علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 208060
تحميل: 18864

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208060 / تحميل: 18864
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وتمثل المرحلة الثالثة:

جانب استقلال الجماعة والحكم وما يستتبعه من مضاعفات وخلافات؛ ذلك لأنّ الدعوة في مرحلتها الأُولى تعمل من أجل تحقيق أهداف عامّة، وترفع شعارات معيّنة، وفي هذه الأهداف والشعارات قد تلتقي آمال الشعب كلّه وتتجمّع تدريجاً، وأمّا حين يأتي دور تحديد هذه الأهداف في صيغ معيّنة وطريقة خاصّة، وتطبيق هذه الشعارات في نهج وأُسلوب خاص وتجسيدها عمليّاً فقد نجد بعض الأعضاء في المجموعة لا يلتقي مع هذا التحديد والتطبيق في مصالحه الخاصّة أو أفكاره وعقليّته الاجتماعية، بل قد تتعارض المصالح الخاصّة أو المنافع التي يحصل عليها الإنسان في مسيرة عمله أو المواقع التي ينتهي إليها مع هذه الأهداف والشعارات، حيث إنّ الأهداف والشعارات الإلهيّة الرساليّة تنطلق من المبادئ ومتبنّيات الفطرة الإنسانية التي أودعها الله تعالى في الإنسان وهي في البداية لا تبدو أنّها متناقضة مع رغبات الإنسان وميوله، بل هي محبوبة وحسنة في نظر الإنسان خصوصاً المظلومين من الناس.

وأمّا في دور التطبيق والتجسيد حيث تتحوّل هذه المبادئ إلى واقع خارجي وحدود وقيود لهذه الحركة أو ذلك الموقف أو لتلك المصلحة، فعندئذٍ تتناقض مع الهوى والشهوات والطموحات الذاتية للإنسان.

ولذلك نجد في هذه المرحلة بوادر الخلاف تبدو في الشعب الإسرائيلي، وتطفو على السطح اتجاهات شتّى: فكريّة ومصلحيّة ونفسيّة و... حتّى أنّها تتحوّل أحياناً إلى المروق عن الدين أو إلى التمرّد على الجماعة والنظام.

ففي جانب الفكر والعقيدة - مثلاً - نجد تأثيرات المجتمع الوثني على الإسرائيليّين تظهر بشكلٍ واضح، حيث يطلبون من موسى - عندما مرّوا على جماعةٍ يعبدون الأوثان - أن يتّخد لهم أصناماً وآلهةً كما لهؤلاء القوم آلهة، مع أنّ الإسرائيليّين بالأصل هم ذريّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين حملوا رسالة التوحيد ورفضوا

٤٢١

الوثنيّة والأصنام؛ كما تبرز هذه الرواسب والمخلّفات مرّةً أُخرى عندما اتّخذوا العجل إلهاً لمجرّد أنّهم رأوا فيه ظاهرةً غير طبيعية، وفي موقفهم في الميقات عند الاستغفار - أيضاً - حينما طلبوا أن يروا الله جهرة.

وفي جانب المصالح نجد موقف قارون وجماعته وإيذاءهم موسى وتمرّدهم على أوامره وغير ذلك من الإشارات القرآنية التي تُشير إلى عوامل النفاق والمعارضة.

وفي جانب الواقع الروحي والنفسي تُشير قصّة الدخول إلى الأرض المقدّسة وغيرها من الإشارات القرآنية إلى رواسب الضعف والاستخذاء والخوف.

فالميزة الرئيسة لهذه المرحلة هي: ظهور هذه الخلافات المتعدّدة ومعاناة النبي موسى منها على اختلاف اتجاهاتها ودوافعها، وهذه الظواهر هي من مستلزمات المجتمع الذي تتحكّم فيه عقيدة جديدة ونظام جديد.

ونجد موسى في كلّ هذه الخلافات مثال القائد الحكيم، والنبي العطوف الذي يأخذ قومه بالشدّة في مروقهم عن الدين كما في قضيّة العجل، وباللين في جوانب أُخرى؛ فيدعو الله سبحانه لهم بالرحمة والمغفرة كما في قضيّة الميقات.

الثاني: موضوعات القصّة:

وبصدد الجانب الثاني من دراسة القصّة: نجد القصّة تحدّثت عن ستّة موضوعات رئيسة، وهي كالتالي:

1 - بعثة موسى ومعاجزه.

2 - أساليب الدعوة وأدلّتها.

3 - مواجهة الكافرين له من فرعون واتباعه.

4 - التحريفيّة في العبادة.

5 - الحياة الشخصيّة لموسى.

٤٢٢

6 - الأوضاع العامّة للشعب الإسرائيلي.

وقد جاءت هذه الموضوعات الرئيسة المتعدّدة في مواضع من القرآن مختلفة ومتفرّقة، ويجدر بنا أن نُشير إلى الأهداف العامّة التي توخّاها القرآن الكريم من وراء الإشارة أو تأكيد هذه الموضوعات مع بيان المهم منها..

1 - بعثة موسى ومعاجزه:

لا شكّ أنّ من الأهداف الرئيسة التي تواخّاها القرآن الكريم هو ربط الإنسان بعالم الغيب، وتأكيد إيمانه وتوجيه فطرته الأصيلة التي فطره الله تعالى على الإيمان به وجهةً صحيحة؛ لأنّ الإنسان بدأ من الغيب وينتهي بعالم الآخرة الذي هو غيب ويبقى مرتبطاً ومتفاعلاً من الناحية الواقعية مع الغيب في كلّ أدوار حياته وشؤونها.

ومن أجل هذا الهدف الرئيس نجد القرآن يتحدّث في مواضع كثيرة عن عالم الغيب وجوانبه المتعدّدة وبعض القوانين العامّة التي تتحكّم فيه، والعلاقات التي تسوده، إضافةً إلى طرحه مفاهيم معيّنة عن هذا العالم قد لا يكون لها أثرٌ كبير في حياته الدنيويّة غير هذا الربط الذي يهدف إليه القرآن الكريم، كما عرفنا ذلك في طرح مفاهيم اللوح والقلم والكرسي والعرش عندما تناولنا تفسير المعنى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نرى أنّ هذا الهدف مما استهدفه القرآن من قصّة موسى.

ولعلّ في هذا ما يُبرّر الاهتمام القرآني في تكرار هذا الموضوع وإعطاء تفصيلاتٍ كثيرة عنه في القصّة، وإذا أردنا أن نقارن بين الآيات التي جاءت تتحدّث عن هذا الموضوع، والآيات التي تحدّثت عن بقيّة الموضوعات الأُخرى في القصّة لوجدنا هذا الموضوع يكاد يطغى على بقيّة الموضوعات، من حيث ما ذكر فيه من تفصيلات.

فقد وجدنا أنّ هذا الموضوع يُشار إليه في مواطن عديدة منها: كيفيّة البعثة.

٤٢٣

وفي معجزة العصا واليد، وفي توالي الآيات على الفرعونيّين من الدم والجراد والقمل والطوفان ونقص السنين، وفي انفلاق البحر لبني إسرائيل، وفي موت الأشخاص الذين اختارهم موسى لميقات ربّه ثمّ بعثهم، وفي قضيّة قارون وخسف الأرض به، وفي نتق الجبل وغيرها من الآيات الأُخرى، وتكاد قصّة موسى تستوعب هذه الأُمور أكثر من غيرها.

وإضافةً إلى هذا الهدف القرآني العام لاحظنا في دراستنا السابقة أهدافاً ثانويّة فرضها السياق القرآني، وكان من أهمّها:

إيضاح فكرة أنّ صدود الكافرين عن الدعوة وعدم انخراطهم فيها لم يكن نتيجة سبب موضوعي مرتبط بالدعوة نفسها أو شخصيّة النبي، وإنّما يكون بسبب الظروف النفسيّة والاجتماعية التي يعيشها الكافرون أنفسهم، حيث تتحوّل المواقف السلبية اليوميّة من خلال الصراع، أو العادات والتقاليد الموروثة، أو الانحرافات الجزئيّة، إلى حالةٍ نفسيّةٍ تغلّف القلب والعقل، وتختم عليه فيصبح الجحود هو الموقف العام دون أن يستخدم الإنسان عقله أو فطرته.

وبذلك يكون إيضاح هذا القانون الاجتماعي له تأثير كبير على فهم المواجهة بين المسلمين والكافرين أيام النبي محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وما بعدها.

كما أنّ الإشارة إلى تفاصيل الآيات بشكلٍ خاصٍّ في عصر موسى وغيره يبيّن بوضوح المبرّر لعدم مجيء الآيات في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، حيث يصبح من الواضح أنّ الأنبياء السابقين بالرّغم من أنّهم جاؤوا بالآيات ولكنّهم لم يتمكّنوا من خلالها أن يكسروا هذا الحاجز النفسي والقلبي، وأنّ هذه الآيات إنّما جاءت للعذاب والانتقام.

2 - أساليب الدعوة وأدلّتها:

لا شكّ أنّ العقيدة في الدعوة الإلهيّة تمثّل جانبين:

٤٢٤

الجانب الإلهي فيها وهو الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته، وهذا جانب يمكن أن يعتمد في معرفته على العقل والدليل والبرهان.

والجانب الآخر الذي يعبّر عن ارتباط الداعية (الرسول) بالله سبحانه وصدوره عن أمره تعالى، وهذا الجانب قد لا يمكن إثباته مبدئيّاً إلاّ عن طريق المعجزة (1) .

فالمعجزة تعبير عن الاستجابة إلى الحاجة في هذا الجانب من الدعوة - كما شرحنا ذلك في بحث المعجزة - بخلاف الجانب الأوّل الذي يمكن فيه الاعتماد على أُسلوب الأدلّة والبراهين المنطقيّة والوجدانية.

وعلى هذا الأساس - أيضاً - لم يترك الأنبياء هذه الأدلّة المنطقيّة والوجدانية في مخاطبتهم للناس بالدعوة إلى الله وتوحيد الإله، ولم يكتفوا بالإتيان بالمعجزات على أساس أنّها الدليل الوحيد لإثبات ذلك وإن كنّا لا ننكر ما للمعجزة من تأثيرٍ كبيرٍ في الجانب الأوّل من العقيدة أيضاً.

وفي قصّة موسى نجد في الموضوعات التي تحدّثت عنها القصّة هذه الأساليب والأدلّة وأكّدتها في مواضع عديدة، حيث تناولت بعض الأدلّة والبراهين التي اعتمدها موسى في مخاطبة فرعون إضافةً إلى المعجزات.

بل نجد أنّ هذه المخاطبة (مخاطبة العقل والوجدان) جاءت قبل أن يستند موسى إلى دليلٍ آخر من الآيات والمعجزات؛ لأنّ التسلسل المنطقي للتفكير والانفعال كان يفرض ذلك، فإنّ النبي يخاطب العقل والوجدان في بداية الأمر، ثمّ يعمل بعد ذلك على كسر الحواجز النفسيّة والروحيّة التي تمنع العقل والوجدان من الإدراك والفهم.

________________________

(1) قد يكون إخبار النبيّ وهو إنسان عاقل وموثوق، وعلى مستوىً عالٍ من الكمال كافياً في تصديقه والإيمان به، ولكنّ هذا الأمر لا يمكن أن يكون عامّاً؛ لأنّه قد يكون في موضع الاتّهام ولذا احتاج الأنبياء إلى المعجزة.

٤٢٥

كما نجد موسى في هذه المخاطبة يتبع الأساليب المختلفة التي كانت تتّصف باللين والرفق تنفيذاً لأمر ربه، فكان يتوسّل إلى فرعون أحياناً، ويذكّره بآيات الله أحياناً أُخرى، كما قد يُشير إلى عذاب الآخرة وعاقبة الإصرار على الكفر والطغيان، كلّ ذلك من أجل أن يحقّق النبيُّ غاياته التي يرمي إليها وهي هداية الناس إلى الله سبحانه.

ويهدف القرآن الكريم من تناول هذا الموضوع في القصّة وغيرها إلى هدفٍ من أهدافه الرئيسة وهو: تأكيد أنّ مسألة الإيمان بالله سبحانه ليست مسألةً غريبةً في حياة الإنسان، غرابة المعاجز والآيات، وإنّما هي شيءٌ فطريٌّ ينبع من ذات الإنسان ويهديه إليها عقله وحسه ووجدانه، ولذلك اعتمد الأنبياء مخاطبة الناس عن هذا الطريق قبل أن يخاطبوهم عن طريق المعجزة والآية.

كما أنّه يهدف - أيضاً - إلى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) حين يدعو الناس إلى الله لا يكتفي بطرح الفكرة فحسب، ويطلب منهم الإيمان المقلّد الساذج نتيجةً لوجود المعجزة، وإنّما يحاول أن يصل إليهم ويتوسّل إلى إيمانهم عن طريق الدليل والبرهان العقلي والمخاطبة الوجدانية.

وإضافةً إلى الأدلّة والبراهين، نجد في القصّة إشارات إلى عدّة قضايا مهمّة ترتبط بالدعوة ونجاحها:

الأُولى:

قضيّة الصبر والصمود، والأمل بالمستقبل والثقة بالله والتوكّل عليه.

الثانية:

قضيّة الطاعة للقيادة والنظم في العمل.

الثالثة:

الاطّلاع على موقف الأعداء وحركتهم، كما يظهر ذلك في قضيّة مؤمن آل فرعون ومجيء الرجل من أقصى المدينة.

3 - مواجهة الكافرين والمنافقين:

يعطينا القرآن الكريم صوراً وألواناً من المواجهة التي تحصل بين النبي وجماعته

٤٢٦

من جانب، والكافرين بدعوته أو أُولئك المنافقين المتظاهرين بقبولها، ولكنّهم يعادونها في مواقفهم وأعمالهم من جانبٍ آخر.

وتتّخذ هذه المواجهة صوراً وألواناً مختلفة متفاوتة على اختلاف مدى نجاح النبي في الدعوة، وسعة أهدافه، ومقدار معارضته للمفاهيم الاجتماعية السائدة.

وتكاد تكون هذه المواجهة شيئاً طبيعيّاً نتيجة الصراع الذي يدور بين الفكرة الجديدة وأنصارها والفكرة السائدة في المجتمع وحماتها.

والقرآن الكريم حين يعرض هذا الموضوع في قصّة موسى يريد أن يؤكّد هذا المفهوم الاجتماعي والسنّة التأريخية في الصراع، وأنّ هذه المعارضة التي حصلت للنبي (صلّى الله عليه وآله) ليست بدعاً في التأريخ، وإنّما هي النتيجة الطبيعية للصراع الفكري والسياسي؛ كما أنّنا نجد في هذا العَرْض للموضوع في القصّة إيضاحاً للأعباء التي يتحمّلها النبيُّ في سبيل الدعوة، وأنّها ليست أعباءً عاديّةً يتمكّن أيُّ إنسانٍ من أن يتحمّلها، وإنّما هي تحتاج إلى إرادةٍ قويّةٍ وعزمٍ شديد وتصميم عميق الجذور على السير في خط الدعوة، حتّى في أشدّ الظروف الموضوعيّة قسوة وأبعدها ملائمة، ويتعرّض فيها الرسول إلى ألوان من العذاب النفسي والجسدي، والأخطار التي ترتبط بحياته وسمعته وشخصيّته، بل قد ينتهي الأمر بأن يتعرّض النبيُّ إلى القتل والاغتيال نتيجةً لذلك.

وهذه الآلام قد تكون بسبب الموقف الخارجي للأعداء الظاهرين العلنيين، وقد تكون من مرضى القلوب والنفوس أو ضعفاء الإيمان والبسطاء والجهّال من الناس.

وحين يُشير القرآن إلى ألوان المواجهة وأساليبها في هذه القصّة نجد أنفسنا أمام الواقع الاجتماعي الذي كان يواجه به النبي (صلّى الله عليه وآله) في دعوته وأمام الأساليب

٤٢٧

والألوان نفسها، فكأنّ قصّة موسى (عليه السلام) إنّما هي تعبيرٌ عن مسيرة دعوة النبي وآلامه، ولعلّ هذا هو الذي يفسِّر لنا مجيء قصّة موسى بهذا القدْر من التفصيل في القرآن الكريم.

4 - الجانب التحريفي في العبادة:

من الموضوعات المهمّة التي تعرّضت لها القصّة هو: الجانب التحريفي في العبادة، فإنّ بني إسرائيل وغيرهم - كما يبدو من انقيادهم لموسى - آمنوا به وبدعوته، ولكنّ هذا الإيمان بالشعارات العامّة التي كان يرفعها موسى لا يعني أنّهم كانوا يعرفون محتواها الأصيل بأدق معانيه، الأمر الذي لو حصل كان من الممكن أن يصدّهم عن الانسياق وراء أفكارٍ وثنيّةٍ أُخرى؛ لذلك نجدهم وهم قد خلصوا من عذاب فرعون ومطاردته تطفو على أفكارهم ومشاعرهم الكثير من الرواسب الوثنيّة ذات المدلول المنحرف، هذه الرواسب التي كانوا قد تأثّروا بها في المجتمع الفرعوني الذي كانوا يعيشون فيه.

وهي حين تطفو على السطح لا يعني أنّهم كانوا قد تنازلوا عن شعاراتهم السابقة ومدلولاتها أو تخلّوا عن عقيدة التوحيد، وإنّما يعني ذلك أنّهم كانوا يفهمون مدلول الشعارات بالشكل الذي ينسجم مع هذا العمل المنحرف؛ فالعجل في نظرهم هو تجسيد للإله الذي دعا إليه موسى، والأصنام هي الوسائط المادّيّة للتعبير عن العبادة للإله الذي دعا إليه موسى... وهكذا.

ولعلّ القرآن الكريم يهدف في هذه الإشارة إلى ناحيتين:

الأُولى:

مناقشة أفكار الجاهليّين المعاصرين لنزول القرآن، حين كانوا يقولون في أصنامهم ويعلّلون عبادتهم لهم: بأنّهم اتخذوها واسطةً وزلفى إلى الله.

الثانية:

إنّ الإنسان حين يؤمن بالرسول ويحظى بصحبته ويستمع إليه لا يعني أنّه قد تجرّد دفعةً واحدةً عن جميع محتوياته الداخلية، وقضى على كلِّ الرواسب

٤٢٨

التي لا تلتقي في واقعها مع أصالة الرسالة والدعوة التي يدعو إليها الرسول، وإنّما غاية ما يدلّ عليه ذلك هو الإيمان بالمدلول الحرفي للشعار ممّا أشار إليه القرآن في بعض الموارد حين ميّز بين ادّعاء الإسلام والإيمان:

( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... ) (1) .

وهذه المظاهر من أخطر الظواهر التي واجهت الأديان الإلهيّة حيث تعرّضت للتحريف في العبادة والعلاقة مع الله تعالى مع الاحتفاظ بنفس المفاهيم والشعارات الأصليّة، ووجد المحرِّفون دائماً المسوغات والذرائع والعناوين التي يوجّهون فيها هذه الانحرافات.

ومن أجل ذلك تبنّى الإسلام مبدأ التوقيفيّة في العباد والتزم بأنّها منهجٌ معيّنٌ يضعه الله سبحانه للإنسان ليصوغ به غريزة التديّن وإحساسه بالدين، ويحدّد فيه شكل العلاقة بالله تعالى وصيغتها، ولا يصح للإنسان أن يتصرّف في هذا الأمر بحسب ميوله أو اجتهاده للتعبير عن هذه العلاقة؛ والسر في ذلك كلّه هو أنّ طبيعة هذه العلاقة بين الله تعالى والإنسان إنّما هي علاقة غيبيّة؛ لأنّ طرفها الآخر هو الله تعالى ولا يمكن للإنسان - وهو موجود مادّي - أن يدرك الطريق الذي يوصله للتقرّب إلى الله تعالى بنفسه، فلا بُدّ له من أجل تحقيق ذلك أن يشخّص الله تعالى هذا الطريق، فقد يكون ما يتصوّره الإنسان مقرِّباً إلى الله مبعداً عنه، كما جاء ذلك في بعض النصوص التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام).

5 - الحياة الشخصيّة لموسى:

لقد تناولت الموضوعات السابقة من قصّة موسى بعض التفاصيل عن الحياة والسيرة الشخصيّة لموسى خصوصاً الوقت الذي سبق بعثته (عليه السلام).

________________________

(1) الحجرات: 14.

٤٢٩

ولعلّ القرآن الكريم استهدف من وراء عرض هذا الموضوع في قصّة موسى هدفين:

الأوّل:

ما أشرنا إليه سابقاً في تحليلنا مقاطع القصّة من سورة القصص من أنّ هذه التفصيلات قد تدل على جانبٍ من إعجاز القرآن، حيث يدلّ الاطّلاع عليها على مدلولٍ يختلف عن مدلول الاطّلاع على أحوال موسى (الرسول)؛ لأنّ أحوال موسى (الرسول) كانت تتحرّك في المجتمع العام، وبذلك تكون معروفةً بشكلٍ طبيعيٍّ ويتناقلها التأريخ، على خلاف أحوال موسى (الرسول) قبل البعثة، خصوصاً إذا كانت هذه التفاصيل ممّا ينفرد به القرآن، الكريم عن الكتب السماوية الأُخرى.

الثاني:

ما أشرنا إليه في بحث مراحل الدعوة من أنّ هذا الجانب يبرز لنا موسى في صورة الإنسان الذي قد أعدّه الله تعالى للقيام بأعباء الرسالة، وأنّه يتمكّن بما يتمتّع به من خلق وعاطفة وجرأة ومكانة على تحمّل أعباء الدعوة.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك - أيضاً - أنّ من خلال تعرّف حياة موسى الشخصيّة سوف تتكشّف لنا بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة حينذاك في المجتمع الفرعوني، ومستوى الظلم الذي كان يعاني منه الإسرائيليّون واستسلامهم لهذا الواقع المرير، وما أنعم الله به سبحانه على بني إسرائيل عامّةً وموسى بشكلٍ خاص.

6 - الأوضاع العامّة للشعب الإسرائيلي:

لقد تناول القرآن الكريم بعض الأوضاع والصفات العامّة للشعب الإسرائيلي، وأشرنا إلى بعضها عند دراستنا للمرحلة الثالثة من دعوة موسى، ويمكن أن نلخّص ما تكشف عنه هذه الأوضاع والصفات التي تناولها القرآن في: أنّ الشعب الإسرائيلي كان يتّصف بازدواجيّةٍ مريعة نتيجةً لمختلف الظروف التأريخية

٤٣٠

والاجتماعية التي مرّ بها، والتي تراكمت آثارها المتنوّعة والعميقة في سلوكه الاجتماعي ومحتواه النفسي والروحي.

وكانت تتمثّل هذه الازدواجية في الشعور بالعظمة والامتياز والقربى من الله بوحيٍ من تأريخه المجيد الذي عاشه آباؤه وأجداده، كتأريخ النبوّات والمقام الاجتماعي المتميّز الذي كان ليوسف (عليه السلام) وانقاذه للمجتمع من الكوارث الطبيعية، والتخطيط الاقتصادي الرائع الذي قام به، في الوقت الذي قاسى هذا الشعب حياةً طويلةً من الاضطهاد والاستعباد ورزح في ظلِّ مستلزماتها من جهلٍ وفقرٍ وانحطاطٍ خُلُقي ونفسي واجتماعي.

ولعلّ هذه الازدواجيّة هي التي تفسّر لنا تململ الإسرائيليين وعدم تحمّلهم لأعباء الرسالة وعمليّة الخلاص والإنقاذ من ناحية، وتمادي الإسرائيليّين في الطلبات وكثرة تمنيّاتهم على موسى وعدم استجابتهم للخط الذي رسمه لهم لإنقاذهم من ناحيةٍ أُخرى، على ما يتمتّع به موسى من مكانةٍ عظيمةٍ عندهم؛ لأنّه كان مخلّصهم ومنقذهم من الظلم الفرعوني.

وقد استهدف القرآن من وراء إعطاء هذه الصورة للشعب الإسرائيلي تسليط الأضواء على واقع اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين، وكان ينظر إليهم قبل ظهور الإسلام على أنّهم أهل الكتاب والمعرفة بالأديان وبكلّ ما يتّصل بعالم الغيب؛ وحيث تتكشّف هذه الصورة الواقعيّة لهذا الشعب (الازدواجية) وتتّضح معالمها فسوف يظهر للمسلمين مدى إمكان الاعتماد عليهم وعلى نظرتهم للأشياء، ويتّضح تفسير موقفهم من الرسالة والنبي (صلّى الله عليه وآله).

كما يمكن أن نلاحظ - أيضاً - مدى الأثر الذي تركته سنوات الاضطهاد والظلم على الأوضاع النفسيّة والروحيّة للإسرائيليّين، والشعور بالضعف والحذر، ومعاناة موسى (عليه السلام) في محاولة التغلّب على ذلك؛ حيث يظهر هذا الأمر بشكلٍ واضحٍ في

٤٣١

قضيّة دعوة موسى قومه للدخول إلى الأرض المقدّسة التي كانت هدفهم وأملهم، خصوصاً أنّ هذه الدعوة جاءت بعد الانتصارات العظيمة التي حقّقها لهم موسى، والاستقلال والعزّة والكرامة الإنسانية، ومع ذلك رفضوا هذه الدعوة بسبب الخوف.

ويبدو هذا الأمر واضحاً - بالمقارنة - مع دعوة النبي للمسلمين إلى قتال الروم في معركة (تبوك) حيث استجاب عامّة المسلمين لذلك باستثناء نفرٍ منهم، كانوا يشعرون بهذا اللون من الخوف والضعف.

٤٣٢

فواتح السور (1)

من الموضوعات القرآنية التي تناولها الباحثون هو: فواتح السور، ونعني بفواتح السور: هذه الحروف المقطّعة الموجودة في فاتحة بعض السور القرآنية؛ وتزداد أهميّة هذا الموضوع عندما نلاحظ ما أُثير حوله من مشاكل وشبهات، قد تؤدّي إلى الشبهة في القرآن الكريم نفسه.

وسوف يُعالج هذا البحث تفسير هذه الظاهرة في القرآن الكريم، ومن خلال ذلك نعرف الجواب الإجمالي على الشبهات التي أُثيرت حول هذا الموضوع، ونترك معالجة الشبهات حولها تفصيلاً إلى بحثٍ قرآنيٍّ آخر.

وقد جاءت هذه الحروف المقطّعة في سورٍ متعدّدةٍ من القرآن وعلى أشكال مختلفة:

منها ما هو ذو حرفٍ واحدٍ مثل:

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) و ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) و ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومنها ما هو ذو حرفين مثل:

( طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) و ( يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) و ( حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) .

ومنها ما هو ذو ثلاثة حروفٍ أو أكثر مثل:

( ألم ) و ( المص ) و ( المر... )

________________________

(1) يراجع في هذا البحث: التبيان 1: 47 - 51، والكشّاف 1: 21 - 25، والتفسير الكبير 2 : 802، وابن كثير 1: 64 - 69، والمنار 1: 122 - 123، ومناهل العرفان 1: 219 - 220، وتفسير القرآن لشلتوت 35: 64.

٤٣٣

و ( كهيعص ) و ( حم* عسق ) (1) ...

وحين نأتي لمعالجة هذه الظاهرة في القرآن الكريم لا نجد العرب قد عرفوا الأُسلوب عند افتتاح كلامهم، كما أنّنا لا نجد لهذه الحروف معنىً بإزائها غير مسمّياتها من الحروف الهجائيّة.

ولم يُؤثَر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) شيءٌ صحيحٌ في تفسير هذه الحروف، بل يكاد لا يُؤثَر عنه شيء في ذلك مطلقاً - إلاّ النزر القليل - ليكون هو القول الفصل فيها، ولعلّ هذا هو السبب في تعدّد آراء العلماء واختلاف وجهات النظر فيما بينهم بصدد تفسير هذه الحروف، الأمر الذي زاد من غموض هذه الظاهرة.

وهناك اتجاهان رئيسان في تفسير هذه الحروف:

الاتجاه الأوّل:

هو الذي يرى أنّ هذه الحروف من الأشياء التي استأثر الله سبحانه بعلمها، ولذا فليس من الممكن لأحدٍ أن يصل إلى معرفة المراد منها، ويؤيّد هذا الاتجاه ما رُوي عن عددٍ من الصحابة والتابعين من أنّ الفواتح سر القرآن، وأنّها سر الله فلا تطلبوه، وذهب إليه كثيرٌ من العلماء والمحقّقين، كما جاء ذلك - أيضاً - في بعض الروايات عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

والاتجاه الثاني:

هو الذي يرى أنّه ليس في القرآن الكريم شيء غير مفهوم لنا، أو غير معروف لدى العلماء والمحقّقين؛ وذلك انطلاقاً من حقيقة أنّ الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بصفاتٍ متعدّدةٍ لا تتّفق مع هذا الخفاء والاستتار، فهو جاء : ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (3) ، كما أنّه نزل :

( ... تِبْيَاناً لِّكُلِّ

________________________

(1) في السور الآتية على الترتيب: ص: 1، ق: 1، القلم: 1، طه: 1 - 2، يس: 1 - 2، الجاثية: 1 - 2، البقرة: 1، الأعراف: 1، الرعد: 1، مريم: 1، الشورى: 1 - 2.

(2) التبيان 1: 48، مجمع البيان 1: 32.

(3) الشعراء: 195.

٤٣٤

شَيْءٍ... ) (1) وهدى للناس وغير ذلك، وحين يكون القرآن بهذه الصفة لا يمكن إلاّ أن يكون مفهوماً للناس وواضحاً لهم.

وقد نُسب هذا الاتجاه إلى المتكلّمين من علماء الإسلام (2) .

وعلى أساس هذا الاتجاه نجد كثيراً من العلماء يحاولون تفسير هذه الحروف المقطّعة، الأمر الذي استلزم تعدّد مذاهبهم في ذلك؛ وقد ذكر الشيخ الطوسي مذاهب مختلفة في تفسير هذه الحروف، وعدّ منها الفخر الرازي واحداً وعشرين تفسيراً، وسوف نقتصر على ذكر المهم منها، إضافةً إلى أنّ بعضها يمكن إرجاعه إلى بعض الآخر.

مذاهب تفسير فواتح السور:

المذهب الأوّل:

ما نُسب إلى ابن عبّاس من أنّ هذه الحروف ترمز إلى بعض أسماء الله وصفاته وأفعاله، فقد رُوي عنه في ( ألم ) : (أناالله أعلم)، وفي ( المر ) : (أنا الله أعلم وأرى) (3) إلى غير ذلك.

ويؤيّده ما رُوي عن معاوية بن قرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أنّها حروف من أسماء الله (4) .

الثاني:

أنّها أسماء للقرآن الكريم: كالكتاب والفرقان والذكر، وإلى هذه المذهب صار جماعة من التابعين: كقتادة ومجاهد وابن جريج والكلبي والسدّي (5) .

ويُناقش هذان المذهبان بأنّهما لا يستندان إلى دليلٍ علمي أو قرينةٍ معتمدة.

________________________

(1) النحل: 89.

(2) التفسير الكبير 2: 3، وقد فصّلنا هذا الموضوع في بحث التفسير.

(3) المصدر السابق: 6.

(4) التبيان 1: 51.

(5) التفسير الكبير 2: 6، والتبيان 1: 47.

٤٣٥

وإنّما هما من الرجْم بالغيب، فلا مناسبات الظروف الموضوعيّة، ولا مناسبات الكلام اللُّغويّة هي التي تُشير إلى هذا المعنى، وحالهما حال كلّ تفسيرٍ أو فرضيّةٍ أُخرى يمكن أن تُذكر في هذا المجال، شريطة أن لا تتنافى مع بديهيّات العقيدة القرآنية.

الثالث:

إنّ هذه الحروف مقتطعة من أسماء لها دلالة معيّنة بحسب الواقع، وهي مجهولة لنا معلومة للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ويؤيّد ذلك أنّ هذه الطريقة كانت معروفةً لدى بعض العرب في مخاطباتهم وأحاديثهم؛ وقد رُوي ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود وجماعة من الصحابة (1) .

كما أنّ ما ذهب إليه الطبري ورُوي عن ابن أنس يكاد يتّفق مع هذا المذهب أيضاً، وهذا المذهب قريب إلى المذهب الأوّل الذي رُوي عن ابن عبّاس أيضاً.

ويمكن أن يُناقش هذا المذهب بنفس مناقشتنا للمذهبين السابقين.

الرابع:

إنّها أسماءٌ للسور التي جاءت فيها، فـ ( الم ) اسم لسورة البقرة و ( كهيعص ) اسم لسورة مريم و ( ن ) اسم لسورة القلم وهكذا...

وقد اختار هذا الرأي أكثر المتكلّمين وجماعةٌ من اللُّغويّين (2) واستحسنه الشيخ الطوسي كما رجّحه الطبرسي، ودافعا عنه بعد أن أوردا عليه بعض الشبهات (3) كما اختاره - أيضاً - الشيخ محمد عبده (4) .

وتحمّس الفخر الرازي في تأييده وأطنب في بيان الشبهات التي أوردوها عليه

________________________

(1) التبيان 1: 47 - 48.

(2) التفسير الكبير 2: 5.

(3) التبيان 1: 49.

(4) المنار 1: 122.

٤٣٦

ونقضها (1) .

وأهم ما أورد عليه الشبهتان التاليتان:

الشبهة الأُولى:

إنّ الاسم إنّما يوضع للتمييز بين المسمّيات، وهذا لا يتّفق مع تسمية عدّة سِوَر باسمٍ واحدٍ، كما حدث في البقرة وآل عمران، فأنّه وردفي أوّلهما ( الم ) وحدث في السجدة وغافر وفصّلت فأنّه أوّلها ( حم ) .

الشبهة الثانية:

إنّ الاسم لا بُدّ أن يكون غير المسمّى في الوقت الذي قام الإجماع على أنّ هذه الحروف جزءٌ من السور التي جاءت فيها.

وقد أجاب الشيخ الطوسي عن الشبهة الأُولى: بأنّه لا مانع من تسمية عدّة أشياء باسمٍ واحدٍ مع التمييز بينهما بعلامةٍ مميّزة، وقد وقع هذا في الأعلام الشخصيّة كثيراً.

كما أجاب عن الشبهة الثانية: بأنّه لا مانع من تسمية الشيء ببعض ما فيه، كما حدث في تسمية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من السور.

ولكن مع كلّ هذا - قد يُلاحظ على هذا الرأي - :

إنّ الحروف تُقرأ مقطّعةً بذكر أسمائها (ألف - لام - ميم) لا مسمّياتها، وهذا لا يناسب أن تكون أسماءً للسور، وإلاّ لكانت قراءتها بمسمّياتها كما هي مكتوبة، وهذه الكيفيّة من القراءة تناسب أن تكون الحروف مقصودة في نفسها بالذكر لا أنّها أسماء لأشياء أُخرى، وقد أشار الزمخشري (2) إلى هذه الملاحظة ولكن بصياغةٍ أُخرى ثمّ ردّها.

فقد قال الزمخشري:

فإن قلت فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها؟

________________________

(1) التفسير الكبير 2: 8 - 11.

(2) الكشّاف 1: 28.

٤٣٧

قلتُ: لأنّ الكَلِم لمّا كانت مركبةً من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تُهجّيت، ومتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح (1) .

وهذا الردُّ الذي ذكره الزمخشري يؤكّد ملاحظتنا - بصيغتها الصحيحة - في أنّ هذه الكيفيّة من النطق تعني: أنّ الحروف هي المقصودة بذاتها، لا أنّ المقصود الإشارة إلى السورة المسمّاة بهذه الحروف، وإلاّ لنُطقت الحروف بنفسها لا بأسمائها، ولذا نرى صحّة هذه الملاحظة بهذه الصيغة.

الخامس:

إنّ هذه الحروف إنّما جيء بها ليُفتتح بها القرآن الكريم، وليُعلم بها ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها، وقد اختار هذا الرأي البلخي ورُوي عن مجاهد أيضاً، وذكر له الشيخ الطوسي بعض الأمثلة من استعمالات العرب (2) ، ويؤيّده قول أحمد بن يحيى بن ثعلب: إنّ العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيءٍ غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأوّل واستئناف الكلام الجديد (3) .

وقد يُلاحظ على هذا الرأي بعدم شمول هذه الطريقة لجميع سور القرآن الكريم، ويبقى الاختصاص حينئذٍ سرّاً نحتاج إلى إيضاحه والكشف عنه.

نعم قد يُقال: إنّ هذه الطريقة إنّما كانت الحاجة إليها موجودة في السور الطوال التي كانت تنزل تدريجيّاً وليس في جميع سور القرآن الكريم، حيث كان بعضها ينزل دفعةً واحدةً، كما في السور القصار.

ولكنّ الملاحظة الأساسيّة الأُخرى على هذا الرأي هي أنّ البسملة يمكن أن

________________________

(1) الكشّاف 1: 28.

(2) التبيان 1: 47.

(3) التفسير الكبير 2: 7.

٤٣٨

تقوم بهذا الدور في تمييز الانتهاء من السورة والشروع بالسورة الأُخرى، حيث وردت الأحاديث التي تؤكّد أنّ البسملة كان لها دور تمييز انقضاء السورة من ابتدائها (1) .

السادس:

إنّها أسماء للحروف الهجائيّة المعروفة، وإنّما جيء بها تنبيهاً للناس على أنّ القرآن الكريم الذي عجزوا عن مباراته والإتيان بمثله، ليس إلاّ مؤلَّفاً من هذه الحروف ومركّباً منها، فلم يكن التحدّي به لأنّه يحتوي على مادّةٍ غريبةٍ عنهم وإنّما كان بشيءٍ مركّبٍ من هذه الحروف التي يتكلّمون ويتحادثون بها، وقد عجز عن الإتيان بمثله أهل الفصاحة والبلاغة؛ وقد ذهب المبرّد وجمعٌ كبيرٌ من المحقّقين إلى هذا المذهب (2) .

وقد يُناقش هذا المذهب بأنّ مجرّد ذكر الحروف في أوّل السورة بهذا الشكل المتقطّع لا يكفي في إيضاح هذه الحقيقة، وقد لا يشعر الناس بذلك فلا يحقّق حينئذ القرآن هدفه من ذكرها، إلاّ إذا كانت القرائن الخارجيّة والحاليّة التي تحيط الكلام لها دور في الإفهام وتحقيق هذا الهدف، وهذا ما لا يمكن أن نعرفه من نفس هذه الحروف.

وقد كان من الممكن أن يصل القرآن إلى ذلك عن طريق إيضاح الفكرة ببيان قضيّةٍ عامّةٍ تستوعب هذا المضمون وتشرحه؛ فالفكرة التي يتبنّاها هذا المذهب

________________________

(1) الدرُّ المنثور 1: 7، أخرج أبو داود والبزّار والطبراني والحاكم وصحّحه البيهقي في المعرفة عن ابن عبّاس؛ قال: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يعرف فصل السورة (يعني خاتمتها) حتّى تنزّل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وزاد البزّار والطبراني فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد خُتمت واستُقبلت أو ابتدأت سورة أُخرى، إضافةً إلى أحاديث أُخرى لها مثل هذه الدلالة.

(2) ن، م 2: 6.

٤٣٩

وإن كانت صحيحة ولكنّها تحتاج إلى إبراز القرائن الحاليّة التي كانت تؤدّي دور الإفهام، كما سوف نُشير إلى ذلك.

السابع:

إنّ هذه الحروف إنّما جاءت في أوّل السور؛ ليفتح القرآن أسماع المشركين الذين تواصوا بعدم الإنصات إليه؛ كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى - على لسانهم - : ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (1) فكانت هذه الحروف - بطريقة عرضها وغموضها - سبباً للفت أنظار المشركين إلى استماع القرآن الكريم رجاء أن يتّضح لهم منه هذا الغموض والإبهام عند استماعهم له.

ويزداد هذا المذهب وضوحاً إذا لاحظنا الحالة النفسيّة التي كان يعيشها المشركون آنذاك، حيث ينظرون إلى القرآن الكريم على أنّه صورة المعجزة المدّعاة وأنّه ذو صلةٍ بالغيب وعوالمه العجيبة، فهم ينتظرون في كلِّ لحظةٍ أن تحدث ظاهرة غريبة تفسّر لهم الموقف وتأتيهم بالأُمور العجيبة.

الثامن:

إنّها حروف من حساب الجمل؛ لأنّ طريقة الحساب الأبجدي المعروفة الآن كانت متداولةً بين أهل الكتاب آنذاك، فهذه الحروف تُعبّر عن آجال أقوامٍ معيّنين.

ومن هنا نجد - كما رُوي عن ابن عبّاس - أبا ياسر ابن أخطب اليهودي يحاول أن يتعرّف على أجل الأُمّة الإسلامية وعمرها من خلال هذه الحروف (2) .

وقد لاحظ ابن كثير على هذا الرأي بقوله:

(وأمّا من زعم أنّها دالّة على معرفة العدد وأنّه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادّعى ما ليس له، وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك

________________________

(1) فُصّلَت: 26.

(2) الدر المنثور 2: 7.

٤٤٠