أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه، وقد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب وأخطأ الخطأ فرقاً صغيراً من فعل المصادفة والتوفيق، فهو خليق أن يذهب إلى النقيضين.

هي حركة لا يأتي بها إلاّ رجال خُلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنّها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق هي حركة فذّة يقدم عليها رجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن وعلى غير هذه الوتيرة؛ لأنّهم يحسّون

١٠٥

ويفهمون ويطلبون غير الذي يحسّه ويفهمه ويطلبه اُولئك الرّجل

هي ليست ضربة مغامر من مغامري السّياسة، ولا صفقة مساوم من مساومي التجارة، ولا وسيلة متوسل ينزل على حكم الدُنيا أو تنزل الدُنيا على حكمه، ولكنّها وسيلة مَن يدين نفسه ويدين الدُنيا برأي من الآراء هو مؤمن به، مؤمن بوجوب إيمان النّاس به دون غيره، فإن قبلته الدُنيا قبلها، وإن لم تقبله فسيّان عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعلّ فواته بالموت أشهى إليه

هي حركة لا تُقاس إذن بمقياس المغامرات ولا الصفقات، ولكنّها تُقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يستعاد على الطلب من كلّ رجل أو في كلّ أوان ولا ننسى أنّ السنين الستين التي انقضت بعد حركة الحُسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم على تخطئته في كلّ شيء وتصويب مقاتليه في كلّ شيء.

* * *

إنّ القول بصواب الحُسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه إلقاء الذنب عليها. وليس بخاف على أحد كيف ينسى الحياء وتبتذل القرائح أحياناً في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان

١٠٦

الذاهب. فليس الحكم على صواب الحُسين أو على خطئه إذن بالأمر الذي يرجع فيه إلى اُولئك الصنائع المتزلفين، الذين يرهبون سيف الدولة القائمة ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفاً غير ذلك السيف ويغنمون من عطاء غير ذلك العطاء

إنّما الحكم في صواب الحُسين وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان وأصحاب السلطان، وهُما البواعث النّفسية التي تدور على طبيعة الإنسان الباقية، والنتائج المقرّرة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.

وبكلّ من هذين المقياسين القوسين نقيس حركة الحُسين في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول إنّه قد أصاب أصاب إذا نظرنا إلى بواعثه النّفسية التي تهيمن عليه ولا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها وأصاب إذا نظرنا إلى نتائج الحركة كلّها نظرة واسعة، لا يستطيع أن يُجادل فيها من يأخذ الاُمور بسنّة الواقع والمصلحة أو من يأخذ الاُمور بسنّة النجدة والمروءة

فما هي البواعث النّفسية التي قامت بنفس الحُسين يوم دُعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟ هي بواعث تدعوه كلّها أن يفعل ما فعل ولا تدعو مثله إلى صنيع

١٠٧

غير ذلك الصنيع. وخير لبني الإنسان ألف مرّة أن يكون فيهم خلق كخلق الحُسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد

فأوّل ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النّفسية التي خامرت نفس الحُسين في تلك المحنة الأليمة: إنّ بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرّة ولا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتّى شجعه عليها من له مصلحة ملحّة في ذلك التشجيع

* * *

كان المغيرة بن شعبة والياً لمعاوية على الكوفة، ثمّ همّ بعزله وإسناد ولايته إلى سعيد بن العاص جرياً على عادته في إضعاف الولاة قبل تمكّنهم، وضرب فريق منهم بفريق حتّى يعينه بعضهم على بعض ولا يتفقوا عليه. فلمّا أحسّ المغيرة نية معاوية، قدم الشّام ودخل على يزيد وقال له، كالمستفهم المتعجّب: لا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟

ولم يكن يزيد نفسه يصدّق أنّه أهل لها أو أنّ بيعته ممّا يتم بين المسلمين على هيّنة، فقال للمغيرة: أو ترى ذلك يتمّ؟

١٠٨

فأراه المغيرة أنّه ليس بالعسير إذا أراده أبوه

وأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أنّ فرصته سانحة وأنّه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة يرشوه بإعانته على بيعة يزيد، ويأخذ منه الرّشوة ببقائه على ولاية الكوفة إلى أن يقضى في أمر هذه البيعة، وله في التمهيد لها نصيب

فلمّا لقي معاوية سأله هذا عمّا أخبره به يزيد، فأعاده عليه وهو يزخرفه له بما يرضيه، قال: قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة.

فسأله معاوية - وهو يتهيب ويتأنّى -: ومَن لي بذلك؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. فردّه معاوية إلى عمله كما كان يتمنّى، وأوصاه ومَن معه ألاّ يتعجّلوا بإظهار هذه النيّة ثمّ استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصّته على الأمر وهو يقول: إنّ أمير المؤمنين يتخوف نفرة النّاس ويرجو طاعتهم ويزيد

١٠٩

صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد فألق أمير المؤمنين وأدّ إليه فعلات يزيد وقُل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتمّ لك ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من فوت في عجلة.

فأشار عليه صاحبه: ألاّ يفسد على معاوية رأيه ولا يبغضه في ابنه. وعرض عليه أن يلقى يزيد فيخبره: إنّ أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له، وإنّك تتخوف خلاف النّاس لهنات ينقمونها عليه، وإنّك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجّة على النّاس.

* * *

وقالوا: إنّ يزيد كفّ عن كثير مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، وأنّ معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتّى مات زياد

وقد أحسّ معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسّه من الغُرباء عنه، فكانت امرأته فاختة بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس، تكره بيعة يزيد وتودّ لو أثر بالبيعة ابنها عبد الله، فقالت له: ما أشار به عليك المغيرة أراد أن يجعل لك عدوّاً من نفسك يتمنّى هلاكك كلّ يوم.

واشتدّت نقمة مروان بن الحكم - وهو أقرب الأقرباء إلى معاوية -

١١٠

حين بلغته دعوة العهد ليزيد، فأبى أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، وكتب إلى معاوية: إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك. فعزله معاوية من ولاية المدينة وولاّها سعيد بن العاص، فأوشك مروان أن يثور ويعلن الخروج وذهب إلى أخواله من بني كنانة فنصروه وقالوا له: نحن نبلك في يديك وسيفك في قرابك، فمَن رميته بنا أصبناه ومَن ضربته قطعناه الرّأي رأيك ونحن طوع يمينك

ثمّ أقبل مروان في وفد منهم كثير إلى دمشق، فذهب إلى قصر معاوية وقد أذن للناس، فمنعه الحاحب لكثرة من رأى معه فضربوه واقتحموا الباب، ودخل مروان وهُم معه حتّى سلّم على معاوية وأغلظ له القول، فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه، وترضّى مروان ما استطاع، وجعل له ألف دينار كلّ شهر ومئة لِمن كان معه من أهل بيته.

* * *

ولم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني اُميّة من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنّه أحقّ منه بالخلافة؛ لأنّه ابن عثمان الذي تذرّع معاوية إلى الخلافة باسمه، فقال لمعاوية:

١١١

يا أمير المؤمنين، علام تبايع ليزيد وتتركني؟! فوالله، لتعلم أنّ أبي خير من أبيه، واُمّي خير من اُمّه، وأنّك إنّما نلت ما نلت بأبي! فسرّى معاوية عنه، وقال له ضاحكاً هاشّاً: يابن أخي، أمّا قولك إنّ أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية؛ وأمّا قولك إنّ اُمّك خير من اُمّه، ففضل قرشية على كلبية فضل بيّن؛ وأمّا أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنّما الملك يؤتيه الله من يشاء؛ قُتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاص، وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منّة عليك؛ وأمّا أن تكون خيراً من يزيد، فوالله ما أحبّ أنّ داري مملوءة رجالاً مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك. وولاّه خراسان

فكان أكبر بني اُميّة أعظمهم أملاً في الخلافة بعد معاوية، وكان بغضهم لبيعة يزيد على قدر أملهم فيها، وهؤلاء وإن جمعتهم مصلحة الاُسرة فترة من الزمن، لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء وتبشّره بالضمان والقرار وعلى هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجس والمساومة والإكراه وبهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان وأقرب القرباء

وظهر من اللحظات الأولى، إنّ المغيرة بن شعبة كان سمساراً

١١٢

يصافق على ما لا يملك فقد ضمن الكوفة والبصرة ومنع الخلاف في غيرهما، فإذا الكوفة أوّل من كره بيعة يزيد، وإذا البصرة تتلكّأ في الجواب وواليها يرجئ الأمر ويوصي بالتمهّل فيه فلا يقدم عليه معاوية في حياته، وإذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، وإذا بالحجاز يستعصي على بني اُميّة سنوات، وإذا باليمن ليس فيها نصير للاُمويّين، ولو وجدت خارجاً يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز

بل يجوز أن يُقال - ممّا ظهر في حركة الحُسين كلّ الظهور - أنّ الشّام نفسها لم تنطوي على رجل يؤمن بحقّ يزيد وبطلان دعوى الحُسين، فقد كانوا يتحرجون من حرب الحُسين ويتسلل من استطاع منهم التسلل قبل لقائه، إلاّ أن يُهدد بقطع الأرزاق وقطع الرّقاب.

والحوادث التي تلت حركة الحُسين إلى ختام عهد يزيد أدلّ ممّا تقدّم على اضطراب عهده وقلّة ضمانه؛ لأنّ الأحداث والنذر لم تزل تتوالى بقية حياته وبعد موته بسنين.

ونحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث والنذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيّل إلينا أنّ عواقبها لم تكن تحتمل الشّك ولم يكن بها من خفاء، ولكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألاّ يروا فيها طوالع مُلك تعنو له الرّؤوس ويرجى له طول البقاء.

١١٣

بواعث الخروج:

نعم كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضى المسلمين من العقل والخلق وسلامة التدبير وعزّة الموئل والدولة، وكان المسلمون قد توافوا على اختياره لحبّهم إيّاه، وتعظيمهم لعقله وخلقه واطمئنانهم إلى سياسته واعتمادهم على صلاحه وإصلاحه

ولكنّه على نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلاً هازلاً في أحوج الدول إلى الجد، لا يرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح، وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة، قبض كلّ مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة، ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليّاً للعهد شرّاً من يزيد لما همّهم أن يبايعوه وإن تعطلت حدود الدين وتقوضت معالم الأخلاق.

وأعجب شيء أن يطلب إلى حُسين بن عليّ أن يبايع مثل هذا الرّجل ويزكّيه أمام المسلمين، ويشهد له عندهم أنّه نعم الخليفة المأمول صاحب الحقّ في الخلافة وصاحب القدرة عليها ولا مناص للحُسين من خصلتين: هذه أو الخروج؛ لأنّهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه.

* * *

١١٤

إنّ بعض المؤرّخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كفّ الميزان، وكان خليقاً بهؤلاء أن يذكروا أنّ مسألة العقيدة الدينية في نفس الحُسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنّه كان رجلاً يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله، وبالاُمّة العربيّة قاطبة في حاضرها ومصيرها؛ لأنّه مُسلم، ولأنّه سبط مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن كان إسلامه هداية نفس، فالإسلام عند الحُسين هداية نفس وشرف بيت.

وقد لبث بنو اُميّة بعد مصرعه ستين سنة يسبّونه ويسبّون أباه على المنابر، ولم يجسر أحد منهم قط على المساس بورعه وتقواه ورعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً أو علانية، وحاولوا أن يعيبوه بشيء غير خروجه على دولتهم، فقصرت ألسنتهم وألسنة الصنائع والاُجراء دون ذلك.

فكيف يواجه مثل هذا الرّجل خطراً على الدين في رأس الدولة وعرش الخلافة مواجهة الهوادة والمشايعة والتأمين؟ وكيف يُسام أن يرشّح للإمامة مَن لا شفاعة له ولا كفاية فيه إلاّ أنّه ابن أبيه؟!

لقد كان أبوه معاوية على كفاءة ووقار وحنكة ودراية بشؤون الملك والرّئاسة، وكان له مع هذا نصحاء ومشيرون أولو براعة وأحلام تكبح

١١٥

من السلطان ما جمح وتقيم ما انحرف وتملي له فيما عجز عنه. وهذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة ولا وقار ولا نصحاء ولا مشيرون، إلاّ مَن كان عوناً على شرّ أو موافقاً على ضلالة، فما عسى أن تكون الشّهادة له بالصلاح للإمامة إلاّ تغريراً بالنّاس وقناعة بالسّلامة، أو الأجر المبذول على هذا التغرير؟

ثمّ هي خطوة لا رجعة بعدها إذا أقدم عليها الحُسين بما أثر عنه من الوفاء وصدق السّريرة، فإذا بايع يزيد فقد وفي له بقية حياته كما وفي لمعاوية بما عاهده عليه، ولا سيّما حين يُبايع يزيد على علم بكلّ نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة وانتحال أسباب الخروج.

فمُلك يزيد لم يقم على شيء واحد يرضاه الحُسين لدينه أو لشرفه أو للاُمّة الإسلاميّة، ومن طُلب منه أن ينصر هذا الملك فإنّما يطلب منه أن ينصر ملكاً ينكر كلّ دعواه ولا يحمد له حالة من الأحوال، ولا تنس بعد هذا كلّه أنّ هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان النّاس بالغض من الحُسين في سمعة أبيه وكرامة شيعته ومُريديه؛ فكانوا يسبّون عليّاً على المنابر وينعتونه بالكذب والمروق والعصيان، وكانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم على سبّه والنيل منه بمشهد من النّاس، وإلاّ أصابهم العنت والعذاب وشهّروا في الأسواق بالصلب والهوان. فمجاراة هذه الاُمور كلّها في مفتتح مُلك جديد، معناه أنّها سنّة قد وجبت

١١٦

واستقرّت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير والتبديل. فمَن أقرّ هذه السنّة في مفتتح هذا الملك الجديد فقد ضعف أمله وضعف أمل أنصاره فيه يوماً بعد يوم، وازداد مع الزمن ضعفاً كما ازدادت حجّة خصومة قوّة عليه.

هذه هي البواعث النّفسية التي كانت تجيش في صدر الحُسين يوم دعاه أولياء بني اُميّة إلى مبايعة يزيد والنزول عن كلّ حقّ له ولأبنائه ولاُسرته في إمامة المسلمين، كائناً من كان القائم بالأمر وبالغاً ما بلغ من قلّة الصلاح وبطلان الحجّة، وهي بواعث لا تثنيه عن الخروج ولا تزال تلحّ عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، وهُما الخروج إن كان لا بدّ خارجاً في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة ولا يرضاه له إيمان.

مصرع وانتصار:

أمّا نتائج الحركة كلّها - إذا نظرنا إليها نظرة واسعة - فهي أنجح للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد؛ فقد صُرع الحُسين عام خروجه، ولحق به يزيد بعد ذلك بأقلّ من أربع سنوات. ولم تنقض ستّ سنوات على مصرع الحُسين حتّى حاق الجزاء بكلّ

١١٧

رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير، ولم تعمر دولة بني اُميّة بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتمّ لها بعد مصرع الحُسين نيف وستون سنة وكان مصرع الحُسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتّى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحُسين نداء كلّ دولة تفتح لها طريقاً إلى الأسماع والقلوب

ولإصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة؛ دخل في روع بعض المؤرّخين أنّها تدبير من الحُسين رضي الله عنه توخّاه منذ اللحظة الأولى، وعلم موعد النصر فيه، فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام.

فقال ماربين الألماني في كتابه (السّياسة الإسلاميّة): إنّ حركة الحُسين في خروجه على يزيد، إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان، وعزّ عليه النصر العاجل؛ فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

فإن لم يكن رأي الكاتب حقّاً كلّه، فبعضه على الأقلّ حقّ لا شكّ فيه ويصدق ذلك - في رأينا - على حركة الحُسين بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان ولم يجهل ما

١١٨

يحيق ببني اُميّة من جرّاء قتله فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء.

* * *

وقد جرى ذكر الموت على لسان الحُسين من خطوته الأولى وهو يتهيّأ للرحيل ويودّع أصحابه في الحجاز، فقال لهم:(( إنّ الموت حقّ على ولد آدم )). ولم يخفَ عليه أنّه يركب الخطّة التي لا يُبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء.

لكنّه لم يكن ييأس من إقناع النّاس والتفافهم به منذ خطوته الأولى، ولم يعقد عزمه على مُلاقاة الموت حتّى ساموه الرّغم، وأبوا عليه أن ينصرف إلى أيّ منصرف قبل التسليم المبين، مسوقاً على الكره منه إلى عبيد الله بن زياد

وتتباين آراء المتأخّرين خاصة في خروج الحُسين بنسائه وأبنائه، أكان هو الأحزم والأكرم؟ أم كان الأحزم والأكرم أن يخرج بمفرده حتّى يرى ما يكون من استجابة النّاس له، أو إعراضهم عنه وضعفهم في تأييده؟

وليس للمتأخّرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم وعاداتهم؛ لأنّها مسألة يقضى فيها بحكم العقل العربي وعاداته في أشباه هذه المواقف. وقد

١١٩

كان اصطحاب النّساء والأبناء عادة عربيّة في البعوث التي يتصدى لها المرء متعمّداً القتال دون غيره، فضلاً عن البعوث التي قد تشتبك في القتال وقد تنتهي بسلام كبعثة الحُسين.

فكان المقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم وذراريهم، ويقطعون وضن الرواحل - أي أحزمتها - قبل خوض المعركة، وكان المسلمون والمشركون معاً يصطحبون الحلائل والذراري في غزوات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مع المسلمين في حرب الروم صفوة نساء قريش وعقائل بيوتاتها، وكان النّبي (عليه الصّلاة والسّلام) يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته وحروبه، وحكم الواحدة هُنا حكم الكثيرات، وهي عادة عربيّة عريقة يقصدون بها الإشهاد على غاية العزم وصدق النيّة فيما هُم مقبلون عليه، وفي معلّقة ابن كلثوم إشارة مجملة إلى معنى هذه العادة العربيّة من قديم عصورها، حيث يقول:

على آثارِنا بيضٌ حسانٌ

نحاذرُ أنْ تُقسَّمَ أوْ تهونا

يقُتنَ جيادَنا ويقُلنَ لستمُ

بـعولتَنا إذا لمْ تمنعونا

وقد كان الحُسينرضي‌الله‌عنه يندب النّاس لجهاد يخوضونه إن

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ثورات العلويين. وغيرهم:

فأبو السرايا ـ الذي كان يوماً ما من حزب المأمون(١) ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشاً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها(٢) .

ويقال: إنه قد قتل من أصحاب السلطان، في حرب أبي السرايا فقط، مئتا ألف رجل، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر(٣) .

وحتى البصرة، معقل العثمانية(٤) ، قد أيدت العلويين، ونصرتهم،

____________

(١) ففي الطبري ج ١٠ ص ٢٣٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٩، طبعة ثالثة: أن المأمون قال لهرثمة: (مالأت أهل الكوفة، والعلويين، وداهنت، ودسست إلى أبي السرايا، حتى خرج، وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك إلخ.) واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضاً.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، ومقاتل الطالبيين ص ٥٣٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٥٠، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٧٣، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي. المتعلق بهذا الموضوع، عن قريب..

١٦١

فقد خرج فيها زيد النار(١) ، ومعه علي بن محمد، كما خرج منها من قبل على المنصور إبراهيم بن عبد الله..

وفي مكة، ونواحي الحجاز: خرج محمد بن جعفر، الذي كان يلقب بـ‍ (الديباج) وتسمى بـ‍ (أمير المؤمنين)(٢) .

وفي اليمن: إبراهيم بن موسى بن جعفر..

وفي المدينة: خرج محمد بن سليمان بن داوود، بن الحسن بن الحسين، ابن علي بن أبي طالب.

وفي واسط: التي كان قسم كبير منها يميل إلى العمانية ـ خرج جعفر ابن محمد، بن زيد بن علي. والحسين بن إبراهيم، بن الحسن بن علي.

وفي المدائن: محمد بن إسماعيل بن محمد..

بل إنك قد لا تجد قطراً، إلا وفيه علوي يمني نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة، والشام، المعروفة بتعاطفها مع الأمويين،

____________

(١) سمي بذلك. لأنه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وكان إذا أتي برجل من المسودة، أحرقه بثيابه.. على ما ذكره الطبري ج ١١ ص ٩٨٦، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٧، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٦.

وفي الروايات أن الرضاعليه‌السلام أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالإضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين، وتضر إضراراً بالغاً بقضية العلويين العادلة.. كان يمالئ الزيدية،.. أو لأنه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد، وإبعاد التهمة عن نفسه، بأنه هو المدبر لأمر أخيه. أو لعل كل ذلك قد قصد.

(٢) وليس في العلويين ـ باستثناء الإمام عليعليه‌السلام طبعاً ـ قبله، ولا بعده، من تسمى بـ‍ (أمير المؤمنين) غيره، كما في مروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩.

و (الديباجة) لقب لأكثر من واحد من العلويين..

١٦٢

وآل مروان.. إلى محمد بن محمد العلوي، صاحب أبي السرايا، فكتبوا إليه: أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولاً، ليسمعوا له، ويطيعوا(١) ..

وأما ثورات غير العلويين، فكثيرة أيضاً، وقد كان من بينها ما يدعو إلى: (الرضا من آل محمد)، كثورة الحسن الهرش سنة ١٩٨(٢) ه‍.

وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المتعرضة لها(٣) .

الزعيم العباسي الأول يعترف:

هذا مع أن أكثر تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الأول: محمد بن علي بن عبد الله، والد إبراهيم الإمام، حيث قال لدعاته:

(.. أما الكوفة وسوادها: فهناك شيعة علي، وولده. وأما البصرة، وسوادها: فعثمانية، تدين بالكف. وأما الجزيرة: فحرورية مارقة،

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٣٤.. راجع في بيان ثورات العلويين: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، إلى ص ٢٤٧، واليعقوبي ج ٣ ص ١٧٣، ١٧٤، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩، ٤٤٠، ومقاتل الطالبيين، والطبري. وابن الأثير، وأي كتاب تاريخي شئت، لترى كيف أن الثورات في الفترة الأولى من عهد المأمون، قد عمت جميع الأقطار والأمصار..

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، والطبري ج ١١ ص ٩٧٥، طبع ليدن.

(٣) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي. وتغلب نصر بن شبث على كيسوم، وسمسياط، وما جاورها، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وكثرت جموعه، ولم يستسلم إلا في سنة ٢٠٧ ه‍. وهناك أيضاً حركات الزط. وثورة بابك. وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

١٦٣

وأعراب كأعلاج، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام: فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، عداوة راسخة، وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة: فغلب عليهما أبو بكر، وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان الخ..)(١) .

ونقل عن الأصمعي أيضاً كلام قريب من هذا(٢) .

دلالة هامة:

ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة، سيما فصل: موقف العباسيين من العلويين، وأيضاً مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم، قد أصبح من الأمور المسلمة لدى الناس، في القرن الثاني، الذي يعد من خير القرون.. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية.. وعليه.

فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يداً بيد، إلى عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير صحيح على الإطلاق، بل إن الشيخ محمد عبده يرى: إن رسوخ عقيدة: (إن حق الخلافة لأهل البيت، وشيوع ذلك في العرب خاصة). هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك، وغيرهم من العجم، يقول الشيخ محمد عبده: (كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان

____________

(١) البلدان للهمداني ج ٢ ص ٣٥٢، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص ٢٩٣، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٠٤، والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص ٩٣، ولا بأس بمراجعة: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٠٢.

(٢) روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار ص ٦٧، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٦، ص ٢٤٨.

١٦٤

يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيراً: ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي، لأن العلوي ألصق ببيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأراد أن يتخذ له جيشاً أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك..)(١) .

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات، التي كانت تواجه الحكم العباسي، فإننا سوف نجد: أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين، لأنها كانت تظهر في مناطق حساسة جداً.

في الدولة، ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة، والجدارة الحقيقية، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب..

وكان في تأييد الناس لهم. واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الأمة. بمختلف طبقاتها، وفئاتها تجاه حكم العباسيين، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس، نتيجة استهتار العباسيين، وظلمهم، وسياساتهم الرعناء، مع الناس عامة. ومع العلويين بشكل خاص.

وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر، كم سوف يكون حجم الكارثة، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه، لتحكيم مركزه، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم..

____________

(١) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده.

١٦٥

الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد:

وبعد كل ما تقدم.. فإن من الأهمية بمكان، أن نشير هنا، إلى أن العلويين، وقسما كبيراً من الناس، بل وعامة المسلمين، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلاً:

فأما أهل بغداد، فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد..

وأما أهل الكوفة ـ التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له، بل بقوا على الخلاف عليه، إلى أن ذهب أخو الإمام الرضاعليه‌السلام !! العباس بن موسى، يدعوهم، فقعدوا عنه، ولم يجبه إلا البعض منهم، وقالوا: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك. فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك، أجبناك.)(١) .

ويلاحظ هنا: كيف قد اختير رجل علوي، وأخو الإمام الرضاعليه‌السلام بالذات، ليرسل إلى الكوفة، المعروفة بالتشيع للعلويين.. ويلاحظ أيضاً: أن رفضهم الاستجابة له، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي.

وأما أهل المدينة، ومكة، والبصرة، وسائر المناطق الحساسة في الدولة، فقد تقدم ما يدل على حقيقة موقفهم منه، ومن نظام حكمه. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده، في وثيقة العهد للإمام يقول: (.. ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وقواده، وخدمه، فبايعوا مسارعين.. إلى أن قال: فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده، وجنده، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده، علي بن موسى..) والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

فقوله: (لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده.) يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد: (لأمير المؤمنين)، فضلاً عن: (أهل المدينة المحروسة..).

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩٠، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٣٩، وفي تاريخ الطبري ج ١١ ص ١٠٢٠، طبع ليدن، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٨: أنه قد أجابه قوم كثير منهم، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون.. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة. كما ذكر ابن الأثير.

١٦٦

وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له، فإن بيعتهم هذه، وجودها كعدمها، إذ إن عصيانهم، وتمردهم عليه، وعلى حكمه، لم يكن ليخفى على أحد.. بعدما قدمناه من ثوراتهم تلك. التي كانت تظهر من كل جانب ومكان. وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك، أي إلى: (الرضا من آل محمد)، أو إلى أحد العلويين، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم، وقوتهم، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوماً عن يوم.. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان.

نعم بعد أن عاد إلى بغداد، وكان قد قوي أمره، واتسع نفوذه، بدأ الناس يبايعونه في الأقطار، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهرياً، وأنهم كانوا في السر معه، وعلى ولائه، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه.

المأمون يدرك حراجة الموقف:

تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام. وحالة المأمون، وظروفه في الحكم بشكل خاص.. في تلك الفترة من الزمن.. وقد اتضح لنا بجلاء: أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون، ونظام حكمه، قد ازداد سوءاً، بعد وصول المأمون إلى الحكم، وتضاعفت الأخطار، التي كان يواجهها، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح. وتحت رحمة الأنواء..

وإذا كان ليس من الصعب علينا: أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون، وخلافته، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام.. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق، إلى أي حد كان مركزه ضعيفاً، وموقفه حرجاً، حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل، والمتاعب، والأخطار. وخصوصاً وهو يواجه الثورات. وبالأخص ثورات العلويين، أقوى خصوم الدولة العباسية، تظهر من كل جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء. التي انتهجها أسلافه، مع الناس عامة، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الإهمال، والتواني في علاج الوضع، سوف يكون من أبسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على أيدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الأمويين على أيدي أسلافه من قبل..

١٦٧

ماذا يمكن للمأمون أن يفعل:

ولكن.. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه، وهو الحكم والسلطان، وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه، ولا العلويون، ولا العرب، وإذا كان حتى غير العرب، ضعفت ثقتهم به، وتزعزع مركزه في نفوسهم.

وأيضاً.. إذا كانت ثورات العلويين، فضلاً عن غيرهم.. تظهر من كل جانب ومكان.. وإذا كان الكثيرون، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد..

وهكذا إلى آخر ما تقدم. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف، والأنواء التي تتهدده، ونظام حكمه، مكتوف اليدين؟!

وماذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان، الذي هو أعز ما في الوجود عليه؟!.

هذا ـ ما سوف نحاول الإجابة عليه في الفصل التالي.

ظروف البيعة وأسبابها

إنقاذ الموقف!. كيف؟!

قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوماً عن يوم.. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك، والعمل بسرعة، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا، والطين بلة. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء، في سبيل إنقاذ نفسه، ونظام حكمه، وخلافة العباسيين بشكل عام..

وكان المأمون يدرك: أن إنقاذ الموقف يتوقف على:

١ ـ إخماد ثورات العلويين، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات..

٢ ـ أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين. وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحا قويا، لن يقر له قرار، إذا أفقدهم إياه..

١٦٨

٣ ـ استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام. الذي كانوا يتمتعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائياً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العام، بالطرق، والأساليب التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك، ولا يجدون المؤيدين لأية دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائياً ـ سهلاً وميسوراً..

٤ ـ اكتساب ثقة العرب ومحبتهم..

٥ ـ استمرار تأييد الخراسانيين، وعامة الإيرانيين له.

٦ ـ إرضاء العباسيين، والمتشيعين لهم، من أعداء العلويين.

٧ ـ تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيء على سمعته، وثقة الناس به.

٨ ـ وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة، التي كانت تملأ جوانبه فرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأن يمهد الطريق للتخلص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائياً.

لا بد من الاعتماد على النفس:

وبعد هذا.. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد، أنه:

لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين، بني أبيه، بعد أن كانوا ينقمون عليه، قتله أخاه، العزيز عليهم، وعلى العرب، وبعد مواقفه، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم.. وأيضاً. بعد أن كانوا لا يثقون به، ولا يأمنون جانبه، بسبب موقفهم السابق منه.

والأهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة، الذين يستطيع

١٦٩

أن يعتمد عليهم(١) ، يدلنا على ذلك أنهم بعد أن ثاروا على المأمون، بسبب بيعته للرضاعليه‌السلام ، لم يجدوا فيهم شخصاً أعظم، وأكفأ من ابن شكلة المغني، فبايعوه، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط. وفيه يقول دعبل:

نـعر ابـن شكلة بالعراق وأهله

فـهفا إلـيه كـل أطـلس مائق

إن كـان إبـراهيم مضطلعا بها

فـلتصلحن مـن بـعده لمخارق

ولـتصلحن من بعد ذاك لزلزل

ولـتصلحن مـن بـعده للمارق

أنـى يـكون وليس ذاك بكائن

يرث الخلافة فاسق عن فاسق(٢)

كما أنه عندما أصبح إبراهيم هذا خليفة، قال بعض الأعراب، عندما جاء الخبر بأنه: لا مال عند الخليفة ليعطي الجند، الذين ألحوا في طلب أعطياتهم، قال: (فليخرج الخليفة إلينا، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاءهم، ولأهل هذا الجانب مثلها..) فقال في ذلك دعبل ـ شاعر المأمون ـ يذم إبراهيم بن المهدي:

يـا معشر الأجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم، ولا تسخطوا

فـسوف يـعطيكم حـنينية

لا تدخل الكيس، ولا تربط

والـمـعبديات لـقـوادكم

ومـا بـها مـن أحد يغبط

فـهكذا يـرزق أصـحابه

خـليفة مصحفه البربط(٣)

____________

(١) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية. ونقصد بـ‍ (الكفاءة) هنا: الكفاءة الظاهرية، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين، لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

(٢) وفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٨. والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ومعاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، والشعر والشعراء ص ٥٤١، والكنى والألقاب ج ١ ص ٣٣٠. والأطلس: هو الرجل يرمى بالقبيح..

(٣) معاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، ٢٠٦، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٨١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٩٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٣، والغدير ج ٢ ص ٣٧٧، والأغاني ج ١٨ ص ٦٨، و ص ١٠١ طبع دار الفكر، والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، والحنينيات: منسوبة إلى حنين النجفي العبادي. المغني المشهور، والمعبديات: منسوبة إلى معبد المغني المشهور، والبربط: ملهاة، تشبه العود، وهو فارسي معرب. وأصله: بربت: لأن الضارب يضعه على صدره.. انتهى عن نزهة الجليس.

١٧٠

وإذا كان لا يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين، فبالأحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حل مشاكله بالعلويين، والمتشيعين لهم، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له، والذين يخلقون له أعظم المشاكل، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات.

وأما العرب: فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه.

والخراسانيون: لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الأناني البشع، بقتله أخاه، وإبعاده طاهرا بن الحسين، مشيد أركان حكمه، عن مسرح السياسة: (ولقد ذكره الرضا بذلك. عندما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك.).

أي الأساليب أنجع:

وبعد ذلك.. فإنه من الواضح أنه:

لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني.

ولا المنطق والحجاج، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الأمة، بتشجيع من خلفائها، من أن السبب في استحقاق الخلافة، هو القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إن العلويين بناء على هذا: أقوى حجة من العباسيين، لأنهم يمتلكون اعترافاً صريحاً منهم بأن المستحق للخلافة هو الأقرب نسبا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا.. وإذا ما أراد العباسيون، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية والجدارة لقيادة الأمة. فإن العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والأهلية الذاتية لقيادة الأمة قيادة صالحة وسليمة..

وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرؤ على الاستدلال به، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص.

وهكذا.. نرى ويرى المأمون: أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الأساليب، ولا غيرها من الطرق والأساليب الملتوية، واللا إنسانية، التي اتبعها أسلافه من قبل.

وإذن.. فلا بد وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.

والسؤال هو: ماذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء، وليس قبله، ولا بعده شيء.. حتى لا يطمع فيه طامع، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الأنواء، مهما كانت هوجاء وعاتية؟!.

١٧١

خطة المأمون:

وكان أن اتبع المأمون من أجل إنقاذ موقفه، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية.. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوباً جديداً، وغيبيا، لم يكن مألوفاً، ولا معروفاً من قبل.. وأحسب أن لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه، والمشاكل التي كان يواجهها.

لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها، وكانت في غاية الإتقان، والإحكام في نظره.

فبينما نراه من جهة:

لا يذكر أحداً من الخلفاء، ولا غيرهم من الصحابة بسوء، بل هو يتحرج من المساس بغير الصحابة، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين، وتعاليم الشريعة، معروفاً ومشهوراً (كالحجاج بن يوسف)! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكرياً وسياسياً، ومصلحياً، والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي، والحصن الحصين..

فاستمع إليه يقول ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له: (.. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف! والله، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب؟!)(١) . وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم، الذي قال له ـ عندما أراد الإعلان بسب معاوية على المنابر ـ: (والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير..)، ثم يدخل عليه ثمامة، فيقول له المأمون: (يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكراً في العامة الخ.)(٢) . وأيضاً.. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد:

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

أشـتم صديقا ولا عمرا

____________

(١) عصر المأمون ج ١ ص ٣٦٩، نقلاً عن: تاريخ بغداد، لابن طيفور ج ٦ ص ٧٥.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٤١، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٨، و ج ٣ ص ١٥٢، و ١٥٦، وعصر المأمون ج ١ ص ٣٧١، والموفقيات ص ٤١، وكتاب بغداد ص ٥٤.

١٧٢

ثـم ابن عفان في الجنان مع

الأبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشـتم الـزبير ولا

طـلحة إن قـال قائل غدرا

وعـائش الأم لـست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا(١)

ونراه أيضاً يتجسس على عبد الله بن طاهر، ليعلم: هل له ميل إلى آل أبي طالب أو لا(٢) .

ونراه يقدم على قتل الرضاعليه‌السلام ، وإخوته، وآلاف من العلويين غيرهم، ويصدر أمراً لأمرائه، وقواده بالقضاء عليهم، وفض جمعهم، كما سيأتي.

ونراه كذلك.. يرسل إلى عامله على مصر، يأمره بغسل المنابر، التي دعي عليها لعلوي (هو الإمام الرضاعليه‌السلام ).. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه..

بينما نراه كذلك..

نراه من جهة ثانية

يقدم على الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل عليعليه‌السلام ، والبراءة من معاوية ديناً رسمياً، يحمل الناس كلهم عليه، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن..

وقضية الإعلان بسب معاوية، وإن كان الإقدام عليه في سنة ٢١٢ ه‍. لكن تفضيله علياً، على جميع الخلق، وتقربه لولده، وإظهاره التشيع

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤١، ما عدا البيت الرابع.

(٢) الطبري ج ١١ ص ١٠٩٤، طبع ليدن، والعقد الفريد للملك السعيد ص ٨٤، ٨٥، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٦١.

١٧٣

والحب لهم(١) إنما كان من أول أيامه. يدلنا على ذلك أمور كثيرة، ويكفي هجاء ابن شكلة له، وهجاؤه لابن شكلة شاهداً على ذلك. فضلاً عن الكثير من الأمور الأخرى غيره.

ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة، ويصف الخليفة الثاني، عمر بن

____________

(١) قال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٢٠١، ٢٠٢،، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨، وغيرهما: (أن المأمون كان يبالغ في التشيع، ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما، ويعتقد إمامتهما).

وهذا بعينه هو مذهب المعتزلة في بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر، وبشر بن غياث المريسي وغيرهم من معتزلة بغداد، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٩:

قـد قـال مأموننا وسيدنا

قولاً له في الكتب تصديق

إن عـلياً أعني أبا حسن

خـير من قد أقلت النوق

بـعد نبي الهدى، وإن لنا

أعـمالنا والقرآن مخلوق

وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون، منهم: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٥، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥، وإمبراطورية العرب ص ٦٠٠، وغيرهم، بل لقد قال خيري حماد، في تعليقته على ص ٦٠١، من إمبراطورية العرب بقوله: (أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الأخذ بمذهب المعتزلة، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ.)، ويدل على ذلك أيضاً أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة.. ولعل وصف بعض المؤرخين بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع، فجزم بذلك، وبدأ يحشد الدلائل، والشواهد، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة (التشيع) المعنى اللغوي، لا المعنى الخاص المعروف الآن..

وبعد.. فإن من الواضح: أن عقيدة المأمون تلك، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام، فإنه كان من السياسيين. الذين لا ينطلقون في سلوكهم، ومواقفهم الخارجية ن منطلقات عقائدية، ومفاهيم إنسانية. وإنما يكون المنطلق لهم في مواقفهم، وتصرفاتهم، هو ـ فقط ـ مصالحهم الشخصية، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم، وتأكيد سيطرتهم..

١٧٤

الخطاب بـ‍ (جعل)(١) ، أو نحو ذلك.

ونراه أيضاً أنه عندما سأل أصحابه عن: أنبل من يعلمون نبلاً، وأعفهم عفة، فقال له علي بن صالح: (أعرف القصة في عمر بن الخطاب، فأشاح بوجهه، وأعرض، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب، فنذكره، إلخ..)(٢) على حد تعبير البيهقي.. وذكر طيفور: أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون: فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون: إلا أنه غصبنا، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين، يكون الغصب إلا بحق يد فهل كانت لكم يد، قال فسكت المأمون عنه، واحتملها له (٣) .

ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال أم هي حق جعله الله لهم؟ ولا ندري سر سكون المأمون عنه، واحتماله منه، إلا ما قدمناه..

بل إن الأهم من ذلك كله.. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة، وغيرهم من الصحابة بأنهم: (ملحدين) ناسياً، أو متناسياً كل أقواله السابقة، وخصوصاً شعره، وقوله: إنه يتحرج حتى من تنقص

____________

(١) وفيات الأعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج ٢ / ٢١٨ ط سنة ١٣١٠ ه‍ والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦ والنص والاجتهاد ص ١٩٣، وفي قاموس الرجال ٩ / ٣٩٧، نقلاً عن الخطيب في تاريخ بغداد: أنه كان يقول: (ومن أنت يا أحول الخ..) ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع، فحرفوها إلى ما ترى.

هذا.. وقد يرى البعض: أن تفضيله علياً، وإعلانه بسب معاوية، وإباحته المتعة، وقوله بخلق القرآن، ليس إلا لإشغال الناس بعضهم ببعض، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة، التي هي أعز ما في الوجود عليه، والتي ضحى من أجلها بأخيه، وأشياعه، ووزرائه، وقواده. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وإبعادهم عنهم.. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية، التي تؤيده، وتدعمه.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٥٠.

(٣) كتاب بغداد ص ٥١.

١٧٥

الحجاج، كيف بالسلف الطيب، فاستمع إليه يقول، على ما يرويه لنا البيهقي:

ومن غاو يغص علي غيظاً

إذا أدنـيت أولاد الـوصي

يـحاول أن نـور الله يطفى

ونـور الله فـي حصن أبي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبـان لك الرشيد من الغوي

وعـرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر الجلي(١)

بـأية خـلة، وبـأي معنى

تفضل (ملحدين) على (علي)

عـلي أعـظم الـثقلين حقاً

وأفضلهم سوى حق النبي(٢)

بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد أتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس وأنه أجاز علياً فصحت خلافته وذلك بأن أظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوماً عن المأمون: (سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب، وما ظننت أني أعيش حتى أسمع عباسياً يقول هذا، فقال الفضل له: تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله)(٣) ولكن الظاهر: أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك، وإظهاره.

وهكذا.. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض، أو منافاة، بل كانت كلها في نظره صحيحة، ومنطقية، لأنها كانت في ظروف مختلفة، وكان لا بد له من مسايرة تلك الظروف، والانسجام معها، فلا مانع عنده، من أن يقرب العلويين إليه، ويتظاهر بإكرامهم، وتقديرهم.. في يوم.. ثم منعهم من الدخول عليه، واضطهدهم، وقتلهم بالسم تارة، وبالسيف أخرى في يوم آخر.. وهكذا.

____________

(١) القوي خ ل.

(٢) المحاسن والمساوي، طبع دار صادر ص ٦٨، وطبع مصر ج ١ / ١٠٥.

(٣) كتاب بغداد ص ٧.

١٧٦

وأيضاً. لا بد من خطوة أخرى.

ولكن ذلك وحده لم يكن كافياً لإخماد ثورات العلويين، ولا لتحقيق كافة الأهداف، التي قدمنا، وسيأتي شطر منها. فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث.

وتلك الخطوة هي: (أخذ البيعة للإمام علي الرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده..) وجعله أمير بني هاشم طراً، عباسيهم، وطالبيهم(١) ، ولبس الخضرة.

لم يبق إلا خيار واحد:

ومن نافلة القول هنا: أن نقول: إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء، مما ساعده على معرفة الدواء، الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية، التي لم تكن لتقاس أبداً بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا، ورجولة، وشجاعة.

إن المأمون ـ على ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في تلك الفترة.. ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك. إلا إذا أراد أن يتغابى أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته، التي أصبحت ظلا، لا يلبث أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة، فتحوله إلى سراب.

____________

(١) غاية الاختصار ص ٦٨.

١٧٧

ما الحيلة له.. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد، ولن تستقيم له الأمور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة.

ولقد صرح المأمون نفسه للريان، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون: بأن البيعة للإمام كانت من تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله: (.. ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة، قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل؟!(١) ).

مع رسالة الفضل بن سهل للإمام:

وكاتب الإمام، وألح عليه، وكاتبه الفضل بن سهل أيضاً.. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة، فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة.

كما أنني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة، ليطلع القارئ عليها بنفسه، ويستخلص منها ما يراه مناسباً وضرورياً..

أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الإشارة إليها هنا، فتتلخص بما يلي:

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٣، والبحار ج ٤٩ / ١٣٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥١، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٥.

١٧٨

ملاحظات لا بد منها:

أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة: (الرضا)، التي تنص وثيقة العهد، وغيرها: على أن المأمون هو الذي جعلها لقباً للإمامعليه‌السلام ـ كما سيأتي ـ.. فإطلاق الفضل بن سهل لكلمة (الرضا) عليهعليه‌السلام يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقباً مشهوراً ومعروفاً له ـ: إن جعل المأمون هذا اللفظ لقباً رسميا للإمامعليه‌السلام كان بوحي من ذي الرياستين نفسه. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماماً: أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بإيحاء من المأمون.

وثانياً: إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمامعليه‌السلام : بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين، الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الإطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على إمضاء هذا الأمر.

وهذا يعني: أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد، ولذا فإن من الأفضل لهعليه‌السلام أن يكف عن ذلك، ويمتنع عنه.

وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله: (.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني الخ..).

وثالثاً: يلاحظ: أن الرسالة تتناسب في صياغتها، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الإمامعليه‌السلام ومذهبه العقائدي، ومذهب شيعته.

وتنسجم مع ما يدعيه هو، ويدعيه آباؤه، وكان قد اشتهر وشعاع بين الناس: من أن الحق في خلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم دون غيرهم. وأن الغير ـ أياً كانوا ـ ظالمون لهم، ومعتدون عليهم في هذا الحق.

ثم يحاول الفضل أن يفهم الإمام: أنه وإن كان هو والمأمون

قد صمما على توليته العهد، لكنه يقول له، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون، فأنا أقول فيك: أنك ابن رسول الله، وأنك المهتدي، والمقتدى، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك إليك، ورد لمظلمتك عليك. أما المأمون: فهو يراك شريكاً في أمره، وشقيقاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.

١٧٩

فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الإمام، ويكتسب محبته وثقته. ولعل إظهار هذا الاختلاف، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل. وهكذا كان السياسيون، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم. وتحقق لهم مأربهم.

ورابعاً: وأخيراً.. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده، حتى يصير إلى باب المأمون!. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة: إلى أن ذلك منهعليه‌السلام يوجب صلاح الأمة به.. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم، كما كان الكل يعلم: أنه إذا تأكد لدى الإمامعليه‌السلام : أن صلاح الأمة متوقف على عمل ما من جهته، فإنه لا يتوانى، ولا يألو جهداً في العمل بوظيفته، والقيام بواجبه.. هذا بالإضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب.

ملاحظات هامة:

هذا.. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة، لا بد من ملاحظة:

أ ـ: إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين، الذين ناصبوه العداء، وشجعوا أخاه الأمين عليه، ولسوف يزيد من حنقهم، وغضبهم: حتى إنهم رضوا بإبراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210