الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء27%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56035 / تحميل: 7666
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ومثله ابن داود ( ت ٧٠٧ هـ )(١) ، وعدّه في حاوي الأقوال في الضعاف(٢) .

وناقش البهبهاني ( ت ١٢٠٥ هـ ) في التعليقة على وقفه ، وقال : الحكم بوقفه لا يخلو من شيء ; لما مرّ في الفوائد ، وأنّ الظاهر أنّ حكم الخلاصة به ممّا ذكر في رجال الكاظم ( عليه السلام ) والكشّي ، وفي الظنّ أنّ ما في رجال الكاظم ( عليه السلام ) ممّا في رجال الكشّي.

وبالجملة : لا يبقى وثوق في عدم كونه منه ، وبعض أشياخ حمدويه غير معلوم الحال ، فليتأمّل ، ورواية ابن أبي عمير عنه تشير إلى وثاقته ، وكذا رواية علي بن الحسين(٣) ، ورواية الجماعة كتابه تشير إلى الاعتماد عليه ، وكذا كونه كثير الرواية ، وكون أكثرها سديدة مضمونها مفتى به ، معمول عليه ، إلى غير ذلك ممّا مرّ في الفوائد(٤) .

وأجاب الشيخ أبو علي ( ت ١٢١٦ هـ ) عليه : فالتوقّف في وقفه بعد شهادة عدلين مرضيين ، بل وعدول مرضيين ، لعلّه ليس بمكانه ، وقوله سلّمه الله : بعض أشياخ ، إلى آخره ، عجيب! إذ لا شكّ في كونه من فقهائنا ( رضي الله عنه ) ، مع أنّه سلّمه الله كثيراً ما يقول في أمثال المقام : إنّ المراد ليس مجرّد نقل القول ، بل الظاهر أنّه للاعتماد عليه والاستناد إليه ، فتأمّل جدّاً.

وما ذكره سلّمه الله من المؤيّدات لا ينافي الوقف أصلاً.

نعم ، لا يبعد إدخال حديثه في القوي ، وخروجه بذلك من قسم

____________

[ ٢٧٤ ].

١ ـ رجال ابن داود : ٢٤٥ [ ١٨٠ ] ، القسم الثاني ، وانظر : نقد الرجال ٢ : ٢٢٤ [ ١٩٠٩ ].

٢ ـ حاوي الأقوال ٣ : ٤٦٠ [ ١٥٥٣ ].

٣ ـ الظاهر أنّ ( الحسين ) تصحيف ( الحسن ).

٤ ـ منهج المقال : ١٣٨ ، الهامش.

٦١

الضعيف(١) ، ومثله المامقاني في تنقيحه(٢) .

وفي خاتمة المستدرك ـ بعد أن عدّ جماعة من الثقات رووا عنه ـ قال : وهؤلاء جماعة وجدنا روايتهم عن درست في الكتب الأربعة ، وفيهم : ابن أبي عمير ، والبزنطي ، اللذان لا يرويان إلاّ عن ثقة ، وفيهم من الذين أجمعت العصابة على تصحيح أخبارهم ، أربعة : هما ، والحسن بن محبوب ، وعبد الله بن بكير ، ويأتي في شرح أصل النرسي أنّ الإجماع المذكور من أمارات الوثاقة.

وفيهم من الثقات الأجلاّء غيرهم ، جماعة : كالوشّاء ، وابن سويد ، وابن نهيك ، وابن مهران ، وابن معبد الذي يروي عنه صفوان بن يحيى ، والحسين بن زيد ، وأبو شعيب المحاملي ، وابن أسباط ، وإبراهيم بن محمّد ابن إسماعيل ، وسعد بن محمّد ، الذين يروي عنهم علي الطاطري ، وقد قال الشيخ ( قدس سره ) : إنّ الطائفة عملت بما رواه الطاطريون.

وبعد رواية هؤلاء عنه لا يبقى ريب في أنّه في أعلى درجة الوثاقة ، ورواياته مقبولة وكتابه معتمد ، وقد تأمّل في التعليقة في وقفيّته ، ولعلّه في محلّه ، ولا حاجه لنا إلى شرحه(٣) .

ثمّ إنّه قد يستظهر من قول الكشّي ( القرن الرابع ) أنّه كان من أصحاب الرضا ( عليه السلام ) ، ولكنّي لم أجد له رواية عن الرضا ( عليه السلام ) ، وظاهر الكشّي لا يلائم قوله بالوقف كما صرّح به الكلّ.

نعم ، روى الكليني ( ت ٣٢٩ هـ ) رواية عن محمّد بن يحيى ، عن

____________

١ ـ منتهى المقال ٣ : ٢١٦ [ ١١٢٥ ].

٢ ـ تنقيح المقال ١ : ٤١٧ [ ٣٨٨٠ ] ، وانظر : أعيان الشيعة ٦ : ٣٩٥ ، قاموس الرجال ٤ : ٢٧٤ [ ٢٧٦٢ ] ، معجم رجال الحديث ٨ : ١٤٤ [ ٤٤٦٤ ].

٣ ـ خاتمة المستدرك ١ : ٤٣ ، وانظر ٤ : ٢٨٨ [ ١١٣ ] ، و ٧ : ٣٦١ [ ٨٨٥ ].

٦٢

محمّد بن أحمد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبيد الله الدهقان ، عن درست ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام )(١) ، في باب ( ما لا يؤكل من الشاة وغيرها ).

ولكن هذه الرواية رواها البرقي ( ت ٢٧٤ أو ٢٨٠ هـ ) في المحاسن ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد(٢) .

والطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) في التهذيب عن محمّد بن أحمد بنفس سند الكليني(٣) .

والراوندي ( ت ٥٧٣ هـ ) في فقه القرآن(٤) ، عن أبي الحسن ( عليه السلام ) مجرّداً بدون ( الرضا ) ، وهو ينصرف إلى موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام ) ، بل إنّ الحرّ العاملي ( ت ١١٠٤ هـ ) ذكرها في الوسائل عن الكليني بدون ( الرضا )(٥) ، فتأمّل.

كما لم أجد رواية أُخرى لإبراهيم بن عبد الحميد عن الرضا ( عليه السلام ) غير ما في الكافي ، وإذا كان هو المُصرّح بوقفه فالمطلوب أوضح.

وبالتالي فإنّ المتيقّن أنّ درست بن أبي منصور كان من أصحاب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، ولا يعلم أنّه بقي إلى عصر الرضا ( عليه السلام ) أو لا ، أو بالأحرى لا يعلم هل بقي إلى القرن الثالث أو لا ، فلاحظ.

أصل ( كتاب ) درست :

ذكر النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) طريقيه إليه ، وقال : له كتاب يرويه

____________

١ ـ الكافي ٦ : ٢٥٣ ، ح ١ ، باب : ما لا يؤكل من الشاة وغيرها.

٢ ـ المحاسن ٢ : ٢٦٣ [ ١٨٣٦ ].

٣ ـ التهذيب ٩ : ٨٤ [ ٣١٣ ].

٤ ـ فقه القرآن ٢ : ٢٥٨.

٥ ـ الوسائل ٢٤ : ١٧١ ح ١ ، باب ما يحرم من الذبيحة ، وما يكره منها.

٦٣

جماعة ، منهم سعد بن محمّد الطاطري ، عمّ علي بن الحسن الطاطري ، ومنهم محمّد بن أبي عمير ، أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، قال : حدَّثنا أحمد ابن جعفر ، قال : حدَّثنا حُميد بن زياد ، قال : حدَّثنا محمّد بن غالب الصيرفي ، قال : حدَّثنا علي بن الحسن الطاطري ، قال : حدَّثنا عمّي سعد بن محمّد أبو القاسم ، قال : حدَّثنا دُرست بكتابه ، وأخبرنا محمّد بن عثمان ، قال : حدَّثنا جعفر بن محمّد ، قال : حدَّثنا عبيد الله بن أحمد بن نهيك ، قال : حدَّثنا محمّد بن أبي عمير عن درست بكتابه(١) .

وطريق الشيخ ( ت ٤٦٠ هـ ) في الفهرست : أخبرنا بكتابه أحمد بن عبدون ، عن علي بن محمّد بن الزبير القرشي ، عن أحمد بن عمر بن كيسبة ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست ، ورواه حميد عن ابن نهيك ، عن درست(٢) .

وقال الصدوق ( ت ٣٨١ هـ ) في مشيخته : وما كان فيه عن درست بن أبي منصور ، فقد رويته عن أبي ( رحمه الله ) ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن علي الوشّا ، عن درست بن أبي منصور الواسطي(٣) .

وطريق الصدوق إليه صحيح ، قاله في الخلاصة(٤) ، وقال النوري ( ت ١٣٢٠ هـ ) : رجال السند من الأجلاّء الثقات(٥) ، وقال : وأمّا طريق الشيخ فهو مجهول في الفهرست بأحمد بن عمر بن كيسبة(٦) .

____________

١ ـ رجال النجاشي : ١٦٢ [ ٤٣٠ ].

٢ ـ فهرست الطوسي : ١٨٦ [ ٢٨٨ ].

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٧٨ شرح مشيخة الفقيه.

٤ ـ خلاصة الأقوال : ٤٤١ ، الفائدة الثامنة ، وانظر : عدّة الرجال ٢ : ١٢٩ ، الفائدة السادسة.

٥ ـ خاتمة المستدرك ٤ : ٢٨٨ [ ١١٣ ].

٦ ـ خاتمة المستدرك ٦ : ١٣٩ [ ٢٧٤ ] ، وانظر : معجم رجال الحديث ٨ : ١٤٦ [ ٤٤٦٤ ].

٦٤

والنسخة التي اعتمد عليها صاحب البحار نسخة قديمة تحتوي على أُصول لرواة آخرين ، قال في أوّل البحار : مع أنّا أخذناهما ( يريد أصل النرسي والزرّاد ) من نسخة قديمة مصحّحة بخطّ الشيخ منصور بن الحسن الآبي ( النصف الأوّل من القرن الخامس ) ، وهو نقله من خطّ الشيخ الجليل محمّد بن الحسن القمّي ( النصف الثاني من القرن الرابع ) ، وكان تاريخ كتابتها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة ، وذكر أنّه أخذها وسائر الأُصول المذكورة(١) بعد ذلك من خطّ الشيخ الأجلّ هارون بن موسى التلعكبري ( رحمه الله ) ( ت ٣٨٥ هـ )(٢) .

ولكنّه لم يذكر أصل درست ضمن هذه الأُصول في النسخة ، وسببه أنّ أوّل أصل درست كان ساقطاً.

قال النوري ( ت ١٣٢٠ هـ ) في خاتمة مستدركه في الفائدة الثانية : وكتاب درست وأخواته(٣) ، إلى جزء من نوادر علي بن أسباط ، وجدناها مجموعة منقولة كلّها من نسخة عتيقة صحيحة بخطّ الشيخ منصور بن الحسن الآبي ، وهو نقلها من خطّ الشيخ الجليل محمّد بن الحسن القمّي ، وكان تاريخ كتابتها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة ، وذكر أنّه أخذ الأُصول المذكورة من خطّ الشيخ الأجلّ هارون بن موسى التلعكبري ، وهذه النسخة كانت عند العلاّمة المجلسي ( قدس سره ) ( ت ١١١١ هـ ) ، كما صرّح به في أوّل البحار ، ومنها انتشرت النسخ ، وفي أوّل جملة منها وآخرها يذكر صورة النقل.

____________

١ ـ يذكر ثلاثة عشر أصلا ، ولم يذكر أصل درست ، وسيأتي توضيحه في المتن.

٢ ـ البحار ١ : ٤٣ ، توثيق المصادر.

٣ ـ الأُصول المذكورة في كتاب الأُصول الستّة عشر ، ما عدا كتاب ديّات ظريف : ١٣٤ ، ومختصر علاء : ١٤٩.

٦٥

أمّا كتاب درست : فهو ساقط من أوّله(١) ، وفي آخره : تمّ كتاب درست ، وفرغت من نسخه من أصل أبي الحسن محمّد بن الحسن بن الحسين بن أيوّب القمّي ( النصف الثاني من القرن الرابع ) أيّده الله ، سماعاً له عن الشيخ أبي محمّد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري أيّده الله ، بالموصل ، في يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة ، والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم تسليماً(٢) .

ولكن في المطبوعة لم ترد صورة النقل في أوّلها ، ولم يذكر اسم الشيخ منصور بن الحسن الآبي وإن جاء اسمه في ضمن الكتاب ، وفي آخرها لا توجد جملة ( تمّ كتاب درست ) ، وإنّما يوجد ما بعدها ، والظاهر أنّه سقط من النساخ ; لأنّ الأحاديث الموجودة عن أصل درست مصدّرة باسمه(٣) .

وعلى هذه النسخة خطّ الشيخ الحرّ العاملي ( ت ١١٠٤ هـ ) ، هكذا : إعلم أنّي تتبّعت أحاديث هذه الكتب الأربعة عشر ـ أي عدا ديّات ظريف ومختصر علاء ـ فرأيت أكثر أحاديثها موجوداً في الكافي ، أو غيره من الكتب المعتمدة ، والباقي له مؤيّدات فيها ، ولم أجد فيها شيئاً منكراً سوى حديثين محتملين للتقيّة وغيرها ، حرّره محمّد العاملي(٤) .

وقال الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) في الذريعة : وهذا الكتاب أيضاً من الكتب الموجودة الباقية على الهيئة الأوّليّة ، وترتيبها أوّله الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم تسليماً ، رأيت نسخة منه في

____________

١ ـ الأُصول الستّة عشر : ١٥٨.

٢ ـ خاتمة المستدرك ١ : ٣٨ ، الفائدة الثانية.

٣ ـ انظر الأُصول الستّة عشر من أوّله ، وصفحة ١٥٨ ، وصفحة ١٦٩ ( الأخيرة ).

٤ ـ كتاب الأُصول الستّة عشر : ١٧٠.

٦٦

كربلاء عند السيّد إبراهيم بن السيّد هاشم القزويني المتوفّى ( ٧ ـ ٢ ـ ١٣٦٠ ) ، وهي بخطّ السيّد علي أكبر بن السيّد حسين الحسيني ، فرغ من الكتابة في النجف ( ١٢٨٦ ) وذكر أنّه استنسخها عن نسخة قوبلت من أصل أبي الحسن محمّد بن الحسن بن الحسين القمّي(١) .

ولكن الجملة المذكورة على أنّها في أوّله غير موجودة في المطبوع ، والظاهر أنّه كذلك في النسخة الخطيّة ، لما عرفت من نصّ النوري على أنّها ساقطة الأوّل ، فقد تكون من زيادات الناسخ ; لأنّ هذه النسخة في كربلاء مأخوذة من تلك النسخة ـ الأصل ـ على أنّ آخر أصل درست فيه هذه الجملة ( والحمد لله رب العالمين ) كما عرفت فيما نقلنا من المطبوع ، فلعلّه كان سبق قلم من العلاّمة الطهراني عندما قال أوّلها ويريد آخرها.

____________

١ ـ الذريعة ٦ : ٣٣٠ ( ١٨٨٩ ) ، وانظر : طبقات أعلام الشيعة ١ ( القرن الرابع ) : ٢٦١ ، ٣٢١ ، ٣٢٩، ٢ ( القرن الخامس ) : ١٩٦.

٦٧
٦٨

(٣) كتاب : الوصيّة

لعيسى بن المستفاد ( النصف الثاني من القرن الثاني )

الحديث :

قال السيّد ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ) في الطرف(١) :

عن عيسى بن المستفاد ، قال : حدَّثني موسى بن جعفر ، قال : سألت أبي جعفر بن محمّد ( عليه السلام )(٢) .

وعنه ، عن أبيه ، قال : لمّا حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة دعا الأنصار ، وقال : « يا معشر الأنصار ، قد حان الفراق ، وقد دُعيت وأنا مجيب الداعي ، وقد جاورتم فأحسنتم الجوار ، ونصرتم فأحسنتم النصرة ، وواسيتم في الأموال ، ووسعتم في السكنى ، وبذلتم لله مهج النفوس ، والله مجزيكم بما فعلتم الجزاء الأوفى.

وقد بقيت واحدة ، وهي تمام الأمر وخاتمة العمل ، العمل معها مقرون به جميعاً ، إنّي أرى أن لا يفرّق بينهما جميعاً ، لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست ، من أتى بواحدة وترك الأُخرى كان جاحداً للأُولى ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا ».

قالوا : يا رسول الله ، فأَبنِ لنا نعرفها ، ولا نمسك عنها فنضلّ ونرتدّ

____________

١ ـ كتاب الوصيّة لعيسى بن المستفاد مفقود ، ولا نعرف منه إلاّ ما نقله ابن طاووس في طرفه ، وما أوردناه منه.

٢ ـ طرف من الأنباء والمناقب : ١١٥ ، الطرفة الأُولى.

٦٩

عن الإسلام ، والنعمة من الله ومن رسوله علينا ، فقد أنقذنا الله بك من الهلكة يا رسول الله ، [ وقد بلّغت ونصحت وأدّيت ، وكنت بنا رؤوفاً رحيماً ، شفيقاً مشفقاً ، فما هي يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله )؟ ](١) .

قال لهم : « كتاب الله وأهل بيتي ، فإنّ الكتاب هو القرآن ، وفيه الحجّة والنور والبرهان ، وكلام الله جديد غضّ طريّ ، شاهد ومحكم عادل ، دولة قائد بحلاله وحرامه وأحكامه ، بصير به ، قاض به ، مضموم فيه ، يقوم غداً فيحاجّ به أقواماً ، فتزلّ أقدامهم عن الصراط ، فاحفظوني معاشر الأنصار في أهل بيتي ، فإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

ألا وأنّ الإسلام سقف تحته دعّامة ، ولا يقوم السقف إلاّ بها ، فلو أنّ أحدكم أتى بذلك السقف ممدوداً لا دعّامة تحته ، فأوشك أن يخرّ عليه سقفه فهوى في النار.

أيّها الناس ، الدعّامة دعّامة الإسلام ، وذلك قوله تبارك وتعالى( إليه يصْعَدُ الكَلِمُ الطيّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يرفَعُه ) ، فالعمل الصالح طاعة الإمام وليّ الأمر والتمسّك بحبل الله.

أيّها الناس ، ألا فهمتم ، الله الله في أهل بيتي ، مصابيح الهدى ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ومستقرّ الملائكة ، منهم وصيّي وأميني ووارثي ، ومن هو منِّي بمنزلة هارون من موسى ، علي ( عليه السلام ) ، ألا هل بلّغت؟

والله يا معاشر الأنصار ، [ لتقرُّن لله ولرسوله بما عهد إليكم ، أو ليُضرَبن بعدي بالذلّ.

يا معشر الأنصار ](٢) ألا اسمعوا ومن حضر ، ألا إنّ باب فاطمة بابي ،

____________

١ ـ بين القوسين ساقط في بعض النسخ.

٢ ـ بين القوسين ساقط من بعض النسخ.

٧٠

وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ».

قال عيسى بن المستفاد : فبكى أبو الحسن ( عليه السلام ) طويلا ، وقطع عنه بقيّة الحديث ، وأكثر البكاء ، وقال : « هُتك ـ والله ـ حجاب الله ، هُتك ـ والله ـ حجاب الله ، هُتك ـ والله ـ حجاب الله ، وحجاب الله حجاب فاطمة ، يا أُمّه يا أُمّه ، صلوات الله عليها »(١) .

عيسى بن المستفاد :

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : عيسى بن المستفاد أبو موسى البجلي الضرير ، روى عن أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) ، ولم يكن بذاك(٢) .

وذكره الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) في الفهرست ، وسكت عنه(٣) ، ومثله ابن شهر آشوب ( ت ٥٨٨ هـ ) في المعالم(٤) .

وقال ابن الغضائري ( ت ٤١١ هـ ) : ذكر له رواياته عن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ، وله كتاب الوصيّة لا يثبت سنده ، وهو في نفسه ضعيف(٥) .

ونقل في الخلاصة كلام النجاشي وابن الغضائري ، أورده في القسم الثاني المخصّص للضعاف أو من يردّ قوله أو يتوقّف فيه(٦) ، ولكن ابن داود ( ت ٧٠٧ هـ ) أورده في القسمين ، ورمز له في أصحاب الباقر ( عليه السلام ) ، ونقل في الأوّل عن رجال الشيخ والفهرست والنجاشي أنّه لم يكن بذاك ، مع أنّه غير مذكور في رجال الشيخ(٧) ، وفي الثاني أعاد ما ذكره أوّلا ، ولكنّه

____________

١ ـ طرف من الأنباء والمناقب : ١٤٣ ، الطرفة العاشرة.

٢ ـ رجال النجاشي : ٢٩٧ [ ٨٠٩ ].

٣ ـ فهرست الطوسي : ٣٣٢ [ ٥٢١ ].

٤ ـ معالم العلماء : ٨٦ [ ٥٩٤ ].

٥ ـ رجال ابن الغضائري : ٨١ [ ١٠٠ ] ، وانظر : مجمع الرجال ٤ : ٣٠٦.

٦ ـ خلاصة الأقوال : ٣٧٨ [ ١٥٢٠ ] ، القسم الثاني.

٧ ـ رجال ابن داود : ١٤٩ [ ١١٧٦ ].

٧١

نسبه إلى النجاشي فقط(١) .

ثمَّ ترجم في جامع الرواة : ( عيسى الضرير ) و ( عيسى الضعيف ) يرويان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، واستظهر أنّهما واحد لاتّحاد الطريق(٢) ، ووافقه التستري ( ت ١٤١٥ هـ ) في القاموس(٣) ، والسيّد الخوئي ( ت ١٤١٣ هـ ) في المعجم(٤) ، وأمّا المامقاني ( ت ١٣٥١ هـ ) فأستظهر اتّحادهما مع عيسى بن المستفاد أيضاً(٥) ، مع أنّ صاحب القاموس استبعد ذلك(٦) .

أقول : إنّ ( عيسى الضرير ) أو ( عيسى الضعيف ) لم يرد ذكره في رجال الطوسي ولا البرقي في أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، بل لم يرد ذكره أصلا ، لا في هذين الكتابين ولا في بقيّة كتب الرجال ، وإنّما جاء في سند الروايات عن الإمام الصادق ( عليه السلام ).

نعم ، ذكر الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) في رجاله في أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) عيسى بن عبد الرحمن السلميّ البجليّ ، كوفي(٧) ، ولم يذكر

____________

١ ـ رجال ابن داود : ٢٦٥ [ ٣٨٤ ].

وانظر : نقد الرجال ٣ : ٣٩٦ [ ٤٠٦٢ ] ، إيضاح الاشتباه : ٢٣٤ [ ٤٥٣ ] ، هداية المحدّثين : ١٢٦ ، منتهى المقال ٥ : ١٦٩ [ ٢٢٥٦ ] ، حاوي الأقوال ٤ : ١٥٠ ، عدّة الرجال ١ : ٢٤٦ ، جامع الرواة ١ : ٦٥٤ ، تنقيح المقال ٢ : ٣٦٣ ، مع بعض الاشتباه نبّه عليه التستري في قاموس الرجال ٨ : ٣٣١ [ ٥٨٢٤ ] ، معجم رجال الحديث ١٤ : ٢٢٤ [ ٩٢٤١ ] ، الوجيزة : ٢٧٦ [ ١٣٨٧ ] ، مجمع الرجال ٤ : ٣٠٦ ، بهجة الآمال ٥ : ٦٤٥.

٢ ـ جامع الرواة ١ : ٦٥١.

٣ ـ قاموس الرجال ٨ : ٣١٩ [ ٥٨٠٢ ] و [ ٥٨٠٣ ].

٤ ـ معجم رجال الحديث ١٤ : ٢٢٩ [ ٩٢٥٣ ] و [ ٩٢٥٤ ].

٥ ـ تنقيح المقال ٢ : ٣٦١.

٦ ـ قاموس الرجال ٨ : ٣١٩ [ ٥٨٠٣ ].

٧ ـ رجال الطوسي : ٢٥٨ [ ٣٦٦٥ ].

٧٢

عيسى بن المستفاد في أصحاب أيّ إمام من الأئمّة ( عليهم السلام ) ، مع أنّه ذكره في الفهرست(١) .

فإذا أخذنا بعين الاعتبار اتّحاد الاسم واللقب ، وأنّ المستفاد يمكن أن يكون لقب لعبد الرحمن ، أمكن القول باتّحادهما ، بل باتّحاد الجميع الضرير أو الضعيف وابن المستفاد وابن عبد الرحمن السلميّ البجليّ ، فإنّ الضعيف ـ كما هو الأصحّ على ما أشار إليه التستري ( ت ١٤١٥ هـ )(٢) ويحتمل العكس ـ قد روى عن الصادق ( عليه السلام ) في الكافي والفقيه والتهذيب(٣) ، مع أنّ الشيخ لم يذكره في رجاله.

وقد يكون من القرينة على ذلك ما رواه الرضي ( ت ٤٠٦ هـ ) في الخصائص بسند ، هو : حدّثني هارون بن موسى ، قال : حدّثني أحمد بن محمّد بن عمّار العجليّ الكوفي ، قال : حدَّثني عيسى الضرير ، عن أبي الحسن ( عليه السلام ) ، عن أبيه قال : ، وهي الطرفة الخامسة عشر من طرف السيّد ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ )(٤) ، كما وأورد رواية أُخرى بنفس السند ، ولكنّه ذكر الاسم هكذا : أبو موسى عيسى الضرير البجلي ، وهو في الطرفة السادسة عشر من الطرف(٥) .

فاكتفائه في الأوّل بـ ( عيسى الضرير ) ، وأضاف إليه في الثاني ( أبو موسى ) و ( البجلي ) يقرّبنا إلى المراد كما هو واضح ; لأنّ المراد بعيسى الضرير في السند هو ابن المستفاد ، بقرينة ذكر روايته في ضمن الطرف

____________

١ ـ فهرست الطوسي : ٣٣٢ [ ٥٢١ ].

٢ ـ قاموس الرجال ٨ : ٣١٩ [ ٥٨٠٣ ].

٣ ـ الكافي ٧ : ٢٩٥ ح ١ و ٢٧٦ ح ٤ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٦٩ ح ١٢ ، التهذيب ١٠ : ١٨٧ ح ٣٢ ، كتاب الديّات ، باب : القضايا في الديّات والقصاص.

٤ ـ طرف من الأنباء والمناقب : ١٥٧ ، الطرفة الخامسة عشر.

٥ ـ طرف من الأنباء والمناقب : ١٦١ ، الطرفة السادسة عشر.

٧٣

التي أكثرها عن ابن المستفاد عن الكاظم ( عليه السلام ).

ويبقى ما انفرد به النجاشي من أنّه من أصحاب أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) ، فالظاهر أن لا رواية له عن الجواد ( عليه السلام ) ، فهل يمكن حمل ( الثاني ) على الاشتباه وأنّه أبو جعفر الباقر ( عليه السلام ) ، كما عن ابن داود؟ الله أعلم!

كتاب الوصيّة :

لم يصلنا من كتاب عيسى بن المستفاد إلاّ ما نقله ابن طاووس في طرفه ، ولكنّه لم يصرّح بأنّه من كتاب الوصيّة لعيسى ، وإن استظهر الكلّ أنّه منه ; لأنّهم لم يذكروا لابن المستفاد كتاباً غيره ، ولأنّ ما نقله ابن طاووس ينطبق تماماً على اسم الكتاب ، ألا وهو ( الوصيّة ).

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : له كتاب الوصيّة ، رواه شيوخنا ، عن أبي القاسم جعفر ابن محمّد ، قال : حدَّثنا أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن هلال بن الفضل بن محمّد بن أحمد بن سليمان الصابوني ، قال : حدّثنا أبو جعفر محمّد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمّد ، قال : حدَّثنا أبو يوسف الوُحاظي والأزهر بن بسطام بن رستم والحسن بن يعقوب ، قالوا : حدَّثنا عيسى بن المستفاد ، وهذا الطريق طريق مصريّ فيه اضطراب ، وقد أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عمران ، قال : حدَّثنا يحيى بن محمّد القصباني ، عن عبيد الله بن الفضل(١) .

وقال الشيخ ( ت ٤٦٠ هـ ) في الفهرست : له كتاب ، رواه عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عنه(٢) ، وهو ضعيف بعبيد الله بن عبد الله الدهقان(٣) .

____________

١ ـ رجال النجاشي : ٢٩٧ [ ٨٠٩ ].

٢ ـ فهرست الطوسي : ٣٣٢ [ ٥٢١ ].

٣ ـ انظر : خاتمة المستدرك ٩ : ٢٤٦ [ ٥٣٢ ] ، معجم رجال الحديث ١٤ : ٢٢٤ [ ٩٢٤١ ].

٧٤

وقال ابن الغضائري ( ت ٤١١ هـ ) : وله كتاب الوصيّة لا يثبت سنده(١) .

ولكن المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) قال ـ بعد أن أخرج عدّة روايات من الطرف ـ : انتهى ما أخرجناه من كتاب الطرف ممّا أخرجه من كتاب الوصيّة لعيسى بن المستفاد ، وكتاب خصائص الأئمّة للسيّد الرضي ( رضي الله عنه ) ، وأكثرها مرويّ في كتاب الصراط المستقيم للشيخ زين الدين البياضي ( ت ٨٧٧ هـ ) ، وعيسى وكتابه مذكوران في كتب الرجال ، ولي إليه أسانيد جمّة ، وبعد اعتبار الكليني ( رحمه الله ) الكتاب واعتماد السيّدين عليه لا عبرة بتضعيف بعضهم ، مع أنّ ألفاظ الروايات ومضامينها شاهدة على صحّتها(٢) .

ولا يخلو كلامه ( قدس سره ) من المناقشة.

وذكر الكتاب العلاّمة الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) في الذريعة أيضاً ، واستظهر وجود نسخة منه عند السيّد ابن طاووس من خلال كثرة نقله عنه في الطرف(٣) .

____________

١ ـ رجال ابن الغضائري : ٨١ [ ١٠٠ ] ، مجمع الرجال ٤ : ٣٠٦.

٢ ـ البحار ٢٢ : ٤٩٥.

٣ ـ الذريعة ٢٥ : ١٠٣ [ ٥٦٥ ] ، و ١٥ : ١٦١ [ ١٠٥٣ ].

٧٥
٧٦

حديث الثقلين عند الإماميّة ( الاثني عشريّة )

القرن الثالث الهجري

٧٧
٧٨

(٤) صحيفة الإمام الرضا ( عليه السلام ) بسند الطبرسي

للإمام علي بن موسى بن جعفر الرضا ( عليه السلام ) ( ت ٢٠٣ هـ )

الحديث :

حدّثني علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) سنة أربع وتسعين ومائة ، قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر ، قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، قال : حدّثني أبي محمّد بن علي ، قال : حدّثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، قال :

وبإسناده ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما »(١) .

الراوون عنها :

وعنها الصدوق ( ت ٣٨١ هـ ) في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام )(٢) .

____________

١ ـ صحيفة الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ٥٩ ح ٨٣. وعنها في إثبات الهداة ١ : ١١٢ ح ٦٢٢ ، فصل (٣١) ، والبحار ٢٣ : ١٤٥ ح ١٠١.

٢ ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ٢ : ٣٤ ح ٤٠ ، الباب (٣١) : في ما جاء عن الرضا ( عليه السلام ) من أخبار مجموعة ، وفيه : « كأنّي قد دعيت » ، وفيه : « فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».

٧٩

والقاسم بن محمّد بن علي ( ت ١٠٢٩ هـ ) في الاعتصام بحبل الله المتين(١) .

صحيفة الإمام الرضا ( عليه السلام ) :

ذكرها الشيخ الحرّ ( ت ١١٠٤ هـ ) في الكتب المعتمدة لديه وقال : رواية أبي علي الطبرسي(٢) ، وذكر طريقه إليها(٣) .

وذكرها المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في مصادره وقال : المسندة إلى شيخنا أبي علي الطبرسي ( رحمه الله ) بإسناده إلى الرضا ( عليه السلام )(٤) ، وقال في توثيقها : وكتاب الرضا ( عليه السلام ) من الكتب المشهورة بين الخاصّة والعامّة ، وروى السيّد الجليل علي بن طاووس منها بسنده إلى الشيخ الطبرسي ( رحمه الله ) ، ووجدت أسانيد في النسخ القديمة منه إلى الشيخ المذكور ومنه إلى الإمام ( عليه السلام ) ، وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار : كان يقول يحيى بن الحسين الحسيني في إسناد صحيفة الرضا : لو قرئ هذا الإسناد على أُذن مجنون لأفاق ، وأشار النجاشي في ترجمة عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي ، وترجمة والده راوي هذه الرسالة إليها ، ومدحها ، وذكر سنده إليها ، وبالجملة هي من الأُصول المشهورة ويصحّ التعويل عليها(٥) .

____________

١ ـ الاعتصام ١ : ١٣٣ ، فصل : فيما ورد من احاديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إنّه ترك في المسلمين كتاب الله تعالى وسنّته وعترته أهل بيته .

وفيه : وفي صحيفة علي بن موسى الرضى عن آبائه ، أباً فأباً ، إسناداً متّصلا عن علي عليه وعليهم السلام ، قال : « وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كأنّي قد دعيت واُجبت » ، وفيه : « كتاب الله عزّ وجلّ حبل . » ، وفيه : « فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».

٢ ـ خاتمة الوسائل ٣٠ : ١٥٦ [ ٣٥ ] الفائدة الرابعة.

٣ ـ خاتمة الوسائل ٣٠ : ١٨٦ ، الطريق الثاني والأربعون.

٤ ـ البحار ١ : ١١.

٥ ـ البحار ١ : ٣٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فلمّا أمنوا العيون بعد يوم أو يومين، سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله - شرفاً ولا وحشة - في الآباد بعد الآباد

وكان يوم المقتل في العاشر من المحرّم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلّوا على الجثث ودفنوها، ثمّ غادروها هُناك في ذمّة التاريخ، فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متّفقين ومختلفين، ومن حقّه أن يطيف به كلّ إنسان؛ لأنّه عنوان قائم لأقدس ما يشرّف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.

فما أظلّت قبّة السّماء مكاناً لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشّهادة وذكرى الشُهداء

١٦١

١٦٢

جزيرة كربلاء:

موطن الرّأس

اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحُسينعليه‌السلام ، وتعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشّريف، فمنها: أنّ الرأس قد اُعيد بعد فترة إلى كربلاء فدُفن مع الجسد فيها، ومنها: أنّه اُرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص وإلي يزيد على المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر اُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ومنها: أنّه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدُفن بدمشق عند باب الفراديس، ومنها: أنّه كان قد طيف به في البلاد حتّى وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هُناك وبقي بها حتّى استولى عليها الافرنج في الحروب الصليبية فبذل لهم الصالح طلائع - وزير الفاطميين بمصر - ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دُفن بمشهده المشهور.

قال الشّعراني في طبقات

١٦٣

الأولياء: إنّ الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشّريف ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحُسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف.

وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات: وبها - أي عسقلان - مشهد الحُسينرضي‌الله‌عنه ، كان رأسه بها، فلمّا أخذتها الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمئة.

وفي رحلة ابن بطوطة: أنّه سافر إلى عسقلان وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحُسين بن عليعليه‌السلام ، قبل أن يُنقل إلى القاهرة.

وذكر سبط بن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة: أنّ الرأس بمسجد الرّقة على الفُرات، وأنّه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثنّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان. وكانوا بالرّقة، فدفنوه في بعض دورهم، ثمّ دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سوره هُناك.

فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستّة في ست مُدن هي: المدينة، وكربلاء، والرّقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشّام وبيت المقدس والديار المصرية، وتكاد

١٦٤

تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كلّه من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دُفن فيها رأس الحُسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.

وللتاريخ اختلافات كثيرة نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية؛ لأنّ نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحُسينعليه‌السلام . فأيّاً كان الموضع الذي دُفن به ذلك الرأس الشّريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم والتشريف.

وإنّما أصبح الحُسين - بكرامة الشّهادة وكرامة البطولة وكرامة الاُسرة النّبويّة - معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره، وأنّ هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرّقة، وفي كربلاء، وفي المدينة، وفي غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد:

فالمتواتر الموافق لسير الاُمور أنّهم حملوا الرؤوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يُطاف بها في أحياء الكوفة ثمّ تُرسل إلى يزيد. وكانت فعلة يدارونها بالتوقّح فيها على سنّة المأخوذ الذي لا يملك

١٦٥

مداراة ما فعل. فبات خولّي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، وهو يمني نفسه بغنى الدهر كما قال، فأقسمت امرأة له حضرمية: لا يجمع رأسها ورأسه بيت وفيه رأس ابن رسول الله.

ثمّ غدا إلى قصر ابن زياد وكان عنده زيد بن أرقم - من أصحاب رسول الله - فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وضع أمامه في أجانة، فصاح به مغضباً: ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبّلهما وبكى.

فهزئ به ابن زياد وقال له: لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك. فخرج زيد وهو يُنادي في النّاس، غير حافل بشيء: أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وآثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم ويستعبد خياركم.

واُدخلت السّيدة زينب بنت عليّ (رضي الله عنها)، وعليها أرذل ثيابها، ومعها عيال الحُسين وإماؤها، فجلست ناحية لا تتكلم ولا تنظر إلى ما أمامها، فسأل ابن زياد: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

١٦٦

فلم تجبه، فأعاد سؤاله ثلاثاً وهي لا تجيبه، ثمّ أجابت عنها إحدى الإماء: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فاجترأ ابن زياد قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.

وقد كانت زينب (رضي الله عنها) حقّاً جديرة بنسبها الشّريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهدّ عزائم الرجال كانت كأشجع وأرفع ما تكون حفيدة مُحمّد وبنت عليّ وأخت الحُسين، وكُتب لها أن تحفظ بشجاعتها وتضحيتها بقية العقب الحُسيني من الذكور ولولاها لانقرض من يوم كربلاء فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

فقال ابن زياد: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعُصاة. فغلبها الحزن والغيظ من هذا التشفّي الذي لا ناصر لها منه، وقالت: لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي واجتثثت

١٦٧

أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فتهاتف ابن زياد ساخراً وقال: هذه سجّاعة لعمري، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت زينب: إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ما للمرأة والسّجاعة!

عليّ زين العابدينعليه‌السلام

ثمّ نظر ابن زياد إلى غلام عليل هزيل مع السيّدة زينب فسأله: مَن أنت؟ قال:(( عليّ بن الحُسين )) . قال: أو لم يقتل الله عليّ بن الحُسين؟ قال:(( كان لي أخ يُسمى عليّاً قتله النّاس )) .

فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله. فقال عليّ:(( ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (١) .وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٢) )).

فأخذت زياداً عزّة الإثم وانتهره قائلاً: وبك جرأة لجوابي؟!

____________________

(١) سورة الزمر / ٤٢.

(٢) سورة آل عمران / ١٤٥.

١٦٨

وصاح الخبيث الأثيم بجنده: اذهبوا به فاضربوا عُنقه.

فجاشت بعمّة الغلام قوّة لا يردّها سلطان، ولا يرهبها سلاح؛ لأنّها قوّة مَن هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق مَن اعتزم ألاّ يفارقه إلاّ وهو جثة هامدة، وأقسمت لئن قتلته لتقتلني معه، فارتدّ ابن زياد مشدوهاً وهو يقول متعجباً: يا للرحم! إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه. ثمّ قال: دعوه لما به كأنّه حسب أنّ العلّة قاضية عليه.

وعليّ هذا هو زين العابدين جدّ كلّ منتسب إلى الحُسينعليهما‌السلام ، وكان كما قال ابن سعد في الطبقات: ثقة كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً. وكما قال يحيى بن سعيد: أفضل هاشمي رأيته في المدينة ولولا استماتة عمّته - كما ترى - لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية كلمة على شفتي ابن زياد

الرّأس عند يزيد:

ولما قضى الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحُسين في الكوفة وأرباضها، أنفذه ورؤوس أصحابه إلى دمشق مرفوعة على الرّماح، ثمّ أرسل النّساء والصبيان على الأقتاب، وفي الكرب عليّ زين العابدين مغلول إلى عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن ومحضر بن ثعلبة فتلاحق

١٦٩

الركبان في الطريق ودخلا الشّام معاً إلى يزيد.

وتكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد ولا نستغرب أن يتكرر بعضه حتّى يظنّ أنّه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين؛ لأنّ المناسبة في هذا المقام تستوحي ضرباً واحداً من التعقيب وضرباً واحداً من الحوار

فارتاع مَن بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، وقال يحيى بن الحكم - وهو من الاُمويّين -:

لـهامٌ بـجنبِ الـطفِّ أدنـى قرابةً

من ابنِ زياد الوغلِ ذي الحسبِ الوغلِ

سُـميّةُ أمـسى نـسلُها عدد الحصى

وبـنتُ رسـول الله ليستْ بذي نسلِ

فأسكته يزيد وقال وهو يشير إلى الرأس وينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين اُتي هذا؟ إنّه قال: أبي عليّ خير من أبيه، واُمّي فاطمة خير من اُمّه، وجدّي رسول الله خير من جدّه، وأنا خير منه وأحقّ بهذا الأمر

فأمّا أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم النّاس أيّهما حُكم له؛ وأمّا اُمّه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي؛ وأمّا جدّه فلَعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا ندّاً، ولكنّه اُتي من قبل فقهه ولم يقرأ:( قُلْ اللَّهُمَّ

١٧٠

مَالِكَ الملْكِ تُؤْتِي الملْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الملْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (١) .

وهو كلام يُنسب مثله إلى معاوية في ردّه على حجج عليّ في الخلافة ولعلّ يزيد قد استعاره من كلام أبيه وزاد عليه.

ونظر بعض أهل الشّام إلى السيّدة فاطمة بنت الحُسين - وكانت جارية وضيئة - فقال ليزيد: هَب لي هذه. فأرعدت وأخذت بثياب عمّتها فكان لعمّتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة، ذياداً عن أخيها زين العابدين، وصاحت بالرجل: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فتغيّظ يزيد وقال: كذبت، إنّ ذلك لي، ولو شئت لفعلت. قالت: كلاّ والله، ما جعل الله لك ذلك، إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فاشتدّ غيظ يزيد وصاح بها: إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت: بدين الله ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وأبوك وجدّك. فلم يجد جواباً غير أن يقول: بل كذبت يا عدوة الله. فقالت: أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك.

فأطرق وسكت

____________________

(١) سورة آل عمران / ٢٦.

١٧١

واُدخل عليّ بن الحُسين مغلولاً، فأمر يزيد بفكّ غلّه وقال له: إيه يابن الحُسين أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

قال عليّ:(( ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) )). فتلا يزيد الآية:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) . ثمّ زوى وجهه وترك خطابه.

وكان لقاء نساء يزيد خيراً من لقائه؛ فواسين السيّدة زينب والسيّدة فاطمة ومن معهما، وجعلن يسألنهن عمّا سلبنه بكربلاء فيرددن إليهن مثله وزيادة عليه. وأحبّ يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ إلى النعمان بن بشير واليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحُسين وأمره أن يُسيّر آل الحُسين إلى المدينة ويُجهّزهم بما يصلحهم.

وقيل: إنّه ودّع زين العابدين، وقال له: لعن الله ابن مرجانة أما والله، لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنّ الله قضى ما رأيت. يا بُني، كاتبني من المدينة، وأنّه إليَّ كلّ حاجة تكون لك.

____________________

(١) سورة الحديد / ٢٢ - ٢٣.

(٢) سورة الشّورى / ٣٠.

١٧٢

تبعة يزيد:

والنّاس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب وأهواء، يرجع كلّ منهم إلى مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.

فمنهم مَن يرى أنّه بريء من التبعة كلّ البراءة، ومنهم مَن يرى أنّه أقرّ فعلة ابن زياد ثمّ ندم عليها، ومنهم مَن يقول أنّه قد أمر بكلّ ما اقترفه ابن زياد وتوقّع حدوثه ولم يمنعه وهو مستطيع أن يمنعه لو شاء.

والثابت الذي لا جدال فيه، إن يزيداً لم يعاقب أحداً من ولاته كبر أو صغر على شيء ممّا اقترفوه في فاجعة كربلاء، وأنّ سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة اُولئك الولاة على وتيرة واحدة ممّا حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -، وتحكيم مسلم بن عقبة في رجالها ونسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره وقلبه، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث على نقيض تدبيره وشعوره.

وما زال يزيد وأخلافه يأمرون النّاس بلعن عليّ والحُسين وآلهما على المنابر في أرجاء الدولة الإسلاميّة، ويستفتون مَن يفتيهم بإهدار دمهم وصواب عقابهم بما أصابهم. ومَن تجب لعنته على المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.

ومَن أفرط في سوء الظن، رجح عنده أنّ عبيد الله بن زياد كان على

١٧٣

إذن مستور بكلّ ما صنع، ويملي لهم في هذا الظن، أنّ استئصال ذرّيّة الحُسين من الذكور خطة تهمّ يزيد لوراثة الملك في بيته وعقبه، ويفيده أن يقدم عليها مستتراً من وراء ولاته ثمّ ينصل منها ويلقي بتبعتها عليهم، ولو لم يكن ذلك لكان عجيباً أنْ توكل حياة الحُسين وأبنائه وآله إلى والي الكوفة بغير توجيه من سيده ومولاه فقد كان الزمن الذي انقضى منذ خروج الحُسين من مكّة إلى نزوله بالطفّ على الفُرات، كافياً لبلوغ الخبر إلى يزيد ورجوع الرّسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة وغيره من الولاة، فإن لم يكن الأمر تدبيراً متّفقاً عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء والشناعة، وهي مساءة التهاون الذي لا تستقيم على مثله شئون دولة.

وقد روى ابن شريح اليشكري: أنّ عبيد الله صارحه بعد موت يزيد فقال: أمّا قتلي الحُسين، فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله. وهو كلام متّهم لا تقوم به حجّة على غائب قضى نحبه

ويبدو لنا أنّ الظنّ بتهاون يزيد هُنا أقرب إلى الظنّ بإيعازه وتدبيره؛ لأنّه جرى عليه طوال حكمه وألقى حبل ولاته على غاربهم وهو لاهٍ بصيده وعبثه، وأنّه ربما ارتاح في سريرته بادئ الأمر إلى فعلة ابن زياد وأعوانه، ولكنّه ما عتم أن رأى بوادر العواقب توشك أنْ تطبق عليه بالوبال من كلّ جانب، حتّى تيقّظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد إلى المحاسنة والاستدراك جهد ما استطاع، ولم يكن في

١٧٤

يقظته على هذا معتصماً بالحكمة والسّداد.

ولقد رأى البوادر منه غير بعيد، ولما تنقض ساعة على ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه فنعى ابن الحكم فعلة ابن زياد، وناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن ورأين، وبكى ابنه الورع الصالح معاوية، فكان يقول إذا سُئل: نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم. ومهما تكن غفلة يزيد، فما أحد قط يلمح تلك البوادر ثمّ يجهل أنّها ضربة هوجاء لن تذهب بغير جريرة، ولن تهون جريرتها في الحاضر القريب ولا في الآتي البعيد.

والواقع أنّها قد استتبعت بعدها جرائر شتّى لا جريرة واحدة، وما تنقضي جرائرها إلى اليوم فلم تنقض سنتان حتّى كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود ويخترق الحدود؛ لأنّهم حملوا إليها خبر الحُسين محمل التشهير والشماتة، وضحك واليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النّبي، فكان يتمثّل قول عمرو بن معد يكرب:

عجّتْ نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ

١٧٥

وكانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة وتنشد:

مـاذا تـقولونَ إنْ قال النّبيُّ لكُمْ

مـاذا فـعلتُمْ وأنـتم آخـر الاُممِ

بـعترتي وبـأهلي بـعد مُفتَقدي

مـنهُمْ أسارى ومنهمْ ضُرّجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكُمْ

أنْ تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فكان الاُمويّون يجيبون بمثل تلك الشماتة، ويقولون كما قال عمرو بن سعيد: ناعية كناعية عثمان.

ولا موضع للشماتة هُنا بالحُسين؛ لأنّه قد اُصيب على باب عثمان وهو يذود عنه ويجتهد في سقيه وسقي آل بيته ولكنّها شماتة هوجاء لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول.

ثورة المدينة:

وللقدر المتاح لجّت بالولاة الاُمويّين رغبتهم في تلفيق المظاهرات الحجازية، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج والأسى الدفين، وجعلوا همهم كلّه أنْ يكرهوا القوم على نسيان خطب الحُسين واصطناع الولاء المغتصب ليزيد، فحملوا إلى دمشق وفداً من أشراف

١٧٦

المدينة لم يلبثوا أنْ عادوا إليها منكرين لحكم يزيد مجمعين على خلع بيعته، وراحوا يقولون لأهل المدينة: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب.

وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري - وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده -: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء - وكان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم، وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع مَن بالمدينة من الاُمويّين ومواليهم، وأعلنوا خلعهم للبيعة وصدق ابن حنظلة النيّة، فكان يقدّم بنيه واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا جميعاً وقُتل بعدهم؛ أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.

وبدا في ثورة المدينة أنّ يزيد لم يستفد كثيراً ولا قليلاً من عبرة كربلاء؛ لأنّه سلّط على أهلها رجلاً لا يقلّ في لؤمه وغلّه وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيّام إنْ لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه

١٧٧

الذي سامهم إيّاه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيّام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم: إنّهم يبايعون أمير المؤمنين على أنّهم خول له، يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء.

وإذا كان شيء أثقل على النّفوس من هذا الشّرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مُسلم بن عقبة، كأنّه يلقي على النّاس وزر؛ مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة، فاستعرض أهل المدينة بالسّيف جزراً كما يجزر القصاب الغنم، حتّى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار.

وأوقع - كما قال ابن كثير - من المفاسد العظيمة في المدينة النّبويّة ما لا يحد ولا يوصف ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتّى يلتذّ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلمّا جاؤوه بمعقل بن سنان - صاحب رسول الله - هشّ له وتلقّاه بما يطمعه، ثمّ سأله: أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين. فلمّا شربها قال له: أما والله، لا تبولها من مثانتك أبداً وأمر بضرب عنقه.

ويروي ابن قتيبة: أنّ عدد مَن قُتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه

١٧٨

ألف وسبعمئة، وسائرهم من النّاس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدلّ على سائر الحوادث من أمثاله دخل رجل من جند مُسلم بن عقبة على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها، فقال: هل من مال؟ قالت: لا والله، ما تركوا لنا شيئاً. قال: والله، لتخرجنّ إليَّ شيئاً أو لأقتلنّك وصبيك هذا. فقالت له: ويحك! إنّه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله. فأخذ برجلِ الصبي والثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض.

وهو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها اُولئك الألوف من النّسوة والأطفال، والآباء والاُمّهات وقد مات هذا السّفاح وهو في طريقه إلى مكّة يهمّ بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة فدُفن في الطريق وتعقّبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنبشوا قبره وأحرقوه.

جريرة العدل:

ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتّى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكلّ مَن مدّ يداً إلى الحُسين وذويه

١٧٩

فسلط الله على قاتلي الحُسين كفؤاً لهم في النقمة والنكال، يفلّ حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحُسين، فأهاب بأهل الكوفة أن يكفّروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء

فلم ينجُ عبيد الله بن زياد، ولا عمرو بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولّي بن يزيد، ولا أحد ممّن اُحصيت عليهم ضربة أو كلمة، أو مدّوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.

وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزّق وهدم الدور وتعقّب الهاربين، وجوزي كلّ قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله؛ فقُتل عبيد الله واُحرق، وقُتل شمر بن ذي الجوشن واُلقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات، وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة فكان بلاؤهم بالمختار عدلاً لا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.

ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210