المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم75%

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 63

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم
  • البداية
  • السابق
  • 63 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53876 / تحميل: 7472
الحجم الحجم الحجم
المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المواكب الحسينيّة

وتوحيد المسيرات العزائيّة في العالم

تأليف: الشيخ مكّي فاضل حسن

١

الإهداء

إلى مَنْ تحمّل العناء في تربيتنا ونشأتنا وعشنا في ظله، والذي كان برغم عوزه وقلّة يده ما كان يردّ لنا طلباً نطلبه يوم كنّا صغاراً؛ فبذل الكثير من أجلنا، وتحنّن علينا بعطفه ونحن كباراً، وما لاقاه من الظلم والإهانات من أجلنا ونحن في بلاد الغربة والمهجر. إلى روح المرحوم الوالد الغالي أهدي هذا الكُتيب والمجهود الطيب؛ خدمة لسيد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام .

وأسأل الله أن تشملنا وإيّاه شفاعته، ويجعلنا من المرحومين بهم في الدنيا والآخرة.

٢

مقدّمة المؤلّف

« السّلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، ورحمة الله وبركاته »

منذ أن فتحت عيني على الحياة وأنا أنظر إلى مواكب عزاء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، والناس في هذه المسيرات العزائيّة الولائيّة الخالدة قد تجلببوا بالسواد، وأراهم ما بين لاطم على صدره بيده، وما بين مَنْ يضرب على ظهره بالزنجيل، وما بين مَنْ يطبر جبهته ويدميها. هذه الأصناف من المشاهد انطبعت في ذهني وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي.

وبعد أن اشتد عودي ووقفت على رجلي أخذت أعزّي مع المعزّين، وألطم مع اللاطمين بشكل تلقائي وعفوي وفطري. هذا الاندفاع العاطفي الحماسي الوديع ولو كان على غير دراية إلاّ أنّه منحني عشق الحسينعليه‌السلام ، ورضعت حبّه وولاءه منذ نعومة أظافري، فأصبحت المسيرات العزائيّة المقدّسة لها قدسية خاصة في نفسي، ولا أسمح لأيّ مخلوق كائن مَنْ كان أن يمسّ بالإضرار بها وبقدسيتها.

مكّي فاضل حسن الدمستاني

البحرين - الدمستان

٢٠ / ٧ / ٢٠٠٧ م

٣

هدف المواكب الحسينيّة

الموكب الحسيني هو عبارة عن التحرّك الجماهيري للأمّة بقيادة الإمام المعصوم أو نائبه في عصر الغيبة الكبرى من أجل تحقيق أهداف ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام . ولا زالت تراودني في الذاكرة هذه الحقيقة الذهبية من الذكريات، حيث إنّي مع التدرّج في مدارج الحياة، والتقدّم في العمر، وحضوري إلى مجالس العزاء التي تُقام في مآتم منطقتنا أدركت ثلاثة أهداف لاستمرارية وبقاء هذه المواكب الخالدة:

أوّلاً: الهيبة المميّزة في النفوس

إنّ العزاء على أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام له هيبته المميّزة في النفوس، وهذه الهيبة جعلٌ خاص من الله تعالى خصها لاستمرارية العزاء الحسيني إلى يوم الدين، لا تفقد هذه المواكب هيبتها ولو حاول البعض من أصحاب النفوس الدنيئة والساقطة والحاقدة على المعزّين أن توقف المسيرات الحسينيّة عن طريق التشويه والعنف والإرهاب.

ولقد استمد شيعة أهل البيتعليهم‌السلام هيبتهم من هيبة عزاء الموكب الحسيني؛ لأنّ في هذه المواكب المقدّسة حشود ولائيّة وهي غاضبة على الظلم، وترفض الظالمين في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ جيل من الأجيال، وترفع باستمرار هذا الشعار(يا مظلوم يا حسين)، (يا لثارات الحسين) .

ثانياً: العزاء الحسيني يذوّب الكبرياء من النفوس

في أثناء السير على الأقدام في المسيرات العزائيّة تجد المشاركة الفعلية بين القوي والضعيف، وبين الغني والفقير، لا فرق بينهما في هذا المشهد الذي ليس له نظير إلاّ في حج بيت الله الحرام، وبعد الانتهاء من العزاء الكل يجلس على مائدة الإمام الحسينعليه‌السلام لأخذ البركة من ذلك الطعام الذي يعدّ في الواقع والحقيقة دواء لكلّ داء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عظمة نفوس المعزّين الذين ذوّبوا الكبرياء والطغيان من النفوس، وذابت بينهم الفوارق المادية.

٤

ثالثاً: مظلوميّة الإمام الحسينعليه‌السلام وتأثيرها العاطفي على النفوس

إنّ تصوّر مأساة واقعة الطفّ وما جرى على الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته من بعده تشعل جمر اللوعة والحرارة في قلوب الموالين والمعزّين؛ ممّا تدفعهم وبقوّة لإحياء المسيرات الرثائيّة العزائيّة بكلّ صمود وتحدي، ومهما كلّف الثمن من تضحيات، كل ذلك يعد رخيصاً لما قدّمه سيد الشهداءعليه‌السلام .

فكلّما نقدّمه ونبذله من عاطفة جياشة ودموع مالحة غزيرة إنّما تعني عن تعبير لتلك العاطفة الحارة التي عبر عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال:“ إنّ لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً “ . أسأل المولى جلّ ثناؤه أن يجعل هذه الحرارة ووهج هذه العاطفة في قلوبنا؛ لكي تشملنا ألطاف الحسينعليه‌السلام ورحمته وشفاعته.

المنشأ التأريخي للمواكب العزائيّة

منذ استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام أُصيب الشيعة بجرح عاصف لم يندمل؛ فحقّ لهم التعبير عن تألمهم. ولو أنّهم وجدوا الحرية الكاملة في عهود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم أكثر، ولكن أنّى لهم ذلك وسيوف حكّام الجور مشرعة في وجوههم. وبالرغم من هذا كلّه تمرّدوا على المحن، وأبوا إلاّ انتزاع حرياتهم رغماً عن الزمن؛ بالقوّة تارة، وبالتضحيات اُخرى.

٥

والمواكب الحسينيّة واحدة من مفردات هذه الشعائر الحسينيّة التي تأخّر خروجها عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى سجّل التاريخ صفحات ناجعة لأمراء البويهيِّين؛ حيث إنّهم احتضنوا هذه الشعائر فأخرجوا المآتم من الدور والبيوت إلى الأسواق والشوارع حتّى حوّلوها مواكب مشهودة ومهرجانات مفجعة في مهدها الأوّل العراق وإيران؛ حيث مركز حكومتهم وسلطانهم الذي ابتدأ سنة ٣٣٤ هـ وانتهى ٤٦٧ في أواسط الحكم العباسي، بالرغم من معارضات ومخالفات معظم الخلفاء العباسيِّين لهم على هذه المواكب.

ولم يأبه البويهيّون لهذه المعارضات؛ لأنّ الحكم الحقيقي والسلطة الفعلية سقطت من أيدي الخلفاء العباسيِّين، ولم يبقَ لهم غير الاسم المجرّد؛ إذ صارت بأيدي البويهيِّين.

وقد نصّ أكثر من مؤرّخ أنّه في سنة ٣٥٢ هـ أمر معزّ الدولة أحمد بن بويه في العشر الأُوَل من المحرّم ببغداد بإغلاق جميع أسواق بغداد، وإبطال البيع والشراء، وأن يلبس الناس السواد، وأن يُقيموا مراسم العزاء، وأن يُظهروا النياحة، وأن يخرج الرجال والنساء لاطمين الصدور والوجوه.

وكان معزّ الدولة البويهي يرتدي رداء الحِداد والحزن، ويتقدّم عسكره المشترِك في هذه المواكبِ، وقد جعل يوم عاشوراء عطلة رسمية في الدوائر الحكومية إلى أن تطوّرت تلك المواكب والمآتم بتطوّر ساسة الحكومات التي كانت تتولّى السلطة في إيران أو العراق.

٦

وكان بعض أكابر الطائفة الإماميّة يشارك في هذه المواكب، كأمثال العلاّمة السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة ١٢١٢ هـ، فقد كان يتقدّم أمام هذه المواكب، ولمّا سُئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب: أنّه رأى في المنام الإمام الثاني عشر صاحب الزمان (‏عجّل الله تعالى فرجه) مشتركاً في هذا العزاء.

ناهيك عن كبار الشعراء الذين كانوا يشتركون به أمثال الكعبي وعظماء المجتهدين والفقهاء الشيعة كالشيخ زين العابدين المازندراني وغيره.

لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء لتبيّن لنا في تلك الفترة والحقبة الزمنية التي مرّت في عهد الأجداد (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) كان العزاء الحسيني يختصر على الردادية فقط، بحيث ينتهي الخطيب الحسيني من القراءة فيبدأ الرادود يردّد القصيدة على المستمعين وهم جلوس في المأتم، ويلطمون على رؤوسهم وصدورهم.

هذا الحال كما حدّثنا أحد الأجداد (رحمه الله تعالى) قال: هذا من قبل قرابة مئة وخمسين سنة، يقول: ثمّ بعد ذلك تطوّر الأمر إلى أن الخطيب نفسه هو الذي يأتي بالقصيدة بعد مجلس العزاء، ويقف المعزّون بجانب المنبر ويلطمون لمقدار ساعة أو ساعة ونصف، ثمّ ينهون العزاء بلطميات عزائيّة، فاستمر هذا الحال إلى ما قبل الأربعينيات.

من بعد هذا العهد بدأت المواكب العزائيّة تكبر، والأجيال تتنامى إلى أن تطوّر العزاء الحسيني وانتقل من المأتم إلى الخارج, ولكن في حدود ساحات المآتم فقط لا يتعدى أكثر من هذه المسافة، وبدون مكبّرات للصوت؛ لأنّ هذه وسائل أتت في العصور المتقدّمة الحديثة.

فاستمر العزاء على هذا الحال إلى أن شيئاً فشيئاً أخذ الناس يقطعون مسافات أكبر وأكبر إلى أن وصل اتساع المواكب العزائيّة بهذا الانتشار الواسع الذي نلحظه الآن. وهذه شذرات مثمرة من تلك الشجرة المشرقة الوضّاءة التي غرسها الأجداد والآباء، وحافظوا على نموّها حتّى وصلتنا على هذه الهيئة.

٧

أقول: كما إنّ أجدادنا وآباءنا عملوا واجتهدوا وأسسوا لنا هذا الأساس الرائد نحن يجب علينا أن نجتهد ونجاهد حتّى نوصل رسالة الموكب الحسيني للأجيال الولائيّة القادمة التي ستأتي من بعدنا.

وحول مسيرة المواكب الحسينيّة المقدّسة أُثيرت خمسة أسئلة اُحاول في هذا الكُتيّب الإجابة عليها بحسب خلفيّتي البسيطة، وأسأل الله أن تعمّ لي ولكم الفائدة والله ولي التوفيق.

أبرز مظاهر العزاء الحسيني

س١: ما هي أبرز مظاهر عادات الشعائر الحسينيّة؟

هناك مجموعة ممارسات لشيعة أهل البيتعليهم‌السلام يبدون التقيّد بها في أيام المواسم العزائيّة، ونراها ظاهرة وجليّة في المواكب العزائيّة:

أوّلاً: استحباب الحداد

التفرّغ من أجل إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام هو أمر استحبابي؛ ولأجل التعبير عن الحزن والأسى لما جرى عليهم من ضيم نعلن مواساتنا للنبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ولباقي الخيرة المعصومين إلى آخرهم القائم المهدي (عجّل الله تعالى فرجه وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء).

ففي تاسوعاء وعاشوراء نتقيّد بالحداد العام، ونعطّل عن الأعمال من أجل المشاركة في مراسيم العزاء، وإحياء هذه الشعيرة المقدّسة، وهذا أقلّ ما نستطيع أن نقوم به كموالين لأهل البيتعليهم‌السلام .

٨

ثانياً: لبس السواد ونزع الزينة

بلا شك أنّ السواد هو شعار الحداد، وهو يرمز إلى الجزع والكآبة والحزن على مصاب ذرّيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ جزع مكروه إلاّ الجزع والحزن على الإمام الشهيدعليه‌السلام ، فهل يُعقل من المعزي أن يتظاهر بأفخر الثياب والزينة وحجّة الله مولاه الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء جرّدوه الأعداء اللئام من ثيابه، وتركوه عارياً حيث بقي على رمضاء كربلاء ثلاثة أيام بلا غسل ولا دفن؟!

ولو لم يكن لنا من مصيبته إلاّ هذه المصيبة الأليمة لكفتنا أن نملأ الأرض كلّها بالسواد، ونتجلبب بالسواد لتخليد ذكراه.

ثالثاً: اللطم على الصدور والرؤوس

جميع الفقهاء، سواء القائلون بالحرمة وغيرهم، اتفقوا على جواز اللطم والجزع على سيد الشهداءعليه‌السلام :( كلّ جزع مكروه إلاّ على الحسين عليه‌السلام ) .‏

ورد من جملة وقائع كربلاء أنّ أهل البيتعليهم‌السلام بعد عودتهم من السبي التقوا مع جابر الأنصاري وجمع من بني هاشم. يقول ابن طاووس في تصوير المشهد: فوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم.‏

٩

هذا اللقاء العفوي والطبيعي رافقه ردّ فعل شعبي عام تمثّل باللطم، وهذا الأمر كان متعارفاً في العصور المختلفة، وقد كان على مرأى ومسمع من الأئمّةعليهم‌السلام الذين لم يردعوا عنه كما ردعوا عن الجزع واللطم والتفجّع على الأخ والأب والقريب.‏ فاللطم مظهر مقدّس في سبيل إحياء ذكريات المعصومين المظلومينعليهم‌السلام ، وتتفرّع منه عناوين كثيرة من جملتها:

١ - الترويج لأهل البيتعليهم‌السلام ‏.

٢ - إحياء ذكرى عاشوراء وإبقاؤها حيّة في النفوس.‏

٣ - إظهار الجزع على الحسينعليه‌السلام كما ورد في المعتبرة.‏

٤ - إظهار مظلومية آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .‏

وهذه العناوين معترف بها فقهياً، وتوجب رجحان متعلّقاتها ومنها اللطم على الصدور، وهو من أبرز مظاهر الشعائر الحسينيّة في المواكب العزائيّة.‏

اللطم جائز بل مستحب؛ للحديث الشريف:« على مثل الحسين فلتلطم الخدود، ولتُخمش الوجوه » . ولقد لطمنَ الفاطميات (عليهنَّ السّلام)(١) .

كلّنا ندرك أنّه تعظيماً لشعائر الله نحن نلطم على صدورنا؛ ولأنّ الصدر هو موقع ما داس الشمر اللعين على أمامنا الحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) راجع مقتل عبد الرزاق المقرّم.

١٠

رابعاً: ضرب الظهر بالزنجيل

هذا اللون من العزاء يعبّر عن مدى تفاعل المعزّين في الموكب العزائي، ويعبّر عن مدى الأشجان التي تختلج في الصدور الملتهبة وهي تحمل في داخلها ثقل المأساة الكربلائيّة؛ فليس اللطم وحده هو الذي يعبّر عن حجم ثقل مصائب المعصومينعليهم‌السلام ، وإنّما في عقيدة الموالين إشراك جميع أبدانهم بما فيها الظهر يفدون بذلك سبط النبي المذبوح.

والزنجيل يُضفي على المسيرة العزائيّة الحماس الجماهيري والتفاعل العاطفي، كذلك لا يختصر على سن معين من المعزّين، بل يشترك فيه مختلف الأعمار في إطار دائرة الموكب الحسيني، حيث يشترك فيه الشيخ المسن، والشاب اليافع، والأطفال الصغار بمختلف أعمارهم.

أيضاً عزاء الزنجيل يُعطي للموكب العزائي خصوصية خاصة في تلحين القصائد الرثائيّة التي ينشدها ويردّدها الرواديد بأصوات حزينة ومؤثّرة.

وهذا اللون من العزاء قد يتعجّب منه سائر الناس من أصحاب الفرق والأديان والمذاهب المتعددة دون المذهب الإمامي، أمّا نحن الإماميّة فقد تعوّدنا على هذه المشاهد منذ طفولتنا، وسنحيي هذه الشعيرة بقوة وبحماس وبدون تردد، وسيبقى عزاء الزنجيل شعيرة دينية يواسي بها عشاق الولاية مصاب أهل البيتعليهم‌السلام في كلّ زمان ومكان.

١١

خامساً: التطبير وضرب القامة بالسيف

هذا الشكل من العزاء المهيب والمثير والرهيب جعل العالم بأسره يهتزّ من أعماقه؛ منهم مَنْ وقف موقف من الشيعة وقال فيهم: مجانين، ومنهم مَنْ وقف من الشيعة وقال: هؤلاء الذين يدمون رؤوسهم أصحاب بدع وخرافات، ومنهم مَنْ وقف من الشيعة موقف المحايد ولم يبتّ برأي في التطبير؛ حفاظاً على العلاقة والصداقة.

ومن الناس مَنْ وقف موقف المعادي والحاقد على الشيعة ومذهبهم كالنواصب والوهابيِّين، والآخر من جماهير الاُمّة مَنْ وقف موقف المتعاطف ويقول: شيعة أهل البيتعليهم‌السلام لا يلامون، وإمامهم الذي يقتدون به هو ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد مثّل به الاُمويّون شرّ تمثيل، وأراقوا دمه الطاهر، فهم يجرحون رؤوسهم؛ وفاء للتضحية الجسيمة التي قدّمها لأمّة جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعة أبيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولِما قدّمه لإحياء الدين.

هذه المواقف المتعدّدة والمغايرة في عزاء التطبير، المعادية منها والمتعاطفة والمؤيدة، كلّها تصبّ في مشروعية هذا النوع من العزاء الدامي من حيث مشروعيته وعدم مشروعيته.

إنّي في هذا المقام ليس في صدد تناول فتاوى الفقهاء العظام؛ مَنْ أفتى بالحرمة، ومَنْ أفتى بالجواز، أعتقد أنّ مسألة التطبير مسألة خلافية واضحة بين فقهائنا (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين)، ففي هذا الشأن كلّ منّا يتبع مقلّده ويلتزم بفتواه، ونعزّي الحسينعليه‌السلام بنيّة خالصة.

وفي هذا الصدد أضمّ صوتي مع صوت اُستاذي سماحة الشيخ فوزي آل سيف (حفظه الله تعالى) حيث ردّ على سؤال السائل وقال: التطبير (جرح الرأس بالسيف)، والضرب بالسلاسل، وإدماء الظهر ما وقع فيه الاختلاف (مشروعية أو استحباباً)؛ سواء كان ذلك بالعنوان الأولي أو العناوين الثانوية الطارئة.

١٢

ثمّ تابع القول سماحة الشيخ وقال: إنّ شعائر الحسينعليه‌السلام على اختلاف طرقها وأساليبها يوجد بينها قاسم مشترك، والقاسم المشترك بينها كما يفترض هو أن تساهم في إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام وإن اختلف البعض في أنّ هذا يساهم أو لا يساهم في إحياء أمرهم، لكن غرضها الأقصى والقاسم المشترك بينها هو الإحياء، فلا يصح أن يحوّلها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام إلى ساحة معارك داخليّة تنتهي إلى إضعاف أمر أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

نعم يا أحباب أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، إنّ هذا الطرح الوسطي المعتدل يجعلنا نحيي الشعيرة الحسينيّة المقدّسة بما فيها مسيرة الموكب العزائي، ونحن بتمام الثقة والاطمئنان إنّ لطمنا وعزاءنا، وكلّ شيء نقدّمه لأهل البيتعليهم‌السلام فهو مقبول لديهم إنشاء الله تعالى.

لكن الشيء الذي يؤسفني ويؤسف كلّ محبّ لأهل البيتعليهم‌السلام هو لماذا يقف البعض موقف المتشنّج والمتعصّب، وكأنّه يريد أن يلغي عزاء التطبير من قائمة الوجود، وفي مصلحة مَنْ إبداء هذه المعارضة؟

أقول: أنت مرجعك الذي تقلّده لا يجوّز التطبير، ابقى يا أخي على تقليدك، واحتفظ بإخوّتك وصداقتك مع إخوانك الذين مرجعهم يجوّز التطبير، وهذا هو المطلوب. ولو راجعنا أنفسنا قليلاً لوجدنا بأننا كلّنا نسير على هدف واحد، وتحت راية واحدة، وهي راية المراجع العظام، وتحت قيادة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفكّروا أيّها الأحبّة في أسرار هذا الكون بعد استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ستلاحظون أنّ الكون بما فيه من أفلاك بكى عليهعليه‌السلام ، بل السماء لأجله أمطرت دماً، ولم تجد في ذلك اليوم حجراً إلاّ وتحته دماً عبيطاً، هذا ما ورد في النصوص التاريخيّة.

____________________

(١) راجع الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، تذكرة الخواصّ / ١٥٥، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ٨٩.

١٣

ورد في مقتل الحسين لأبي مخنف قال: لمّا قُتل الحسينعليه‌السلام أمطرت السماء دماً، فأصبحت الحباب والجرار وكلّ شيء ملآن دماً، ولم يُرفع حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط. ولما دخل الرأس المقدّس إلى قصر الإمارة سالت الحيطان ومطرت السماء دماً.

أيّها الأحبّة، ينبغي لنا أن نقف عند هذا النص ونتأمّل كيف أنّ السماوات والأرضين بكت الحسينعليه‌السلام دماً، فنحن لماذا نستكثر على أبيّ الضيم ذلك ولا نُعطي اليسير البسيط من دمائنا ونحن نعبّر عن عواطفنا تجاه مظلوميته؟ فدعوا الذي يستاء من مشهد عزاء التطبير، يستاء ولو أنفقنا ما في الأرض ذهباً لم ولن يغيّروا مواقفهم الشاذة والمتصلّبة ضدّنا وضدّ مذهبنا.

دعك عن الفتاوى المتعدّدة الأوجه التي يثيروها بين الحين والآخر في تكفيرنا وإباحة دمائنا. إذاً لماذا المحاباة وهشاشة الموقف أمام هذه الفئات الضالّة المضلّة التي ما عرفت من الدين إلاّ التكفير والبدع، والشرك والتعنيف؟!

ثمّ هل من المعقول أن نضرب بفتاوى فقهائنا ونتخلّى عن مبدئنا ومعتقدنا من أجل خاطر فلان من الناس وهو حاقد وناقم على عزائنا من أساسه، ويقول: إنّ عزاء الشيعة على الحسينعليه‌السلام كلّه بدعة من بدع الضلال؟!

وأيّ وحدة تقوم بيننا وبينهم وكبار علمائهم يجوّزون ويباركون تفخيخ السيارات، ويترصّدون لأتباع أهل البيتعليهم‌السلام في كلّ مكان، ويفجّرونها في أوساطهم، ويهلكون الحرث والنسل، ويذبحون العلماء، والكبار والصغار، والنساء، ويهدمون بيوت الله ومقدّساتنا ويخربوها؟!

١٤

دماء الشيعة رخيصة للحسينعليه‌السلام

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ولا بدّ من تبيان الإجابة عليه هو: لماذا بعض المعزّين من الشيعة يجرحون جباههم وتسيل دماؤهم على وجوههم؟ ولماذا يطبّرون وهم يرتدون الألبسة البيضاء كهيئة الأكفان؟

لا بدّ أن يعرف كلّ مَنْ يهمّه هذا التساؤل مجموعة من الحقائق المعنوية الروحية التي تربط بين الإنسان ومعتقده.

أولاً: من المألوف أنّ مشاهد الدماء مقزّزة للنفس، وهي من الأشياء الغير محبّبة لمشاهدتها، فكيف يقدم الموالي المعزّي عليها ويستحسنها ويدمي نفسه؟! فالأمر هنا لا يخلو من سرّ خفي، وهو يكمن في مدى معرفة هذا الإنسان للبذل والفداء والتضحية ( والمعروف على قدر المعرفة ).

فهؤلاء عرفوا إمامهم الحسينعليه‌السلام تمام المعرفة إلى درجة اليقين؛ حيث إنّهم أيقنوا بأنّ دماءهم ليس أغلى من دم إمامهم؛ لذلك هم يرخصون كلّ شيء في سبيله كما هو أرخص كلّ شيء لهم، وقدّم حتّى طفله الرضيع المذبوح من الوريد إلى الوريد؛ فداء للحفاظ على الدين، وشرف وكرامة الاُمّة.

ثانياً: إنّ من الحقائق المبدئيّة الروحية التي ينصّ عليها العرفانيّون في كتبهم العرفانية شيء اسمه ( وله العشق )، والذين يهرقون دماءهم بهذه الصورة العفوية هؤلاء وصلوا إلى رتبة أنّهم عشقوا مولاهم الحسين (أرواحنا فداه)، وما هذه الدماء الشريفة التي تجري من رؤوس الموالين إلاّ تنمّ عن المستوى الراقي الذي وصلوا إليه في حبّ الحسين وتضحيته الدامية، جعلنا الله وإيّاكم أن نكون من عشّاق الحسينعليه‌السلام .

١٥

ثالثاً: حمرة الدم في المواكب العزائيّة الحسينيّة ترمز إلى حمرة دماء سيد الشهداءعليه‌السلام ، ودماء الصفوة البررة الذين استشهدوا معه من أهل بيته وأنصاره في ساحة الطفّ والفداء.

وأمّا هزّ السيف بتلك القبضات الحسينيّة فإنّها ترمز للقوّة، وأنّ الحسينعليه‌السلام يمثل القوّة في حياته وفي مماته؛ من هنا يتبيّن أنّ المنتصر الحقيقي في المعركة ليس يزيد بن معاوية، وإنّما المنتصر هو حسين الخلود، وحسين البقاء.

ظنّوا بأنّ قتل الحسينَ يزيدُهمْ

لكنّما قتل الحسينُ يزيدا

فإذا قبض المعزّون السيوف وهزّوها وقاموا قائمين على سيوفهم فإنّهم يتقلّدون الشجاعة والتضحية والفداء، ويرتقبون ذلك اليوم الذي يأذن الله لوليه صاحب العصر والزمان المهدي الموعود (عجّل الله تعالى فرجه، وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء) يقوم بالسيف، ويأخذ بثأر جدّه الحسينعليه‌السلام ، ويرفع شعار(يا لثارات الحسين).

فالمعزّون الشيعة عندما يلبسون اللباس الأبيض على هيئة الكفن ويتقلّدون بالسيوف، هو تعبير يرمز إلى أنّهم قد جنّدوا أنفسهم لذلك اليوم المعهود. لا سيما أنّ هناك رواية منصوصة تقول: إنّ الإمام الحجّةعليه‌السلام يخرج يوم العاشر من المحرّم الحرام في يوم الجمعة.

نعم أقول: إنّ الشيعة ليس بمجانين، ولا بخارجين عن الملّة، ولا بأصحاب بدع وضلال كما تقوّلت عليهم الأقاويل الشاذة والمغرضة، وإنّما الشيعة هم أمّة موحّدة تحمل رسالة مقدّسة، وهي رسالة الإسلام، وتعظيم شعائر الله تعالى تحت إطار القيم المبدئية والشرعية في الدين الحنيف.

١٦

سادساً: القصائد الرثائيّة الحسينيّة

من خلال تتبعنا وملاحظاتنا لمسيرة بعض المواكب التي تخرج يوم عاشوراء في المنامة وغيرها من المناطق في البحرين، نلاحظ أن أكبر شيء محرّك للعزاء هي القصيدة، فإذا كانت القصائد ذات كلمات مفهومة أدبية بلاغية قوية هادفة فإنّ الجماهير تتأثر بها، بل في غالب الأحيان تردّدها وتحفظها وتصبح اُنشودة على كلّ لسان.

فالقصيدة الرثائيّة هي قطب الرحى المحرّك للمواكب العزائيّة، فلنهتم يا أحباب الحسينعليه‌السلام بنظم القصائد الولائيّة الهادفة التي تمثّل عصب الرثاء، ونهتم بالموروث الأدبي الحسيني.

ولدينا من أدب الطفّ الكثير من المخزون التراثي من أدباء ماضين ولاحقين معاصرين، وهناك من دواوين حسينيّة فيها من القصائد الرائعة في التصوير والتشبيه ما هو مستفيض كالبحر المتلاطم.

أيضاً هناك من الرواديد المبدعين الذي هو يختار نمط القصيدة له من وزن وقافية؛ فيقولب المستهل، ويبحث عن أدباء وشعراء ويطلب منهم أن ينظموا له وزناً استعراضياً رائعاً بحسب ما هو يريد ويرغب ويتكيف معه أثناء الأداء.

وهذا الإبداع جميل ومستحسن، ويسهم إسهاماً كبيراً في انماء استقامة الموكب العزائي، ويضفي على العزاء روح الإقبال والمشاركة من الجميع ( ورحم الله مَنْ عمل عملاً فأتقنه ).

١٧

سابعاً: تمثيل الشبيه وتصوير الحدث

إنّ هذا اللون الاستعراضي الرائع يصوّر لنا قافلة الرسالة والاستشهاد، ويجسّد لنا حركة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام منذ أن خرج من وطن جدّه الحجاز مهاجراً إلى أرض العراق وحتّى أن استشهد وأحرقوا خيامه بالنار؛ حيث تشاهد في الشبيه مشاهد للخيول، ومشاهد اُخرى للجمال محمّلة عليها الهوادج، وتشاهد أمامك ساحة من الساحات خُصّصت لنصب الخيام، وبعد ظهيرة يوم العاشر تُحرق بالنار، وترى فيها أطفال ونساء وهنّ يصرخن ويتفاررن في البيداء.

هذه المشاهد بلا شك تجعل المشاهدين الذين يشاهدون العزاء في صورة الحدث التأريخي المأساوي المحزن، ولما جرى على أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قتل وتمثيل وتنكيل، وسلب ونهب، وسبي وحرق للخيام، فدعونا لا نغفل عن القيام بتشبيه هذا الدور المؤثر الذي لا أعتقد أنّ هناك في الوجود إنسان ذو قلب رحيم يراه ولا يتأثر بمشاهدته له.

وحول التفصيل عن دور الشبيه المؤثر في العزاء الحسيني راجع كتابنا الآخر (الحسين سفينة نجاة العالمين).

١٨

ثامناً: الرايات والأعلام العزائيّة الملوّنة

كلّ فاتح وثائر في هذه الحياة تُعقد له راية باسمه، والحسينعليه‌السلام أبو الثوار وقائد الأحرار، وهو عظيم العظماء، ورايته الحسينيّة المظفّرة تفوق كلّ راية العظماء والفاتحين؛ إنّها راية العزّة والكرامة والحرية، وهي راية الحمد التي حملها جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته، وحملها أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه، ولمّا دنت منه الوفاة سلّمها إلى الحسن المجتبىعليه‌السلام ، ثمّ لمّا دنت وفاته سلّمها لأخيه الحسينعليه‌السلام وهكذا.

هذه الراية المقدّسة تدرّجت في مدارج التناول من يد إمام معصوم ليد إمام آخر، إلى أن تسلّمها الإمام الثاني عشر الحجّة المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وسوف يأتي بها في ظهوره وينشرها، وقد كانت خضراء، لكنّهعليه‌السلام يستبدلها باللون الأحمر؛ لأنّ راية جدّه الحسينعليه‌السلام امتزجت بالألوان الثلاثة، باللون الأسود وهو لون الحداد والحزن والجزع.

وبهذا اللون الكاتم سخّر الله تعالى لوليه الحسينعليه‌السلام شيعة تحيي ذكرى مصابه بالتوارث جيل بعد جيل، وهم قابضون بأيديهم الأعلام السوداء، مكتوب عليها:(يا مظلوم يا حسين) ، ويلوّحونها في مسيرات المواكب العزائيّة.

واللون الثاني هو اللون الأحمر، وهو لون الدم والشهادة الدامية، وقد تراءت هذه الحمرة في كبد السماء حين قُتل الحسينعليه‌السلام في يوم العاشر من المحرّم سنة ٦١ هـ.

واللون الثالث هو اللون الأخضر، هذا اللون الذي جرح قلب العقيلة زينبعليه‌السلام حينما جاءت من بعد مصرع أخيها، فرأت جسد حجّة الله ملقى على الأرض وقد صهرته الشمس بحرارتها، وغيّرت لونه ومحاسنه وقلبته إلى الاخضرار.

وأمام هذا المشهد تحيّرت بطلة كربلاء، وأخذت تحلّق بنظراتها إلى جثث القتلى إلى أن وقع بصرها على جثة الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه - بأبي هو واُمّي - قد تغيّر جسده الطاهر عليها. فنحن الشيعة عندما نحمل هذه الرايات الثلاث الملوّنة ونلوّح بها في مسيرات العزاء ليس اعتباطاً، إنّما هي ترمز لهدف مبدئي مقدّس.

١٩

تاسعاً: اللوحات الفنّية للرسّامين والخطّاطين

إنّ في هذا المظهر الحيوي الهام إبداعات جميلة يتعشّقها كلّ هواة الفن؛ لِما يشبع نهمهم ويروي ظمأهم من مناظر فنّية لا يتذوّقها إلاّ صاحب الذوق الرفيع، ومَنْ له اهتمام بالموروث الديني والثقافي، والاجتماعي والروحي والحضاري.

وهنا لا بدّ لنا من وقفة مع ريشة الفنان الرسّام الحسيني الذي يُبدع في تصوير حادثة الطفّ، ويرسم لنا تلك اللوحات المأساوية، ونحن لا نراها إلاّ جاهزة ومعلّقة على حيطان المآتم، وفي الطرقات، وأثناء انطلاقة المواكب العزائيّة.

وكذلك الأمر لذلك الجندي المجهول الذي يعمل دائماً من تحت الستار، وهو ذلك الخطّاط حينما يخطّ بقلمه الشعارات الحسينيّة وغيرها من أقوال المعصومينعليهم‌السلام في مختلف مناسباتهم، وهو يحاول إبراز دقّة فنّه؛ لكي يظهر بالمظهر الذي يتماشى مع حجم الحدث العاشورائي وغيره من المناسبات العظيمة.

٢٠

* المرأة كاملة لا نقص فيها:

3 - ما يَظهر من بعض الفوارق الجزئيّة بين الرجل والمرأة في الخِلْقَة والإحساسات لا يكون نقصاً في أحدهما، بل إنّ مَثَل المرأة والرجل مثل السيّارة الصغيرة المُعَدَّة لحمل المسافرين، والسيّارة الكبيرة المُعَدّة لحمل الحديد والأحجار - إنْ صحّ التعبير - فقد جُعِلَتْ كلّ واحدة منهما لشأن، فلا نقص في أحدهما، وإنّما اختلافهما هو لمصلحة.

فإنّ المرأة خُلِقَتْ عاطفيّة أكثر من الرجل؛ لدورها في تربية الأطفال، والرجل خُلق عقلانيّاً أكثر؛ وذلك لاحتياج المجتمع إلى كلا الأمرين، فَجَعْل التساوي المطلق بينهما خلاف تركيب خلقهما.

فلو أُلقي عمل الرجل على المرأة أو عمل المرأة على الرجل كان ذلك كما إذا حملتْ السيّارةُ الصغيرة الحديدَ والحجارة، أو حملتْ السيارةُ الكبيرة الركابَ، ففي الأوّل عطب السيّارة، وفي الثاني عطب المسافرين.

٢١

* مشروع الزواج:

4 - ينبغي أنْ يكون في كلّ بلد (صندوق الزواج) ليُعين على تزويج العزّاب والعازبات، ومساعدتهم في تكوين عشّ الزوجيّة، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (1) .

ونرى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يهتمّ لتزويج مَن لم يكن متزوّجاً.. وكذلك الإمام أمير المؤمنين، وسائر الأئمّة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فقد روي عن الصادق (عليه السلام): (أنّ رسول الله زوّج المقداد بن الأسود ضِبَاعة ابنة الزبير بن عبد المطّلب، وإنّما زوّجه لتتّضع المناكح، وليتأسّوا برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليعلموا أنّ أكرمهم عند الله أتقاهم) (2) .

كما أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتزويج جويبر في قصّة مفصّلة (3) .

____________________

1 - سورة المائدة: آية: 2.

2 - بحار الأنوار: ج22، ص437، ب13، ح2.

3 - راجع بحار الأنوار: ج22، ص117، ب37، ح89، وفيه: عن محمّد بن يحيى، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي حمزة الثمالي قال:

كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأَذِنَ له، فدخل عليه فسلّم، فرحّب به أبو جعفر (ع) وأدناه وساءله، فقال الرجل:

جُعِلتُ فداك إنّي خطبتُ إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردني ورغب عنّي وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة، هجمة عض لها قلبي تمنّيت عندها الموت.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): (اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): زوّج منحج ابن رياح مولاي ابنتك فلانة ولا تردّه).

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر (عليه السلام)، فلمّا أنْ توارى الرجل قال أبو جعفر: ( ‎ إنّ رجلاً كان من أهل اليمامة يُقال له: جويبر أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قِبَاح السودان، فضمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأوّل، وكساه شملتين، وأمره أنْ يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء الله حتّى كثر الغرباء ممّن يدخل في الإسلام من أهل =

٢٢

____________________

= الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد، فأوحى الله عزّ وجل إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنْ طهّر مسجدك، وأخرج من المسجد مَن يرقد فيه بالليل، ومُرْ بسدّ أبواب كلّ مَن كان له في مسجدك باب إلاّ باب علي ومسكن فاطمة (عليها السلام)، ولا يمرّنَّ فيه جُنُب، ولا يرقد فيه غريب).

قال: فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسدّ أبوابهم إلاّ باب علي (عليه السلام)، وأقرّ مسكن فاطمة (صلّى الله عليها) على حاله.

قال: ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر أنْ يتّخذ للمسلمين سقيفة، فعُمِلَتْ لهم وهي الصفة، ثمّ أمر الغرباء والمساكين أنْ يظلّوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتعاهدهم بالبُرّ والتمر والشعير والزبيب، إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقونهم لرقّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإنّ رسول الله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمةٍ منه له ورقّة عليه، فقال: (يا جويبر، لو تزوّجتَ امرأة فعفّفتَ بها فرجَك وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، مَن يرغب فيّ؟ فو الله ما مِن حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا جويبر، إنّ الله قد وضع بالإسلام مَن كان في الجاهليّة شريفاً، وشرف بالإسلام مَن كان في الجاهليّة وضيعاً، وأعزّ بالإسلام مَن كان في الجاهليّة ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان مِن نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلّهم: أبيضهم وأسودهم، وقُرَشِيِّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإنّ آدم خلقه الله من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى الله عزّ وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لِمَنْ كان أتقى لله منك وأطوع.

ثمّ قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنّه مِن أشرف بني بياضة حَسَبَاً فيهم، فقل له: إنّي رسول رسول الله إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن، فأُعلم، فأُذن له وسلّم عليه، ثمّ قال: يا زياد بن لبيد: إنّي رسول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليك، في حاجة فأبوح بها، أمْ أسرّها إليك؟ =

٢٣

____________________

=

فقال له زياد: بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

فقال له زياد: أَ رسول الله أرسلك إليّ بهذا يا جويبر؟

فقال له: نعم، ما كنتُ لأكذب على رسول الله (ص)؟

فقال له زياد: إنا لا نزوّج فَتَيَاتِنَا إلاّ أكفّاءنا مِن الأنصار، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأُخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا أُنزل القرآن، ولا بهذا ظهرتْ نبوّة محمّد ‎ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلتْ إلى أبيها: ادخل إليّ، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعتُه منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسله، وقال: يقول لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء.

فقالت له: والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله (ص) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يردّ عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك، اطمئن حتّى أعود إليك، ثمّ انطلق زياد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له بأبي أنت وأمّي إنّ جويبراً أتاني برسالتك، وقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: زوّج جويبراً ابنتك

الدلفاء، فلم أَلِنْ له في القول، ورأيتُ لقاءك، ونحن لا نزوّج إلاّ أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ للمسلمة، فزوّجه يا زياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فقالتْ له: إنّك إنْ عصيتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كفرتَ، فزوّج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثمّ أخرجه إلى قومه، فزوّجه على سُنّة الله وسُنَّة رسوله، وضمن صداقها.

قال: فجهَّزها زياد وهيّأها ثمّ أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: والله مالي من منزل.

قال: فهيَّئوها وهيّئوا لها منزلاً وهيّئوا فيه فراشاً ومتاعاً وكسوا جويبراً ثوبّين، وأُدْخِلَتْ الدلفاء في بيتها وأُدخل جويبر عليها معتماً، فلمّا رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيّبة، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى طلع الفجر، فلمّا سمع النداء خرج وخرجتْ زوجته إلى الصلاة فتوضّأت وصلّتْ الصبح، فسُئلت: هل مَسَّكِ؟ =

٢٤

____________________

=

فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج.

فلمّا كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأَخْفَوا ذلك من زياد، فلمّا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأُخْبِرَ بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له: بابي أنت وأمّي يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَمَرْتَنِي بتزويج جويبر، ولا والله ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبتْ عليّ تزويجه.

فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنّا هيّأنا له بيتاً ومتاعاً، وأُدْخِلَتْ ابنتي البيت وأُدخل معها معتماً، فما كلّمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج، ثمّ فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الليلة الثالثة، ولم يَدْنُ منها ولم يكلّمها إلى أنْ جِئْتُكَ، وما نراه يريد النساء، فانْظُر في أمرنا؟

فانصرف زياد، وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جويبر، فقال له: أَمَا تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أو ما أنا بفحل؟! بلى يا رسول الله إنّي لَشَبِق نَهِم إلى النساء.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قد خبّرت بخلاف ما وصفتَ به نفسك، قد ذكروا لي أنّهم هيّؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأُدخلتْ عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتماً فلم تنظر إليها ولم تكلّمها ولم تَدْنُ منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول الله دخلتُ بيتاً واسعاً، ورأيتُ فراشاً ومتاعاً وفتاةً حسناء عطرة، وذكرتُ حالي التي كنتُ عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتي وكينونتي مع الغرباء والمساكين، فأحببتُ إذْ أَوْلاَنِي الله ذلك أنْ أشكره على ما أعطاني، وأتقرّب إليه بحقيقة الشكر، فنهضتُ إلى جانب البيت، فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر الله حتّى سمعتُ النداء فخرجتُ، فلمّا أصبحتُ رأيتُ أنْ أصوم ذلك اليوم ففعلتُ ذلك ثلاثة أيّام وليالها، ورأيتُ ذلك في جنب ما أعطاني الله يسيراً ولكنّي سأرضيها وأرضيهم الليلة إنْ شاء الله.

فأرسل رسول الله (ص) إلى زياد، فأتاه وأعلمه ما قال جويبر، فطابتْ أنفسهم.

قال: وَفَى لهم جويبر بما قال، ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه الله، فما كان في الأنصار أَيِّم أنفق منها بعد جويبر.

٢٥

وقد زوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من بيت المال الشابّ الأعزب الذي استمنى (1) .

و في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى أبي، فقال له: هل لك من زوجة؟

قال: لا.

فقال أبي: ما أُحب أنّ لي الدنيا وما فيها، وإنِّي بتّ ليلة وليستْ لي زوجة.

ثمّ قال: الركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثمّ أعطاه أبي سبعة دنانير، ثمّ قال: تزوّج بهذه.

ثمّ قال أبي: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتّخذوا الأهل فإنّه أَرْزَقُ لكم) (2) .

____________________

1 - فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

(إنّ أمير المؤمنين أُتي برجل عبث بذكره حتّى أنزل، فضرب يدَه حتّى احمرّتْ، ثمّ زوّجه من بيت المال)، راجع: غوالي اللئالي: ج2، ص356 و 357، ح35 و 36، باب الحدود.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح5.

٢٦

* الزواج ومواصلة الدراسة:

5 - يلزم إلغاء العادة الغربيّة القاضية بعدم زواج الطلاّب والطالبات إلى حين التخرّج، وكذلك القاضية بعدم زواج الجندي إلى حين إتمامه دورة التدرب.. فإنّ معنى ذلك فتح دور الدعارة وفساد الشباب والفتيات، وتعميم العادة السرِّيَّة الضارّة بالصحّة، وإعطاء الفرصة للبغاء والانحراف الجنسي..

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا جاءكم مَن ترضون خُلُقَه ودِيْنَه فزوِّجوه، وأنْ لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (1) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا أتاكم مَن ترضَون دينه وأمانته فزوّجوه، فإنْ لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (2) .

ثمّ إنّ المتزوّج أقدر على الدراسة والخدمة من الأعزب، إذ اشتغال الفكر بقضايا الجنس يمنع الإنسان عن التركيز في الدراسة أو الخدمة..

____________________

1 - غوالي اللئالي: ج3، ص340، باب النكاح، ح252. بحار الأنوار: ج100، ص373، ب21، ح9.

2 - نوادر الراوندي: ص12. وبحار الأنوار: ج100، ص374، ب21، ح15.

٢٧

قال تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (النكاح سنّتي، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي) (2) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (ركعتان يُصلّيهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يُصلّيهما غير متزوّج) (3) .

وعن الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (تزوّجوا، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: مَن أحبّ أنْ يتّبع سُنَّتي فإنّ سُنَّتي التزويج) (4) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما بُنِيَ بناء أحبّ إلى الله عزّ وجل من التزويج) (5) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن تزوّج أحرز نصف دينه، فليتَّق الله في النصف الآخر) (6) .

____________________

1 - سورة النور: آية: 32.

2 - جامع الأخبار: ص101، الفصل52. وبحار الأنوار: ج100، ص220، ب1، ح23.

3 - ثواب الأعمال: ص40، ثواب صلاة المتزوّج. و بحار الأنوار: ج100، ص219، ب1، ح15.

4 - وسائل الشيعة: ج14، ص6، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح14.

5 - وسائل الشيعة: ج14، ص3، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح4.

6 - وسائل الشيعة: ج14، ص5، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح11.

٢٨

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائم القائم العزب) (1) .

وفي قبال ذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ‎ (رُذَّال موتاكم العزّاب) (2) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكثر أهل النار العزّاب) (3) .

____________________

1 - مستدرك الوسائل: ج4، ص155، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

3 - وسائل الشيعة: ج14، ص8، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح7.

٢٩

* المرأة في المجتمع الغربي (1) :

المرأة موضوع كَثُر الكلام حوله، وغالب الكتّاب الإسلاميِّين - الداعين إلى الفضيلة والعفاف - يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام وحال المرأة في ظلّ الإسلام، وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحدّ، وإنّنا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي وبين المرأة في المجتمع الغربي.

ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنّما نريد عَرْض طرف من أحوال المرأة في المجتمَعَين، لنرى هل تتوفّر راحة المرأة جسديّاً وفكريّاً، وصحّتها وثقافتها، ونظافة سمعتها، وإشباع غرائزها، وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه.. في ظلّ الإسلام أمْ في ظلّ الكفر؟

تعيش المرأة في ظلّ الإسلام ولها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل من الحقوق والواجبات.. فهي شق له في كلّ شيء.. إلاّ بعض الأمور التي استُثنيتْ من جهة عدم المقتضي أو وجود المانع.

____________________

1 - نقلنا هذا المبحث عن كتاب (في ظلّ الإسلام) للإمام الشيرازي.

٣٠

* فهي تشارك الرجل في:

الصلاة، والصيام، والخُمس، والزكاة، والحج..

ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد التي لا يناسب ضعفها ودقّة جهازها ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في ضرورة الضرورة فقط، كما هو مشروح في كتب الفقه (1) . كما تشاركه في:

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وولاية الصالحين، والبراءة من المجرمين..

هذا بالنسبة إلى العبادة..

____________________

1 - راجع: موسوعة الفقه: ج47 - ج48 كتاب الجهاد للإمام المؤلّف.

٣١

* أمّا المعاملة بمعناها الوسيع، فلها:

التجارة، والرهن، والضمان، والوديعة، والمزارعة

والمساقاة، والمضاربة، والشركة، والصلح، والعارية، والإجارة

والوكالة، والوقف، والهِبَة، والوصيّة، كما يجري عليها الحَجْر والفلس

* ولها:

النكاح والطلاق - إذا اشترطت - والنذر، والحلف، والعهد

والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والإقرار، والجُعَالة، والصيد، والذباحة

والشُفْعَة، وإحياء الموات، واللقطة، والشهادة، والديات، والقصاص، والإرث..

٣٢

كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها، كسائر الرجال، وغير ذلك.

نعم لها بعض الأحكام الخاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً:

في الإرث لها أقل من حقّ الرجل؛ لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة، وعليه تَبِعَة المسكن والمَلْبَس، وليس الطلاق بيدها، لأنّ حقّ القيّمومة للرجل، وذلك لأنّ إدارة البيت لا بدّ وأنْ توكل إلى واحد، وحَزْم الرجل أكثر من المرأة؛ ولذا جُعِلَتْ إليه، وفي قبال هذا الواجب جُعِلَ حقّ الطلاق؛ لتكافئ الحقوق والواجبات. وهكذا.. وهكذا..

قد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة، لها حقوقها، وعليها واجباتها.. حتّى جاء الغرب فرآها محرومة من حقوقها!! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول لإرجاع الحقوق إليها!! وجنّد لذلك كلّ عميل وذَنَب بإمكانيّاته المنتفخة.. فشوّقها للذهاب والإيّاب إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمسابح والمدارس المختلطة، كما جعل من حقّها التبرّج والسفور واتّخاذ الأخدان والحضور في الحفلات الساهرة

٣٣

وتعاطي اللذّة البريئة: النظر، والكلام المتكسّر، والملامسة، والأمر الأخير!! واعتبر كلّ دعوة إلى الحشمة والوقار، والحياء والعفاف والفضيلة والأخلاق.. دعوة رجعيّة تنافي الحرِّيَّة!

فالمرأة إلى أين وصلتْ حالتُها في ظلّ النُظُم الغربيّة، بعدما كان لها كلّ تجلّة واحترام في ظلّ النُظُم الإسلاميّة، لنرى كيف انهارت المرأة وانهارت معها الحياة العائليّة، مِن جرّاء الدساتير الكافرة التي لا تدين بالله واليوم الآخر.

وبعد هذا نسأل حماة الغرب: هل المرأة في ظلّ أنظمتكم أرفه حالاً و أهنأ عيشاً وأكثر سعادة، أمْ في ظلّ الإسلام؟

ولقد شهد المنصفون من الأجانب بما للإسلام من فضل على المرأة (1) :

* يقول (سيديو):

والقرآن - وهو دستور المسلمين - رفع شأن المرأة بدلاً من خفضها، فقد جعل محمّد حصّة البنت في الميراث تعدل نصف حصّة أخيها،

____________________

1 - انظر: الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٤

مع أنّ البنات كنّ لا يَرِثْنَ في زمن الجاهليّة، ومحمّد - وان جعل الرجال قوّامين على النساء - بيد أنّ للمرأة حقّ الرعاية والحماية على زوجها.

* ويقول (غوستاف لوبون):

والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعاً عظيماً، بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المُكَرَّرة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثيّة أحسن ممّا في أكثر قوانيننا الأوروبِّيّة.

ويقول: هنا نستطيع أنْ نكرّر إذن قولنا: إنّ الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا: أنّه أوّل دين فعل مثل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا: إنّ جميع أديان الأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة.

٣٥

وهنا مقتطفات من كتاب (الحجاب) للمودودي، للبرهنة على مدى انحطاط المرأة في ظلّ الكفر وما يسمّى بالديمقراطيّة، ونكتفي هنا بالنقل من دون ذكر المصادر التي نقلها الكتاب عنها.. واليك النصوص:

- (وجاء قوم، فمهّدوا الأسباب لإكراه النساء، وتقدّموا بِحِرْفَة البغاء، إلى أنْ أصبحت تجارة دوليّة منظّمة).

- (أمر الإجهاض.. ليس هناك قطر من الأقطار إلاّ وتقترف فيه هذه الشنيعة علناً وعلى نطاق واسع، فهذه إنكلترا يسقط فيها تسعون ألف حمل في كلّ سنة على أقل تقدير، وتكون في كلّ مئة من المتزوّجات فيها خمس وعشرون - على الأقل - إمّا يُبَاشرْنَ الإسقاط بأيديهنّ، أو يَسْتَعِنّ عليه بالمتخصِّصين، وترتفع هذه النسبة فوق هذا في غير المتزوّجات، فقد أُنشئتْ في بعض المدن هناك نوادٍ منظّمة للإسقاط.. ويكثر في لندن عدد دور التمريض التي تكون معظم المريضات فيها من المسقطات).

٣٦

- (وفي فرنسا: نشر قائد لبعض الفِرَق العسكريّة إعلاناً للجنود التابعة له، جاء فيه: قد بلغنا أنّ عامّة الرجّالة والخيّالة يشتكون من تزاحم رجال البنادق على دور بغاء الجنديّة.. وأنّ مكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد النساء؛ حتّى يكفينَ لجميع الجنود، ولكن قبل أنْ يتمّ ذلك نوصي رجال البنادق أنْ لا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجّلوا بقضاء شهواتهم ما استطاعوا).

- (وفي فرنسا: ليس على مَن كان يريد الاتصال بآنسة من الآنسات إلاّ أنْ يُعْلِم الوكالة - الوكالة البغائيّة - بعنوان تلك الآنسة، وعلى الوكالة بعد ذلك أنْ تراود الآنسة على الأمر، ودلّتْ سجلاّت هذه الوكالة على أنّه لم تكن طبقة من طبقات المجتمع الفرنسي إلاّ وعامل كثير من أناسها هذه الوكالة وتمتّعوا بخدماتها).

- (لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسيّة بين الأقارب في النسب: كالأب والبنت، والأخ والأخت، في بعض الأقاليم الفرنسيّة).

٣٧

- (ولقد كان عدد النساء اللواتي كنّ يحترفن البغاء قبل الحرب العالميّة الأولى: نصف مليون).

* وصرّح (مسيو فردينان دريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي منذ بضع سنوات:

إنّ حرفة البغاء لم تُعَدُّ الآن عملاً شخصيّاً بل قد أصبحت تجارة رئيسيّة، وحرفة منظّمة، بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح الغزيرة، فلها في هذه الأيّام وكلاء يهيّئون (المواد الخام) وآخرون يتجوّلون في البلاد، ولها الآن أسواق منظّمة تستورد فيها وتصدّر منها الفتيات والصبايا كالأموال التجاريّة، وأكثر ما يُطلب في هذه الأسواق من الأموال هو بنات دون العاشرة.

وربّما تبلغ البهيميّة في القائمين بها أقصى حدود الظلم والقساوة، فيقال: إنّ محافظ بلديّة في شرقي فرنسا اضطرّ إلى التدخّل في هذا الأمر؛ لنجدة فتاة كانت قد فرغت في يومها من سبعة وأربعين وارداً، وكان عدد منهم بَعْدُ بالباب يترقّبون!

٣٨

وجاءت الحرب العالميّة الأولى، فابتدعتْ بدعة (البغاء المتطوّع) علاوة على (البغاء التجاري) .. فجعلت هؤلاء النساء يتعاطين بصورة منظّمة، وأصبح تشجيعهنّ وإعانتهنّ فضيلة خُلُقِيَّة، عند أولي الدعارة والفجور، وعنيتْ الجرائد اليوميّة الكبرى عناية بالغة باستمالة رجال العمل إليهنّ.. وقد نشرت جريدة واحدة في عدد واحد (199 إعلاناً) عن أمرهنّ.

يقول (بول بيورو): إنّ جميع الأزواج المتزوّجون في مجتمعاتنا قوم خونة متجرّدون من الوفاء اللازم للعِشْرَة الزوجيّة.

وقد نجم عن هذه الموبقات الأمراض السرِّيَّة الفتَّاكة، فقد أعفتْ الحكومة الفرنسيّة في السنتَين الأوّلين من سِنِيّ الحرب العالميّة الأُولى خمسة وسبعين ألفاً؛ لكونهم مصابين بمرض الزهري، وابتلي بهذا المرض وحده (242 جنديّاً) في آن واحد في ثكنة متوسّطة.

* ويقول الدكتور الفرنسي (ليريد):

إنّه يموت في فرنسا (ثلاثون ألف نسمة بالزهري) وما يتبعها من الأمراض الكثيرة في كلّ سنة (1) .

____________________

1 - الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٩

ولهذه الأمور رغبت الرجال عن النكاح، فبقيت النساء والرجال - على حدّ سواء - يتعاطون البغاء، وفسد النظام العائلي.

فسبعة أو ثمانية في الألف هو معدّل الرجال والنساء الذين يتزوّجون في فرنسا اليوم.

وكثر الطلاق كثرة مدهشة، حتّى إنّ محكمة الحقوق بمدينة (سين) فسختْ (294 نكاحاً) في يوم واحد.

إلى كثير.. وكثير.. من أمثال هذه المآسي التي حلّت على البشريّة من جرّاء إعطاء المرأة هذه الحرِّيَّة!!

فهل في ذلك خدمة للمرأة؟

أو للرجل؟

أو للمجتمع؟

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63