علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 208147
تحميل: 18864

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208147 / تحميل: 18864
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ:

( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ... ) (1)

فقال: ( نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين - عليهم السلام - )

فقلت له:

إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عزّ وجلّ؟

قال: فقال: (قولوا لهم: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً وأربعاً حتّى كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمِّ لهم من كلِّ أربعين درهماً درهم... ) ) (2) .

وهذا الحديث يكون واضحاً للمعنى المراد من الأحاديث التي ساقتها الشُبهة ومقدّماً عليها؛ لأنّه يقف منها موقف المفسِّر وينظر إلى موضوعها ويوضِّح عدم ذكر القرآن لأسماء الأئمّة صريحاً.

القسم الثالث:

الروايات التي تدل على وقوع الزيادة والنقصان معاً في القرآن الكريم وأنّ طريقة جمع القرآن أدّت إلى وضع بعض الكلمات الغريبة من القرآن مكان بعض الكلمات القرآنية الأُخرى كما ورد ذلك في النصّين التاليين:

1 - عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) :(صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).

2 - عن هشام بن سالم قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى:

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ... ) (3) .

قال: (هو آل إبراهيم وآل محمّدٍ على العالمين فوضعوا اسماً مكان اسم).

________________________

(1) النساء: 59.

(2) الكافي 1: 286 - 287.

(3) آل عمران: 33.

١٢١

ويُناقش هذا القسم من الروايات بما يلي:

أوّلاً:

إنّ الأمّة الإسلامية بمذاهبها المختلفة أجمعت على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم بالزيادة، إضافةً إلى وجود النصوص الكثيرة الدالة على عدم وجود مثل هذا التحريف.

ثانياً:

إنّ هذا القِسم يتنافى مع الكتاب نفسه.

وقد أمر الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بلزوم عرض أحاديثهم على الكتاب الكريم، وإنّ ما خالف الكتاب فيُضرب عرض الجدار.

القسم الرابع:

الروايات التي دلّت على أنّ القرآن الكريم قد تعرّض للنقصان فقط؛ مثل ما رواه الكليني في الكافي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر:

(قال دفع إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) مصحفاً وقال لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه: ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا... ) فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، قال: فبعث إليَّ : (ابعث إليَّ بالمصحف)) (1) .

ويناقش هذا القسم بأنّ الزيادة الموجودة في مصحف أبي الحسن (عليه السلام) أو غيره تُحمل على ما سبقت الإشارة إليه من أنّها في مقام تفسير بعض الآيات؛ وفي المورد الذي لا يمكن أن يتمّ فيه مثل هذا الحَمْل والتفسير لا بُدّ من طرح الرواية تمسّكاً بالكتاب الكريم الذي أمرنا أهل البيت (عليهم السلام) بعرض أحاديثهم عليه قبل الأخذ بمضمونها.

________________________

(1) الكافي 2: 631 الحديث 16.

١٢٢

القسم الثاني

أبحاث في القرآن

1 - إعجاز القرآن.

2 - المُحْكَم والمُتشابِه في القرآن.

3 - النَسْخ في القرآن.

١٢٣

١٢٤

إعجاز القرآن *

ماهي المعجزة:

النبي - أيّ نبيٍّ - صاحب رسالة، يريد أن ينفذ بها إلى قلوب الناس وعقولهم؛ ليصنع الإنسان الأفضل الذي يريده الله على وجه الأرض.

ولا يمكنه أن يحقّق هذا الهدف ما لم يكسب إيمان الناس بنبوّته، واعتقادهم بصدق دعواه في ارتباطه بالله والأرض، لكي يتاح له أن يستلم زمام قيادتهم ويغذِّيهم برسالته ومفاهيمها ومبادئها.

والناس لا يؤمنون بدون دليل، إذا كانت الدعوى التي يدعوهم إليها ذات حجمٍ كبير، وتقترن بالمشكلات والمصاعب وترتبط بعالم الغيب، فلا يمكن للنبي أن يدعوهم إلى الإيمان به وبرسالته، ويكلّفهم بذلك ما لم يقدِّم لهم الدليل الذي يُبرهن على صدق دعواه، وكونه رسولاً حقاً من قِبَل الله - تعالى - فكما لا نصدِّق في حياتنا الاعتيادية شخصاً يدّعي تمثيل جهةٍ رسميّة ذات أهميةٍ كبيرة مثلاً، ما لم يدعم دعواه بالدليل على صدقه، ونرفض مطالبته لنا بتصديقه من دون برهان، كذلك لا يمكن للإنسان أن يؤمن برسالة النبي ونبوّته إلاّ على أساس الدليل.

والدليل الذي يبرهن على صدق النبيِّ في دعواه هو المعجزة، وهي:

أن يحدث تغييراً في الكون - صغيراً أو كبيراً - يتحدّى به القوانين الطبيعية التي ثبتت عن طريق الحسِّ والتجربة، فمن وضع الماء على النار ليكون حارّاً فارتفعت درجة

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

١٢٥

حرارته يُطبِّق قانوناً طبيعيّاً عرفه الناس عن طريق الحسِّ والتجربة، وهو انتقال الحرارة من الجسم الحار إلى الجسم الذي يجاوره؛ وأمّا من ادّعى أنّه يجعل الماء حارّاً بدون الاستعانة بأيّ طاقةٍ حرارية، وحقّق ذلك فعلاً فهو يتحدّى قوانين الطبيعة التي يكشف عنها الحسُّ والتجربة، ومن أبرأ مريضاً بإعطائه مادّةً مضادّة للميكروب الذي أمرضه، يُطبِّق قانوناً طبيعيّاً يعرفه بالتجربة، وهو أن هذه المادّة بطبيعتها تقتل الميكروب الخاص، وأمّا من أبرأ المريض بدون إعطاء أيّ مادّةٍ مضادّة فهو يتحدّى قوانين الطبيعة التي يعرفها الناس بالتجربة، ويحقّق المعجزة.

فإذا أتى النبيُّ بمعجزة من هذا القبيل كانت برهاناً على ارتباطه بالله تعالى، وصدقه في دعوى النبوّة، لأنّ الإنسان بقدرته الاعتيادية لا يمكنه أن يغيّر في الكون شيئاً، إلاّ بالاستفادة من القوانين الكونية التي يعرفها عن طريق الحسِّ والتجربة، فإذا استطاع الفرد أن يحقّق تغييراً يتحدّى به هذه القوانين، فهو إنسانٌ يستمدُّ قدرةً استثنائيّةً من الله تعالى، ويرتبط به ارتباطاً يميِّزه عن الآخرين، الأمر الذي يفرض علينا تصديقه إذا ادّعى النبوّة.

الفرق بين المعجزة والابتكار العلمي:

وفي ضوء ما قلناه نعرف أنّ سبق النوابغ من العلماء في الحقول العلميّة، لا يُعتبر معجزةً، فإذا افترضنا أنّ شخصاً من العلماء اليوم سبق أنداده، ونجح في اكتشاف الورم السرطاني مثلاً، والمادّة التي تقضي عليه فهو يستطيع بحكم اكتشافه أن يُبرئ مريضاً من السرطان، بينما يعجز عن ذلك جميع العلماء الآخرين، ولكنّ عمله هذا ليس معجزةً لأنّه إنّما يتحدّى جهل العلماء الآخرين بالسِّر والعلّة والدواء، ولا يتحدّى القوانين الكونية التي تثبت بالحسِّ والتجربة، بل هو إنّما استطاع أن يُبرئ المريض من السرطان على أساس تجربةٍ فذّةٍ قام بها في مختبره

١٢٦

العلمي، فاكتشف قانوناً لم يعرفه غيره حتّى الآن؛ ومن الواضح أنّ معرفته بالقانون الطبيعي عن طريق التجربة، ليست تحدّياً للقانون، وإنّما هي تطبيق للقانون الطبيعي، وقد تحدّى بذلك زملاءه الذين عجزوا عن اكتشاف القانون قبله.

القرآن هو المعجزة الكبرى:

وما دمنا قد عرفنا أنّ المعجزة هي: أن يُحدِث النبيُّ تغييراً في الكون يتحدّى به القوانين الطبيعية، فمن الميسور أن نطبِّق فكرتنا هذه عن المعجزة على (القرآن الكريم)، الذي أحدث تغييراً كبيراً جدّاً، وثورةً كبرى في حياة الإنسان، لا تتفق مع المألوف والمجرَّب من القوانين الكونية والسُنن التاريخية للمجتمع.

فنحن إذا درسنا الوضع العالمي، والوضع العربي والحجازي بصورةٍ خاصّة، وحياة النبيّ قبل البعثة، ومختلف العوامل والمؤثِّرات التي كانت متوفِّرةً في بيئته ومحيطه، ثمّ قارنّا ذلك بما جاء به الكتاب الكريم، من رسالةٍ عظمى تتحدّى كلَّ تلك العوامل والمؤثِّرات، وما أحدثه هذا الكتاب من تغيير شاملٍ كامل، وبناء لأُمّةٍ تملك أعظم المقوِّمات والمؤهِّلات، إذا لاحظنا كلَّ ذلك وجدنا أنّ القرآن معجزةٌ كبرى، ليس لها نظير؛ لأنّه لم يكن نتيجةً طبيعيّةً لتلك البيئة المتخلِّفة بكلِّ ما تضم من عوامل ومؤثِّرات، فوجوده إذاً يتحدّى القوانين الطبيعية ويعلو عليها، وهدايته وعمق تأثيره لا تفسِّره تلك العوامل والمؤثِّرات.

ولكي يتجلّى ذلك بوضوح يمكننا أن نستعرض البيئة التي أدّى فيها القرآن رسالته الكبرى، ونقارن بينها وبين البيئة التي صنعها، والأُمّة التي أوجدها.

بعض أدلّة إعجاز القرآن:

وبهذا الصدد يجب أن نأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار، والتي يمكن أن تكون

١٢٧

كلّ واحدةٍ منها دليلاً على إعجاز القرآن:

1 - إنّ القرآن شعَّ على العالم من جزيرة العرب، ومن مكّة بصورة خاصّة، وهي منطقة لم تمارس أيَّ لونٍ من ألوان الحضارة والمدنيّة، التي مارستها مختلف المجتمعات الراقية نسبيّاً يومئذ؛ وكانت هذه أُولى المفارقات التي برهنت على أنّ الكتاب لم يجرِ وفق القوانين الطبيعية الاعتيادية؛ لأنّ هذه القوانين التجريبيّة تحكم بأنّ الكتاب مرآةٌ لثقافة عصره ومجتمعه، الذي عاشه صاحب الكتاب، وتثقّف فيه، فهو يعبِّر عن مستوىً من مستويات الثقافة في ذلك المجتمع، أو يعبِّر على أفضل تقدير عن خطوة إلى الأمام في تلك الثقافة، وأمّا أن يطفر الكتاب طفرةً كبيرة جدّاً، ويأتي - بدون سابق مقدّمات وبلا إرهاصات - بثقافة من نوع آخر لا تمتّ إلى الأفكار السائدة بصلة ولا تستلهمها، وإنّما تقلبها رأساً على عَقِب، فهذا ما لا يتّفق مع طبيعة الأشياء في حدود التجربة التي عاشها الناس في كلِّ عصر.

وهذا ما وقع للقرآن تماماً فإنّه اختار أكثر المناطق والمجتمعات تأخُّراً وبدائيّةً، وضيق أفق، وبعداً عن التيارات الفلسفية والعلمية، ليفاجئ العالم بثقافة جديدة، كان العالم كلّه بحاجة إليها، وليثبت أنّه ليس تعبيراً عن الفكر السائد في مجتمعه، ولا خطوة محدودة إلى الأمام، وإنّما هو شيءٌ جديد بدون سابق مقدّمات.

وهكذا نعرف أنّ اختيار البيئة والمجتمع، كان هو التحدّي الأوّل للقوانين الطبيعية التي تقتضي أن تولد الثقافة الجديدة في أرقى البيئات من الناحية الفكرية والاجتماعية.

2 - إنّ القرآن بشّر به النبيُّ، وأعلنه على العالم فَرْدٌ من أفراد المجتمع المكّي، ممّن لم ينل ما يناله حتّى المكّيّون من ألوان التعلّم والتثقيف، فهو أُمّي، لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش بين قومه أربعين سنة فلم تؤثِّر عنه طيلة هذه المدّة محاولة تعلّم أو إثارة من علم أو أدب، كما أشار القرآن إلى ذلك:

١٢٨

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (1) .

( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (2) .

وهذا يُعتبر تحدّياً آخر من القرآن للقوانين الطبيعيّة، إذ لو كان القرآن جارياً وفق هذه القوانين، لما كان من الممكن أن يجيء به فردٌ أُمّي، لم يشارك حتّى في ثقافة مجتمعه، بالرّغم من بساطتها، ولم يُؤْثر عنه أيّ بروزٍ في عالم اللُّغة بمختلف مجالاتها، فيُبَذّ به الإنتاج الأدبي كلّه ويبهر بروعته وحكمته وبلاغته، أعاظم البلغاء والعلماء.

فهل رأيت في مجرى القوانين الطبيعية شخصاً جاهلاً بالطب لم يدرس عنه شيئاً يتقدّم بكتابٍ في الطب يبهر عقول الأطباء بما يضم من أسرار العلم وآياته؟

وهل رأيت في مجراها شخصاً لا يحسن أن يكتب في لغةٍ ما، ولا يجيد شيئاً من علومها، يأتي بالرائعة التاريخية في حياة تلك اللُّغة، ويكشف عن إمكانيّاتٍ أدبيّةٍ كبيرة جداً في تلك اللُّغة لم تكن تخطر على بالٍ، حتّى يتصوّر الناس أنّه ساحر؟

والواقع أنّ المشركين في عصر (البعثة النبويّة) أحسّوا بهذا التحدِّي العظيم، وكانوا حائرين في كيفيّة تفسيره، ولا يجدون تفسيراً معقولاً له وفق القوانين الطبيعية، ولدينا عدّة نصوصٍ تاريخيةٍ تصوِّر حيرتهم في تفسير القرآن، وموقفهم القلق من تحدِّيه للقوانين والعادات الطبيعية.

فمن ذلك: أنّ الوليد بن المغيرة استمع يوماً إلى النبي في المسجد الحرام وهو يقرأ القرآن، فانطلق إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال:

(والله لقد سمعت من محمّدٍ آنفاً

________________________

(1) العنكبوت: 48.

(2) يونس: 16.

١٢٩

كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمعذق وإنّه ليعلوا وما يعلى) (1)

ثمّ انصرف إلى منزله، فقالت قريش:

صبا والله الوليد والله ليصبأن قريش كلّهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد مالي أراك حزيناً يا بن أخي؟

فقال له: هذه قريش يصيبونك على كبر سنِّك، ويزعمون أنّك زيّنت كلام محمّد، فقام الوليد مع أبي جهل حتّى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟!

قالوا: اللّهمّ لا، فقال: تزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعرٍ قط؟!

قالوا: اللّهمّ لا، قال: تزعمون أنّه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟!

فقالوا: اللّهمّ لا، فما هو إذاً؟

فغرق الوليد في الفكر، ثمّ قال: ما هو إلاّ ساحر! أما رأيتموه يفرِّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فنزل قوله تعالى:

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) (2) .

وقد افترض بعض العرب - لتعليل هذه الحيرة أمام تحدِّي القرآن لهم بنزوله على شخصٍ أُمِّي - أن يكون أحدٌ من البشر قد علَّم النبيَّ القرآن، ولم يجرؤا وهم الأُمِّيّون على دعوى تعلّمه من أحدٍ منهم، فقد أدركوا بالفطرة أنّ الجاهل لا يعلِّم الناس شيئاً، وإنّما زعموا أنّ غلاماً روميّاً أعجميّاً نصرانيّاً، يشتغل في مكّة قيناً (حدّاداً) يصنع السيوف، هو الذي علّم النبيَّ القرآن، وكان ذلك الغلام على عاميّته يعرف القراءة والكتابة؛ وقد تحدّث القرآن الكريم عن افتراض العرب هذا، وردّ عليه ردّاً بديهيّاً، قال تعالى:

( ... لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا

________________________

(1) البداية والنهاية 3: 78.

(2) المدثر: 18 - 24.

١٣٠

لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (1) .

3 - إنّ القرآن الكريم يمتدُّ بنظره إلى الغيب المجهول في الماضي البعيد، وفي المستقبل على السواء، فهو يقصُّ أحسن القصص عن أُممٍ خلت، وما وقع في حياتها من عِظاتٍ وعِبَر، وما اكتنفها من مضاعفات.

يتحدّث عن كلِّ ذلك، حديث مَن شاهد الأحداث كلَّها، وراقب جريانها، وعاش في عصرها بين أصحابها، قال الله تعالى:

( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (2) .

وقال:

( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (3) .

وقال:

( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (4) .

وكلّ هذه الآيات الكريمة تُأكِّد تحدّي القرآن للقوانين الطبيعية في استيعابه لتلك الأحداث، وإحاطته بالماضي المجهول، إذ كيف يمكن بحكم القوانين الطبيعية أن يتحدّث شخصٌ في كتابٍ عن أحداث أُممٍ في الماضي السحيق لم يعشها ولم يعاصرها؟

وقد أحسَّ المشركون بهذا التحدّي أيضاً:

( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (5) .

وكانت حياة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ردّاً مفحماً لهم، فقد عاش

________________________

(1) النحل: 103.

(2) هود: 49.

(3) القصص: 44، 45.

(4) آل عمران: 44.

(5) الفرقان: 5.

١٣١

في مكّة ولم تتهيّأ له أيّة دراسةٍ لأساطير الأوّلين، أو كتب العهدين: التوراة والإنجيل، ولم يخرج من المنطقة إلاّ مرّتين، سافر فيهما إلى الشام:

إحداهما: في طفولته مع عمّه، لقي فيها بحيرا، وهو ابن تسع سنين، فقال هذا الراهب لعمِّه:

(سيكون لابن أخيك هذا شأنٌ عظيم) (1) .

والأُخرى: في تجارة خديجة، وهو شابٌّ وكان بصحبته ميسرة غلام خديجة، ولم يتجاوز (صلّى الله عليه وآله) سوى مدينة بصرى، في كلتا الرحلتين القصيرتين.

فأين تأتَّى للنبيِّ أن يدرس التوراة أو يكتب أساطير الأوّلين؟!

والحقيقة أن مقارنة القصص التي جاءت في القرآن الكريم بالعهد القديم تؤكِّد التحدّي، إذ تُبرز إعجاز القرآن بصورةٍ أوضح؛ لأنّ التوراة التي شهد القرآن بتحريفها كانت قصصها وأحاديثها - عن ماضي الأُمم وأحداثها - مشحونةً بالخرافات والأساطير، وما يُسيء إلى كرامة الأنبياء، ويبتعد بالقصّة عن أهداف التبليغ والدعوة، بينما نجد قصص تلك الأُمم في القرآن، قد نقِّيت من تلك العناصر الغريبة، وأُبرزت فيها الجوانب التي تتصل بأهداف التبليغ، واستعرضت بوصفها عِظَة وعِبْرة، لا مجرّد تجميع أعمى للمعلومات.

وكما كان القرآن محيطاً بالماضي، كذلك كان محيطاً بالمستقبل، فكم من خبر مستقبل كشف القرآن حجابه؛ فتحقّق وفقاً لما أخبر به، ورآه المشركون؛ ومن هذا القبيل أخبار القرآن بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، إذ قال تعالى:

( غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ... ) (2) .

وقد أخبر القرآن بذلك على أعقاب هزيمةٍ فضيعةٍ مُني بها الروم، وانتصارٍ

________________________

(1) بحار الأنوار 35: 139.

(2) الروم: 2 - 4.

١٣٢

ساحقٍ سجّله الفرس عليهم، ففرح المشركون بذلك؛ لأنّهم رأوا فيه انتصاراً للشرك والوثنيّة على رسالات السماء، نظراً إلى أنّ الفرس المنتصرين كانوا وثنيّين والروم كانوا نصارى، فنزل القرآن يؤكِّد انتصار الروم في المستقبل القريب، فهل يمكن لكتابٍ غير نازلٍ من الله تعالى أن يؤكِّد خبراً غيبيّاً في المستقبل القريب من هذا القبيل، ويربط كرامته ومصيره بالغيب المجهول، وهو يهدّد مستقبله بالفضيحة إذا ظهر كذبه في نبوءته؟

وهكذا نجد أنّ القرآن يتحدّى الغيب في الماضي والمستقبل، على السواء، ويتحدّث بلغة المطمئن الواثق، الذي لا يخالجه شكٌّ فيما يقوله، وهذا ما لا يقدر عليه إنسان، أو كتاب إنسان، وِفقاً للقوانين الطبيعية.

كما أنّنا يمكن أن نجد أدلّةً أُخرى على إعجاز القرآن، في مقدّمتها ما أشرنا إليه في بحث الهدف من نزول القرآن، من التغيير العظيم الذي أحدثه في أُمّة العرب وبمدّةٍ زمنيّةٍ قياسيّة.

١٣٣

شُبهات حول إعجاز القرآن ومناقشاتها:

لقد أُثيرت حول إعجاز القرآن الكريم - من قِبَل المستشرقين والمبشِّرين - شُبهاتٌ كثيرة؛ نظراً لأهميّة هذا البحث وعظمة الأهداف التي يحقِّقها، وقد عرفنا في بحث إعجاز القرآن الأدلّة التي يمكن أن نستنتج منها أنّ القرآن الكريم ليس صنعةً بشريّة، وإنّما هو وحيٌ إلهي، ولم تكن الأدلّة السابقة تعتمد في الوصول إلى هذه النتيجة على ملاحظة الأُسلوب البلاغي للقرآن الكريم، ولكنّ الأُسلوب البلاغي للقرآن الكريم كان وما زال أحد الأُسس المهمّة التي اعتمدها الباحثون لإثبات إعجاز القرآن، وسوف نرى في أكثر الشبهات الآتية أنّ نقد القرآن الكريم فيها يعتمد على ملاحظة الأُسلوب البلاغي له فحسب، لغرض إسقاط هذا الدليل الذي يعتمد عليه أحياناً في إثبات إعجاز القرآن، كما سوف نرى بطلان هذه الشُبهات أيضاً.

ويمكن تقسيم الشبهات الآتية إلى قسمين رئيسين:

الأوّل:

الشبهات التي تحاول أن تُبرز جانب النقص والخطأ في الأُسلوب والمحتوى القرآني.

والثاني:

الشبهات التي تحاول أن تُثبت أنّ القرآن الكريم ليس معجزةً لقدرة البشر على الإتيان بمثله.

القسم الأوّل من الشبهات حول إعجاز القرآن:

الشبهة الأُولى:

إنّ الإعجاز القرآني يرتكز بصورةٍ رئيسةٍ على الفصاحة والبلاغة القرآنية، ونحن نعرف أنّ العرب قد وضعوا قواعد وأُسساً للفصاحة والبلاغة والنطق، تُعتبر هي المقياس الرئيس في تمييز الكلام البليغ من غيره، وبالرّغم من ذلك نجد في القرآن الكريم بعض الآيات التي لا تنسجم مع هذه القواعد بل تخالفها، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأنّ القرآن الكريم ليس معجِزاً؛ لأنّه لم يسر على نهج القواعد العربية وأُصولها.

وتسردُ الشُبهةُ بعضَ الأمثلة لذلك.

١٣٤

ويمكن أن تُناقش هذه الشبهة - إضافةً إلى ما أشرنا إليه من أنّ الدليل على إعجاز القرآن لا يختص بالجانب البلاغي - بأُسلوبين رئيسين:

الأوّل:

ملاحقة الأمثلة والتفصيلات التي تسردها الشبهة وبيان انطباقها مع القواعد العربية المختلفة وانسجامها معها، وملاحظة مختلف القراءات القرآنية التي يتّفق الكثير منها مع هذه القواعد، بالشكل الذي لا يبقى مجالاً لورود الشبهة عليها، وقد قام العلاّمة الشيخ محمّد جواد البلاغي بجانبٍ من ذلك (1) .

كما يمكن أن نعرف ذلك من خلال مراجعة الكتب التفسيريّة التي تناولت هذا الجانب مثل كتاب مجمع البيان للشيخ الطبرسي والكشّاف للزمخشري.

الثاني:

مناقشة أصل الفكرة التي تقوم عليها الشبهة ومدى إمكان الاعتماد عليها في الطعن بإعجاز القرآن، وهذا ما سوف نقوم به في هذا البحث، وذلك بملاحظة الأمرين التاليين:

أ - إنّ تأسيس قواعد اللُّغة العربية كان في وقتٍ متأخِّرٍ عن نزول القرآن الكريم وفي العصور الأُولى للدول الإسلامية، بعد أن ظهرت الحاجة إليها بسبب التوسُّع الإسلامي الذي أدّى إلى اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب، وقد كان الهدف الرئيس لوضع هذه القواعد، هو: الحفاظ على النصِّ القرآني ولغته، وقد اتُبعت في استكشاف هذه القواعد طريقة ملاحظة النصوص العربية الواردة قبل هذا الاختلاط أو التي لم تتأثّر به.

فلم تكن عمليّة وضع القواعد عمليّة تأسيسٍ واختراع من قِبَل واضعي اللُّغة العربية، وإنّما هي عمليّة استكشاف لما كان العرب يتبعه من أساليب في البيان، والنطق خلال كلامهم، ولذا كان الكلام العربي الأصيل هو الذي يتحكّم في صياغة القاعدة وتفصيلاتها.

________________________

(1) الهدى إلى دين المصطفى 1: 330.

١٣٥

ولا شكّ أنّ القرآن الكريم كان أهم تلك المصادر على الإطلاق، التي اعتمد عليها واضعوا هذه القواعد في صياغتها وتأسيسها؛ لأنّه أوثق المصادر العربية والكلام البليغ الذي بلغ القمّة، ولذلك نجد علماء العربية عندما يريدون الاستدلال على صحّة أيّ قاعدةٍ، يستدلّون على ذلك بالآيات القرآنية، أو بالنصوص التي تثبت نسبتها إلى العرب الأوائل.

وعلى هذا الأساس التاريخي لوجود قواعد اللُّغة العربية، يجب أن يكون الموقف تجاهها أن نجعل القرآن هو القياس الذي يتحكّم في صحتها وخطئها، لا أن نجعل القواعد مقياساً نحكم به على القرآن؛ لأنّ القاعدة العربية وُضعت على ضوء الأُسلوب القرآني، فإذا ظهر أنّها خلاف هذا الأُسلوب يكشف ذلك عن وقوع الخطأ في عمليّة استكشاف القاعدة نفسها.

ب - ثمّ إذا لاحظنا موقف العرب المعاصرين للقرآن الكريم - وهم ذوو الخبرة والمعرفة الفائقة باللُّغة العربية - وجدناهم قد أذعنوا واستسلموا للبلاغة القرآنية، وتأثّروا بها إيماناً منهم بأنّه يسير على أدق القواعد والأساليب العربية في البيان والتعبير، ولو كان في القرآن الكريم ما يتنافى مع قواعد اللُّغة العربية وأُصولها، لكان من الجدير بهؤلاء الأعداء أن يتّخذوا ذلك وسيلةً لنقد القرآن ومَنْفذاً للطعن به.

الشبهة الثانية:

إنّ القرآن قد تحدّث عن قصص الأنبياء، كما تحدّثت الكتب الدينية الأُخرى: كالتوراة والإنجيل عنها، وعند المقارنة بين ما ذكره القرآن، وما ورد في التوراة والإنجيل، نجد القرآن يخالف تلك الكتب في حوادث كثيرة ينسبها إلى الأنبياء وأُممهم، الأمر الذي يجعلنا نشكُّ في أن يكون مصدر القرآن: الوحي الإلهي، لسببين:

الأوّل:

إنّ هذه الكتب من الوحي الإلهي الذي اعترف به القرآن، وإذا كان القرآن وحياً إلهيّاً أيضاً فلا يمكن أن يناقض الوحي نفسه في الإخبار عن حوادث

١٣٦

تاريخية واقعية.

الثاني:

إنّ هذه الكتب ما زالت تتداولها أُمم هؤلاء الأنبياء وهم بطبيعة ارتباطهم الديني والاجتماعي بأنبيائهم لا بُدّ وأن يكونوا أدقَّ اطّلاعاً على أحوالهم من القرآن الذي جاء في أُمّةٍ ومجتمعٍ منفصلٍ عن تاريخ هؤلاء الأنبياء.

وهذه الشبهة - كسابقتها - لا يمكن أن تصمد للمناقشة إذا عرفنا أنّ هذه الكتب الدينية قد تعرّضت للتحريف والتزوير - كما سوف نتعرّض إلى ذلك في بحثٍ مستقل - وكان أحد أسباب التحريف هو الانفصال التاريخي الذي وقع بين الأنبياء وأُممهم، حيث تعرّض اليهود - مثلاً - إلى الأسر الجماعي، ونُقلوا إلى بابل، وأُحرقت جميع الكتب، ودُمِّرت جميع المعابد وبقوا على هذا الحال مدّة عقودٍ من الزمن، حتّى أنقذهم كورش الفارسي من ذلك، ويُقال بأنّهم دوّنوا التوراة الموجودة على ما تبقّى في ذاكرة بعض الأشخاص ممّا سمعوه من آبائهم.

وكذلك الحال بالنسبة إلى المسيحيين، حيث تعرّض المسيح لمحاولة الصَّلب وتفرّق الحواريون، ودوِّن الإنجيل على ما تبقّى في الذاكرة بعد مدّةٍ طويلة من هذه الحادثة.

هذا الأمر وغيره، هو الذي جعلهم غير قادرين على الاحتفاظ الديني بها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة عند حديثه عن أُمم هؤلاء الأنبياء، والجماعات التي نزلت فيهم هذه الكتب.

إضافةً إلى أنّ ملاحظة محتوى الخلاف بين القرآن الكريم والكتب الدينية الأُخرى، يدعونا بنفسه للإيمان بصدق القرآن الكريم، بعد أن نجد التوراة والإنجيل يذكران في قصص هؤلاء الأنبياء مجموعةً من الخرافات والأوهام، يتجاوزها القرآن الكريم، وينسبان إلى الأنبياء أعمالاً ومواقف لا يصحُّ نسبتها إليهم، ولا تليق برسُل الله والقوّام على شريعته ودينه، بل لا تليق بمصلحين عاديّين من عامّة

١٣٧

البشر، كما في نسبة شرب الخمر والزنا إلى لوط (عليه السلام)، وكذلك نسبة وقوع داود تحت تأثير الشهوة والعشق لامرأة أجنبيّة، بحيث يفرط بأحد قادته الكبار في الحرب وهو زوج هذه المرأة من أجل التخلّص منه والزواج بها، إلى غير ذلك كما يتبيّن ذلك بوضوح عند المقارنة بين القرآن والكتب الدينية الأُخرى (1) .

وقد عرفنا في بحث إعجاز القرآن أنّ إحدى النقاط المهمّة التي يظهر فيها إعجاز القرآن الكريم عرضه لقصص الأنبياء وحوادثهم، بشكل يبعث اليقين في نفوسنا أنّ مصادر هذا العرض ليست هي الكتب الدينية، ثمّ يأتي هذا العرض منسجماً ومؤتلفاً مع النظرة الواقعية الصحيحة للأنبياء والرسُل، الأمر الذي يُدلل على أنّ مصدره هو: الوحي الإلهي.

الشبهة الثالثة:

إنّ أُسلوب القرآن في تناول الأفكار والمفاهيم وعَرْضها، لا ينسجم مع أساليب البلاغة العربية، ولا يسير على الطريقة العلمية في المنهج والعَرْض؛ وذلك لأنّه يجعل الموضوعات المتعدِّدة متشابكة بعضها مع بعض، فبينما يتحدّث القرآن في التاريخ ينتقل إلى موضوع آخر من الوعد والوعيد والحِكَم والأمثال والأحكام وغير ذلك من الجهات، فلا يجعل القارئ قادراً على الإلمام بالأفكار القرآنية، مع أنّ الموضوعات القرآنية لو كانت معروضةً على شكل فصول وموضوعات مستقلّة؛ لكانت الفائدة المترتبة عليها أعظم والاستفادة منها أسهل، وكان العرض منسجماً مع الأُسلوب العلمي المنهجي الصحيح.

وتُناقش هذه الشبهة على أساس النقطتين التاليتين:

الأُولى:

أنّ القرآن الكريم ليس كتاباً علميّاً ولا كتاباً مدرسيّاً - كما عرفنا ذلك في بحث الهدف من نزول القرآن - فهو ليس كتاب فقه أو تأريخ أو أخلاق، وإنّما هو

________________________

(1) يمكن مراجعة كتاب: الهدى إلى دين المصطفى، للبلاغي: ج2 في هذه المقارنة.

١٣٨

كتاب هدايةٍ وتربية، وهدفه الأساس هو إحداث التغيير الاجتماعي؛ والأُسلوب القرآني خضع لهذا الهدف في طريقة العرض وفي التدرّج في النزول وفي غير ذلك من الظواهر القرآنية، كوجود الناسخ والمنسوخ والمُحْكم والمتشابَه.

وهذه الطريقة في العَرْض من الخصائص البارزة في القرآن الكريم التي خضعت لهذا الهدف للتمكُّن من إحداث التأثير المطلوب في نفسيّة الإنسان المعاصر لنزول القرآن، بل ولكلِّ إنسانٍ يستمع للقرآن الكريم أو يقرأه (1) .

والنتائج العظيمة التي حقّقها القرآن الكريم في المجتمع الجاهلي أفضل شاهدٍ على انسجام هذا الأُسلوب مع الهدف الأساس للقرآن الكريم.

الثانية:

إنّ هذه الطريقة في العَرْض يمكن أن تعتبر إحدى الميزات التي يتجلّى فيها الإعجاز القرآني بصورةٍ أوضح، فإنّه بالرغم من هذا التشابك في الموضوعات تمكّن القرآن الكريم من الاحتفاظ بجمال الأُسلوب وقوّة التأثير وحسن الوقع على الأسماع والنفوس، الأمر الذي يدلِّل على براعةٍ متناهية، وقدرة عظيمة على عَرْض الموضوعات وطرح الأفكار.

الشبهة الرابعة:

لا شكّ أنّ ذوي القدرة والمعرفة باللُّغة العربية يتمكنون من الإتيان بمثل بعض الكلمات القرآنية، وحين تتوفّر هذه القدرة في بعض الكلمات، فمن المعقول أن تتوفّر أيضاً في كلماتٍ أُخرى، وهذا ينتهي بنا إلى أن نجزم بوجود القدرة على الإتيان بسورة أو أكثر من القرآن الكريم لدى أمثال هؤلاء؛ لأنّ من يقدر على بعض القرآن يمكن أن نتصوّر فيه القدرة على الباقي بشكلٍ معقول، وبذلك لا يكون التحدِّي من قِبَل القرآن بالإتيان بسورةٍ أو عشر سِوَرٍ وارداً وصحيحاً.

________________________

(1) تناولنا هذا التأثير والتأثُّر في كتابنا (الهدف من نزول القرآن)، حيث تعرّضنا إلى تسعٍ من ظواهر القرآن الكريم بالدرس والتحليل، ومن هذه الظواهر: أُسلوب القرآن الكريم.

١٣٩

والمناقشة في هذه الشبهة واضحة؛ لأنّ الإعجاز القرآني يتمثّل في جانبين رئيسين - كما أشرنا سابقاً - جانب الأُسلوب والتركيب البياني، وجانب المضمون والمحتوى والأفكار.

وفي كلا الجانبين لا مجال لهذا الوهم والخيال.

أمّا في جانب المضمون، فمن الواضح أنّ القدرة على إعطاء فكرةٍ أو فكرتين لا يعني القدرة على إعطاء هذا المقدار الكبير المنسجم من الأفكار والمفاهيم، وفي نفس الظروف الموضوعيّة والذاتية التي جاء فيها القرآن الكريم.

والتحدِّي الذي شرحناه في بعض أبحاثنا السابقة عن إعجاز القرآن كان ضمن الظروف الخاصّة التي عاشها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) وجاء فيها القرآن الكريم.

وأمّا في جانب الأُسلوب، فإنّ القدرة على جملةٍ أو مقدارٍ من الكلمات، لا يعني القدرة على تمام التركيب بعناصره المتعدّدة التي لا يمكن أن تُوجد أو تتوفّر إلاّ ضمن التركيب بكامله، وهذا شيءٌ واضح لا يحتاج إلى برهان، فإنّنا ندرك أنّ كثيراً من الناس يملكون قدرة النطق ببعض الكلمات العربية، ولكنّ ذلك لا يعني أنّهم قادرون على أن يكونوا خطباء أو أدباء أو شعراء، ويتمتّعون بالبلاغة والفصاحة، أو حتّى الإتيان بقطعة كلامية بليغة، كما أنّ كثيراً من الناس يتمكّنون من القيام ببعض الأعمال البسيطة، ولكنّهم غير قادرين على القيام بالمشاريع الضخمة التي تتركّب من تلك الأعمال البسيطة كمشاريع البناء والصناعة والفن.

الصِرْفة في الإعجاز القرآني:

ولعلّ هذه الشبهة أو الوهم هو الذي أدّى بجماعةٍ من متكلِّمي المسلمين - كالنظّام ومدرسته على ما نُسب إليهم - إلى أن يفسِّروا ظاهرة الإعجاز القرآني

١٤٠