اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133162 / تحميل: 10004
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الباب الثالث:

فيه فصول:

الفصل الأول: عصر الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام

الفصل الثاني: مواقف الإمام وإنجازاته.

١ ـ من البيعة إلى الصلح.

٢ ـ الصلح : أسبابه ونتائجه.

٣ ـ ما بعد الصلح حتى الشهادة.

٤ ـ شهادة الإمام ومثواه الأخير.

الفصل الثالث: تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام .

الفصل الأول: عصر الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام

إنّ الخوارج حينما خرجوا على أمير المؤمنينعليه‌السلام وتمرّدوا عليه; لم يكن لحركتهم أيّة ميزة على غيرهم من المتمرّدين عليه كطلحة والزبير ومعاوية وغيرهم، ولم يكن لهم هدف خاص كما كان لمعاوية وطلحة والزبير، وما ينسبه لهم المؤرّخون من الجدل حول التحكيم مع أنّهم من أنصاره في بداية الأمر ـ ونتائجه لم يلتزم بها أمير المؤمنينعليه‌السلام إن صحّ ـ يدلّ على أنّهم كانوا في منتهى السذاجة والعفوية، وأنّهم كانوا ضحايا المتآمرين على أمير المؤمنين بقصد إثارة الفتن في جيشه وإلهائه عن معاوية والرجوع لحربه، وكان لمقتلهم آثاره السيئة في نفوس الكثيرين من أصحابه، لأنّ القتلى كان أكثرهم ينتمي إلى عشائر الكوفة والبصرة، فليس بغريب إذا ترك قتلهم في نفوس من ينتمون إليهم ما يجده كلّ قريب لفقد قريبه .

ولمّا انتهى أمير المؤمنين منهم دبّ الوهن والتخاذل والخلاف بين أصحابه، فجعل يستحثّهم على الخروج معه لحرب معاوية ويخطب فيهم المرّة تلو الأخرى فلا يجد منهم إلاّ التخاذل والخلاف عليه، فيقولون : لقد نفدت نبالنا وكلّت أذرعنا ونصلت أسنّة رماحنا وتقطعت سيوفنا، فأمهلنا

١٠١

لنستعد فإنّ ذلك أقوى لنا على عدوّنا، واستمر على ذلك مدّة من الزمن كان يدعوهم بين الحين والآخر للخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فلا يخرج إلاّ القليل الذي لا يغني شيئاً(١) .

هذا والأشعث بن قيس وشبث بن ربعي وأمثالهما لا همَّ لهم إلاّ التخريب وبثّ روح التخاذل في النفوس، وراح يضع في أذهان الجيش أنّ عليّاً كان عليه أن يصنع مع أهل النهروان كما صنع عثمان ويتغاضى عنهم وهم قلّة لا يشكّلون خطراً عليه، لقد قال الأشعث ذلك ليحدث تصدّعاً في صفوف الجيش وليشحن نفوس من تربطهم بأولئك القتلى أنساب وقرابات بالكراهية والعداء لعليّعليه‌السلام .

وسرت مقالة الأشعث بين الناس فزادتهم تخاذلاً وتصدعاً(٢) ، وأُتيح لمعاوية أن يتّصل بسراتهم ورؤسائهم أكثر من قبل، تحمل كتبه لهم الوعود والأماني، ويقدّم بين يدي الوعود والأماني العطايا والصلات يعجّل لهم ما يرغبون في عاجله وما يغري قليله المعجّل بكثيره الموعود، حتى اشترى ضمائرهم وأفسدهم على إمامهم وجعلهم يعطونه الطاعة بأطراف ألسنتهم ويطوون قلوبهم على المعصية والخذلان .

لقد استطاع المتآمرون من أهل العراق أن يحقّقوا لمعاوية كلّ أطماعه وأن يشلّوا حركة الإمامعليه‌السلام ويخلقوا له من المصاعب والمشاكل ما يشغله عن لقاء أهل الشام مرّة ثانية، فلم تنته معركة النهروان حتى ظهرت فُلولُهم في أكثر من ناحية في العراق، وتركت معركة النهروان في أهاليهم وقبائلهم

__________

(١) راجع أعيان الشيعة: ١ / ٥٢٤ طبعة دار التعارف سيرة المؤمنين ( مبحث الخوارج ) عن ابن الأثير.

(٢) راجع أعيان الشيعة: ١ / ٥٢٤ طبعة دار التعارف سيرة المؤمنين ( مبحث الخوارج ) عن ابن الأثير.

١٠٢

أوتاراً لم يكن من السهل نسيانها، لا سيَّما وأنّ أيدي المتآمرين ممن كانوا على صلة بمعاوية كانت تزوّدهم بالأموال والعتاد فيخرج الرجل ومعه المائة والمئتان، فيضطر أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى أن يرسل إليهم رجلاً من أصحابه ومعه طائفة من الجند فيقاتل المتمرّدين، حتى إذا قتلهم أو شرّدهم; عاد إلى الكوفة، وقبل أن يستقرّ يخرج آخر بجماعة من المتمرّدين .

وهكذا كانت الحالة بعد معركة النهروان حتى خرج الخريت بن راشد، وقد جاءه قبل خروجه، وقال له : والله إنّي لا أطيعك ولا أصلي خلفك لأنّك حكّمت الرجال وضعفت عن الحق، فقال له :إذن تعصي ربّك وتنكث عهدك ولا تضرّ إلاّ نفسك ، ودعاه للمناظرة، فقال له : أعود إليك غداً، فقبل منه وأوصاه أن لا يؤذي أحداً من الناس ولا يعتدي على الدماء والأموال والأعراض فخرج ولم يعد، وكان مطاعاً في قومه بني ناجية وخرج معه جماعة في ظلمة الليل والتقى في طريقه برجلين وكان أحدهما يهودياً والآخر مسلماً، فقتلوا المسلم، وعاد اليهودي إلى عامل عليّ على السواد فأخبره بأمرهم فكتب العامل لأمير المؤمنين فأرسل إليهم جماعة من أصحابه وأمره بردّهم إلى الطاعة ومناجزتهم إن رفضوا ذلك، وحدثت بينه وبين الخريت وجماعته مناظرة لم تجد شيئاً، فطلب منهم أصحاب أمير المؤمنين أن يسلموهم قتلة المسلم فأبوا إلاّ الحرب، وكانت بين الطرفين معارك دامية، فأرسل إليهم أمير المؤمنين قوة أخرى، وكتب إلى عبد الله بن العباس وكان أميراً على البصرة يأمره بملاحقتهم، والخريت مرّة يدّعي بأنّه يطلب بدم عثمان، وأخرى ينكر على عليّ عليه‌السلام التحكيم .

وأخيراً قتل الخريت وجماعة من أصحابه وأُسر منهم خمسمئة قادوهم إلى الكوفة، فمرّ بهم الجيش على مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عاملاً لعليعليه‌السلام على بعض المقاطعات فاستغاث به الأسرى فرقّ لحالهم كما تزعم بعض الروايات، واشتراهم من القائد على أن يسدّد أثمانهم أقساطاً وأعتقهم، وجعل يماطل في أداء ما عليه، ولمّا طالبه عبد الله بن عباس بأداء المبلغ أجابه : لو طلبت هذا المبلغ وأكثر منه من عثمان ما منعني إيّاه، ثم هرب إلى معاوية فاستقبله استقبال الفاتحين وأعطاه ما يريد .

وطمع مصقلة أن يستجلب أخاه نعيم بن هبيرة إلى جانب معاوية، فأرسل إليه رسالة مع رجل من نصارى تغلب كان يتجسّس لصالح معاوية، ولم يكد يبلغ الكوفة حتى ظهر أمره فأخذه أصحاب أمير المؤمنين وقطعوا يده.

١٠٣

إلى كثير من أمثال هذه الحوادث التي تدين المتمرّدين ومن كان يعاونهم بالتآمر وإشاعة الفوضى في جميع أطراف الدولة لاستنزاف قوة الإمام في الداخل وليكون في شغل عن معاوية وتصرفاته .

ومن غير البعيد أن يكون مصقلة الشيباني على صلة بالمتمرّدين وأنّ حرصه على تخليصهم من الأسر لقاء مبلغ من المال يعجز عن دفعه لم يكن بدافع إنساني كما يبدو ذلك لأول نظرة في حادثة من هذا النوع، بل كان بدافع الإحساس بمسؤوليته عن فئة كان يشترك معها في الهدف والغاية ويمنيها بالمساعدة عندما تدعو الحاجة، وقد لقي من معاوية هذا الترحيب لأنّه اشترك في الفساد والفوضى وساعد المخرّبين الذين جرّعوا عليّاًعليه‌السلام الغصص وأرهقوه من أمره عسراً وكانوا إلى ابن هند فرجاً ومخرجاً أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام فلم يزد حين بلغه فرار مصقلة إلى الشام على أن قال :"ما له قاتله الله؟ فعل فعل الأحرار وفرّ فرار العبيد" وأمر بداره فهدمت(١) .

وقد أتيح لمعاوية في ذلك الجوّ الذي ساد العراق في الداخل أن يتحرك من ناحيته على القرى والمدن المتاخمة لحدود الشام فيقتل وينهب وينكّل بقوّات المخافر المرابطة على الحدود بدون رادع من أحد ووازع من دين، وأمير المؤمنينعليه‌السلام يدعو أهل العراق لنجدة إخوانهم وملاحقة المعتدين فلا يجد منهم ما يرضيه وأغارت قوات معاوية على الحجاز واليمن بقيادة بسر بن أرطاة وأوصاه باستعمال كلّ ما من شأنه إشاعة الفوضى وبثّ الخوف والرعب في تلك البلاد، فمضى ابن أرطاة ينفّذ أمر معاوية فأسرف في الاستخفاف بالدماء والحرمات والأعراض والأموال في طريقه إلى المدينة، ولمّا بلغ المدينة قابل أهلها بكلّ أنواع الإساءة والقسوة فقتل فيها عدداً كبيراً واضطرّهم إلى بيعة معاوية، وكانت أخباره قد انتهت إلى اليمن فانتشر فيها الخوف والرعب، وفرّ منها عامل أمير المؤمنين عبيد الله بن العباس، ولمّا دخلها أسرف في القتل والنهب والتخريب، ووجد طفلين صغيرين لعبيد الله ابن العباس، فذبحهما في حضن أمهما، فأصابها خلل في عقلها وظلّت تندبهما وتبكيهما حتى ماتت غماً وكمداً(٢) . وجهّز جيشاً آخر لغزو مصر ليحقّق لابن العاص أمنيته الغالية، وولاّه قيادة ذلك الجيش، ولمّا بلغ أمير المؤمنين; ذلك دعا أهل الكوفة لنجدة إخوانهم في مصر فلم يستجيبوا لطلبه، وبعد أن ألحّ عليهم أجابه جماعة منهم

__________

(١) راجع أعيان الشيعة : ١ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦ .

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٥ ـ ١٩٩ .

١٠٤

وما لبث أن جاءته الأنباء بأنّ ابن العاص قد تغلّب عليها وقتل وإليها محمد بن أبي بكر ومَثَّلَ به ثم أحرقه، فانتدب مالك بن الحرث الأشتر وولاّه عليها لإنقاذها من أيدي الغزاة، وكان كما يصفه المؤرّخون حازماً قوياً مخلصاً لأمير المؤمنين كما كان أمير المؤمنين لرسول الله على حدّ وصف الإمام وغيره له .

ولمّا بلغ معاوية نبأ اختياره حاكماً في مصر اضطرب واشتدّ خوفه على أنصاره وقواته المرابطة فيها، واستطاع بعد تفكير طويل أن يجد المخرج من تلك الأزمة التي أحاطت به، فأغرى أحد أنصاره ممّن يسكنون الطريق التي لا بدّ للأشتر من المرور عليها بالمال لقاء اغتياله، ولمّا بلغ الأشتر ذلك المكان ونزل فيه جاءه بعسل مسموم كان قد أعدّه له بناءً لتخطيط معاوية، فكانت به نهايته(١) ، وكان ناجحاً في التخلّص من خصومه بهذا الأسلوب، فقد قتل ابن خاله محمد بن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والإمام أبا محمد الحسنعليه‌السلام بهذا الأسلوب، وأحياناً كان يتباهى به ويقول : إنّ لله جنداً من العسل ينتقم به لأوليائه .

وتوالت الأحداث في داخل العراق والبلاد التي كانت تخضع لسلطة أمير المؤمنين، فلم يكن يفرغ من تمرّد حتى يفاجأ بآخر ولا يسدّ ثغرة إلاّ فتحت له أخرى حتى طمع فيه معاوية إلى حدود الاستخفاف(٢) ، هذا وأصحابه بالرغم مما يجري حولهم وعلى حدود بلادهم وفي خارجها من احتلال لبعض المقاطعات وقتل ونهب ممعنون في خلافه مفرقون فيما أحبّوا من

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤ .

(٢) راجع أعيان الشيعة : ١ / ٥٢٨ ـ ٥٣٠، وتاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٥ ـ ٢٠٠ .

١٠٥

طلب العاقبة، إذا استنفرهم لا ينفرون وإذا دعاهم لا يجيبون، يتعللون بالأعذار الواهية كحر الصيف وبرد الشتاء، ولا يغضبون لحقّ أو دين ولا للمشرّدين والمستضعفين حتى كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ويبكي أحياناً على من مضى من أنصاره ويقول :" متى يبعث أشقاها فيخضب هذه من هذا ؟ " مشيراً إلى رأسه الكريم ولحيته الشريفة، ويتمنّى لو أنّ معاوية صارفه فيهم صرف الدينار بالدرهم فأخذ منه عشرة وأعطاه واحداً من أهل الشام، ووطّن نفسه أخيراً أن يخرج لحرب معاوية بمن هم على رأيه من أهله وعشيرته وأنصاره، فيقتل بهم حتى يلقى الله في سبيل الحقّ والعدل، وتحدّث إليهم حديثاً لا لبس فيه، وحمّلهم تبعات ما سينجم عن تخاذلهم(١) .

وكان ـ على ما يبدو ـ لهذا الموقف الحازم منه أثره في نفوس القوم بعد أن أيقنوا بأنّه سيخرج بنفسه وأهله وخاصته إلى معاوية، وسيلحقهم بذلك الخزي والعار ويصبحون حديث الأجيال إذا هم تركوه يخرج على هذه الحال، فردّ عليه زعماؤهم ردّاً جميلاً، وجمع كلّ رئيس منهم قومه وتداعوا للجهاد من كلّ جانب وتعاقدوا على الموت معه، حتى أصبحت الحرب حديث الناس، وأرسل إلى عمّاله في مختلف المناطق يدعوهم للاشتراك معه بمن عندهم من الجيوش والمقاتلين .

وخرج الناس إلى معسكراتهم في النخيلة ينتظرون انسلاخ شهر رمضان من سنة أربعين لهجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرسل أمير المؤمنينعليه‌السلام زياد بن حفصة في جماعة من أصحابه طليعة بين يديه، وبقي هو مع الجيش ينتظر انسلاخ الشهر المبارك، وإذا بالقدر ينقضّ عليه وعلى أهل العراق فيكمن له أشقى الأولين والآخرين في فجر اليوم التاسع عشر من ذلك الشهر وهو في بيت الله فيضربه على رأسه الشريف وهو يصلّي لربّه، فيخرّ منها في محرابه وهو يقول:" فزت وربّ الكعبة " (٢) .

__________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٧٧، طبعة محمد عبده .

(٢) راجع سيرة الأئمة الاثني عشر : ١ / ٤٤٦ ـ ٤٥١ .

١٠٦

الفصل الثاني: مواقف الإمامعليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأول : من البيعة إلى الصلح

١ ـ خطبة الإمام الحسنعليه‌السلام يوم شهادة أبيهعليه‌السلام :

تحدّث أغلب المؤرّخين عن أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام ألقى في صباح الليلة التي دَفَنَ فيها أباهعليه‌السلام خطبةً في الناس جاء فيها :

" أيّها الناس! في هذه الليلة نزل القرآن، وفي هذه الليلة رُفع عيسى بن مريم، وفي هذه الليلة قُتل يوشع بن نون، وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والله لا يسبق أبي أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنّة، ولا مَن يكون بعده، وإن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لَيبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وما ترك صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادماً لأهله "(١) .

ونقل الشيخ المفيد في "الإرشاد" الخطبة بهذه الصورة :

" وروى أبو مخنف لوط بن يحيى، قال : حدّثني أشعث بن سوار عن أبي إسحاق السبيعي وغيره، قالوا : خطب الحسن بن عليّعليه‌السلام في صبيحة الليلة التي قُبض فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على

__________

(١) الأمالي : ١٩٢ .

١٠٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : "لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجّهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه .

ولقد توفّيعليه‌السلام في الليلة التي عُرِج فيها بعيسى بن مريم، وفيها قبض يوشع بن نون وصيّ موسىعليه‌السلام وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم، فَضُلت عن عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله " .

ثم خنقته العَبرة فبكى وبكى الناس معه، ثم قال : " أنا ابن البشير أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، أنا من أهل بيت فرض الله مودّتهم في كتابه فقال تعالى :( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) (١) ، فالحسنة مودّتنا أهل البيت "(٢) .

٢ ـ بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام :

ولمّا أنهى الإمامعليه‌السلام خطابه، انبرى عبيد الله بن العباس فحفّز المسلمين إلى المبادرة لمبايعته قائلاً :

"معاشر الناس، هذا ابن نبيّكم، ووصيّ إمامكم فبايعوه". واستجاب الناس لهذه الدعوة المباركة، فهتفوا بالطاعة، وأعلنوا الرضا والانقياد قائلين :

__________

(١) الشورى (٢٣) : ٣٣ .

(٢) علاوة على الإرشاد، نُقلت الرواية في أمالي الطوسي وتفسير فرات، كما أنّ الكثير من كتب أهل السنة نقلت ما يماثل الروايتين، راجع " ملحقات إحقاق الحق ": ١١ / ١٨٢ ـ ١٩٣ .

١٠٨

"ما أحبّه إلينا وأوجب حقّه علينا وأحقّه بالخلافة "(١) وتمّت البيعة له في يوم الجمعة المصادف الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة (٤٠) للهجرة(٢) .

وثم نزل الحسن عن المنبر فرتّب العمّال وأمّر الأُمراء ونظر في الأمور، وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة(٣) .

كان أوّل شيء أحدثه الحسن بن عليّعليه‌السلام أنّه زاد المقاتلة مئة مئة، وقد كان أبوه فعل ذلك يوم الجمل، والحسنعليه‌السلام فعله على حال الاستخلاف فتبعه الخلفاء بعد ذلك(٤) .

٣ ـ الإمام الحسنعليه‌السلام يقتصّ من قاتل أمير المؤمنينعليه‌السلام :

وفي اليوم الذي بايع الناس الإمام الحسنعليه‌السلام وبعد إتمام البيعة أمر بإحضار عبد الرحمن بن ملجم فلمّا مثل بين يديه قال له ابن ملجم : ما الذي أمرك به أبوك ؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : "أمرني أن لا أقتل غير قاتله، وأن أُشبع بطنك وأُنعم وطأك"(٥) ثم ضرب عنقه، ولم يمثِّل به.

٤ ـ جهاد الإمام الحسنعليه‌السلام :

يكشف النصّ التاريخي ـ الذي نقلناه سابقاً عن قيام الإمامعليه‌السلام

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤ .

(٢) الإرشاد : ٤ / ١٥ .

(٣) أعيان الشيعة : ٤ / ١٤ .

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٥ طبعة المكتبة الحيدرية ـ النجف ١٣٨٥ .

(٥) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١، وتاريخ الطبري: ٦ / ٨٦، ومقاتل الطالبيين: ١٦، وتاريخ ابن الأثير: ٣ / ١٧٠ .

١٠٩

بمضاعفة الأجور التي كان يتقاضاها المقاتلة ـ عن موقف الإمامعليه‌السلام الجادِّ من الحرب وإصراره الأكيد في مجابهة معاوية كما يتّضح من عمله في إصلاح حال جيشه وبنائه له .

وقد أخذ الإمامعليه‌السلام جانب الحزم في موقفه من معاوية، حيث إنّ معاوية لمّا علم بوفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس مع الإمام الحسنعليه‌السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الإمامعليه‌السلام الأمور، فعرف ذلك الإمام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة، فأُخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأُخرج وضربت عنقه(١) .

ثم كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية : "أمّا بعد، فإنّك دسست إليّ الرجال كأنّك تحبّ اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وبلغني عنك أنّك شمتّ بما لم يشمت به ذوو الحجى وأنّما مثلك في ذلك كما قال الأول :

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى

تجهّز لأخرى مثلها فكأن قدِ "(٢)

لقد كانت هذه الحادثة إنذاراً لمعاوية بالحرب وتهديداً له وقطعاً لآماله بالاستيلاء على الكوفة بسلام .

وفي كتاب آخر من الإمامعليه‌السلام لمعاوية جواباً على رسالته التي لمّح فيها للصلح وطلب فيها من الإمامعليه‌السلام أن يبايعه على أن يجعل له ولاية العهد، نلاحظ قوة موقف الإمام وعدم اهتمامه بمثل هذه العروض التي كان يحاول فيها معاوية استمالة جانب الإمام، يقولعليه‌السلام :

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٣ .

١١٠

"أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك فتركت جوابك خشية البغي عليك، فاتبع الحقّ تعلم أنّي من أهله، والسلام"(١) .

ولم يتجاوز عدد الرسائل التي كانت بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية الخمس حسبما يذكر ذلك أبو الفرج وآخرون. والسبب في ذلك هو ما كان يحمله معاوية من نزعات جعلته من الذين لا يستجيبون للحقّ ولا يذعنون لأهله، بل إنّ تلك النزعات قد اشتدت بعد استشهاد أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قويت مطامعه بالخلافة التي كان يفتقد لأبسط مقوماتها وشروطها من وجهة نظر إسلاميّة.

وبالرغم من ذلك فإنّ الإمام الحسنعليه‌السلام واصل نهج والدهعليه‌السلام كما كان يقتضيه التكليف الإلهي بإتمام الحجّة على خصمه فأرسل إليه أكثر من رسالة في هذا الإطار، بالرغم ممّا كان يعرفه عنه من نزعات غير خيّرة، ننقل هنا أكثرها شمولية :

من الحسن بن عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فإنّ الله جلّ جلاله بعث محمداً رحمةً للعالمين، ومنّةً للمؤمنين، وكافّةً للناس أجمعين،( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله حتى توفّاه الله غير مقصّر ولا وان، وبعد أن أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشرك، وخصّ به قريشاً خاصة فقال له :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) ، فلمّا توفيّ تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقّه، فرأت العرب أنّ القول ما قالت

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨ .

١١١

قريش، وأنّ الحجّة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم، ثم حاججنا قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلمّا صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجّتهم، وطلب النَّصَف منهم; باعدونا واستولوا بالإجماع على ظُلمِنا ومَراغمتنا والعَنَت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير .

ولقد كنّا تعجبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبيّنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سببٌ إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكتابه، والله حسيبك، فستردُّ فتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقينَّ عن قليل ربّك، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلاّم للعبيد .

إنّ عليّاً لمّا مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه ـ يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّاً ولاّني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله ألاّ يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامة، وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عَزَّ وجَلَّ في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظّ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدعِ التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس مِن بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله وعند كلّ أوّاب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتّق الله ودعِ البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منك ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك سِرتُ إليك بالمسلمين

١١٢

فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(١) .

وجاء في جواب معاوية على رسالة الإمامعليه‌السلام هذه :

" قد علمتَ أنّي أطول منك ولايةً، وأقدم منك بهذه الأُمة تجربةً، وأكبر منك سنّاً، فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي، ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أيّ كور في العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كلّ سنة، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة، ولا تقضى دونك الأمور، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله "(٢) .

تُصوّر هذه الرسالة بوضوح كيف أنّ مقام الخلافة الإلهية المقدّسة ليس عند معاوية إلاّ سلعةً تُشترى ويُدفع ثمنها من بيت مال المسلمين وليس من مال معاوية الخاص، وهي كذلك تؤكّد تعدّيه أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أمر الله تعالى له في استخلاف أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ونصبهم للإمامة من بعده.

٥ ـ تحرك معاوية نحو العراق وموقف الإمامعليه‌السلام :

وبدأ معاوية يعبّئ جيشه ويكتب لعمّاله بموافاته لغزو العراق، وفي بعض كتبه لعمّاله يذكر أنّ بعض أشراف الكوفة وقادتهم كتبوا إليه يلتمسون منه الأمان لأنفسهم وعشائرهم، وإن صح هذا فهو أول الخذلان الذي ارتكبه أهل الكوفة بحقّ الإمام الحسنعليه‌السلام .

وجاء في مذكرة رفعها معاوية ذات مضمون واحد إلى جميع عمّاله

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٥٦ ـ ٥٥ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٣ .

١١٣

وولاته: " أمّا بعد، فالحمد لله الذي كفاكم مؤونة عدوّكم وقتلة خليفتكم، إنّ الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرّقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان .."(١) .

ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى عمّاله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثّهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبطه، وفي أقرب وقت التحقت به قوىً كبيرة لا ينقصها شيء من العدّة والعدد .

ولمّا توفرت لمعاوية تلك القوة من المضلَّلين وأصحاب المطامع; زحف بهم نحو العراق وتولّى بنفسه قيادة الجيش، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، ومهما كان عدده فقد كان مطيعاً لقوله، ممتثلاً لأمره، منفّذاً لرغباته وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرّار، فلمّا انتهى إلى جسر منبج(٢) أقام فيه، وجعل يحكم أمره .. (٣) .

وبدأ الإمامعليه‌السلام من جانبه يستنهض الكوفة للجهاد والسير لقتال معاوية بعد أن بلغه توجّهه نحو العراق، فبعث حجر بن عدي يأمر العمّال والناس بالتهيّؤ للمسير ونادى المنادي الصلاة جامعة فأقبل الناس يتوثّبون ويجتمعون ، فقال الإمام الحسنعليه‌السلام للمنادي : " إذا رضيتَ جماعة الناس

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨ ـ ٣٩ .

(٢) جسر منبج : بلد قديم، المسافة بينه وبين حلب يومان .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٧١ .

١١٤

فأعلمني" وجاء سعيد بن قيس الهمداني فقال : اخرج فخرج الإمام الحسنعليه‌السلام فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال(١) : "... أمّا بعد، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين :( اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) فلستم ـ أيها الناس ـ نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا المسير إليه فتحرّك لذلك، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة .." فسكتوا(٢) .

٦ ـ استنكار الموقف المتخاذل :

وهكذا وقف أهل الكوفة هذا الموقف المتخاذل من قائدهم وإمامهم، إذ سكتوا حيث طلب منهم الإجابة على ندائه بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فتحوّلت أعينهم وهلعت قلوبهم، فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم الطائي قام فقال : "أنا ابن حاتم، سبحان الله ! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جَدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب؟ أما تخافون مقت الله، ولا عيبها وعارها".

ثم استقبل الإمام الحسن بوجهه، فقال : "أصاب الله بك المراشد وجنّبك المكاره ووفّقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعنا فيما قلت ورأيت وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحبّ أن يوافيني فليواف " ثمّ مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب فركبها ومضى إلى النخيلة

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٦٥، دار الغدير للطباعة والنشر ـ بيروت ـ ط ١٩٧٣.

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ١٩ .

١١٥

وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكراً(١) .

وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم وكلّموا الإمام الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول، فقال لهم الإمام الحسنعليه‌السلام :"صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النيّة والوفاء والقبول والمودّة الصحيحة فجزاكم الله خيراً" (٢) ، ثم نزل وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الإمام الحسنعليه‌السلام إلى المعسكر واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه، فجعل يستحثّهم ويخرجهم حتى يلتئم العسكر وسار الإمامعليه‌السلام في عسكر عظيم وعدّة حسنة حتى انتهى إلى النخيلة .

وهكذا بدأت المسيرة، ولكن دون أن يكون دافع الحركة اختيارياً بتثاقل وإكراه تفرضه طبيعة الموقف المتخاذل، ولولا الصفوة الخيّرة والثلّة المؤمنة; لانقلب ميزان الموقف وانتصرت عوامل الضعف عاجلاً، ولكن موقف هؤلاء المتصلّب المنطلق من إيمانهم الجاد بحكمة القائد ولزوم اتباعه وأحقّيته بالخلافة، كان من أقوى الأسباب التي حفظت للجيش تماسكه وانقياده وبعث النشاط والحماس فيه .

٧ ـ الاتجاهات المتضادة في جيش الإمامعليه‌السلام :

كان جيش الإمامعليه‌السلام يتكوّن من خليط غريب، فقد تجمّعت فيه عدّة اتجاهات مختلفة وعناصر متضادة، ويمكن بالنظرة الأُولى تصنيفه إلى فئات :

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ١٩ ـ ٢٠ .

(٢) المصدر السابق .

١١٦

أ ـ الخوارج : وهم الذين خرجوا عن طاعة الإمام عليّعليه‌السلام وحاربوه وناوؤه ونصبوا له العداوة، فكانوا قد وجدوا من الإمام الحسنعليه‌السلام حلاًّ وسطاً، فانضموا إليه لمحاربة معاوية، وهؤلاء أناس تستثيرهم أدنى شبهة عارضة فيتعجّلون الحكم عليها، وسنرى أنّهم كيف وثبوا على الإمام الحسنعليه‌السلام فيما بعد.

ب ـ الفئة الممالئة للحكم الأموي، وهي على قسمين :

١ ـ وهم الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم ويروي من ظمئهم فيما يحلمون به من مطامع يطمحون إليها، فأضمروا ولاءهم للشام مترقّبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم وتسليم الأمر لمعاوية.

٢ ـ وهم الذين حقدوا على حكومة الكوفة لضغائن في نفوسهم أورثتها العهود السالفة أو حسابات شخصية.

وسنرى فيما بعد خيانة هؤلاء وكتابتهم لمعاوية تزلّفاً وطمعاً في الحظوة عنده.

ج ـ الفئة المتأرجحة، التي ليس لها مسلك معيّن أو جهة خاصة مستقلّة، وإنّما هدفها ضمان السلامة وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر، فهي تترقّب عن كثب إلى أيّ جهة تنقلب الأمور ليميلوا معها.

د ـ الفئة التي تثيرها بعض العصبيات القبلية أو الإقليمية.

هـ ـ الغوغاء، وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس متين.

و ـ الفئة المؤمنة المخلصة، وهي القلّة الخيّرة التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الأخرى المعاكسة لها والمتناحرة فيما بينها .

فجيش الإمامعليه‌السلام خليط لا يربط بين فئاته هدف واحد، وهو معرض للانقسام والتفكّك لدى أيّ بادرة للانقسام من شأنها أن تفسد أيّ خطة مهما

كانت حنكة القائد الذي وضع تلك الخطة، وقد شعر الإمامعليه‌السلام بخطورة هذا الموقف بين هذا الخليط الذي يحمل عوامل الانقسام على نفسه .

١١٧

وذكر السيد ابن طاووس (رضوان الله تعالى عليه) في "الملاحم والفتن" كلاماً يؤثر عنهعليه‌السلام يعبّر عن ضعف ثقته بجيشه، وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد، وذلك في خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن قائلاً : ".. وكنتم في مسيركم إلى صفّين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وأنتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون منّا بثأره، وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر "(١) .

وكان معاوية قد عرف نقاط الضعف التي ابتلي بها جيش الإمامعليه‌السلام ، فرسم للموقف خطة حاسمة ابتكرتها له الظروف الموضوعية من شأنها أن تحسم الأمر بينه وبين الإمام، وذلك بدعوته للصلح والتظاهر بإعطائه الشروط التي يريد، فإن يقبل بذلك فإنّ أَحبولته التي حاكها حول قادة الإمام ورؤساء جيشه كافية لأن تمنع الالتحام بين المعسكرين، وتدفع بالإمام الحسنعليه‌السلام إلى الرضا بالأمر الواقع.

٨ ـ طلائع جيش الإمام الحسنعليه‌السلام :

انتهى الإمام الحسنعليه‌السلام بجيشه إلى النخيلة، فأقام فيها ونظّم الجيش، ثمّ ارتحل عنها وسار حتى انتهى إلى " دير عبد الرحمن " فأقام به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلّفون من جنده، وأرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٧٠ .

١١٨

العدو وإيقافه في محلّه، واختار إلى مقدّمته خلّص أصحابه وخيرة عناصر جيشه، وكان عددهم اثني عشر ألفاً، وأعطى القيادة العامة إلى ابن عمّه عبيد الله بن العباس، وقد زوّده قبل تحرّكه بهذه الوصية القيّمة وهي :

"يابن العمّ! إنّي باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، وألِن لَهُم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنّهم بقية ثقات أمير المؤمنين، وسر بهم على شطّ الفرات، ثمّ امضِ حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك، فإنّي على أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كلّ يوم، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله، وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس "(١) .

٩ ـ خيانة قائد الجيش :

وصل عبيد الله بن العباس إلى " مسكن "(٢) فعسكر فيها، وقابل العدوّ وجهاً لوجه، وعندها بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح، وانطلقت دسائس معاوية تشقّ طريقها إلى المعسكر حيث تجد المجال الخصب بوجود المنافقين ومن يؤثرون العافية، وكانت الشائعة الكاذبة " أنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلِمَ تقتلون أنفسكم ؟ "(٣) .

وارتبك الموقف أمام قائد الجيش وسرت همهمة في الجيش عن

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٧٦ .

(٢) موضع قريب من " أوانا " على نهر الدجيل، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة / ٧٢ هـ .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٤٢ .

١١٩

صدق الشائعة أو كذبها، فبين مصدّق لها وبين مكذّب، وبين من يحاول إثباتها على أيّ حال، ولم يحاول القائد عبيد الله أن يتأكّد من كذب هذه الشائعة وبُعدها عن الواقع، لأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان مشغولاً في تلك الأثناء ببعث الرسل إلى الأطراف وتهيئة الكتائب اللاحقة بالطلائع ومكاتبة معاوية بالحرب وبعث الحماس بخطبه اللاهبة المحرضة على القتال، ولم يكتب في صلح ولم يكن من رأيه آنذاك أبداً .

فَسَرَتْ الحيرة في نفس قائد الجيش ممّا دفعه للانطواء، فأخذ يفكّر في مصيره، وكان قد بلغه تخاذل الكوفيين عن التحرّك نحو المعركة وتباطؤهم عن تلبية نداء الجهاد، فبدت في نفسه بعض التصورات من أنّه في موقف لا يغبط عليه، وأنّ هذه الطلائع من جيش الكوفة والتي تقف في مواجهة جيش الشام المكتظ لا يمكن أن تقاوم تلك الجموع الحاشدة أو تلتحم معها في معركة مع فقدان توازن القوى بينها .

وبينا هو يعيش هذه الحيرة وتلك الأوهام وصلته رسائل معاوية وهي تحمل في طيّاتها عوامل الإغراء التي تمسّ الوتر الحسّاس في نفس ابن عباس من حبّه للتعاظم وتطلّعه للسبق، وكان معاوية قد خبر نقاط الضعف التي يحملها عبيد الله هذا .

وكانت رسالة معاوية تحمل : "أنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلِّم الأمر إليّ، فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعاً، وإلاّ دخلت وأنت تابع" وجعل له فيها ألف ألف درهم(١) .

وكان أسلوب معاوية في حربه مع أعدائه هو استغلال نقاط الضعف في

__________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٤٢ .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206