المواسم والمراسم

المواسم والمراسم40%

المواسم والمراسم مؤلف:
الناشر: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 85

المواسم والمراسم
  • البداية
  • السابق
  • 85 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59339 / تحميل: 8225
الحجم الحجم الحجم
المواسم والمراسم

المواسم والمراسم

مؤلف:
الناشر: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المواسم والمراسم

السيد جعفر مرتضى العاملي

١

مراجعة وضبط النص موقع معهد الإمامين الحسنينعليهما‌السلام

لإعداد الخطباء والمبلّغين

حيث أخذ الموقع على عاتقه مراجعة النصوص والروايات الواردة في الكتب الحسينيّة وضبطها قدر الإمكان ، من قبل كادر متخصص بالتحقيق والتقويم والتدقيق.

تنويه :

* اللون الأسود يشير إلى المتن.

* اللون القهوائي يشير إلى العناوين والأبواب والفصول.

* اللون الأحمر يشير إلى الآيات القرآنية.

* اللون الأزرق يشير إلى كلام المعصومعليه‌السلام .

* اللون الأخضر يشير إلى الشعر.

* اللون البرتقالي يشير إلى الهامش ورقمه في المتن.

* كلمة (موقع معهد الإمامين الحسنين) فيها إشارة إلى رأينا وتحقيقنا.

٢

المواسمُ والمراسم

المؤلِّف :

السّيد جعفر مرتضى العاملي

الناشر : معاونيّة العلاقات الدوليّة في منظمة الإعلام الإسلامي

التاريخ : ١٤٠٨ ه- - ١٩٨٧ م

الطبعة الثانية

٣

- أ -

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد ، فلم يكن ليدور في خلدي في يوم من الأيّام ، أن يكون موضوع الاحتفال بالمناسبات ، وإقامة المواسم ، موضوعاً للبحث أو مجالاً للتشكيك والنقض والإبرام ، من أيّ كان وفي أيّ من الظروف والأحوال ؛ فضلاً عن أن أبتلى أنا شخصياً بالبحث فيه ، وأجمع له الشواهد الدلائل.

ولكن … ما عشتَ أراكَ الدهر عجباً … فها أنا ذا لا أجد مناصاً من أن أتصدّى لهذا الموضوع ، وأصرف فيه شطراً من عمري الذي ما كنت أحبّ له أن يصرف في مثل هذه الاُمور الجانبيّة التي تجاوزت حدّ الوضوح ؛ لتكون من الضرورات والبديهات لدى سائر أبناء البشرية ، ممّن يتعاملون مع الاُمور بسلامة الفطرة وصفائها ، وبصحيح العقل ، وصريح الوجدان

نعم ، لقد رأيتني غير قادر على التخلّص ، ولا على التملّص من هذا الأمر ، بعد أن كانت ثمّة فئة اختارت لنفسها ليس فقط أن تثقل العقل بالقيود المرهقة ، وتعطّل دَور الوجدان ، وتمنع من تأثير الفطرة ، وإنّما تعدّت ذلك إلى اُسلوب التهويش والتشويش والعربدة ، وحتّى إيصال الأذى إلى الآخرين وهتك حرماتهم ما وجدت إلى ذلك سبيلاً ؛ حيث أدركَ مَن تسمّوا بالعلماء فيها أنهم لا يملكون من الأدلّة على ما يدّعون سوى الشعارات الفارغة ، وتوزيع التّهم الباطلة - وبلا حساب - ورمي الآخرين بالكفر تارةً ، وبالشرك اُخرى ، وبالابتداع في الدين ثالثة … وهكذا …

فكانت هذه الدراسة الموجزة التي اُريد لها أن تعطي صورة واضحة قدر الإمكان لِما يقوله هؤلاء الناس في هذه المسألة ، مع الإشارة إلى بعض موارد الخلل والضعف في تلكُم الأقاويل ، مع التأكّد على أنّ سلاحنا الأوّل والأخير هو الدليل القاطع والبرهان الناصع ، وعلى أنّ هدفنا هو خدمة الحق والدين ، والذبّ عن شريعة سيّد المرسلين ، وعلى أنّ تقوى الله سبحانه ، والخوف

٤

- ب -

من عقابه ، والأمل في ثوابه هو الذي لا بد وأن يهيمن على كلّ أقوالنا وأفعالنا ، بل وعلى كلّ حياتنا ووجودنا.

والله نسأل أن يهبَ لأولئك الذين يشغلوننا باُمور جانبية ، وغير ذات أهمية العقل قبل كلّ شيء ، ومعه الإنصاف ، وأن يمنّ عليهم بالتقوى ، والخوف من عقاب الله أوّلاً ، ثمّ الرجاء لثوابه ثانياً , وأن يمنّ علينا ، وعلى جميع إخواننا المؤمنين العاملين المخلصين بالتوفيق والتسديد في جميع ما نقول ونفعل ، إنّه ولي قدير ، وبالإجابة حري وجدير ، وهو خير مأمول وأكرم مسؤول.

إيران - قم المُشرّفة

٢٠ ربيع الأوّل ١٤٠٧ه- ق

جعفر مرتضى العاملي , عامله الله بلطفه وإحسانه

٥

تمهيد

الهداية القرآنيّة

قال الله سبحانه في كتابه في كتابه الكريم ، في مجال رسم الأسس والمنطلقات للدعوة الإلهية إلى سبيله :( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

فهذه الآية قد أعطت النظرة الشمولية للإسلام فيما يرتبط بسياسته الإعلامية ، ورسمت لهذه السياسة أسسها ومنطلقاتها بدقّة ، وبعمق يستوعب كلّ اتّجاهاتها ومناحيها ، ولسنا هنا في صدد بيان وتحديد ذلك ، ولكننا نشير إلى أمر ألمَحَت إليه الآية الكريمة ، ويهمّنا لفت النظر إليه ، والتوجيه نحو التأمّل فيه ، وهو : أنّ نهج القرآن وطريقته - كما ألمَحَت إليه الآية الشريفة - هو استثارة العقول ، ومحاكمة الناس إلى ضمائرهم ، وإرجاعهم إلى سليم الفطرة وإنصاف الوجدان …

ولم نجد القرآن قد حكم على أحد بالكفر أو بالفسق ، إلاّ ضمن ضوابط عامة ، يكون لكل أحد كامل الحرية في أن يطبّقها على نفسه أو لا يطبّقها.

أمّا أن يطبّقها على الآخرين بأشخاصهم وأعيانهم ، فليس له ذلك إلاّ في الحدود التي أجازها الإسلام ، ولم يرَ فيها ما يتنافى مع أيٍّ من اُصوله وقواعده ، أي في خصوص الموارد التي قبل بها الآخرون ، وأقرّوا بانطباقها على أنفسهم وفق الضوابط العامة التي يعرفها ويقرّ بها الجميع.

____________________

(١) سورة النحل / ١٢٥.

٦

وهذا على الرغم من أنّ الحقّ ربما يكون مرّ ، أو مخجلاً لكثير من اُولئك الذين اختاروا الانحراف عن جادّة الحق ، والابتعاد عن الطريقة القويمة ، والخطّة السليمة المستقيمة.

نعم ، لربما تمسّ الحاجة - وذلك كثير في القرآن أيضاً - إلى تصعيد التحدّي إلى حدّ التلويح أو التصريح بما لو لم يبادر إلى التلميح أو التصريح به لكان خطراً على الإسلام وعلى قواعده ومبانيه من الأساس ؛ ولكنها تكون حالات استثنائية - يعقبها الاستدلال والتفهيم مباشرة - ولا يمكن أن تتخذ الصفة الطبيعية التي يفترض جعلها أساساً للتحرّك في المجال العام للدعوة الإسلامية.

هذه كلها لو لم نقل إنّ المنطلق الإسلامي لكل حوار منصف وهادف وبنّاء هو قوله تعالى : ( وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ … )(١) ؛ حيث يريد سبحانه أن يهيّئ الطرف الآخر للبحث العلمي القائم على أساس الدليل الساطع والبرهان القاطع ، بعيداً عن أجواء التشنّج والانفعال والشكّ والريب ولعلّ هذا بالذات هو المقصود من المجادلة بالتي هي أحسن … حسبما نصّت عليه الآية آنفة الذكر.

عليٌّعليه‌السلام وأهل الشام

ونجد إلى جانب ذلك أنّ طريقة أئمتنا عليهم الصلاة والسّلام وخطّتهم لم تتعدَ هذا النهج ؛ وذلك تأسّياً منهم بالنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتزاماً منهم بالهداية القرآنية وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد أنّ دعوة عليعليه‌السلام أصحابه إلى عدم سبّ أهل الشام ، ولكن بإمكانهم أن يصفوا أعمالهم ، معلّلاً ذلك بأنه أصوب في القول ، وأبلغ في العذر(٢) .

إنّ هذه الدعوة قد جاءت منسجمة كلّ الانسجام مع تعاليم القرآن الكريم ، وتوجيهاته السامية في مجال الهداية إلى سبيل الله ، والدعوة إلى دينه مع أنّهعليه‌السلام يستحل دماءهم ، ويباشر قتلهم ، حتّى لقد قيل : إنّهعليه‌السلام قد قتل منهم بنفسه عدّة مئات في ليلة واحدة ، وهي المسمّاة ب- (ليلة الهرير).

ولم يكن موقفه هذا , وهو الالتزام بالكلمة المهذّبة ، والعمل بالهدى القرآني الرائد خاصّاً بالذين حاربوه في صفين ، أو في الجمل ، والنهروان ، وإنما هو ينسحب على مجمل مواقفه في حياته( صلوات الله وسلامه عليه) وعلى أبنائه الأئمة الميامين الطيبين الطاهرين.

____________________

(١) سورة سبأ / ٢٤.

(٢) راجع : نهج البلاغة بشرح محمّد عبده ٢ / ٢٢١ ، وتذكرة الخواصّ / ١٥٤ ، وصفّين لنصر بن مزاحم / ١٠٣ ، والأخبار الطوال / ١٦٥.

٧

مواقف الحسينعليه‌السلام في نفس الاتّجاه

كما أنّ من الواضح أنّ أعظم مواجهة حادّة تعرّض لها الأئمةعليهم‌السلام وأشدّها إثارة ، هي تلك التي تعرّض لها سيّد شباب أهل الجنة السّبط الشهيد الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليه) ، حينما قرّر أن يواجه الطاغوت ، وأن يقدّم نفسه وأبناءه ، وأهل بيته وأصحابه ، في سبيل الله والمستضعفين … فنجدهعليه‌السلام حينما يريد أن يستدلّ لموقفه من يزيد الطاغية ، ومن نظام حكمه ، ذلك الموقف الذي يعرف بدقّة نتائجه وآثاره ، نجده لا يذكر يزيد بن معاوية إلاّ بما عُرف وشاع عنه ، فيقول : (( إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شارب الخمور ، وقاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )).

فهوعليه‌السلام قد أعطى الميزان والضابطة ، والتعليل الواضح ، لكونهعليه‌السلام لا يحقّ له أن يبايع يزيد ولكنه يجعل ذلك ضمن قانون عام تكون نتيجته : إنّ هذا الصنف من الناس وهذه النوعية ، لا يحقّ لها أن تبايع تلك النوعية ، وذلك الصنف ، ملخّصاً ذلك بقوله : (( ومثلي لا يبايع مثله))(١) . ثمّ … وبما أنّ ذكر تلك الضابطة قد استلزم التصريح ببعض ما ربما يتوهّم منافاة التصريح به للهداية القرآنية … نجدهعليه‌السلام يشير إلى أنّ ذلك التوهّم مسوّغ له ما دام أنّ يزيد بن معاوية (( معلن بالفسق )) , ولا يتستر بذلك فكما لا مجال لأيّ ترديد أو خيار في اتخاذ ذلك القرار ، كذلك لا مجال للتواني ، ولا للترداد في الجهر به والإعلان عن مبرّراته ودوافعه …

الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء

وبعد ، فبالرغم من أنّ واقعة الطفِّ كانت من أبشع ما عرفه التاريخ البشري … فإننا لا نجد الإمام الحسين (عليه الصلاة والسّلام) فيها إلاّ ذلك الصابر المحتسب ، الذي لا تندّ منه حتّى ولو كلمة واحدة في غير المسار الطبيعي للهداية القرآنية التي تقدّمت الإشارة إليها.

بل إنّ كلماته في ذلك الموقف المصيري كانت تطفح بالحبّ والحنان ، وتفيض بالأدب والطهر والنبل ، والنزاهة عن كلّ سباب قبيح ، أو استرسال مشين ، رغم هول المصائب التي يواجهها ، وفداحة الكوارث التي يعاني منها … بل نجدهعليه‌السلام - كما كان - حتّى لأعدائه ، والذين يقتلون صحبه وولده ، ويريدون إزهاق نفسه ثمّ سبي نسائه - نجده - يبقى كالوالد الرحيم ، الذي تذهب نفسه عليهم حسرات ، والذي لا همّ له إلاّ هدايتهم ، وحملهم على المحجّة البيضاء ، وإرشادهم إلى سبيل الخير والفلاح والرشاد.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرم / ١٣٩ ، عن مثير الأحزان لابن نما الحلي , والفتوح لابن أعثم ٥ / ١٨.

٨

الأئمةعليهم‌السلام والمواقف الحادّة

وإذا ما رأينا أحياناً بعض المواقف الحادّة والفاصلة للأئمةعليهم‌السلام ، فإنما هو في مقابل اُولئك الذين حاولوا ضرب أساس الإسلام ، وتقويض دعائمه ، من أمثال أبي الخطاب ، والمغيرة بن سعيد ، وأضرابهما من الغلاة والنواصب ولسنا في مجال استقصاء ذلك هنا.

الإسلام وظاهرة الجحود

وبعد أن تحقّق لدينا أنّ طريقة القرآن ، ونهج الإسلام إنّما هو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن … وأنّ الأساس والمنطلق هو الحوار الموضوعي المنصف ، القائم على قاعدة :( وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ … )( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ )( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) وذلك في ظل العقل ، وحرية التعبير وحرية الموقف. وعرفنا كذلك أنّ الرفق والرضا والتفاهم وروح التعاون في البحث الموضوعي النزيه والهادف … هو الجوّ الطبيعي الذي يريده الإسلام ، ويرى أنّه يتهيّأ له في ظلّه تكريس وجوده ، وتأكيد واقعيّته وأصالته إذا عرفنا ذلك كلّه فإننا ندرك أنّ ما يدينه الإسلام ويرفضه ويسعى إلى إزالته ، هو حالة تكبيل العقل في الهوى والعواطف والشهوات ، والمصالح الشخصية والقبلية ، والأهواء والعصبيّات … فهو يرفض ويحارب ظاهرة :( وَجَحَدُوا بِهَا ) من أجل الحفاظ على بعض الامتيازات الظالمة التي جعلوها لأنفسهم ، أو استجابة لدواعٍ غير واقعية ولا أصلية ، أو من أجل الحصول على بعض الملذّات الزائلة والتمتّع بها ، أو من أجل الحفاظ على مركز اجتماعي ، أو على وضع اقتصادي ، أو سياسي معيّن ، وإن كان ذلك على حساب( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) ، أو حتّى على حساب كلّ المثل والقِيَم الإنسانيّة ، وكل الضوابط والمعايير والأحكام الإلهية …

هذا ، بالإضافة إلى أنّ اُولئك الجاحدين بموقفهم الجحودي ذلك ، إنما يعاندون قناعاتهم ، ويضطهدون عقولهم( وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) فيجعلون عقولهم ووجدانهم وفطرتهم ، وكل النبضات الإنسانيّة الحيّة في وجودهم ، في سجن تلك الأهواء والمصالح ، ويثقلونها بالقيود ، ولتكون نتيجة ذلك هي إلقاءها في سلّة المهملات مع نفايات التاريخ. فيأتي الإسلام … ويقف في وجه هذا البغي ، ويعمل على تحطيم هذا الطغيان ، فيحرر العقل والفطرة من قيد الجمود هذا ، لينطلق إلى الحياة باحث ومنقّب ، وبعد ذلك مستنتج وصاحب قرار وتصميم ، حينما يستكشف كلّ معاني السموّ والخير والسعادة ، بعيداً عن النزوات البهيمية وصراع الشهوات ، ومزالق العواطف غير المتّزنة ولا المسؤولة

وهذا ما يفسّر لنا ما نجده في القرآن من كونه يؤنّب أشدّ التأنيب هذا النوع من الناس ، وينعى عليهم ارتكابهم تلك الجريمة النكراء في حق فطرتهم وإنسانيّتهم ، والأهمّ من ذلك في حقّ عقلهم ووجدانهم …

٩

الإسلام … والدعوة

إلى التعقّل ، والبصيرة في الدين

ولقد كان الإسلام ولا يزال يؤكّد ويردّد بأساليبه المتنوّعة ، وفي مختلف المناسبات على دور العقل والفطرة ، وعلى أهمية الضمير والوجدان ، والفكر والعلم.

ففيما يرتبط بأهمّية الفكر والعلم والعقل نجد العشرات ، بل المئات من الآيات القرآنية التي تشير إلى ذلك … وكمثال على ذلك نشير إلى الآيات التالية :

( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (٢) .( أَفَلاَ تَتَفَكّرُونَ ) (٣) .( أَوَلَمْ يَتَفَكّرُوا ) (٤) .( وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّماوَاتِ وَالأرْضِ ) (٥) .

( إِنّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ ) (٦) .( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (٧) .

( لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٨) .( لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٩) .

( وَاتّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (١٠) .( وَمَا يَذّكّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (١١) .

وبالنسبة لعلاقة الدين بالفطرة ، فالله سبحانه يقول :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١٢) .

____________________

(١) سورة الزمر / ٩.

(٢) سورة العنكبوت / ٤٣.

(٣) سورة الأنعام / ٥٠.

(٤) سورة الأعراف / ١٨٤ ، سورة الروم / ٨.

(٥) سورة آل عمران / ١٩١.

(٦) سورة الرعد / ٣ ، سورة الروم / ٢١ , سورة الجاثية / ١٣.

(٧) سورة البقرة / ٤٤ و ٧٦ ، سورة آل عمران / ٨٥ ، سورة الأنعام / ٣٢ ، سورة الأعراف / ١٦٩ ، سورة يونس / ١٦ ، سورة هود / ٥١ ، سورة يوسف / ١٠٩ ، سورة الأنبياء / ١٠ و٦٧ ، سورة المؤمنون / ٨٠ ، سورة القصص / ٦٠ ، سورة الصافات / ١٣٨.

(٨) سورة البقرة / ٧٣ و ٢٤٢ , سورة الأنعام / ١٥١ ، سورة يوسف / ٢ ، سورة النور / ٦١ ، سورة غافر / ٦٧ ، سورة الزخرف / ٣ ، سورة الحديد / ١٧.

(٩) سورة البقرة / ١٦٤ ، سورة الرعد / ٤ ، سورة النحل / ١٢ ، سورة الروم / ٢٤.

(١٠) سورة البقرة / ١٩٧.

(١١) سورة البقرة / ٢٦٩ ، سورة آل عمران / ٧.

(١٢) سورة الروم / ٣٠ و ٣١.

١٠

التجنّي والافتراء

وبعد … فإنّ كل ما تقدّم يعطينا أنّ ما ينتجه بعض الناس في دعوتهم إلى مذهبهم ، من أساليب فظّة وجافّة وقاسية ، من قبيل التفسيق تارة والتكفير اُخرى ، والرمي بالشرك أو الزندقة ثالثة ، وما إلى ذلك من افتراءات وتهجّمات ناشئة عن عدم فهمهم - هم - لمعنى الشرك والتوحيد ، وخلطهم بين المفاهيم التي هي من أوضح الواضحات ، وأنّ كل ذلك لا ينسجم مع الإسلام ، ولا يلائم تشريعاته ومناهجه ، بل الإسلام من ذلك كلّه بريء.

ويتّضح بعد هذا النهج عن الإسلام وعن تعاليمه ، حينما نعلم أنّ المسائل التي يطرحونها ما هي إلاّ مسائل اجتهادية ، يخالفهم فيها كثير إن لم يكن أكثر علماء الإسلام … بل إنّ الحقيقة هي أنّ ما يدعون إليه ويعملون على نشره لا يعدو عن أن يكون مجرد شعارات فارغة ، أو تحكّمات باطلة لا تستند إلى دليل ولا تعتمد على برهان بل إنّ بعضها يخالف صريح القرآن ، وما هو المقطوع به من سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته ، والصحيح الثابت عن الصحابة والتابعين ، فضلاً عن مخالفته لصريح حكم العقل ، ومقتضيات الفطرة والجبلة الإنسانية.

لفت نظر ضروري

إنّ الموضوع الذي هو محل البحث هو مشروعية الأعياد ، والمواسم والمراسم ، والمآتم ، وجميع الاحتفالات التي تقام للذكرى في المناسبات المختلفة ، كعيد المولد النبوي الشريف ، وعيد الغدير ، وعاشوراء ، والاحتفال بعيد الاستقلال ، وبيوم العمال ، وغير ذلك … حتّى عيد الجيش ، ويوم الشجرة ، وحتى زيارة الأماكن المقدسة في مواسم معيّنة.

ولكن لربما نضطرّ في بحثنا هذا إلى تخصيص المولد النبوي الشريف بالذكر ، وذلك تبعاً لِما ورد في أدلّتهم ؛ ذلك لأنه هو المحور الذي تدور كلماتهم حوله عادة ، وإن كانوا يهدفون - ونقصد المانعين منهم - إلى ما هو أعمّ من ذلك ، كما صرّحوا به في مطاوي كلماتهم واستدلالاتهم ، وكما يظهر من عموم أدلّتهم ، التي رأوا أنّها كافية للدلالة على المنع من كل تجمّع في مكان معيّن ، في زمان معيّن ، فليلاحظ ذلك … والله هو الموفق وهو الهادي.

١١

الفصل الأوّل

المواسمُ والمراسمُ .

في سطور أوّل مَن احتفل بالمولد النبوي

يقولون : إنّ أوّل مَن احتفل بمولد النبي (عليه الصلاة والسلام) ، هو - كما يقال - الأمير أبو سعيد مظفر الدين الأربلي المتوفّى عام ٦٣٠ ه- ق(١) وكان يفد إلى العيد طوائف من الناس من بغداد ، والموصل ، والجزيرة ، وسنجار ، ونصيبين ، بل ومن فارس منهم العلماء والمتصوّفون ، والوعّاظ ، والقرّاء ، والشعراء ، وهناك يقضون في أربلاً من المحرم إلى أوائل ربيع الأوّل. وكان الأمير يقيم في الشارع الأعظم مناضد عظيمة من الخشب ، ذات طبقات كثيرة بعضها فوق بعض ، تبلغ الأربع والخمس ، ويزيّنه ويجلس عليها المغنّون والموسيقيّون ولاعبو الخيال حتّى أعلاها إلخ(٢) . وقد صنّف له ابن دحية كتاب : ( التنوير في مولد السراج المنير) لِما رأى من اهتمام مظفر الدين به ، فأعطاه الأمير ألف دينار غير ما غرم عليه مدّة إقامته(٣) . وقد أطنبوا في وصف حاكم أربل بالصلاح والخير ، والبر والتقوى كما يعلم من مراجعة ترجمته عندهم(٤) . ولكن السّيد رشيد رضا لا يوافق على ذلك ، ويقول : أوّل مَن أبدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي ، أحد ملوك الشراكسة في مصر(٥) . وقال غيره عن الموالد : أوّل مَن أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميّون ، أوّلهم المعز لدين الله ، توجّه من المغرب إلى مصر في شوال سنة ٣٦١ ه- … إلى أن قال : إلى أن أبطلها الأفضل ابن أمير الجيوش(٦) . وهذا … وقد قتل الأفضل في سنة ٥١٥.

____________________

(١) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ٢ / ٢٩٩ عن الزرقاوي ١ / ١٦٤ ، وراجع التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ١١٥ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٧٥ و٧٧ و٨٠ ، والبداية والنهاية ١٣ / ١٣٧ و١٣٦ ، ولم يصرّح بالأوّلية ، وكذا في تاريخ ابن الوردي ٢ / ٢٢٨ ، وجواهر البحار ٣ / ٣٣٧ ، والسيرة الحلبيّة ١ / ٨٣ و٨٤ ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤ ، ومنهاج الفرقة الناجية / ١١٠ ، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٥ ، لأبي بكر جابر الجزائري ، و٤٦ و٥٠ و٧٥.

(٢) وفيات الأعيان / طبعة سنة ١٣١٠ ه-.ق ١ / ٤٣٦و٤٣٧ ، وشذرات الذهب ٥ / ١٣٩ و١٤٠ عنه ابن شبهة وراجع السيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤و٢٥ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ١١٦ عن سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان ، وراجع رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوع مع النعمة الكبرى على العالم / ٧٦ ، والبداية والنهاية ٢٣ / ١٣٧ ، وجواهر البحار ٣ / ٣٣٧و٣٣٨ ، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلوّ والإجحاف / ٥٠ و٥١ عن الحادي للسيوطي. (٣) وفيات الأعيان ١ / ٤٣٧و٣٨١ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ١١٥و١١٦ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي / ٧٥و٧٧و٨٠ ، والبداية والنهاية ١٣ / ١٣٧ ، وجواهر البحار ٣ / ٣٣٨ ، عن روح السير لإبراهيم الحلبي ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤ ، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٥٠ ، والقول الفصل / ٦٩ عن أحسن الكلام فيما يتعلّق بالسنّة والبدعة من الأحكام / ٥٢ ، والسيرة الحلبيّة ١ / ٨٣ و٨٤. (٤) وفيات الأعيان ١ / ٤٣٥- ٤٣٨ ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيّين / ١١٥ ، وحسن المقصد / ٧٥و٧٦و٨٠ والبداية والنهاية ٣ / ١٣٧ ، وشذرات الذهب ٥ / ١٣٨-١٤٠. (٥) راجع القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٢٠٥ عن الفتاوي ج٤.(٦) القول الفصل / ١٨و٦٨ عن كتاب أحسن الكلام فيما يتعلّق بالسنّة والبدعة من الأحكام / ٤٤و٤٥ للشيخ بخيت المطيعي ، وعن المحاضرات الفكرية ، المحاضرة العاشرة / ٨٤ ، وعن الإبداع في مضار الابتداع / ١٢٦ ، وعن كتاب المعز لدين الله / ٢٨٤ ، وراجع الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ٢ / ٢٩٩.

١٢

ويؤيّد هذا القول الأخير أيضاً ما ذكره المقريزي عن أعياد الخلفاء الفاطميين ، فليراجعه مَن أراد(١) .

والظاهر هو أنّه لا منافاة بين الأقوال السالفة ، لإمكان أن يكون مرادهم أنّ صاحب أربل أوّل مَن أحدثه في أربل ، واُولئك أوّل مَن أحدثه في القاهرة وفي مصر , نعم تبقى المنافاة بين ما تقدّم نقله عن السّيد رشيد رضا ، وما نقل عن غيره حول أوّل مَن أحدثه في مصر.

كما أنّ من الممكن أن يقصد البعض أنّ حاكم أربل أوّل مَن احتفل بالمولد احتفالاً عظيم ، وبهذه الصورة الخاصة التي كانت تكلّفه عشرات بل مئات الألوف من الدنانير ، حسبما صرّحوا به.

ومهما يكن من أمر فإنّ الاهتمام بالمولد كان أسبق من التواريخ المتقدّمة ، حيث نجدهم يقولون : كان ازدياد التعظيم للنبيعليه‌السلام بين أهل الصلاح والورع سبباً في أن صار يحتفل بمولده عام ٣٠٠ ه- وكان ذلك بدعة في نظر المتمسّكين بالعادات الإسلامية الأولى.

ويحكى عن الكرجي (المتوفّى عام ٣٤٣ - ٩٥٤م) وكان من الزهّاد المتعبّدين : أنه كان لا يفطر إلاّ في العيدين ، وفي يوم مولد النبيعليه‌السلام (٢) وقال السخاوي : لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدث بعد(٣) .

أمّا نحن فنقول : إنّ الاهتمام بالمناسبات والمواسم قد بدأ من عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حسبما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى…

المولد عيد عند البعض ، وما يفعل فيه

قال القسطلاني : … ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولدهعليه‌السلام ، ويعملون الولائم ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم … إلى أن قال : فرحم الله امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياد ، ليكون أشدّ علة على مَن في قلبه مرض ، وأعياه داء.

ولقد أطنب ابن الحاج في المدخل في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء ، والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف ، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل(٤) وقال ابن عباد في رسائله الكبرى : … وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين ، وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه.

____________________

(١) الخطط للمقريزي ١ / ٤٩٠ ، ومنهاج الفرقة الناجية / ١١٠.

(٢) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ٢ / ٢٩٨.

(٣) السيرة الحلبيّة ١ / ٨٣ و٨٤ ، وراجع السيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤.

(٤) المواهب اللدنّية ١ / ٢٧ ، وراجع أيضاً السيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤ ، والسيرة الحلبيّة ١ / ٨٣و٨٤.

١٣

مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ، من إيقاد الشمع ، وإمتاع البصر والسمع ، والتزيّن بلباس فاخر الثياب ، وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر على أحد(١) .

وعن ابن حجر أنّه قال : وأمّا ما يعمل فيه فينبغي الاقتصار على ما يفهم منه الشكر لله تعالى من التلاوة ، والإطعام ، والصدقة ، وإنشاد شيء من المدائح النبويّة والزهدية … وأمّا ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك ، فما كان من ذلك مباح ، بحيث لا ينقص السرور بذلك اليوم ، لا بأس بإلحاقه به ؛ وأمّا ما كان حرام ، أو مكروه ، فيمنع. وكذا ما كان خلاف الأولى(٢) .

ابن تيميّة والغناء في العيد

وقد أوضح ابن تيمية أنّ العيد لا يختص بالعبادة ، والصدقات ونحوه ، بل يتعدّى ذلك إلى اللعب ، وإظهار الفرح أيضاً.

وقد رأى ابن تيميّة أنّ لذلك أصلاً في السنّة ، أي في الرواية التي تذكر أنه قد كان عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جوار يغنين ، فدخل أبو بكر فأنكر ذلك ، وقال : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟ فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لكل قوم عيد ، وإنّ عيدنا هذا اليوم(٣) .

وأضاف : إنّ المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب ، واللباس والزينة ، واللعب والراحة ونحو ذلك ، قائم في النفوس كله ، إذا لم يوجد مانع ، خصوصاً نفوس الصبيان والنساء ، وأكثر الفارغين(٤) .

ولكننا نعتقد أنّ الرواية المتقدّمة لا أساس لها من الصحة ؛ لأن الروايات في ذلك متضاربة ومتناقضة ، ولأن أكثرها يدلّ على حرمة الغناء ، حيث لا يعقل أن يحلل الشارع ما يعتبره العقلاء من مزامير الشيطان… إلى آخر ما ذكرناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ٢ / ٣١٤ - ٣٢٩ ، فليراجع…

الغناء في العيد عند أهل الكتاب

والغريب في الأمر أننا نجد ابن كثير الحنبلي حينما وصل به الكلام إلى الحديث عن مريم أخت عمران ، التي كانت في زمان موسى ، يقول :

____________________

(١) راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ١٧٥.

(٢) تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٩٠.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم / ١٩٤ - ١٩٥ , والرواية في / ١٩٣ عن الصحيحين وراجع : صحيح البخاري ١ / ١١١ طبعة الميمنية ، وصحيح مسلم ٣ / ٢٢ ، والسيرة الحلبيّة ٢ / ٦١ - ٦٢ ، وشرح مسلم للنووي بهامش إرشاد الساري ٤ / ١٩٥ - ١٩٧ ، ودلائل الصدق ١ / ٣٨٩ ، وسنن البيهقي ١٠ / ٢٢٤ ، واللمع لأبي نصر / ٢٧٤ ، والبداية والنهاية ١ / ٢٧٦ ، والمدخل لابن الحاج ٣ / ١٠٩ ، والمصنّف ١١ / ١٠٤ ، ومجمع الزوائد ٢ / ٢٠٦ عن الطبراني في الكبير.

(٤) اقتضاء الصراط المستقيم / ١٩٥.

١٤

… وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الأعياد عندهم ، دليل على أنه قد كان شرع مَن قَبلنا ضرب الدف في العيد(١) .

ثمّ نراه يحكم بجواز ذلك في الأعياد ، وعند قدوم الغياب ، تماماً على وفق ما استنبطه من رواية مريم ، وذلك استناداً للرواية المتقدمة التي استند إليها سلفه ابن تيميّة.

التهنئة في العيد

قال ابن حجر الهيثمي : وأخرج ابن عساكر ، عن إبراهيم بن أبي عيلة ، قال : دخلنا على عمر بن عبد العزيز يوم العيد ، والناس يسلّمون عليه ويقولون : تقبّل الله منّا ومنك يا أمير المؤمنين فيردّ عليهم ولا ينكر عليهم.

قال بعض الحفّاظ الفقهاء من المتأخّرين : وهذا أصل حسن للتهنئة بالعيد والعام والشهر ، انتهى. وهو كما قال : فإنّ عمر بن عبد العزيز كان من أوعية العلم والدين ، وأئمة الحقّ والهدى إلخ(٢) .

وقبل ذلك نجد أنّ هذا النص قد قاله عمرو الأنصاري لأبي وائلة فيردّ عليه بنفس العبارة(٣) وليت شعري لماذا لا تكون تهنئة الشيخين لعلي يوم الغدير أساساً للتهنئة في العيد ؟!(٤) .

المولد في جميع الأقطار الإسلامية

وقال السخاوي : لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة ، وإنّما حدث بعد ، ثمّ لازال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم(٥) .

من خواصِّ المولد

قال ابن الجوزي : ومن خواصّه أنّه أمان في ذلك العام ، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام(٦) .

وحكى بعضهم : أنه وقع في خطب عظيم ، فرزقه الله النجاة من أهواله بمجرد أن خطر عمل المولد النبوي بباله(٧) .

____________________

(١) البداية والنهاية ١ / ٢٧٦.

(٢) الصواعق المحرقة / ٢٢٣.

(٣) مجمع الزوائد ٢ / ٢٠٦ عن الطبراني في الكبير.

(٤) راجع كتاب الغدير للعلاّمة الأميني ، الجزء الأوّل.

(٥) السيرة الحلبيّة ١ / ٨٣ - ٨٤ ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤ ، وراجع تاريخ الخميس ١ / ٢٢٣.

(٦) المواهب اللدنّية ١ / ٢٧ ، وتاريخ الخميس ١ / ٢٢٣ ، وجواهر البحار ٣ / ٣٤٠ عن أحمد العابدين ، والهيثمي والقسطلاني ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٤.

(٧) جواهر العلم ٣ / ٣٤٠.

١٥

استحباب القيام

وقد ذكروا : أنهم كانوا حينما يقرؤون المولد ، فإذا وصلوا إلى ذكر ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقومون وقوفاً ، احتراماً وإجلالاً وقد تكلّموا في حكم هذا القيام , فقال الصفوري الشافعي : مسألة القيام عند ولادته لا إنكار فيها ؛ فإنه من البدع المستحسنة.

وقد أفتى جماعة باستحبابه عند ذكر ولادته , وقال جماعة بوجوب الصلاة عند ذكره ؛ وذلك من الإكرام والتعظيم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإكرامه وتعظيمه واجب على كل مؤمن ولاشكّ أنّ القيام له عند الولادة من باب التعظيم والإكرام(١) .

وسيأتي من الحلبي الشافعي وغيره التأكيد على مشروعية القيام عند ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

النعمة الكبرى على العالم

هذا … وقد ألّف العديد من الكتب والرسائل ، ونشرت بحوث كثيرة تتحدّث عن مشروعية المولد النبوي ، وسائر المواسم والمراسم ، هذا عدا عن البحوث المبثوثة في الكتب المختلفة والمؤلّفة لأغراض اُخرى … وعلى هذا ، فليس كتاب التنوير لابن دحية ، ثمّ رسالة السيوطي المسمّاة ب- (حسن المقصد) ، ولا المولد الذي ألّفه ابن الدبيع هي البداية ولا النهاية في هذا المجال.

ولكن ما لفت نظرنا هنا هو ذلك الكتاب المطبوع باسم (النعمة الكبرى على العالم في مولد سيّد ولد آدم) ، والمنسوب إلى شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي ، وهو اسم صاحب الكتاب المعروف المسمّى ب- (الصواعق المحرقة) ، حيث قد تضمّن هذا الكتاب كلمات منسوبة إلى أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليعليه‌السلام ، والحسن البصري ، وابن الجنيد البغدادي ، ومعروف الكرخي ، وفخر الدين الرازي ، والإمام الشافعي ، والسري السقطي.

ونحن نشكّ في نسبة تلك الكلمات إلى هؤلاء ؛ وذلك لأننا لم نعثر على شيء منها في المصادر الاُخرى التي في حوزتنا ، وإن كنّا لا ندّعي أننا بلغنا الغاية في الاستقصاء.

وعلى كل حال فإننا نكل أمر هذه المنسوبات وأمر الكتاب ومؤلّفه الحقيقي إلى الله ، فهو المطّلع على السرائر ، والمحيط بما في الخواطر …

____________________

(١) نزهة المجالس ٢ / ٨٠.

١٦

الفصل الثاني استدلالات لا تصح

بداية

نجد للمجوّزين لإقامة المواسم والمراسم استدلالات عديدة ، ولكننا لا نجد من بينها ما يجدي في إثبات ما يريدون إثباته ، ولا يصلح للاستدلال به ، ونحن نشير إلى طائفة من أدلّتهم تلك ، مع التذكير ببعض ما يرد عليها ، فنقول :

أبو لهب … وعتق ثويبة

إنّهم يذكرون أنّ أبا لهب حينما بُشّر بولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعتق مولاته ثويبة ، فرأه العباس - وفي رواية اليعقوبي : رآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعد موته في المنام فأخبره أنّه يخفّف عنه العذاب كل يوم اثنين ؛ لعتقه ثويبة حينما بُشّر بذلك(١) .

قال القسطلاني : قال ابن الجزري : فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمّه جوزي في هذا بفرحه ليلة مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما حال المسلم الموحّد من اُمّتهعليه‌السلام الذي يُسرّ بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبّته ؟ لعمري ، إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنّاتِ النعيم(٢) .

ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر ، حيث قال :

إذا كان هذا كافرٌ جاء ذمّهُ

وتبّتْ يداه في الجحيمِ مخلّ--دا

أتى أنّه في يوم الاث-نينِ دائماً

يُخفّف عنه للسرورِ بأحم--دا

فما الظنُّ بالعبدِ الذي كان عمرهُ

بأحمدَ مسروراً ومات موحّدا(٣)

ولكن هذا الاستدلال لا يصحّ ؛ وذلك لأنّ إعتاق ثويبة قد كان بعد مولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله بزمن طويل ، أي بعد ما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، بعد أن حاولت خديجة شراءها من أبي لهب لتعتقها ؛ بسبب ما يزعم من إرضاعها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرفض أبو لهب بيعها(٤) .

____________________

(١) راجع : السيرة النبويّة لابن كثير ١ / ٢٢٤ ، البداية والنهاية ١ / ٢٧٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩ ، وفتح الباري ٩ / ١٢٤ ، وعمدة القاري ٢ / ٩٥ ، والسيرة الحلبيّة ١ / ٨٤و٨٥ ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٥ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٩٠ ، وإرشاد الساري ٨ / ٣١ ، وهو ظاهر صحيح البخاري ٣ / ١٥٧ طبعة سنة ١٣٠٩ه- ، وجواهر البحار ٣ / ٣٣٨و٣٣٩ ، وتاريخ الاسلام للذهبي ٢ / ١٩ ، والوفاء / ١٠٧ ، ودلائل النبوة للبيهقي ١ / ١٢٠ ، وبهجة المحافل ١ / ٤١ ، وطبقات ابن سعد قسم ١ / ٦٧ - ٦٨ ، والمواهب اللدنّية ١ / ٢٧ ، وتاريخ الخميس ١ / ٢٢٢ ، وسيرة مغلطاي / ٨ ، وصفة الصفوة ١ / ٦٢ ، ونور الأبصار / ١٠ ، وإسعاف الراغبين بهامشه / ٨.

(٢) المواهب اللدنّية ١ / ٢٧ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٩٠-٩١ ، وتاريخ الخميس ١ / ٢٢٢. (٣) السيرة النبويّة لزيني دحلان ١ / ٢٥ ، ورسالة السيوطي المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٩١.

(٤) أنساب الأشراف (سيرة النبي ص) / ٩٥-٩٦ ، والكامل لابن الأثير ١ / ٤٥٩ ، وطبقات ابن سعد ١ قسم ١ / ٦٧ ، والإصابة ٤ / ٢٥٨ ، وإرشاد الساري ٨ / ٣١ ، والسيرة الحلبيّة ١ / ٨٥ ، وراجع الوفاء / ١٠٧ ، وفتح الباري ٩ / ١٢٤ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ١ / ١٦ ، وذخائر العقبى / ٢٥٩ ، وقاموس الرجال ١٠ / ٤١٧.

١٧

وتوجيه الحلبي لذلك : بأنّ من الممكن أن يكون أبو لهب قد أعتقها أوّلاً لكنه لم يذكر ذلك ولم يظهره ، ورفض بيعها لخديجة ؛ لكونها كانت معتوقة ، ثمّ عاد فأظهر ذلك …(١) .

هذا التوجيه غير وجيه ؛ لأنّ من غير المعقول أن لا يظهر الناس ولا يطّلعوا على عتقه لجاريته طيلة حوالي خمسين سنة ، كما أنّ هذه الجارية التي اعتقها لماذا بقيت عنده طيلة هذه المدّة المتمادية وهي خارجة عن ملكه ؟ ولماذا لم يظهر ذلك إلاّ بعد هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فما هو الداعي له للكتمان , ولا سيّما قبل النبوة ؟ وما الداعي للإظهار , ولا سيّما بعد الهجرة ؟

وأوردوا أيضاً على الرواية بأنها مرسلة ، وبأنه لا حجيّة في المنامات ، وبأنها مخالفة لظاهر القرآن الذي يقول عن الكفار :( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) (٢) ولكن إذا ثبت أنّ الرائي هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هو مقتضى رواية اليعقوبي ، كان المنام حجّة.

كما أنّهم قد ناقشوا في هذا الاعتراض الأخير بما لا مجال لذكره ، فلتراجع المصادر المتقدّمة ، فالعمدة هو ما ذكرناه نحن آنفاً , ونذكر أخيراً أنّ فرحه لو كان استجابة لحاجة نفسية طبيعية ، ولم يكن لله ، فلماذا يثاب عليه ؟!

الاستدلال بفعل حاكم إربل

ونجد في كلماتهم أيضاً الاستدلال بفعل حاكم أربل ، الذي ابتكر عمل المولد على ذلك النحو المخصوص حسبما ذكروه ، وقد كان فاضلاً ورعاً ديّناً إلى آخر ما وصفوه به(٣) .

ولكنه استدلال لا يصحّ أيضاً ؛ لأن التشريع لا يصحّ من أحد إلاّ من صاحب الشريعة ، ولم يكن هذا الرجل من العلماء ، حتّى يحمل عمله على أنه قد استند فيه إلى دليل شرعي ، فلعلّه كان غافلاً عن اللوازم الفاسدة لمثل هذا العمل ، أو حتّى متعمّداً لها إلاّ إذا كان المقصود والاستدلال على هذا الأمر بالإجماع المتحقّق في زمانه ، وحضور العلماء وغيرهم لتلك المناسبات كما يظهر من سياق كلامه … ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولكنه أيضاً استدلال باطل عندنا ؛ لأننا نعتقد أنّ الإجماع بما هو هو لا حجيّة فيه ، إلاّ بسبب اشتماله على قول المعصومعليهم‌السلام ، أو قول أحد الأئمة المعصومين ؛ أمّا دون ذلك فلا اعتبار به ، ولكن المشهور عند أولئك المستدلّين بهذه الأدلّة هو حجيّته متى تحقّق ، حتّى ولو بعد عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ما تلاه من أعصار فيكون حجّة عليهم ، فراجع كتب الاُصول(٤) .

____________________

(١) السيرة الحلبيّة ١ / ٨٥.

(٢) راجع : فتح الباري ٩ / ١٢٤ - ١٢٥ ، وإرشاد الساري ٨ / ٣١ ، وعمدة القاري ٢٠ / ٩٥ ، والقول الفصل / ٨٤ - ٨٧.

(٣) راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع كتاب النعمة الكبرى على العالم / ٨٠.

(٤) راجع : المستصفى , وفواتح الرحموت ، والأحكام في اُصول الأحكام ، وإرشاد الفحول - بحث الإجماع.

١٨

العقيقة … دليل آخر

قال السيوطي ما حاصله : إنّه ظهر له تخريج عمل المولد على أصل آخر ، وهو أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقّ عن نفسه بعد النبوة ، مع أنّه قد ورد أنّ جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته… فهذا يعني أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد إظهار الشكر على إيجاد الله تعالى إيّاه رحمة للعالمين ، وتشريفاً لاُمّته ، فيستحب لنا أيضاً - إظهاراً للشكر بمولده - بالاجتماع وإطعام الطعام ، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات(١) . ولكن هذا لا يصلح للاستدلال أيضاً ؛ إذ لم يثبت أنّ ذلك كان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرحاً وابتهاجاً بما ذكر ؛ فإنّ ذلك لا يعدو عن أن يكون استنباطاً استحسانياً قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه هذا كلّه بالإضافة إلى عدم ثبوت أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقّ عن نفسه(٢) ، وعدم ثبوت أنّ عبد المطلب كان قد عقّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) … فلا بدّ من ثبوت ذلك بشكل قطعي ليتكلّم في دلالته على المدعّى أو عدم دلالته. مضافاً إلى أنّ العقيقة بنفسها مستحبة في الشرع ، وقد ثبت ذلك بالدليل القطعي ، ولكن لا يلزم من استحبابه والعمل بها جواز إقامة المراسم والمواسم في أوقات معيّنة وبكيفية خاصة… وحتى لو ثبت أنّ ذلك كان فرحاً واستبشاراً بمولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ لكرّرها بعد ذلك في كل عام ، كما يراد إثباته. فلعلّ للاستبشار بالعقيقة مرّة واحدة في العمر خصوصية عند الشارع.

الاستدلال بيوم عاشوراء

وقد نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر قوله عن عمل الموالد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت ، وهو ما ثبت في الصحيحين ، من أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قَدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم. فقالوا : هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجّى موسى ، ونحن نصومه شكراً لله تعالى فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( فأنا أحقّ بموسىعليه‌السلام منكم )) فصامه وأمر بصومه. وفي نصّ آخر : كان يوم عاشوراء يوماً تصومه اليهود ، تتخذه عيداً ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( صوموه أنتم))(٤) .

____________________

(١) راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٩٠.

(٢) روى ذلك البيهقي في السنن الكبرى ٩ / ٣٠٠.

(٣) الرواية في تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٨٣.

(٤) راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٧٨و٧٩ ، وسنن الدارمي ٢ / ٢٢ ، وصحيح البخاري ١ / ٢٢٤ ، وصحيح مسلم ٣ / ١٥٠و١٥٩ ، ومسند أحمد ٤ / ٤٠٩ ، وزاد المعاد ١ / ١٦٤فما بعدها ، وكشف الأستار ١ / ٤٩٠ ، ومجمع الزوائد ٣ / ١٨٥. وللحديث طرق متعددة ونصوص مختلفة ، وهو موجود في مختلف المصادر الحديثيّة عند أهل السنّة ، ولتراجع رسالة المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٨٩ ، والسيرة النبويّة لدحلان ١ / ٢٥ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١١٤ ، وعجائب المخلوقات بهامش حياة الحيوان ١ / ١١٤ ، والمنتقى من أخبار المصطفى ٢ / ١٩٢ ، ومجمع الزوائد ٣ / ١٨٤ - ١٨٨ ، ومنحة المعبود ١ / ١٩٣.

١٩

قال ابن حجر : فيستفاد منه فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معيّن ، من إحداث نعمة أو دفع نقمة. ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة … وأيّ نعمة أعظم من نعمة بروز نبي الرحمة في ذلك اليوم(١) .

وقد ردّ البعض على هذا الاستدلال : بأنّ السلف الصالح لم يعملوا بهذا النص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم ، وهذا يمنع من اعتبار هذا النهي صحيح ، فاستنباط ذلك من الحديث مخالف لِما أجمع عليه السلف من ناحية فهمه ، ومن ناحية العمل به ، وما خالف إجماعهم فهو خطأ(٢) .

ونقول : إنّ هذا الرد ليس صحيح ، كما سيتضح في الفصل الذي نردّ فيه على أدلّة المانعين… ولذا فلا حاجة إلى تكرار الكلام هنا ولكننا نودّ أن نشير هنا إلى أمر آخر لم نتعرّض له هناك ، وخلاصته :

إننا نعتقد أنّ ما ورد من الأحاديث التي تحثّ على صيام يوم عاشوراء لا يمكن أن تصح ، وقد بحثنا هذا الموضوع مفصّلاً في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ / ١٠٤-١١٠ ؛ وذلك لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم ، حتّى قالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه(٣) وفي الحديث : (( مَن تشبّه بقوم فهو منهم ))(٤) .

بالإضافة إلى التناقض الشديد بين الروايات المشار إليها …(٥) هذا عدا عن اسم عاشوراء إسلامي لا يعرف في الجاهلية(٦) .

ولسنا هنا في صدد تقصّي هذا البحث ، فمَن أراد المزيد فليراجع الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيأتي المزيد من الكلام حول يوم عاشوراء في فصل (لن يخدع السراب).

____________________

(١) تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوع مع النعمة الكبرى على العالم / ٨٩ -٩٠ وراجع : التوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١١٤ - ١١٥.

(٢) راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٧٨ و٧٩.

(٣) راجع : المدخل لابن الحاج ٢ / ٤٨ ، والسيرة الحلبيّة ٢ / ١١٥ ، ومفتاح كنوز السنة عن عدد من المصادر ، ومسند أحمد ٣ / ٢٤٦ ، والجامع الصحيح للترمذي ٥ / ٢١٤ - ٢١٥ ، وصحيح مسلم ١ / ١٦٩ ، وسنن أبي داود ٢ / ٢٥٠ ، و١ / ٦٧ ، وسنن الدارمي ١ / ٢٤٥ وسنن النسائي ١ / ١٨٧.

(٤) المدخل لابن الحاج ٢ / ٤٨ ، وسنن أبي داود ٤ / ٤٤ ، ومسند أحمد ٢ / ٥٠ ، ومجمع الزوائد ١٠ / ٢٧١ ، عن الطبراني في الأوسط.

(٥) الصحيح من سيرة النبي ٣ / ١٠٥.

(٦) مجمع البحرين ٣ / ٤٠٥ ، والجمهرة في لغة العرب لابن دريد ٤ / ٢١٢ ، والنهاية لابن الأثير ٣ / ٢٤٠.

٢٠

تعظيم شعائر الله سبحانه

وقد استدلّ بعض الأصدقاء(١) في مقال له حول نفس هذا الموضوع بقوله تعالى :( ذلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى‏ أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمّ مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (٢) .

على اعتبار أنّ شعائر الله سبحانه هي أعلام دينه ، خصوصاً ما يرتبط منها بالحج ، كما قال القرطبي ؛ لأن أكثر أعمال الحج إنما هي تكرار لعمل تاريخي ، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيمعليه‌السلام ، وشعائر الله مفهوم عام شامل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولغيره ، فتعظيمهصلى‌الله‌عليه‌وآله لازم.

ومن أساليب تعظيمه إقامة الذكرى في يوم مولده ونحو ذلك ، فكما أنّ ذكرى ما جرى لإبراهيمعليه‌السلام من تعظيم شعائر الله سبحانه ، كذلك تعظيم ما جرى للنبي الأعظم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يكون من تعظيم شعائر الله سبحانه.

ونقول : إنّه لا بدّ من إصلاح هذا الاستدلال ، والقول : بأنّه لا يتوقّف على دعوى أنّ شعائر الحج ما هي إلاّ تكرار لحوادث تاريخية ، ليمنع ذلك بعدم ثبوت ذلك أوّل ، وأنه قد كان يمكن التذكير بحوادث تاريخية مهمة جداً غيره ، ولعلّ بعضها أهم بكثير من قضية التحيّر بين الصفا والمروة في طلب الماء ، أو نحوه مما يذكر هنا.

كما لا يرد على هذا الاستدلال أنّ تفسير القرطبي للشعائر بأعلام الدين - الذي هو معنى عام - لا ينافي اختصاص هذا التعبير في القرآن ب- (أعمال الحج) ومواضعه ، لا يرد عليه ذلك ؛ لأن العبرة إنما هي بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد.

ولكن يلاحظ : إنّ القرآن يكرّر ويؤكّد على أنّ في هذه الشعائر منافع للناس ، فهو يقول في الآية السابقة وهو يتحدّث عن أعمال الحج :( ذلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى‏ أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمّ مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) كما ويشير إلى أنّ عمل الحج نفسه يحصل الناس فيه على المنافع ، كما قال تعالى :( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) .

وفي آية اُخرى في نفس الموضوع ، نجده تعالى يقول :( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَافّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ كَذلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلكِن يَنَالُهُ التّقْوَى‏ مِنكُمْ ) (٣) .

وقد أطلق في القرآن لفظ المشعر الحرام على المزدلفة ، كما وأطلق على الصفا والمروة أنهما من شعائر الله …

____________________

(١) المستدل هو صديقنا الشيخ رسول جعفريان حفظه الله في مقال له حول هذا الموضوع.

(٢) سورة الحجِّ / ٣٢ - ٣٣.

(٣) سورة الحجِّ / ٣٦ - ٣٧.

٢١

فالظاهر أنّ المراد هو أنّ هذه الأماكن ، وكذلك البدن التي يشعرها الحاج ويعلمها إنّما هي من أعلام المناسك ، ودلائله المظهرة لكمال انقياد العباد له تعالى ، فلا يجوز التعدّي على هذه الأعلام ، ولا يجوز تجاوزها ، بل لا بدّ من تعظيمها والتقيّد بها ، وقد ورد النهي عن تجاوزها وتعدّيها في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلّوا شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن رَبّهِمْ وَرِضْوَاناً ) (١) وقبل آية تعظيم شعائر الله تجده تعالى يقول وفي نفس المناسبة :( ذلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ ) (٢) فنجد أنّ هذا السياق متّحد مع سياق الآية التي استدلّ بها هنا.

وبعد كل ما تقدّم نقول : إنّ الاستدلال بالآية يتوقّف على كون مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا يوم عاشوراء مثل ، وغير ذلك من المناسبات من شعائر الله ، أي من أعلام الله التي نصبها لطاعته ؛ ليجب تعظيمها… وكما يقال : العرش ثمّ النقش ؛ فإنّ قوله تعالى :( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) يشعر بأنّ كونها من الشعائر يحتاج إلى جعل منه تعالى.

وذكّرهم بأيّام الله

وقد استدلّ أيضاً على مشروعية المواسم والمراسم بقوله تعالى مخاطباً موسىعليه‌السلام :( وَذَكّرْهُم بِأَيّامِ اللّهِ ) (٣) ، فإنّ المقصود بأيّام الله أيّام غلبة الحق على الباطل ، وظهور الحق ، وما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة ؛ فإنّ إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكير بأيّام الله سبحانه(٤) .

ونقول : إنّ ما تدلّ عليه الآية هو التذكير بالاُسلوب العادي والمعروف ؛ وأمّا الخصوصية فلا تفهم من الآية ، وقد روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : (( كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطبنا فيذكّرنا بأيّام الله ، حتّى نعرف ذلك في وجهه ، كأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة ))(٥) .

وعن اُبيّ بن كعب : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ يوم الجمعة ( تبارك ) وهو قائم , فذكّرنا بأيّام الله(٦) .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( بينما موسىعليه‌السلام في قومه يذكّرهم بأيّام الله ، وأيّام الله نعمه وبلاؤه ، إذ قال …))(٧) .

____________________

(١) سورة المائدة / ٢.

(٢) سورة الحجِّ / ٣٠.

(٣) سورة إبراهيم / ٥.

(٤) المستدل بذلك هو الصديق المشار إليه آنفاً في مقال له حول هذا الموضوع وذكر هذا الاستدلال أيضاً عن بعضهم في كتاب : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٧٣.

(٥) مسند أحمد ١ / ١٦٧.

(٦) سنن ابن ماجة ١ / ٣٥٢ - ٣٥٣.

(٧) مسند أحمد ٥ / ١٢١.

٢٢

فذلك كلّه يدلّ على أنّ التذكير بأيّام الله كان يتخذ صفته الطبيعية والعادية ، ولو للأفراد على انفراد ، ولم يكن يقيم لهم احتفالات ومراسم معيّنة في أوقات مخصوصة من أجل ذلك ، إلاّ أن يقال : إنّ أمر تعيين المصداق قد ترك إلينا ، كما سيأتي ، فتكون الآية من أدلّة العنوان العام.

كما أنّ المقصود بأيّام الله … لعلّه تلك الأيّام التي تحدث فيها خوارق العادات ، وتظهر فيها الآيات أيّام بطشه بالظالمين ، وأخذه لهم أخذ عزيز مقتدر ، وكذا الحال بالنسبة لآية :( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) فلا تشمل الآية ما هو محل الكلام هنا.

الفرح بفضل الله سبحانه

وقد استدلّ أيضاً بقوله تعالى :( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ، إذ من المصاديق الجليّة لرحمة الله سبحانه هو ولادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، فالفرح بمناسبة ميلادهصلى‌الله‌عليه‌وآله مطلوب ومراد(١) .

ولكننا نقول : الآية تدلّ على لزوم الفرح برحمة الله سبحانه وفضله ؛ أمّا الخصوصية فلا تدل عليه ، وحينما يصف الله الإنسان بأنه فرح فخور فإنّ ذلك لا يعني إلاّ ثبوت هذه الحالة النفسية له ، ولا تدلّ على أنه يقيم الحفلات ويلتزم بالمواسم والمراسم ، كما هو محل البحث هنا ، إلاّ أن يقال : إنّ أمر تعيين الكيفية والمصداق قد أوكل إلينا ، كما سبق في الآية السابقة.

مناسك الحجِّ تكرار للذكرى

واستدلّ بعض العلماء : بأنّ جلّ أعمال مناسك الحج ما هي إلاّ احتفالات بذكرى الأنبياء ، فأمر الله تعالى باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى ؛ إحياءً لذكرى شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) أمّا السعي بين الصفا والمروة فهو تخليد لذكرى هاجر حينما عطشت هي وابنها إسماعيل ، فكانت تسعى بين الصفا والمروة وتصعد عليهما لتنظر هل ترى من أحد - كما ذكر البخاري -.

ورميُ الجمار تخليد لذكرى إبراهيمعليه‌السلام حينما ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان , فرماه بسبع حصيات فساخ.

وذبحُ الفداء إنما هو تخليد لذكرى إبراهيم أيضاً حينما أمر بذبح ولده إسماعيل ، ففداه الله بذبح عظيم.

وفي بعض الأخبار : إنّ أفعال الحج إنّما هي احتفال بذكرى آدم ، حيث تاب الله عليه عصر التاسع من ذي الحجة بعرفات ، فأفاض به جبريل حتّى وافى إلى المشعر الحرام فبات فيه ، فلمّا أصبح أفاض إلى منى ؛ فحلق رأسه إمارة على قبول توبته وعتقه من الذنوب ، فجعل الله ذلك اليوم عيداً لذرّيته.

____________________

(١) راجع : القول الفصل / ٧٣ ، ومقالة الصديق المشار إليه آنفاً.

٢٣

فأفعال الحج كلّها تصير احتفالات وأعياداً بذكرى الأنبياء ومَن ينتسب إليهم ، وهي باقية أبد الدهر(١) .

ونقول :

أوّلاً : إنّ هذا الاستدلال يتوقّف على ثبوت الروايات المشار إليها آنفاً ، على كون قوله تعالى :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) قد جيء به للإشارة إلى هذا الأمر التاريخي.

والآية إنّما أوردت كلمة( مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ) للإشارة إلى موضوع الحكم ، وليس عنوان هذا الموضوع دخيلاً في ثبوت ذلك الحكم ، لا بنحو الاقتضاء ولا بنحو العليّة التامة ، ولعلّه تكون العلة للحكم أمراً آخر ، ويكون العنوان من قبيل لفظ (زيد) في قولك : أكرم زيداً.

كما ويرد هنا سؤال ، وهو : لماذا اختصّت هذه الأحداث بأن يقام لها هذا الاحتفال الدائم أبد الدهر ، مع أنه قد توجد أحداث أعظم أهمية وأشدّ خطراً منها ؟ لماذا لم تخلّد هي أيضاً باحتفالات على نحو تخليد هذه… ولتكن إحدى هذه الأحداث ولادة السّيد المسيح من دون أب ، وقصة غرق فرعون ، ومحاولة إحراق إبراهيم بالنار فكانت برداً وسلاماً ، وقصة الطوفان ، وغير ذلك ؟

ثانياً : إنّ هذه الذكريات قد أمر الشرع بها وشرّع الحكم بلزوم العمل به ، وهذا لا ينكره المانعون وإنما هم يقولون : إنّ ما لم يرد به الشرع يكون بدعة وحرام ، وهذا مما قد ورد الشرع به ، فلا إشكال فيه ، وإنما الإشكال فيما عداه.

الاستدلال بما جرى ليعقوب

واستدلّ أيضاً على مشروعية الاحتفالات والمراسم بحزن يعقوب على فراق ولده يوسف ، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن ، فلم يجز له بعد موت ولده العزيز على قلبه - مع أنّ حرقته عليه أعظم - أن يظهر التفجّع عليه ، ويقيم المراسم في هذا السبيل(٢) .

ونقول : إنّ ذلك لا ربط له بإقامة المراسم والمواسم في زمان معيّن ، وفي مكان معيّن ، فإنّ مجرد الحزن والأسى لا مانع منه ، ولكن الزيادة على ذلك هي التي تحتاج إلى إثبات بنظر المانع ، والآيات لا تدلّ على أكثر من ممارسة التوجّع والتفجّع والحزن.

واستدلّ أيضاً بقوله تعالى :( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٣) فإنّ الاحتفالات بميلادهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما هي إلاّ رفع لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

____________________

(١) راجع كتاب : معالم المدرستين ١ / ٤٧ - ٤٩ ، للعلاّمة العسكري حفظه الله تعالى.

(٢) راجع كتاب آثين وهابيّت / ١٨٠ - ١٨١ للعلاّمة السبحاني حفظه الله.

(٣) الانشراح / ٤.

(٤) آثين وهابيّت / ١٨٤ للعلاّمة السبحاني حفظه الله.

٢٤

ويمكن المناقشة في ذلك : بأنّ رفع ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قِبَل الله سبحانه إنما هو بجعله نبيّاً رسول ، وليس في الآية أمر متعلّق بالمكلّفين يطلب منهم إقامة احتفالات ، ولا غير ذلك.

وقد ورد في الروايات أنّ المراد برفع ذكره ما هو واقع من ذكر الشهادة بنبوّته إلى جانب الشهادة لله بالوحدانية في الأذان وفي غيره ، وقيل في تفسير الآية غير ذلك أيضاً.

آية المودّة

واستدلّ أيضاً بأنّ مودّة ذوي القربى مطلوبة شرعاً ، وقد أمر بها القرآن صراحة ، فإقامة الاحتفالات للتحدّث عمّا جرى للأئمةعليهم‌السلام لا يكون إلاّ مودّة لهم ، إلاّ أن يدّعى : إنّ المراد بالمودّة الحب القلبي ، ولا يجوز الإظهار.

ونقول : صحيح أنّ إرادة الحب القلبي مجرّداً ، ومن كلمة (المودّة) ، لا يمكن تقويته ، لا سيّما وأنّ بعض المحقّقين يقول في تفسير المودّة : كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل(١) . ولكن يمكن المناقشة فيما ذكر : بأنّ مودّتهم تحصل من دون إقامة احتفالات ، فالمانع يدّعي : إنّ الخصوصية للزمان وللمكان وللتجمّع ، وللمراسم الخاصة يحتاج جوازها إلى إثبات ، إلاّ إذا لزم بالأمر بالعنوان العام ، وترك أمر تعيين المصاديق إلينا ، كما سيأتي بيانه ، مع عدم كون الخصوصية مورداً للحكم الشرعي ، ولا للتعبّد بإتيانها ، ولعلّ هذا هو مراد المستدل ، فلا إشكال حينئذ.

ونفس ما تقدّم يقال بالنسبة إلى استدلاله بآية :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) (٢) .

آية المائدة

واستدلّ أيضاً بقوله تعالى :( رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّمَاءِ تَكُونَ لَنَا عِيداً ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (٣) . فقد اعتبر يوم نزول المائدة السماوية عيداً وآية ، مع أنّها لأجل إشباع البطون. فيوم ميلادهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويوم بعثته ، الذي هو مبدأ تكامل فكر الأمم على مدى التاريخ ، أعظم من هذه الآية ، وأجل من ذلك عيداً ، فاتخاذه عيداً يكون بطريق أولى(٤) . ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ العيد المشار إليه في الآية قد جاء على وفق الحالة الطبيعية للأعياد عادة ؛ لأنّ المائدة تنزل في وقت معيّن ، وقد طلب عود نزولها واستمراره ، ثمّ يجتمع الناس عليها للاستفادة منه ، ولا بدّ من أن يحصل الفرح والابتهاج بها.

فكل الخصوصيات المعتبرة في العيد لا بدّ وأن تحصل بتبرّع منا , مع عدم المساهمة الشرعية لا في حصولها ، ولا في إمضائها وجعل المشروعية لها.

____________________

(١) راجع تفسير الميزان ١٦ / ١٦٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) سورة المائدة / ١١٤.

(٤) راجع : أئين وهابيّت / ١٨٢-١٨٣.

٢٥

السُّنّة الحَسَنة والسُّنّة السيّئة

وأمّا الاستدلال على مشروعية الاحتفالات والمواسم بأنها من السنن الحسنة فسيأتي حين الرد على ما يتذرّع به المانعون أنه لا يصلح للاستدلال به ، فلا حاجة إلى التكرار هنا.

والضحى …

واستدلّوا أيضاً على مشروعية الاحتفالات والمواسم : بأنّ الله سبحانه وتعالى قد أقسم بالضحى ، وبالليل إذا سجى ، وقد روي أنّ المراد ليلة المولد ، أو ليلة المعراج.

والجواب : إنّ ذلك يدلّ على أهمية هذه الليلة وامتيازه ، ولكنه لا يدلّ على مشروعية إقامة الموالد والمواسم في زمان معيّن ، أو في مكان معيّن ، بل ليس فيها أية إشارة إلى أيّ نحو من أنحاء التجمّعات ، لا نفياً ولا إثباتاً.

الفصل الثالث

بماذا يتذرّع المانعون ؟

أدلّة القائلين بحرمة الاحتفالات والأعياد

إنّ مَن يراجع كلمات هؤلاء القوم يجد أنهم يستدلّون لِما يذهبون إليه ، بأدلّة استنباطية وروائيّة ، وإن كانت كلماتهم قد جاءت في الأكثر خطابية وشعارية … فلا بدّ أوّلاً من إيراد جانب منه ، ثمّ استخلاص ما يمكن استخلاصه مما أوردوه على شكل استدلال ومستند لهم ولكن لا بدّ وأن يجد القارئ بعض التكرار ، الذي حاولنا الاحتراز منه قدر الإمكان ، فلم يحالفنا التوفيق التام في ذلك.

____________________

(١) ستأتي الروايات ومصادرها حين الرد على ما يتذرّع به المانعون , فلا حاجة إلى ذكرها هنا أيضاً.

٢٦

كلمات واستدلالات

جاء في هامش كتاب فتح المجيد ما نصّه : وهي التي يسمّيها الناس اليوم (الموالد والذكريات) ، التي ملأت البلاد باسم الأولياء وهي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم ، ولذلك لا يذكر الناس ويعرفون إلاّ مَن أقيمت له هذه الذكريات ، ولو كان أجهل خلق الله وأفسقهم فكلّما كسدت سوق طاغوت من هؤلاء ، قامت السدنة بهذا العيد لتحيي في نفوس العامة عبادته ، وتكثر الهدايا والقرابين باسمه.

وقد امتلأت البلاد الإسلامية بهذه الذكريات ، وعمّت المصيبة ، وعادت بها الجاهلية إلى بلاد الإسلام ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، ولم ينجَ منها إلاّ نجد والحجاز ، فيما نعلم بفضل الله ، ثمّ بفضل آل سعود الذين قاموا بحماية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وقال في قرة العيون : وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور التي تعبد من دون الله ، ويسمّونها عيد ، كمولد البدوي بمصر وغيره ، بل هي أعظم ؛ لِما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة(١) .

وقالوا أيضاً : والمستقرئ لشؤون البشر ، وما يطرأ عليها من التطورات الصالحة والفاسدة يعرف حقيقة هذه الأعياد الجاهلية ، بما يرى اليوم من الأعياد التي يسمّيها أهل العصر (الموالد) ، أو يسمّونها الذكريات ، لمعظّميهم من موتى الأولياء وغيرهم ، ولحوادث يزعمون أنها كان لها شأن في حياتهم من ولادة ولد ، أو تولّي ملك ، أو رئيس ، أو نحو ذلك.

وكل ذلك إنما هو إحياء لسنن الجاهلية ، وإماتة لشرائع الإسلام من قلوبهم ، وإن كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك ؛ لشدّة استحكام ظلمة الجاهلية على قلوبهم ، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذر ، بل هو الجريمة كل الجريمة التي تولد عنها كل الجرائم من الكفر ، والفسوق ، والعصيان(٢) .

وقال المرشدي : وقد ابتلي الناس بهذا ، لا سيّما في مولد البدوي(٣) .

والمراد أنهم ابتلوا بنقل الدراهم والشمع.

____________________

(١) فتح المجيد بشرح عقيدة التوحيد ، هامش / ١٥٤ و ١٥٥.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ، هامش / ١٩١.

(٣) فتح المجيد بشرح عقيدة التوحيد ، هامش / ١٦٠.

٢٧

وحول ولد البدوي فقد قالوا أيضاً : ويقام له كل عام ثلاثة موالد ، يشدّ الرحال إليها الناس من أقصى القطر المصري ، ويجتمع في المولد أكثر من ثلاث مئة ألف حاج إلى هذا الصنم الأكبر عجّل بهدمه وحرقه ، هو وغيره من كل صنم في مصر وغيرها(١) . وقد استدلّوا أيضاً بما روي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا عليّ ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم )). وروي بمعناه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن السجاد زين العابدينعليه‌السلام ، وعن الحسن بن الحسن بن علي ، وعن أبي سعيد مولى المهري(٢) .

وقد نهى عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعياداً(٣) . وقال ابن تيمية : وقد تقدّم أنّ اتخاذ المكان عيداً هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده ، أو غير ذلك(٤) . وقال : وفي الحديث دليل على منع شدّ الرحل إلى قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلى قبر غيره من القبور والمشاهد ؛ لأن ذلك من اتخاذها أعياداً(٥) . وقال : يشير إلى أنّ ما ينالني منكم من الصلاة والسّلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم منه ، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً(٦) .

وقال : ربما اجتمع القبوريّون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معيّنة ، وهذا بعينه الذي نهى عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (( لا تتخذوا قبري عيداً )) وبقوله : (( لعن الله اليهود ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ ))(٧) .

وقال المناوي في فتح القدير : معناه النهي عن الاجتماع لزيارته ، واجتماعهم للعيد ؛ إمّا لدفع المشقّة ، أو كراهة أن يتجاوزوا حدّ التعظيم(٨) .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) راجع سنن أبي داود ٢ / ٢١٨ ، ومسند أحمد ٢ / ٣٦٧ ، وعون المعبود ٦ / ٣٤ الضياء في المختارة ، وأبي يعلى ، والقاضي إسماعيل ، وسعيد بن منصور في سننه ، ومجمع الزوائد ٤ / ٣.

واستدلّوا بهذا الحديث في الكتب التالية : عقيدة التوحيد / ٢٥٦-٢٥٧-٢٦٠ ، وفتح المجيد / ٢٥٨و٢٥٩ ، وكشف الارتياب ٤٤٩ عن رسالة زيارة القبور لابن تيمية ، وعن الوفاء للسمهودي ، وشفاء السقام(المقدمة) / ١١٨ و٦٥ و٦٦ عن مصنف عبد الرزاق ، والصارم المنكي / ١٧٩ و ١٧٤ و ١٧٣ و ١٧٢ و ٢٦٢ و ٢٨٠ و٢٨١ و ٢٨٣ و ٢٩٦ و ٢٩٨ و ٣٠٠ و ٣٠٢ و ٣٠١ و ٢٩٩ و ٢٩٧ ، والتوسل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجهلة الوهابيِّين / ١٥١ و١٣٣ و١٢٢ ، واقتضاء الصراط المستقيم / ١٩٠ و٣١٣ و٣٢١ و ٣٢٢ و٣٦٨ و ٣٧٥ و٣٧٦ و٣٧٨ وراجع / ٣٨٣ و ١٠٩ و١١٠ عن أبي يعلى ، ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في مستخرجه ، وسعيد بن منصور ، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ١٤.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣١٣.

(٤) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣٧٨.

(٥) عون المعبود ٦ / ٣٢ ، وفتح المجيد / ٢٦١.

(٦) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣٢٣ ، وعون المعبود ٦ / ٣٣ ، وفتح المجيد / ٢٥٧ ، والصارم المنكي / ١٧٢ و ٢٩٨ وزيارة القبور الشرعية والشركية / ١٥.

(٧) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣٧٥.

(٨) عون المعبود ٦ / ٣٢ ، وليراجع : كشف الارتياب / ٤٤٩.

٢٨

وقال ابن القيّم : نهيه لهم أن يتخذوا قبره عيد ، نهى أن يجعلوه مجمع ، كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إليها للصلاة ، بل يزار قبره (صلوات الله وسلامه عليه) كما يزوره الصحابة رضوان الله عليهم ، على الوجه الذي يرضيه ويحبّه( صلوات الله وسلامه عليه)(١) وقال ابن عبد الهادي الحنبلي : وتخصيص الحجرة بالصلاة والسّلام جعل لها عيد ، وقد نهاهم عن ذلك(٢) .

وقال المناوي : يؤخذ منه أنّ اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة ، ويقولون : هذا يوم مولد الشيخ ، ويأكلون ويشربون وربما يرقصون فيه ، منهي عنه شرعاً. وعلى ولي الشرع ردعهم عن ذلك ، وإنكاره عليهم وإبطاله(٣) . وقال العظيم آبادي : وإنّ مَن سافر إليه ، وحضر من ناس آخرين ، فقد اتخذه عيد ، وهو منهي عنه بنص الحديث ، فثبت منع شدّ الرحل لأجل ذلك بإشارة النص ، كما ثبت النهي عن جعله عيداً بدلالة النص... إلخ(٤) . وقالوا كذلك : فاتخاذ القبر عيداً هو مثل اتخاذه مسجد والصلاة إليه ، بل هو أبلغ وأحقّ بالنهي ، فإنّ اتخاذه مسجداً يُصلّى في لله ليس فيه من المفسدة ما في اتخاذ نفسه عيد ، بحيث يعتاد انتيابه والاختلاف إليه والازدحام عنده ، كما يحصل في أمكنة الأعياد وأزمنتها ؛ فإنّ العيد يقال في لسان الشارع على الزمان والمكان(٥) .

قال ابن القيّم : ونهى أمّته أن يتخذوا قبره عيداً… إلى أن قال عن القبور : ولا تعظّم بحيث تتخذ مساجد ، فيصلّى عندها وإليه ، وتتخذ أعياداً وأوثاناً(٦) . وقال ابن القيّم والبركوي : وكان للمشركين أعياد زمانيّة ومكانيّة , فلمّا جاء الله بالإسلام أبطلها ، وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر ، وأيّام منى ، كما عوّضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ، ومنى ، ومزدلفة ، وعرفة ، والمشاعر(٧) . وقال ابن تيمية : وكذلك ما يحدثه بعض الناس ؛ إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسىعليه‌السلام ، وإمّا محبّة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد ، لا على البدع من اتخاذ مولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عيداً ، مع اختلاف الناس في مولده ؛ فإن هذا لم يفعله السلف ، مع عدم قيام المقتضي له ، وعدم المانع منه.

ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف (رض) أحقّ به منّا ؛ فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول الله وتعظيماً له منّا(٨) .

____________________

(١) عون المعبود ٦ / ٣٢ ، الهامش.

(٢) الصارم المنكي في الرد على السبكي / ٢٨٥.

(٣) عون المعبود ٦ / ٣٣.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الصارم المنكي / ٢٢٩.

(٦) زاد المعاد ١ / ١٤٦ ، وراجع : الصارم المنكي / ٢٩٩.

(٧) عون المعبود ٦ / ٣٢ ، وفتح المجيد في شرح عقيدة التوحيد / ٢٥٧ ، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ١٥.

(٨) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٩٤ - ٢٩٦.

٢٩

وقال : حتّى أنّ بعض القبور يجتمع عندها القبوريّون في يوم من السنة ، ويسافرون لإقامة العيد ؛ إمّا في المحرم ، أو رجب ، أو شعبان ، أو ذي الحجة ، أو غيره وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء ، وبعضها في يوم عرفة ، وبعضها في النصف من شعبان إلخ(١) .

وقال : فإن اعتياد قصد المكان المعيّن في وقت معيّن ، عائد بعود السنة ، أو الشهر ، أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد. ثمّ ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدّم عن الإمام أحمد إنكاره قال : وقد أفرط الناس في هذا جداً ، وأكثروا ، وذَكَر ما يفعل عند قبر الحسين.

وقد ذكرت فيما تقدّم : أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجيء بها السنّة ، فكيف اعتياد مكان معيّن في وقت معين ؟

ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيره ، وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال : إنّه قبر عليرضي‌الله‌عنه ، وقبر الحسين ، وحذيفة بن اليمان ، وسلمان الفارسي ، وقبر موسى بن جعفر ، ومحمد بن علي الجواد ببغداد(٢) .

وقال : وأمّا اتخاذ قبورهم أعياداً فهو مما حرمه الله ورسوله ، واعتياد قصد هذه القبور في وقت معيّن ، والاجتماع العام عندها في وقت معيّن هو اتخاذها عيد ، ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلاف(٣) .

وقال عن يوم عرفة : وأيضاً فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيد ، وهذا بنفسه محرم ، سواء كان فيه شدّ الرحل أولم يكن ، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره ، وهو من الأعياد المكانية مع الزمان(٤) .

وقال في كراهة قصد القبور للدعاء : السلف (رض) كرهوا ذلك ، متأوّلين في ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تتخذوا قبري عيداً(٥) .

وقال حول عيد الغدير بعد أن ذكر أنّ السلف لم يفعلوه ، ولا أهل البيت ولا غيرهم : ..الأعياد شريعة من الشرايع… فيجب فيها الاتّباع لا الابتداع ، وللنبي خطب وعهود ووقائع في أيّام متعددة ، مثل يوم بدر وحنين ، والخندق وفتح مكة ، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ، ثمّ لم يوجب أن يتخذ أمثال تلك الأيّام أعياداً(٦) .

____________________

(١) المصدر السابق / ٣٧٥ - ٣٧٦.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣٧٧.

(٣) نفس المصدر السابق والصفحة.

(٤) المصدر السابق / ٣١٢.

(٥) المصدر السابق / ٣٦٨.

(٦) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٩٤.

٣٠

وقال : ما أحدث من الأعياد والمواسم فهو منكر ، وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب ؛ لوجهين : أحدهما أنّه داخل في مسمّى البدع والمُحدثات.

ثمّ ذكر روايات النهي عن الابتداع في الدين ، مثل ما في صحيح مسلم ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( شرّ الاُمور مُحدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) وفي رواية النسائي : (( وكل ضلالة في النار )).

وفي نص آخر : (( إيّاكم ومحدثات الاُمور ؛ فإنّ كل بدعة ضلالة )).

وفي الصحيح ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي لفظ الصحيحين : (( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )).

وقال تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) ثمّ قال : (( فمَن ندب إلى شيء يتقرّب به إلى الله ، أو أوجبه بقوله أو فعله ، من غير أن يشرّعه الله ، فقد شرّع من الدين ما لم يأذن به الله )).

نعم ، قد يكون متأوّلاً في هذا الشرع ، فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفي فيه عن المخطئ ، ويثاب أيضاً على اجتهاده لكن لا يجوز اتّباعه في ذلك ، إذ قد علم أنّ الصواب في خلافه(١) .

وقال : الأصل في العبادات أن لا يشرّع منها إلاّ ما شرّعه الله ، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلاّ ما حظره الله وهذه المواسم المحدثة إنّما نُهي عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرّب به(٢) .

كما أنّ ابن الحاج ، رغم اعترافه بما ليوم مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل ، لا يوافق على الاحتفال بالمولد ؛ لِما فيه من المنكرات ، ولأن النبي أراد التخفيف عن أمّته ، ولم يرد في ذلك شيء بخصوصه ، فيكون بدعة(٣) .

وقد استدلّوا على عدم جواز الاحتفال بالمولد النبوي بأنّ السلف ، الذين كانوا أشدّ محبّة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعظيماً له منّا وأحرص على الخير ، لم يفعلوه ولم يكن منه عندهم عين ولا أثر(٤) .

وقالوا : وأمّا اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية ، كبعض ليالي شهر ربيع الأوّل التي يقال : إنها ليلة المولد ، وبعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة وأوّل جمعة من رحب ، أو ثامن شوال الذي يسمّيه الجهّال عيد الأبرار ؛ فإنها من البدع التي لم يستحبّها السلف ولم يفعلوه(٥) .

____________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٦٧ - ٢٦٨ بتلخيص ، ويوجد نظير العبارة الأخيرة في / ٢٩٠.

(٢) المصدر السابق / ٢٦٩.

(٣) راجع المدخل لابن الحاج ٢ / ٣ ، فما بعدها إلى عدّة صفحات ، وليراجع / ٢٩ - ٣٠.

(٤) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٩٥ ، وراجع : سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ١ / ٤٤١ - ٤٤٢.

(٥) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٤٩ عن الفتاوى المصرية ١ / ٣١٢.

٣١

وقال السكندري الفاكهاني : لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنّة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمّة الذين هم القدوة في الدين ، المتمسّكون بآثار المتقدّمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون.

واعتبر الفاكهاني أنّ المولد : منه محرم ، وهو ما دخله بعض الأعمال المحرمة ؛ كاجتماع الرجال مع النساء ونحوه ومنه مكروه , وهو الاجتماع على أكل الطعام ولا يصحبه اقتراف شيء من الآثام , فهذه بدعة مكروهة وشناعة ؛ إذ لم يفعله أحد من متقدّمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام ، وسراج الأزمنة وزين الأمكنة(١) .

هذا مع أنّ شهر ربيع الأوّل الذي ولد فيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات فيه ، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه(٢) .

وقال الحفار : ليلة المولد لم يكن السلف الصالح ، وهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة ، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة ؛ لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعظّم إلاّ بالوجه الذي شرّع به تعظيمه ، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله ، لكن يتقرّب إلى الله جلّ جلاله بما شرّع.

والدليل على أنّ السلف لم يكونوا يزيدون فيها زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها ، فقيل : إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولد في رمضان. وقيل : في ربيع الأوّل.... إلخ , إلى أن قال : فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلقصلى‌الله‌عليه‌وآله لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف(٣) .

كما أنّ محمد بن عبد الوهاب قد أنكر تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية ، التي لم ينزل في تعظيمها سلطان ، ولم ترد به حجة شرعية ولا برهان ؛ لأن ذلك مشابهة للنصارى الضالين في أعيادهم الزمانيّة والمكانيّة ، وهو باطل مردود في شرع سيّد المرسلين(٤) .

إنّ النصارى يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وميلاد أفراد أسرتهم ، وعنهم أخذ المسلمون هذه البدعة فاحتفلوا بمولد نبيّهم وبمولد أفراد أسرتهم ، ورسولهم يحذّرهم قائلاً : (( مَن تشبّه بقوم فهو منهم )) صحيح رواه أبو داود(٥) .

كما أنّ الشيخ عبد الرحمان بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب اعتبرها من البدع المنهي عنه ، حيث لم يأمر بها الرسول ، ولا فعلها الخلفاء الراشدون ، ولا الصحابة ولا التابعون(٦) .

____________________

(١) القول الفصل / ٥٠ ، وراجع / ٥٣ عن (الحاوي للفتاوي) للسيوطي / ١٩٠ - ١٩٢.

(٢) منهاج الفرقة الناجية / ١١٠.

(٣) راجع القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٥٣ عن كتاب المعيار المعرب / ٩٩ – ١٠١.

(٤) المصدر السابق / ٥٤ ، عن الدرر السنيّة ٤ / ٤٠٩ ، وعن مجموعة الرسائل النجدية ٤ / ٤٤٠.

(٥) منهاج الفرقة الناجية / ١٠٩.

(٦) منهاج الفرقة الناجية / ٥٥ ، عن مجموعة الرسائل النجدية قسم ٢ / ٣٥٧ - ٣٥٨ ، والدرر السنيّة ٤ / ٣٨٩.

٣٢

كما أنّ الشيخ محمد بن عبد اللطيف قد اعتبر ذلك من البدع(١) .

وقال محمد بن عبد السلام خضر الشقيري عن الاحتفال بالمولد : بدعة منكرة ضلالة ، لم يرد بها شرع ولا عقل ولو كان في هذا خير ، كيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ، والتابعون وتابعوهم ، والأئمة وأتباعهم ؟!(٢) . وقد ردّوا على الاستدلال على حلّية إقامة الموالد بآية :( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) , ردّوا على ذلك : بأنّه من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح وهو غير مقبول ؛ لأن الشاطبي قد قرّر أنّ الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه لا يقبل ممّن بعدهم دعوى دلالة النص الشرعي عليه. قال : إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فَهم الصحابة والتابعين ، ثمّ يفهمه من بعدهم ، فعمل الأوّلين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ، ولو كان ترك العمل. قال : فما عمل به المتأخّرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأوّلين ، وكل مَن خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمّة محمد لا تجتمع على ضلالة ، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنّة … إلى أن قال : فكل مَن خالف السلف الأوّلين فهو على خطأ(٣) .

وقال محمد بن جميل زينو : الاحتفال لم يفعله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا الصحابة ، ولا التابعون ، ولا الأئمة الأربعة ، وغيرهم من أهل القرون المفضلة ، ولا دليل شرعي عليه(٤) . ثمّ ذكر بعض الأشياء التي تحصل في الموالد مما رآه خلاف الشرع ، وزعم أنّ هذه الاُمور كافية لتحريم الاحتفال ، من قبيل الزيادة في مدحهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصرف الأموال ، والاستغاثة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلخ

تلخيص لا بدّ منه

من أجل التسهيل على القارئ ، ومن أجل استيفاء الكلام على ما ذكره المانعون من أسباب ذهابهم إلى المنع من الذكريات ونحوها … فإننا نقوم بتلخيص وافٍ لمختلف الجهات التي دعتهم إلى إصدار حكمهم ذاك ، حسبما وردت في كلماتهم آنفة الذكر ، مع إعادة الإشارة إلى المصادر من جديد… فنقول :

إننا نستطيع أن نلخّص الأسباب التي رأوا أنها كافية للحكم بحرمة الاجتماعات والاحتفالات ما عدا الفطر والأضحى … على النحو التالي :

١ - إنّ الموالد والذكريات للأولياء نوع من العبادة لهم ، بدليل أنّ الناس لا يعرفون إلاّ مَن اُقيمت فيهم الذكريات ، ولو كان أجهل وأفسق الناس(٥) .

____________________

(١) المصدر السابق عن الدرر السنيّة ٨ / ٣٨٥.

(٢) المصدر السابق عن كتاب السنن والمبتدعات / ١٣٨ - ١٣٩ وراجع : الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٧.

(٣) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٧٣ ، وراجع : الموافقات ٣ / ٧١.

(٤) منهاج الفرقة الناجية / ١٠٧ ، وراجع : الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٠ فما بعده.

(٥) فتح المجيد في شرح التوحيد ، هامش / ١٥٤ و ١٥٥.

٣٣

٢ - مضافاً إلى ما فيها من المعاصي العظيمة(١) . ٣ - إنها إحياء لسنن الجاهلية ، وإماتة لشرائع الإسلام من القلوب(٢) . ٤ - لا يجوز اتخاذ مولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عيداً مع اختلاف الناس في مولده(٣) . ٥ - إن ذلك لم يرد به عقل(٤) ولا شرع ، ولا أصل له لا في كتاب ولا سنّة(٥) . ٦ - إنّ ذلك لم يفعله السلف ، ولم ينقل عن أحد منهم ، وهم كانوا أشدّ حبّاً للرسول منّا(٦) . وكل ما لم يكن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه دين ، لم يكن ممن بعدهم دين. والمولد لم يكن في عهده ولا في عهد القرون المفضلة إلى القرن السابع(٧) .

واستدلّوا على أنّ السلف لم يفعلوه باختلافهم في تاريخ مولده ، فلأجل ذلك لم يخصّوا ليلة المولد بشيء زيادة عمّا يفعلونه في سائر الأيّام(٨) .

٧- إنّ السلف كرهوا ذلك ، متأوّلين في ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تتخذوا قبري عيداً(٩) .

٨- إنّ يوم مولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان عظيماً ولكن لم يرد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه شيء بخصوصه ؛ لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد التخفيف عن اُمّته ، فيكون بدعة(١٠) . ٩- إنّ الله سبحانه لا يعظّم إلاّ بالوجه الذي شرّع تعظيمه به(١١) .

هذا كلّه ، عدا عن تفسيرهم العيد باجتماع الناس في مكان معيّن لأجل العبادة ، وعن ادّعائهم أنّ الصلاة عند القبور اتخاذ لها أعياداً وأوثاناً ، إلى غير ذلك مما يلاحظه المتتبّع لكلماتهم السابقة.

١٠ - في ذمّ المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين(١٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ، وراجع المدخل لابن الحاج أوائل الجزء الثاني.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم / ١٩١.

(٣) المصدر السابق / ٢٩٤ - ٣٩٦.

(٤) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٥٥ عن كتاب السنن والمبتدعات / ١٣٨ - ١٣٩.

(٥) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٩٤ - ٢٩٦ ، والقول الفصل / ٥٠ و ٥٣ و٥٤ و٥٥ عن الحاوي للفتاوي / ١٩٠ - ١٩٢ ، والدرر السنية ٤ / ٤٠٩ و٣٨٩ وعن مجموعة الرسائل النجدية ٤ / ٤٤٠ وقسم ٢ / ٣٥٧ ، وعن السنن والمبتدعات / ١٣٨ - ١٣٩.

(٦) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٩٤ - ٢٩٦ ، وراجع سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ١ / ٤٤١ - ٤٤٢ ، والقول الفصل / ٤٩ و٥٠ و٥٣ و٥٥ عن الفتاوى المصرية ١ / ٣١٢ ، وعن المعيار المعرب / ٩٩ –١٠١ ، وعن السنن والمبتدعات / ١٣٨ - ١٣٩ ، وعن الحاوي للفتاوي / ١٩٠-١٩٢ ، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٣.

(٧) الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٦ و٤٣ و٤٧.

(٨) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٥٣ عن كتاب المعيار المعرب / ٩٩ - ١٠١.

(٩) اقتضاء الصراط المستقيم / ٣٨٦ ، والقول الفصل / ٤٩ عن الفتاوى المصرية.. أمّا الحديث فقد تقدّمت مصادر وموارد الاستدلال والاستشهاد به ، فلا نعيد.

(١٠) المدخل لابن الحاج ٢ / ٣ فما بعده.

(١١) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٥٣ عن كتاب المعيار المعرب / ٩٩ - ١٠١.

(١٢) اقتضاء الصراط المستقيم / ٢٨٢ فما بعده ، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٠ فصاعد.

٣٤

١١- هذه الموالد ما ابتدعت إلاّ لضرب الإسلام وتحطيمه والقضاء عليه ، ومن هنا كان حكم الإسلام على هذه الموالد والمواسم ، والزرد ، والحضرات ، المنع والحرمة ، فلا يبيح منها مولداً ولا سيّما موسماً إلخ(١) .

١٢- إنّ الذكريات تعظيم وعبادة لغير الله.

١٣- إنّ تفسير آية بحيث يظهر منها جواز عمل هذه الموالد والاحتفالات غير جائز؛ لأنه حمل لكلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح ، فيكون فَهم المتأخرين مصادماً لإجماع المتقدّمين ، ومَن خالف الإجماع فهو مخطئ ؛ لأن الأمّة لا تجتمع على ضلالة ، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنّة(٢) .

١٤- إنّ في ذلك مشابهة للنصارى في أعيادهم الزمانيّة والمكانيّة ، وهو باطل مردود في الشرع(٣) .

١٥- ما سيأتي من أنّ يوم وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو يوم ولادته ، فلا معنى للفرح فيه.

قد يكون الذنب للتعصب الأعمى

كانت تلك خلاصة رأينا ، إنها وافية بإعطاء صورة متكاملة عن الجهات المؤثّرة في إصرار هؤلاء على اعتبار الموالد والذكريات من البدع المرفوضة جملة وتفصيلاً.

وإن كان ربما يظهر من بعض كلماتهم أنهم ينطلقون في موقفهم ذاك من دوافع اُخرى ، لا تبعد كثيراً عن المشاعر التعصبية الدينية في مقابل الرافضة وأعيادهم(٤) ومواسمهم ، فحاولوا أن يجدوا المبرّرات الشرعية والعلمية لمواقفهم تلك. وإن كانوا قد خانهم التوفيق في هذا المجال ، كما سيتضح في ما يلي من صفحات.

____________________

(١) الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٤٢.

(٢) الموافقات ٣ / ٧١ ، والقول الفصل / ٧٣.

(٣) القول الفصل / ٥٣ عن الدرر السنية ٤ / ٤٠٩ ، وعن مجموعة الرسائل النجدية ٤ / ٤٤٠.

(٤) راجع على سبيل المثال بعض ما تقدّم عن ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم.

٣٥

الفصل الرابع أدلّة المانعين … سرابالميول

والمشاعر

ونحن لا نستطيع أن نوافق المانعين في استدلالاتهم المتقدّمة ؛ لأننا لا نجد فيها ما يكفي لتوفير الحدّ الأدنى من القناعة بما يريدون تكريسه كحكم شرعي إلهي ، له بُعد عقائدي بنحو أو بآخر. بل قد نجد في كلماتهم المتناثرة هنا وهناك ، ما يشعرنا بأنّ القضية لا تعدو عن أن تكون استسلاماً لمشاعر طائفية ، أفرزت هذا الإصرار الذي يصل إلى حدّ التحدّي ، على إطلاق شعارات قوية وصاخبة ومبهمة كذلك ؛ بهدف التأثير على حالة التوازن العاطفي لدى الآخرين ، ليمكن من ثمّ إعطاء صفة الشرعية لأمر قد يكون أبعد ما يكون عن منطق الشرع والعقل والفطرة. وحيث إنّ عمدة وأقصى ما يستندون إليه هو ما تقدّم في الفصل السابق ، فإننا لا بدّ وأن نذكّر القارئ ببعض مواضع الخلل فيه ، وتلك قناعاتنا التي نلتزم بكل آثارها ؛ سواء كانت بالنسبة لكلام الآخرين تصير ردّاً وتفنيداً ، أو تتضمّن قبولاً وتأييداً. هذا ، ومن أجل بيان مواضع الخلل في كلماتهم المتقدمة ، نتكلم في الموضوع على النحو التالي :

الاحتفالات والمواسم بدعة : قد تقدّم أنهم يعتبرون المواسم والذكريات ونحوها بدعة وقد حاول البعض التخلّص من هذا الاتهام والردّ عليه ، فقال ابن حجر : عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّه ، فمَن تحرّى في عملها المحاسن وتجنّب ضدّها كان بدعة حسنة ، وإلاّ فلا. وقال الحلبي الشافعي : جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وصفهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقوموا تعظيماً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا القيام بدعة لا أصل له ، أي ولكن هي بدعة حسنة ؛ لأنه ليس كل بدعة مذمومة ، وقد قال سيّدنا عمر (رض) في اجتماع الناس لصلاة التراويح :نعمت البدعة هي . وقد قال العزيز عبد السلام : إنّ البدعة تعتريها الأحكام الخمسة ، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره(٤) ولا ينافي ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( إيّاكم ومحدثات الاُمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة )) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( مَن أحدث في أمرنا (أي شرعنا) ما ليس منه ، فهو رد عليه )) ؛ لأنّ هذا عام اُريد به خاص ، فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره : ما أحدث وخالف كتاباً أو سنّة ، أو إجماعاً أو أثراً ، فهو البدعة الضلالة وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو البدعة المحمودة(٥) .

____________________

(١) رسالة حسن المقصد ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٨٨ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١١٤.

(٢) أي ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله . (٣) كلام موجود أيضاً في تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات ١ / ٢٣ ، ونصب الراية ٢ / ١٥٣ ، ودلائل الصدق ٣ قسم ١ ، وحول استحسان بعض البدع ، راجع : المصنف ٣ / ٧٨ و٧٩ و٨٠.

(٤) راجع كلام العزيز عبد السلام أيضاً في تهذيب الأسماء واللغات قسم اللغات ١ / ٢٢ ٢٣ ، وفي القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ٤٧ عن قواعد الأحكام في مصالح الأنام ٢ / ١٧٢-١٧٤ ، وقريب منه كلام القرافي الذي نقله عنه الشاطبي في الاعتصام ١ / ١٤٧ - ١٥٠.

(٥) راجع كلام الشافعي أيضاً في تهذيب الأسماء واللغات قسم اللغات ١ / ٢٣.

٣٦

وقد وجد القيام عند ذكر اسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عالِم الاُمّة ، ومقتدى الأئمة دين وورع ، الإمام تقي الدين السبكي ، وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره ، إلى أن قال : ويكفي مثل ذلك في الاقتداء.

وقد قال ابن حجر الهيثمي : إنّ البدعة الحسنة متّفق على ندبه. وعمل المولد ، واجتماع الناس له ، كذلك أي بدعة حسنة.

ومن ثمّ قال الإمام أبو شامة (شيخ الإمام النووي) : ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصدقات والمعروف ، وإظهار الزينة والسرور ، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكر الله على ما منّ به من إيجاد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي أرسله رحمة للعالمين … هذا كلامه(١) .

وقال النووي : إنّ البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الإمام المجمع على إمامته وتمكّنه في أنواع العلوم وبراعته ، أبو محمد العزيز بن عبد السلامرحمه‌الله ورضي عنه ، في آخر كتاب القواعد : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ، ومندوبة ، ومكروهة ، ومباحة... إلخ(٢) ثمّ كلامه بطوله...

ولكننا بدورنا نقول : إنّ هذا الكلام ضعيف ، لوجهين يظهر منهما أيضاً دليلان على جواز إقامة هذه المراسم والمواسم.

فأوّلاً : إنّ ما ذكر من تقسيم البدعة إلى حسنة ومذمومة ، ومن كونها تنقسم إلى الأحكام الخمسة ، ثمّ الاستشهاد بقول عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح : نعمت البدعة هي.

إنّ ذلك كلّه ليس في محلّه ، ولا يستند إلى أساس صحيح ؛ وذلك لأن البدعة الشرعية هي : إدخال ما ليس من الدين في الدين.

____________________

(١) السيرة الحلبيّة ١ / ٨٣ - ٨٤ ، وراجع السيرة النبويّة لزيني دحلان ١ / ٢٤ - ٢٥ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ٨١ - ٨٢ ، وراجع جواهر البحار ٣ / ٣٤٠ - ٣٤١ و ٣٣٨.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات ١ / ٢٢و٢٣.

٣٧

استناداً إلى ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( مَن أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(١) ؛ لأن قوله (( في أمرنا )) معناه : أدخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منه ، بل لقد قال السّيد الأمين عن البدعة : لا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص ؛ لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى ، ولا التنقيص منه ، لاختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه الذين لا يصدرون إلاّ عن أمره(٢) .

فالبدعة في الشرع وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة ، بل هي من غير صاحب الشرع قبيحة مطلق.

وأمّا الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد واُمور المعاش والحياة فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح ، ويكون موضوعاً للأحكام الخمسة : الوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ، والإباحة. ويلاحظ الخلط في الأمثلة التي ذكرها عبد العزيز بن عبد السّلام بين هذا القسم وبين سابقه(٣) .

وعليه فالاُمور العادية والحياتية ونحوه مما لم يرد من الشارع حكم متعلّق به بخصوصه ، أو بعمومه يكون كل منها أحد أفراده ومصاديقه ، إنْ عملها المكلّف وقام به ، أو تركه بعنوان أنها من الدين ، فإن لم تكن منه فإنه يكون قد أبدع في الدين ، وأدخل فيه ما ليس منه. وأمّا إذا قام به وعمله ، أو تركه ملتزماً بها أو غير ملتزم ، لا بعنوان أنها من الدين ، ولا يدّعي أنّ الله سبحانه قد شرّع ذلك ، مع عدم منافاة ذلك لأي من أحكام الدين وتعاليمه ، فلا يكون ذلك بدعة في الدين ، ولا إدخالاً ما ليس منه فيه. وما نحن فيه إنما هو من هذا القبيل ، كما هو ظاهر ؛ إذ لو كان اختيار الأساليب المختلفة للتعبير عن التقدير والاحترام المطلوب لله سبحانه بدعة ، لكان كل جديد يجري العمل به في طول البلاد وعرضها ، من البدع المحرمة. وليكن حينئذ منصب وزير التجارة ووزير النفط ، واستعمال الراديو والتلفزيون ، والتلفون ، وركوب السيارة والقطار ، والطائرة من البدع. وليكن كذلك اعتبار الجلوس كل يوم على الشرفة لاحتساء كوب من الشاي ، وكذا إطلاق ألقاب جلالة الملك ، ومعالي الوزير إلى غير ذلك مما لا مجال لتعداده من البدع المحرمة ، حيث لم يرد بها نص بخصوصه ؛ ولأنها من محدثات الاُمور كما يدّعي هؤلاء.

هذا ، وقد صرّحوا - هم أنفسهم : بأن الأشياء ، ما عدا العبادات ، كلّها على الإباحة حتّى يرد ما يوجب رفع اليد عنه ، ولا سيّما ما كان من قبيل العادات(٤) الذي هو محل كلامنا بالفعل ، حيث قد جرت عادة الناس على إقامة الذكريات لعظمائهم ، وعلى اعتبار يوم ميلاد الشخص يوم فرح ومسرّة ، فيهدون له فيه الهدايا ، ويقيمون المجالس ، وكذا يوم احتجامه.

____________________

(١) راجع سنن أبي داود ٤ / ٢٠٠ ، وسنن أبي مسلم ٥ / ١٣٣ ، ومسند أحمد ٦ / ٢٤٠و٢٧٠.

(٢) كشف الارتياب / ٩٨.

(٣) راجع أمثلة في تهذيب الأسماء واللغات قسم اللغات ١ / ٢٢.

(٤) راجع : اقتضاء الصراط المستقم / ٢٦٩ ، وراجع إرشاد الفحول ، الصفحات الأخيرة.

٣٨

ومن ذلك أيضاً اعتبارهم يوم الاستقلال يوماً عظيماً ، إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبّعه واستقصائه.

ثانياً : إنّ الحقيقة هي أنّ ما نحن فيه داخل في قسم ما أمر الله سبحانه به وأراده ؛ فلا يكون بدعة لا بالمعنى الأوّل ولا بالمعنى الثاني.

وتوضيح ذلك : إنّ أوامر الشارع ونواهيه تارة تتعلق بالشيء بعنوانه الخاص به والذي يميزه عن كل مَن عداه ، وتارة يتعلق لا بعنوانه بخصوصه بل بعنوانه العام ، ويترك أمر تحقيق المصاديق واختيارها , وملاحظة انطباق ذلك العنوان وعدمه إليه.

فاختيار المكلف لهذا المصداق أو لذاك لا يعتبر بدعة ، ولا إحداثاً في الدين ما ليس منه ، بل هو عين الامتثال والانقياد لأحكامه ، والانصياع لأوامره ، ويستحق على ذلك الأجر الجميل والثواب الجزيل.

وذلك كما لو أمر الشارع بمعونة الفقراء ، وترك أمر اختيار المورد والمصداق والكيفية والاُسلوب إلى المكلف ، فباستطاعته أن يعينهم بالعمل لهم ، أو بقضاء حوائجهم ، أو مساعدتهم مالياً... إلى غير ذلك مما يصدق عليه أنه معونة.. وإن لم ينص الشارع على مصداق أو كيفية بالخصوص.

وكذا لو أمره باحترام الوالدين ، فيمكن أن يجسّد ذلك في ضمن المصداق الذي هو الوقوف لهما حين قدومهم ، وبإجلاسهما في صدر المجلس ، وبالجلوس بين أيديهما في حالة الخضوع والتأدّب ، وبعدم التقدّم عليهما في المشي وفي المجالس ، وبتقبيل أيديهم ، وبغير ذلك من اُمور

وكذا الحال.. لو صدر الأمر باحترام النبي ومحبّته ، وتعظيمه وإجلاله وتوقيره ، مع عدم التحديد المانع من الأغيار في نوع بخصوصه ، فبإمكان المكلف أن يختار ما شاء من المصاديق التي تنطبق عليها تلك العناوين ، ولا يكون ذلك بدعة ، ولا إدخالاً لِما ليس من الدين في الدين.

فيمكن تعظيمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوقيره وتبجيله ، بإقامة الذكريات له ، ويمكن أن يكون بنشر كراماته وفضائل ه ، وبالصلاة والتسليم عليه كلّما ذُكر ، وبتأليف الكتب عن حياته الشريفة ، وبإطلاق اسمه على الجامعات والمعاهد وغيره ، وبغير ذلك من مصاديق التعظيم والتبجيل ، والالتزام بالوقت المخصوص لا حرج فيه ما دام أنه لا يعتبر من الدين ، كما لا يعتبر توقيت درس الفقه مثلاً بكونه بعد صلاة المغرب والعشاء ، كما يعترف به هؤلاء وينصحون به(١) إدخالاً في الدين ما ليس منه.

وهكذا يقال بالنسبة لِما ورد من الحثّ على البكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسّلام) والتحزّن لِما أصابه وصحبه الأبرار ، حيث يترك أمر اختيار الكيفية والوقت إلى المكلفين.

____________________

(١) الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ٦٧.

٣٩

السنّة الحسنة والسنّة السيّئة

بقي أن نشير إلى أنّ الاستدلال على مشروعية عمل المولد بأنه سنّة حسنة ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( مَن سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها ))(١) .

في غير محله أيضاً ؛ وذلك لأنّ مورد الرواية - حسبما يقولون - هو التصدّق على أولئك الذين جاؤوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحالة يرثى لها ، فخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله الناس وحثّهم على الصدقة ، فجاء أنصاري بصرّة ، ثمّ تتابع الناس بعده ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( مَن سنّ سنّة حسنة ))(٢) .

فمعنى ذلك أنّ مورد الرواية هو تعيين المورد والمصداق للنصّ الشرعي المتعلّق بالعنوان العام ، حسبما تقدّمت الإشارة إليه ، وليس موردها ما لا نصّ فيه أصلاً.

هذا كله ، عدا عن أنّ ما نحن فيه ليس من السنّة التي معناها الإدخال في الشرع ، بل هو من الاُمور المباحة كما تقدّم.

الذكريات عبادة لصاحب الذكرى

واستدلّوا أيضاً على حرمة الموالد والذكريات للأولياء بأنها نوع من العبادة لهم وتعظيمهم.

ونقول : إنّ ابن تيمية قد خلط بين العبادة والتعظيم ، وصار يكفّر الناس استناداً إلى ذلك ، ونحن نعرض الفرق بينهما ليتضح زيف هذا الكلام ، فنقول : قال السّيد الأمينرحمه‌الله تعالى : العبادة بمعناها اللغوي ، الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد ، ليست شركاً ولا كفراً قطعاً ، وإلاّ لزم كفر الناس جميعاً من لدن آدم إلى يومنا هذا ؛ لأن العبادة بمعنى الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد ، فيلزم كفر المملوك ، والزوجة ، والولد ، والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود بإطاعتهم وخضوعهم للمولى ، والزوج ، والأب ، والمخدوم ، والمستأجر ، والملك ، الاُمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعض. بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آبائهم وخضوعهم لهم ، وقد أوجب الله طاعة أوامر الأبوين ، وخفض جناح الذلّ لهم ، وقال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) وأمر بتعزير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتوقيره ، وأمر بإطاعة الزوجة لزوجها ، وأوجب طاعة العبيد لمواليهم وسمّاهم عبيد.

____________________

(١) نقل هذا الاستدلال في القول الفصل / ٤٣-٤٤ ، عن محمد بن علوي المالكي في مقدمته لطبقة مولد ابن الديبع / ١٣ ، وفي رسالته حول الاحتفال بالمولد النبوي / ١٨ وفي مقدمته للمورد المروي / ١٧.

(٢) راجع صحيح مسلم ٣ / ٨٧ ، والسنن الكبرى ٤ / ١٧٥و١٧٦وسنن النسائي ٥ / ٧٥-٧٧ ، ومسند أحمد ٤ / ٣٥٩و٣٦٠و٣٦١ ، والزهد والرقائق / ٥١٣-٥١٤ ، والمسند للحميدي ٢ / ٣٥٢-٣٥٣ ، والمعتصر من المختصر ٢ / ٢٥١-٢٥٢.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85