علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 208062
تحميل: 18864

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208062 / تحميل: 18864
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ... ) (1) فتاب عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم) (2) .

ومن الواضح أنّ هذا الحديث وُضع لصالح الأُمويّين على لسان عمر بن الخطّاب، إذ لا يتّفق هذا الحديث مع الواقع التاريخي المعروف عن هؤلاء الأشخاص بعد إسلامهم في حياة النبي (صلّى الله عليه وآله) وبعدها.

ولكن يبدو أنّ التزوير غير مُتْقن؛ لأنّه يفرض صدور التوبة من الله قبل إسلامهم!

2 - عن أبي بكرٍ قال: (كنتُ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأُنزلت عليه هذه الآية:

( ... مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ) (3) .

قلتُ: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، أيّنا لم يعمل سوءاً وأنّا لمجزون بما عملنا، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمّا أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتّى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، وأمّا الآخرون فيجمع لهم حتّى يجزوا به يوم القيامة) (4) .

فهذا الحديث بالرّغم من مخالفته لظهور كثيرٍ من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، يحاول أن يُبرئ موتى المسلمين - كما ترى - من التَبِعات الأُخرويّة لأعمالهم، ليبقوا أولياء على كلِّ حالٍ في نظر الناس.

3 - روى مسلم عن ابن عبّاس في رواية باذان: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خالد بن الوليد في سريّةٍ إلى حيٍّ من أحياء العرب، وكان معه عمّار بن ياسر، فسار خالد حتّى إذا دنا من القوم، عرس لكي يصبحهم، فأتاهم النذير، فهربوا عن

________________________

(1) آل عمران: 128.

(2) الترمذي 11: 131.

(3) النساء: 123.

(4) الترمذي 11: 169 - 170.

٣٠١

رجلٍ قد كان أسلم، فأمر أهله أن يتأهبوا للمسير، ثمّ انطلق حتّى أتى عسكر خالد، ودخل على عمّار، فقال يا أبا اليقظان إنّي منكم وإنّ قومي لمّا سمعوا بكم هربوا وأقمتُ لإسلامي، أفنافعي ذلك، أو أهرب كما هرب قومي؟

فقال: أقم فإنّ ذلك نافعك، وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام.

وأصبح خالد فغار على القوم، فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فأتاه عمّار فقال: أخل سبيل الرجل فإنّه مسلم، وقد كنت آمنته فأمرته بالمقام، فقال خالد أنت تجير عليّ وأنا الأمير، فقال: نعم أنا أجير عليك وأنت الأمير؛ فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فأخبروه خبر الرجل، فآمنه النبي (صلّى الله عليه وآله) وأجاز أمان عمّار، ونهاه أن يجير بعد ذلك على أميرٍ بغير إذنه.

قال واستبّ عمّار وخالد بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأغلظ عمّار لخالد، فغضب خالد وقال: يا رسول الله أتدع هذا العبد يشتمني، فوالله لولا أنت ما شتمني، وكان عمّار مولىً لهاشم بن المغيرة؛ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا خالد كفّ عن عمّار، فإنّه من يسبّ عمّاراً يسبّه الله، ومن يبغض عمّاراً يبغضه الله، فقام عمّار فتبعه خالد فأخذ بثوبه، وسأله أن يرضى عنه، فرضي عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآية:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) وأمر بطاعة أُولي الأمر (2) .

والتلفيق في هذه الرواية واضحٌ لما فيها من التناقض في الأحكام والمواقف، بالشكل الذي لا ينسجم مع أوضاع أبطالها الثلاثة: رسول الله وعمّار وخالد؛ فلماذا يحتاج هذا الرجل المسلم إلى أن يجيره شخصٌ من السّرية، ليكون آمناً ولا يكفيه إسلامه في ذلك حتّى يقع النزاع بين عمّار وخالد فيمن يجير؟!

وكيف يسبّ

________________________

(1) النساء: 59.

(2) الواحدي، أسباب النزول: 118.

٣٠٢

عمّار خالداً بعد أن حقّق عمّار هدفه في الحصول على أمانٍ للرجل من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبعد نهي رسول الله له - كما تفرض الرواية - بمخالفة أمير السّرية؟!

ثمّ كيف ينتصر النبيُّ لعمّارٍ على خالد، والرواية تُظهر عماراً كظالمٍ لخالد؟!

ثمّ كيف يترضّى خالدٌ عماراً بعد ظلم عمارٍ له، وبعد أن تكشّف خالد عن نفسيّةٍ جاهليّةٍ تأبى عليه هذا الذل؟!

وبعد كلّ هذا، ألا يجوز لنا أن نحكم بتزوير هذه الرواية لمصلحة خالد بن الوليد على حساب الصحابي المجاهد المناهِض للظلم عمّار بن ياسر؟

٣٠٣

التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

تمهيد:

من أجل أن نوضّح المعالم الأساسيّة والميزات الخاصّة التي تتميّز بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير، لا بُدّ أن نُشير إلى نقطتين لهما أهميّة بهذا الصدد:

الأُولى:

نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم.

الثانية:

نظرة أهل البيت (عليهم السلام) العامّة إلى طُرُق إثبات الحقائق، والوصول إلى فهم القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، ومعرفة السُنّة النبويّة.

نقطتان مميّزتان للتفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):

النقطة الأُولى: نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم:

في البداية لا بُدّ أن نشير إلى نظرة أهل البيت (عليهم السلام) المتميّزة في تقديس القرآن الكريم، حيث يضعونه في المرتبة الثانية بعد الله تعالى، وإلى اهتمامهم الخاص في حفظ وتعلّم القرآن الكريم وقراءته؛ فإنّها أفضل العبادات، واحترامه وأهميّته والتفاعل معه والتفكير والتدبّر في آياته من خلال مئات الأحاديث التي وردت عنهم (عليهم السلام) في الحث على ذلك، وتقديرهم واحترامهم الخاص لحملة القرآن ودورهم في الحياة الاجتماعية وذكر مقاماتهم عند الله تعالى، وبيان الأجر والثواب المترتِّب على كلّ هذه الأعمال المرتبطة بالقرآن، فهو شفيعٌ، يشفع يوم

٣٠٤

القيامة، بل هو أفضل شفيع... (1) إضافةً إلى كلّ ذلك نذكر أمرين رئيسين:

أحدهما: ثبوت النص القرآني:

إنّ القرآن الكريم المتداول بين المسلمين هو: مجموع ما نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) في مدّة نبوّته ورسالته، باعتباره كلاماً إلهيّاً دون زيادةٍ أو نقصان، وهو ما نسمّيه: بثبوت النص القرآني وسلامته من التحريف بالزيادة أو النقيصة، وقد أوضحنا القرائن والأدلّة على هذه الحقيقة في بحثنا السابق: ثبوت النص القرآني.

وبهذا الصدد لا بُدّ أن نُشير إلى ظاهرتين مهمّتين توضحان الصورة والموقف تجاه قضيّة تحريف القرآن الكريم:

1 - إنّ المسلمين جميعاً سنّةً وشيعة - بالرّغم من اختلاف مذاهبهم الفقهية والكلامية، وتعدّد آرائهم، ومواقفهم في فهم التاريخ والسنّة وتفسيرهم للأحداث - متفقون على تداول نصٍّ واحدٍ من القرآن الكريم وفي جميع العصور، بحيث لا نجد في جميع الأصقاع والأقطار الإسلامية أو غيرها، وفي زوايا المكتبات القديمة والحديثة أيّ نصٍّ آخر للقرآن الكريم غير النص الذي يتداولونه بشكلٍ عام؛ الأمر الذي يؤكّد حقيقة سلامة النص القرآني ويبطل كل الشبهات والإثارات التي يتداولها بعض الأشخاص لاتهام فرقةٍ أو جماعةٍ من المسلمين بأنّهم يعتقدون بالتحريف.

ولا شكّ أنّ هذه الإثارات والشُبهات لها خلفية وأهداف سياسيّة أو اجتماعية أو مذهبيّة متعصّبة، وإن كان بعض من يتداولها ممّن وقع في هُوّة التضليل والجهالة دون نيّةٍ سيئة.

2 - إنّنا نجد على مستوى الروايات والأحاديث، وأحياناً على مستوى الأبحاث

________________________

(1) راجع ما ذكره صاحب كتاب جامع أحاديث الشيعة الجزء: 15، فإنه ذكر أكثر من سبعمائة حديث تتناول مختلف هذه الأبعاد.

٣٠٥

العلميّة والآراء النظريّة ما يمكن أن يُوهم بالتحريف والنقيصة، سواء على مستوى علماء وحفّاظ جمهور المسلمين، كالبخاري ومسلم وغيره، أو مستوى حفّاظ وعلماء أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، الأمر الذي لا بُدّ من معالجته بالموقف الواضح والتسالم القطعي بين المسلمين، على سلامة القرآن من التحريف أو تأويل هذه الروايات والأحاديث أو الآراء، كما أشرنا إلى ذلك في بحث: ثبوت النص القرآني.

ولا يستفيد من مثل هذه الإثارات إلاّ أعداء الإسلام والقرآن من المستشرقين والمبشّرين والصهاينة والاستكبار العالمي الغربي، أو الملاحدة والمرتدّين من أوساط المجتمعات الإسلامية.

ولكن لا بُدّ أن نُشير هنا إلى أنّ هذه الروايات والإثارات إنّما كانت إحدى النتائج الخطرة - التي تمّت الإشارة إليها في البحث السابق - بسبب عدم التمييز بين المستويين (العام والخاص) من التفسير، وإبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن دورهم في المرجعية الدينية على المستوى الخاص، وخصوصاً في التفسير، الأمر الذي جعل الأُمور تختلط على المسلمين بهذا الشكل، ولولا العناية الإلهيّة والاهتمام الخاص الذي أولاه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأهل البيت (عليهم السلام) وكبار الصحابة والمسلمون بشكلٍ عام، في استظهار القرآن وحفظه، لحدثت كارثةٌ بين المسلمين تشبه ما تعرّضت له الديانات الإلهيّة السابقة.

والآخر: القرآن الكريم هو المرجع العام للرسالة الإسلامية:

إنّ القرآن الكريم هو المرجع الأوّل والمصدر العام للرسالة الإسلامية بكلّ أبعادها - والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - ومنها العقيدة والشريعة الإسلامية والسُّنن التأريخية والنظرة العامّة للكون والحياة والمجتمع والسلوك الإنساني.

والسنّة النبويّة وإن كانت تمثّل المرجع الآخر، إلاّ أنّ القرآن الكريم يمتاز على

٣٠٦

السنّة النبويّة في ثبوته بنصّه يقيناً وفي قدسيته باعتباره الكلام الإلهي، ومن ثمَّ يكون المرجع للسُّنّه عند الشك في ثبوت مضمونها أو نصّها، ولا يقبل من الحديث إلاّ ما كان موافقاً للقرآن الكريم.

كما أنّ أهل البيت (عليهم السلام) ينظرون إلى السنّة النبويّة القطعية نظرة التقديس، ويضعونها حكماً يمكن تمييز صحّة حديثهم من خلال موافقتها، كما يمكن ردّ الحديث والحكم عليه بالبطلان من خلال مخالفته للسنّة النبوية فضلاً عن مخالفته للقرآن، ولا يجدون أيّ مبرّرٍ للاجتهاد في مقابل النص القرآني، ويمكن أن نحدّد - بشكلٍ إجمالي - نظرة أهل البيت إلى منزلة القرآن الكريم من هذه الزاوية في الأبعاد التالية:

1 - إنّ القرآن الكريم يمثّل شاهداً على الحق والباطل في مضمون الأحاديث والروايات التي تُنسب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أو أهل البيت (عليهم السلام)، حيث يمكن من خلاله تمييز الحق من الباطل.

فقد روى ثقةُ الإسلام الكليني في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

(إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقة وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه).

وقد رواه البرقي في المحاسن، والصدوق في الأمالي بسندهما عن النوفلي والسكوني (1) .

وفي روايةٍ أُخرى للكليني صحيحة السند عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال:

(خطب النبي - صلّى الله عليه وآله - بمنى، فقال: (أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)) (2) .

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 78.

(2) المصدر السابق: 79 الحديث 15.

٣٠٧

وقد رواه البرقي في المحاسن أيضاً.

وفي صحيحةٍ أُخرى للكليني عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال:

(الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة، إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) (1) .

2 - وقد ورد في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ لكلِّ شيءٍ في الشريعة الإسلامية أصلاً في القرآن الكريم، ولكن لا يمكن لعامّة الناس أن يفهموه ويُرجعوه إلى القرآن الكريم؛ فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

(ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصلٌ في كتاب الله ولكن لا تبلغه العقول) (2) .

وسيأتي مزيدٌ من التوضيح لهذا البُعد في هذا البحث.

3 - إرجاع جميع الشروط والالتزامات والعهود والعقود إلى القرآن الكريم، بحيث لا يصح أن نقبل أيّ شيءٍ من هذه الالتزامات والعهود، إذا كان مخالِفاً للكتاب.

وقد ورد هذا المعنى في الأحاديث المرويّة عن طُرق الفريقين، وهو أمرٌ متَّفقٌ عليه بين عامّة المسلمين.

ففي حديثٍ عن الصادق (عليه السلام):

(المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرطٍ خالف كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز)

وفي حديثٍ آخر:

(وإن كان شرطاً يخالف كتاب الله عزّ وجلّ فهو ردّ إلى كتاب الله) (3) .

4 - الرجوع إلى الكتاب لتمييز وترجيح أحد الحديثين المختلفين في حالة

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 86 الحديث 35 و 37.

(2) المصدر السابق 17: 581 الحديث 3.

(3) المصدر السابق 12: 353 الحديث 2 و 4.

٣٠٨

التعارض وذلك في الموارد التي يكون فيها الحديث مخصِّصاً أو مقيِّداً أو مبيِّناً للقرآن الكريم، ولكن يوجد ما يعارضه في مضمونه، فإنّ ما يكون موافِقاً للعامّ القرآني وإطلاق الكتاب الكريم يكون مقدَّماً ومرجَّحاً على الحديث الآخر.

فقد روى سعيد بن هبة الله الراوندي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال الصادق (عليه السلام):

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه... ) (1) .

كما روى الصدوق في عيون الأخبار بسندٍ صحيح، عن محمّد بن عبد الله السمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا (عليه السلام) يوماً وقد اجتمع عنده قومٌ من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الشيء الواحد، فقال - في حديث - :

(ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق كتاب الله... ) (2) .

كما أنّ في الأحاديث التي وردت بصدد البُعد الأوّل ما يؤيِّد ويؤكِّد هذا المعنى.

النقطة الثانية: نظرة أهل البيت (عليهم السلام) العامّة إلى طُرُق الإثبات:

إنّ من المُلاحَظ أنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد أكّدوا في كثيرٍ من الروايات والنصوص أهمّيّة سلوك طريق العلم والمناهج العلمية في الوصول إلى حقائق الإسلام والقرآن.

وهنا يمكن أن يُثار هذا السؤال وهو: أنّنا نعرف بأنّ القرآن الكريم تناول هذا الموضوع بشكلٍ واسعٍ في مثل قوله تعالى:

( ... إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (3)

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 84 الحديث 29.

(2) المصدر السابق: 82 الحديث 21.

(3) النجم: 28.

٣٠٩

وقوله تعالى:

( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (1) .

وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

كما أنّ السنّة النبويّة الثابتة لدى المسلمين جميعاً أكّدت ذلك أيضاً، خصوصاً في مجال تفسير القرآن، حيث ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله): (أنّه من فسّر القرآن برأيه فقد كفر)، فما هو السبب في شدّة تأكيد أهل البيت هذا الموضوع؟

وهل هو مجرّد انسجامٍ مع القرآن الكريم والسنّة النبويّة، أو أنّ الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون تقتضي هذا التأكيد؟

والذي يبدو من خلال مراجعة التأريخ الإسلامي وخصوصاً تأريخ تطوّر (علم الحديث) من ناحية، والظروف التي مرّ بها العالم الإسلامي في الصدر الأوّل للإسلام، من ناحيةٍ أُخرى، والنصوص الكثيرة التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)، أنّ هناك مجموعة من القضايا والمشاكل والظواهر شهدتها الأُمّة الإسلامية أدّت إلى هذه الإثارات والتأكيدات من قِبَل مدرسة أهل البيت، منها:

1 - المنع الذي فرضه الخليفة الثاني عمر على تدوين الحديث - وقد استمرّ إلى عهد الخليفة الأُموي عمر بن عبد العزيز مع غضِّ النظر عن تفسير خلفيّاته وأسبابه - أدّى بطبيعة الحال إلى ضياع الكثير من السنّة النبويّة أو عدم ضبطها بشكلٍ مناسب، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام حركة (الرأي) و(الظن) و(الاجتهاد) للوصول إلى الحكم الشرعي.

2 - المشكلات الجديدة التي واجهها العالم الإسلامي بسبب الفتح الإسلامي الواسع، سواء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، أو الحكم وإدارته، أو على مستوى الفرد والجماعة والعلاقات السياسية والتي تحتاج إلى معالجةٍ على ضوء الشريعة الإسلامية.

________________________

(1) الإسراء: 36.

٣١٠

3 - إضفاء الشرعيّة والحجّيّة - في القول والعمل - على كلّ من عاصر النبي أو سمع منه ولو لمدّةٍ بسيطة، أو في الأماكن العامّة بحيث يكون مرجعاً للمسلمين في الشؤون الدينية، استناداً إلى فكرة عدالة جميع هؤلاء الأفراد على الإطلاق، دون وضع أُصول وضوابط في ذلك، مثل: الورع، والضبط، والاستيعاب، والإحاطة بالظروف الحاليّة والمقاليّة التي ورد فيها النص، أو حتّى الاطّلاع على النصوص الأُخرى والمعالم المتعدّدة للسنّة النبويّة من أقوالٍ وأفعالٍ وإقرار، والتي تُلقي الضوء على مضمون النص أو تفسيره وتوضيحه وتبيينه، فكان شأن المسلمين حينذاك في كثيرٍ من الأحيان شأن من يحاول استنباط الأحكام الشرعية في العصور المتأخِّرة بمجرّد الرجوع إلى روايةٍ يجدها في أحد الكتب الحديثة دون الفحص عن الروايات الأُخرى أو رجال الحديث الذين رووا هذه الرواية.

إنّ صُحْبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيءٌ مقدّسٌ ولها نتائج وإيحاءات روحيّة ومعنويّة عظيمة، ولكنّ إضفاء هذا العنوان على كلِّ من عاصر رسول الله أو التقى به أو سمع منه، مع أنّ فيهم (المنافق الذي مرد على النفاق)، و(الأعرابي)، و(الساذج)، أو الذي خلط عملاً صالحاً بآخر سيّئ، أو عرف من الإسلام مجرّد مفاهيم عامّة وشعارات وطقوس، دون أن يدخل الإيمان إلى قلبه أو يتربّى على المعرفة والأخلاق والعقائد والآداب الإسلامية، أو دون أن يعرف التقوى حقّ المعرفة، أو كان ممّن بقيت في أعماقه رواسب العادات والأخلاق الجاهلية والأفكار الوثنيّة.

إنّ وجود مثل هذه الأصناف في المجتمع الإسلامي الذي عاصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) حقيقةٌ لا يمكن لأحدٍ إنكارها، حيث تحدّث عنها القرآن الكريم والسنّة النبويّة والتأريخ الإسلامي، ودلت على هذه الحقيقة مُجْمل الأحداث والتصرّفات والمواقف والسلوكيات التي صدرت عن هؤلاء المعاصرين.

٣١١

4 - الأغراض السيئة لبعض الجماعات والأفراد التي كان لها مواقع في المجتمع الإسلامي، وخصوصاً في العهد الأُموي من دون فرْقٍ بين الأغراض السياسية، أو النفعيّة الذاتية، أو الأخلاقية التي تنطلق من الحسد والحقد أو النعرات الجاهلية في الصراعات القَبَليّة الموروثة.

إنّ هذه الأغراض كان لها دورٌ كبيرٌ ومهمٌّ في إيجاد الفوضى والاضطراب، واستغلال الفراغ الذي تركه عدم تدوين السنّة النبويّة، وعدم تشخيص المرجعية الدينية للمسلمين المتمثّلة بأهل البيت(عليهم السلام).

ولا نُريد بهذه المعالجة أن نشير إلى جميع هذه القضايا والمشاكل، ولكن نريد أن نوضِّح الأوضاع والظروف التي وُلدت فيها حركة الرأي والاجتهاد والحدس الذي لا يعتمد على الضوابط والأُصول.

كما لا نريد هنا أيضاً أن نتناول قضيّة تمّ بحثها في علم الأُصول ترتبط بالأدلّة الظنيّة التي أنكرها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، مثل (القياس) و(الاستحسان) و(المصالح المرسَلة) و(رأي الصحابي) وغيرها، فإنّ بحث هذا الموضوع له مجالٌ آخر، وإنّما نريد أن نُشير هنا إلى نقطةٍ محوريّةٍ في هذا البحث وهي: أنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يرون أنّ طريق الوصول إلى حقائق الإسلام بقيَ مفتوحاً وميسوراً من خلالهم، أي من خلال الإمام علي (عليه السلام) الذي هو باب مدينة العلم الذي اعتمده النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلّمه القرآن وتفسيره، حيث دوّن كلّ هذه المعلومات في صحيفةٍ جامعة، اشتملت على جميع تفاصيل الشريعة حتّى أرش الخدش وأحاط بالقرآن الكريم:

في المضمون وفي العمق؛ فهو يعرف ظاهره وباطنه ومُحْكَمه ومُتشابِهه.

وفي نصِّه وآفاقه، فهو يعرف ناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده.

٣١٢

وفي الظروف المحيطة به والقرائن الحالية التي اقترنت بنزوله؛ فهو يعرف في أيّ وقتٍ نزلت وفي أيّ الأشخاص والجماعات، ولأجل أيّ غرضٍ أو هدف.

وحتّى أُولئك الذين يرون صحّة الرجوع إلى القياس وغيره من الأدلّة الظنيّة إنّما يصح ذلك في رأيهم أو يقولون بحجيّة هذه الأدلّة إذا فقدوا الدليل والنص على الحكم الشرعي والمعرفة الإسلامية، أي (إذا انسدّ باب العلم) إلى هذه الحقائق كما يعبِّر الأُصوليون.

وأمّا إذا كانت الفرصة قائمةً وموجودة للوصول إلى الحكم الشرعي والمعرفة، من خلال طريق العلم ووسائل الإثبات اليقينيّة فلا يصح ذلك بالإجماع.

وهذا ما عناه وأكّده أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الروايات الكثيرة وهو الذي كان سبباً رئيساً في هذا القدر من الإنكار والاستنكار على مدرسة الرأي.

والإيمان بصحّة هذا الأمر هو الذي دعا جماعةً كبيرةً من كبار فقهاء الجمهور في عصور الأئمّة المختلفة للرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) من أجل أن يعرفوا هذه الحقائق اليقينية، وتأثّروا بهم في مختلف مجالات المعرفة وخصوصاً في التفسير (1) .

وهنا نُشير إلى بعض الروايات التي تعكس هذا التصوّر والفهم للموقف من قِبَل أهل البيت (عليهم السلام):

1 - الرواية التي رواها ثقةُ الإسلام الكليني وكذلك الصدوق في العقائد عن سليم بن قيس والتي تقدّمت الإشارة إليها في هذا الموضوع.

2 - ما رواه ثقةُ الإسلام الكليني بسندٍ صحيحٍ عن أبي الصباح (الكناني) قال: والله قال لي جعفر بن محمّد (عليهما السلام):

(إنّ الله علّم نبيّه- صلّى الله عليه وآله - التنزيل والتأويل، فعلّمه

________________________

(1) تناولنا هذا الموضوع في كتابنا: (دور أهل البيت في الحياة الإسلامية) الذي نأمل منه تعالى أن يوفّقنا لإكماله وطبعه.

٣١٣

رسول الله - صلّى الله عليه وآله - عليّاً (عليه السلام)، ثمّ قال: وعلّمنا - والله - الحديث) (1) .

3 - عن موسى بن عقبة: إنّ معاوية (بن أبي سفيان) أمر الحسين (عليه السلام) أن يصعد المنبر فيخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

(نحن حزب الله الغالبون وعترة نبيّه الأقربون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله - صلّى الله عليه وآله - ثاني كتاب الله، فيه تفصيلٌ لكلِّ شيءٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره لا نتظنى تأويله بل نتبع حقائقه، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله مقرونة؛ قال الله تعالى:

( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ... ) (2)

وقال: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ... ) ) (3) .

وروى الطبري نحوه في بشارة الإسلام بسنده عن الحسن بن علي (4) .

4 - وروى الكليني بسندٍ صحيحٍ عن أبي عبيدة (الحذّاء) قال: قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام):

(من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدىً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزْر من عمل بفتياه) (5) .

وروى أيضاً بسندٍ مُعْتَبرٍ في حديثٍ عن أبي الحسن موسى الكاظم(عليه السلام)

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 135 الحديث 19.

(2) النساء: 59.

(3) النساء: 83.

(4) وسائل الشيعة 18: 144 الحديث 45.

(5) المصدر السابق: 9 الحديث 1 ولاحظ أحاديث هذا الباب والتأكيد الذي ورد عن أئمّة أهل البيت بعدم الفتيا أو القضاء بغير علم، وأهميّة التعلّم ووجوبه.

٣١٤

قال: (ما لكم والقياس، إنّما هلك من قبلكم بالقياس... ثمّ قال:إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها (وأومأ بيده إلى فيه) ثمّ قال:إنّ أبا حنيفة كان يقول: قال عليٌ (عليه السلام) وقلت، وقالت الصحابة وقلت، ثمّ قال:أكنت تجلس إليه؟ قلت: لا، ولكن هذا كلامه، فقلت: أصلحك الله، أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم، وما يحتاجون إليه يوم القيامة، فقلت: فضاع من ذلك شيء؟ فقال لا هو عند أهله) (1) .

معالم نظريّة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير:

بعد أن عرفنا منطلقات أهل البيت (عليهم السلام) إلى القرآن الكريم وتفسيره، يحسن بنا أن نشير إلى عالم نظريّة أهل البيت في التفسير، حيث يمكن أن نلخِّصها في المعالم الأربعة التالية:

الأوّل: الوحدة البيانيّة للقرآن:

النظر إلى القرآن الكريم كوحدةٍ لفظيّةٍ وكلاميّةٍ متكاملة، بحيث لا يمكن أن نفهم فقراته أو آياته إلاّ من خلال النظر إلى جميع أبعاد وجوانب هذه الوحدة اللّفظيّة، وكذلك إلى جميع فقراتها.

ويعتمد هذا الفهم للقرآن الكريم على رؤيةٍ علميّةٍ وواقعيّةٍ مستنبطةٍ من القرآن الكريم وطبيعة الظروف التي أحاطت بنزوله.

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 23 حديث 3، راجع أيضاً حديث 5 و 16 و 18 و 33 و 41 و 49 وغيرها من أحاديث الباب 6 من أبواب صفات القاضي ج18.

٣١٥

فالقرآن الكريم كما نعرف هو: ( ... كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (1) .

فهو (كلامٌ واحد) يعبِّر عن تصوّرٍ متكاملٍ وشاملٍ للكون والحياة والدين، ولكن شاءت الحكمة الإلهيّة أن ينزل هذا الكلام بشكلٍ تدريجي و(منجّماً) لتحقيق أغراض عديدة تحدّثنا عنها في محلِّه من علوم القرآن، كما أشار إليه القرآن الكريم نفسه (2) .

وقد أحاطت بالنزول التدريجي هذا ظروفٌ وأحداثٌ تُلقي الضوء على معانيه وأهدافه من ناحية، وكان لها تأثيرٌ في أُسلوب العرض والبيان والمقاصد أحياناً أُخرى.

فقد يأتي البيان في البداية (عامّاً) لمصلحةٍ سياسيّةٍ أو تربويّةٍ، أو لرسم الأساس الفكري والمنطلقات النظريّة، ثمّ يأتي تخصيص هذا (العام) وبيان الاستثناءات التي تقتضيها المصالح السياسية أو الاجتماعية، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ بعض هذه التخصيصات جاءت من السنّة النبويّة الشريفة، وهو شيءٌ يقبله جمهور علماء الإسلام استناداً لقوله تعالى:

( ... مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (3) .

أو يثبّت القرآن الكريم موقفاً سياسيّاً أو حكماً شرعيّاً مراعياً تطوّر الدعوة والرسالة وحركتها في أرض الواقع، ثمّ (ينسخ) ذلك الموقف والحكم بعد أن تتغيّر الظروف وتتطوّر لصالح تثبيت حكمٍ آخر أكثر انسجاماً مع تطوّر المرحلة واستقرار الكيان السياسي أو الأوضاع الاجتماعية (4) .

________________________

(1) هود: 1.

(2) تحدّثنا عن هذه الظاهرة وأغراضها في أبحاث علوم القرآن.

(3) الحشر: 7.

(4) تحدّثنا عن تفسير النسخ وأهدافه وكذلك الغرض من العموم والخصوص والإطلاق

٣١٦

ومن هنا فلا يمكن أن يُفهم القرآن الكريم بشكلٍ صحيحٍ دون الإحاطة الكاملة بكلِّ هذه الأبعاد والجوانب (العام والخاص) و(الناسخ والمنسوخ)...

وفي جانبٍ آخر اقتضت الحكمة الإلهيّة في نزول القرآن الكريم أن يكون مشتمِلاً على الآيات (المُحْكَمة) التي هي أمّ الكتاب والأُخرى (المُتشابِهة) التي لا بُدّ من إرجاعها إلى الآيات المُحْكَمة لفهمها والاستفادة منها (1) حيث تعتمد عملية تقريب الصورة للمعاني القرآنية وإحاطتها بالإبعاد المتعدّدة للمعنى على هذه الآيات المتشابِهة، إضافةً إلى أنّ طبيعة المداليل اللّفظية تقبل الاحتمالات المتعدّدة - كما سوف نشير إليه في بحثٍ قريبٍ - الأمر الذي يفرض التشابه في الكلام ومن ثمَّ يمكن تحديد الصورة وفهمها بشكلٍ كاملٍ من خلال الرجوع إلى المُحْكَمات أو المقارنة بين المُتشابِهات المتعدّدة.

وعلى هذا الأساس كان يوجّه أهلُ البيت الانتقاد إلى أُولئك المفسّرين الذين كانوا يمارسون عمليّة التفسير دون هذه الإحاطة.

ففي روايةٍ رواها البرقي في المحاسن عن أبي الوليد البحراني ثمّ البحري، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنّ رجلاً قال له: أأنت الذي تقول ليس شيءٌ من كتاب الله إلاّ معروف؟

قال: ( ليس هكذا قلت، إنّما قلت: ليس شيءٌ من كتاب الله إلاّ عليه دليلٌ ناطقٌ عن الله في كتابه ممّا لا يعلمه الناس... إلى أن قال: إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومعانياً وناسخاً ومنسوخاً ومُحْكَماً ومُتشابِهاً وسنناً وأمثالاً وفصلاً ووصلاً

________________________

والتقييد في أبحاث علوم القرآن.

(1) ذكرنا السبب في اشتمال القرآن الكريم على الآيات المتشابِهة في بحث: المُحْكَم والمُتشابِه.

٣١٧

وأحرفاً وتصريفاً، فمن زعم أنّ الكتاب مبهمٌ فقد هلك وأهلك... ) (1) .

الثاني: الإحاطة بظروف النص القرآني:

الإحاطة الكاملة بجميع ظروف النص القرآني سواء على مستوى الأحداث والوقائع التي اقترن بها نزول النص القرآني وما يُسمّى بـ (أسباب النزول)، أو على مستوى العادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، خصوصاً في مكّة والمدينة، أو على مستوى الأوضاع السياسية والأخلاقية التي كان يعيشها المسلمون أنفسهم.

إذ من الواضح أنّ القرآن الكريم، في الوقت الذي يمثّل الكتاب الإلهي الذي جاء لتبيان رسالة الأُمّة الخاتمة، كذلك يمثّل الكتاب الذي استهدف تغيير الأُمّة التي نزل في أوساطها من الأُمّيّين وأبناء أُمّ القرى بشكلٍ مباشرٍ من أجل أن يخلق قاعدةً قويّةً ثابتةً قادرةً على تحمّل أعباء الرسالة ومسؤوليّة إبلاغها وإيصالها إلى الأمم والناس جميعاً (2) .

ولذلك نجد القرآن الكريم راعى الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسيّة والعادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، ولم يأت مجرداً عن كلِّ هذه الظروف؛ فهي بطبيعة الحال تُلقي بظلّها على فهم القرآن الكريم ومقاصده.

وفهمها ومعرفتها له دورٌ كبيرٌ في فهم القرآن وتفسيره.

إضافةً إلى أنّ فرز وتمييز المعاني أو الجوانب المرتبطة بالأحداث، خصوصاً عن غيرها من المفاهيم ذات الطبيعة الشمولية، تحتاج إلى هذه الإحاطة والاستيعاب الكامل لكلِّ هذه الظروف، وهذا ما يؤكِّده أهل البيت (عليهم السلام) في بعض الروايات

________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 141 الحديث 39، 142 الحديث 40 و 42، وص 138 الحديث 31، وص 141 الحديث 38.

(2) أوضحنا هذه الفكرة في كتابنا: (الهدف من نزول القرآن الكريم).

٣١٨

من خلال بيان معرفتهم بزمان نزول الآيات ومَن نزلت فيه و... (1) ، فإنّ هذا التأكيد لا يُراد منه مجرّد بيان سعة علمهم بالأحداث، وإنّما لبيان ارتباط ذلك بفهم القرآن وتفسيره.

الثالث: الاعتماد على السنّة الصحيحة في التفسير:

الأخذ المباشر في التفسير عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والاعتماد على السنّة النبويّة، وتعليم رسول الله القواعد والضوابط التي يمكن من خلالها تفسير القرآن وفهمه ومعرفة مقاصده وأغراضه، كل تلك الأُمور شدّد أهل البيت (عليهم السلام) على الالتزام بها في أحاديثهم انطلاقاً من نقطتين رئيستين:

الأولى:

ما أشرنا إليه من تعليم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) تفسير القرآن بشكلٍ كاملٍ.

إضافةً إلى النصوص السابقة التي أشرنا إليها، نجد بعض النصوص تؤكّد هذا المعنى بشكلٍ خاص.

الثانية:

إنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة قد استوعبا كلَّ القضايا التي يحتاجها الإنسان في حياته؛ لأنّهما يمثِّلان الرسالة الخاتمة للبشريّة، ولا بُدّ لهما من هذا الاستيعاب، ولذلك فلا بُدّ من الرجوع إليهما في كلِّ هذه القضايا، وعدم جواز الأخذ بالرأي والقياس والاجتهاد والظنون.

غاية الأمر أنّ الناس العاديين ليس لهم القدرة على فهم القرآن والسنّة، بالشكل الذي يستوعب كلّ هذه القضايا، أو لم يتلقوا من الرسول (صلّى الله عليه وآله) كلّ هذه الأُمور كما ذكرنا في النقطة الأُولى.

ومن هنا نجد أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّدون هذه الشمولية والاستيعاب للقرآن الكريم والسنّة النبويّة، ويرفضون أيّ طريقٍ آخر للوصول إلى الأحكام الشرعية، ولا يسمحون حتّى لأصحابهم أن يسلكوا الطُرُق الاجتهادية: كالقياس من دون

________________________

(1) راجع النص السابق الذي رواه الكليني عن سليم بن قيس، في الصفحة 260.

٣١٩

فرقٍ في ذلك بين الاستناد إلى الأحاديث العامّة أو الأحاديث الخاصّة التي عرفوها عن أئمّتهم.

فقد روى الكليني بسندٍ صحيحٍ عن أبي عبد الله (الصادق) - عليه السلام - قال:

(إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شيءٍ حتّى - والله - ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبدٌ أن يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن؟ إلاّ وقد أنزله الله فيه) (1) .

وفي حديثٍ آخر مُعْتَبرٍ عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: (ما من شيءٍ إلاّ وفيه كتابٌ وسنّة) (2) .

ويتحدّث أهل البيت (عليهم السلام) عن وجود صحيفةٍ جامعةٍ عند عليٍّ (عليه السلام) تشتمل على تفاصيل الشريعة وقواعدها وأُصولها:

روى الكليني بسنده عن أبي شيبة، قال: (سمعت أبا عبد الله (الصادق) - عليه السلام - يقول:

(ضلّ علمُ (ابن شبرمة)، عندنا (الجامعة) إملاء رسول الله - صلّى الله عليه وآله - وخطّ عليٍّ (عليه السلام) بيده: إنّ (الجامعة) لم تدع لأحدٍ كلاماً، فيها علم الحلال والحرام، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقِّ إلاّ بعداً، إن دين الله لا يُصاب بالقياس) ) (3) .

ويؤكّد أهل البيت (عليهم السلام) أنّ حلال محمّدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فلا بُدّ أن يكون كلّ ذلك مذكوراً ومعروفاً من قٍبَل رسول الله:

روى الكليني بسندٍ مُعْتَبرٍ عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) - عليه السلام - عن الحلال والحرام، فقال:

(حلال محمّدٍ حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره.

وقال: قال عليٌّ (عليه السلام):

________________________

(1) الكافي 1: 59 الحديث 1.

(2) المصدر السابق، الحديث 4.

(3) المصدر السابق: 57، الحديث 14 وص 238، الحديث 1 وص 241، الحديث 5 و 6 و 7.

٣٢٠