اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133480 / تحميل: 10038
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

دون بعض، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلاً، تَعْتَعَ بخالد بن الوليد عامله على " قنسرين " إذ بلغه أنّه أعطى الأشعث عشرة آلاف، فأمر به فعقله " بلال الحبشي " بعمامته، وأوقفه بين يديه على رِجل واحدة مكشوف الرأس على رؤوس الأشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص، يسأله عن العشرة آلاف أهي من ماله أم من مال الأُمة؟ فإن كانت من ماله فهو الإسراف والله لا يحبّ المسرفين، وإن كانت من مال الأُمة فهي الخيانة والله لا يحب الخائنين، ثم عزله فلم يولّه بعد حتى مات .

وكم لعمر مع بعض عمّاله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبّعون! لكنّ معاوية كان أثيره وخلّصه، على ما كان من التناقض في سيرتيهما، ما كفّ يده عن شيء ولا ناقشه الحساب في شيء، وربّما قال له : " لا آمرك ولا أنهاك "، يفوّض له العمل برأيه، فشدّة مراقبة الخليفة الثاني ودقّة محاسبته كانت من نصيب بعض عمّاله، ولم تشمل الجميع على حدّ سواء، إذ أنّ معاوية ـ وهو عامله على الشام ـ كان طليق اليدين يفعل ما تشاء أهواؤه وما تبغيه شهواته.

وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه " الأُموية " وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدّد الإسلام باسم الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفع هذا الخطر أمام أمرين لا ثالث لهما : إمّا المقاومة وإمّا المسالمة، وقد رأيا أنّ المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى صراطه المستقيم .

ومن هنا رأى الحسنعليه‌السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك، لكن أخذ عليه في عقد الصلح أن لا يعدو الكتاب

١٤١

والسنّة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الأُموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن، إلى غير ذلك من الشروط التي كان الإمام الحسن عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها وأنّه سيقوم بنقائضها .

هذا ما أعدَّهعليه‌السلام لرفع الغطاء عن الوجه " الأُموي " المموّه، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائغة، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال " الأُموية " كما هم جاهليّون لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّون لم تنسهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقاد بدر وأُحد والأحزاب .

وبالجملة: فإنّ هذه الخطّة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بدّ، أملاه ظرف الإمام الحسنعليه‌السلام ، إذ التبس الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلّحة ضارية، ما كان الحسنعليه‌السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمة هذا البيتعليهم‌السلام يسترشد الرسالة في إقدامه وإحجامه، امتحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً وخرج منها ظافراً طاهراً.

تهيّأ للحسنعليه‌السلام بهذا الصلح أن يفرش في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنّى له أن يلغم نصر الأُموية ببارود الأُموية نفسها، فيجعل نصرها جفاءً وريحَها هباءً .

لم يطل الوقت حتى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : " يا أهل العراق! إنّي والله لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن

١٤٢

ابن علي جعلته تحت قدميّ هاتين"(١) .

ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجر بكلّ ما يخالف الكتاب والسنّة من كلّ منكر في الإسلام، قتلاً للأبرار وهتكاً للأعراض وسلباً للأموال وسجناً للأحرار، ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحرّة، ويوم مكة إذ نصب عليهم العرّادات والمجانيق .

ومهما يكن من أمر فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الإمام الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحول بينهم وبين ما يبيّتون لرسالة جدّه من الكيد، وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأُموية بالجلاء، والحمد لله رب العالمين.

وبهذا استتبّ لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب .

وقد كاناعليهما‌السلام وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها، فالحسنعليه‌السلام لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسينعليه‌السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهاد صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة قبل أن تكون حسينيّة وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أولي الألباب ممّن تعمّق، لأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني، وراجع أيضاً شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦، وتأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٣

المكاره في صورة مستكين قاعد، وكانت شهادة الطفِّ حسنيّة أولاً وحسينيّة ثانياً ; لأنّ الحسن أنضج نتائجها ومهّد أسبابها .

وقد وقف الناس ـ بعد حادثتي ساباط والطفّ ـ يمعنون في الأحداث; فيرون في هؤلاء الأُمويين عصبة جاهلية منكرة، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله . .(١) .

زبدة المخض :

إذن تتلخّص أسباب الصلح فيما يلي :

١ ـ ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم وعدم انصياعهم لأوامره بعد تأثير دسائس معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخط الرسالي أمام مكر معاوية، وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخط وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه .

٢ ـ ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسنعليه‌السلام استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف بعد الامتنان عليهم بالحرّية، وكل هذه النتائج غير محمودة .

فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له، ولا سيَّما إذا اقترن بتصفية الخط الإمامي وإبادته الشاملة .

٣ ـ صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانية أهل البيتعليهم‌السلام وحفظهم من التصفية

__________

(١) راجع مقدمة صلح الإمام الحسن للشيخ راضي آل ياسين .

١٤٤

والإبادة الأُموية الشاملة بعد إحراز بقاء الحقد الأُموي لبني هاشم ومن يحذو حذوهم، كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلامي الدامي .

٤ ـ حقن دماء المسلمين حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية .

٥ ـ كشف واقع المخطّط الأُموي الجاهلي وتحصين الأُمة الإسلامية ضدّه بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أمية على زمام قيادة الأُمة المسلمة والتلاعب بمصير الكيان الإسلامي ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.

٦ ـ ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لمقارعة الكفر والنفاق المستتر من موقع القوّة .

لقد خفيت الأسباب الحقيقية التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهي الذي اتّخذّه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث وعلى بعض اللاحقين من أصحاب الرؤى السطحية أو المُضَلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق، لكن الأحداث التي أعقبت الصلح والسياسات العدوانية التي انتهجها معاوية وبقية الحكام الأُمويين والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسنعليه‌السلام .

١٤٥

البحث الثالث : ما بعد الصلح حتى الشهادة

الاجتماع في الكوفة :

بعد توقيع الصلح بين الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية اتّفقا على مكان يلتقيان به، ليكون هذا اللقاء تطبيقاً عملياً للصلح، وليعترف كلّ منهماعلى سمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده، فاختارا الكوفة فقصدا إليها، وقصدت معهما سيول من الناس غصّت بهم العاصمة الكبرى، وكان أكثر الحاضرين جند الفريقين، تركوا معسكريهما وحفّوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة .

ونودي في الناس إلى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك إلى الخطيبين الموقِّعَيْنِ على معاهدة الصلح، وكان لا بدّ لمعاوية أن يستبق إلى المنبر، فسبق إليه وجلس عليه(١) ، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها إلاّ فقراتها البارزة فقط .

منها : "أمّا بعد، ذلكم فإنّه لم تختلف أُمة بعد نبيّها إلاّ غلب باطلها حقّها !!". قال الراوي : وانتبه معاوية لما وقع فيه، فقال : إلاّ ما كان من هذه الأُمة، فإنّ حقّها غلب باطلها(٢) .

ومنها : "يا أهل الكوفة! أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج

__________

(١) قال جابر بن سمرة : "ما رأيت رسول الله يخطب إلاّ وهو قائم، فمن حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه" رواه الجزائري في آيات الأحكام: ٧٥، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٦

وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ؟ ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين!! ..."(١) .

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب ابن أبي ثابت مسنداً: أنه ذكر في هذه الخطبة عليّاً فنال منه، ثمّ نال من الحسن(٢) .

ثمّ قام الإمام الحسنعليه‌السلام فخطب في هذا الموقف الدقيق خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيتعليهم‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعظ ونصح ودعا المسلمين ـ في أوّلها ـ إلى المحبّة والرضا والاجتماع، وذكّرهم ـ في أواسطها ـ مواقف أهله بل مواقف الأنبياء، ثم ردّ على معاوية ـ في آخرها ـ دون أن يناله بسبٍّ أو شتم، ولكنّه كان بأسلوبه البليغ أوجع شاتم وسابٍّ .

وكان ممّا قالهعليه‌السلام (٣) : "أيّها الذاكر عليّاً ! أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة، وجدّتي خديجة، وجدّتك فُتَيْلَة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً" .

المعارضون للصلح :

أ ـ قيس بن سعد بن عبادة :

اشتهر قيس بموالاة أهل البيتعليهم‌السلام وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام قد عيّنه

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني .

(٢) شرح نهج البلاغة : ٤ / ١٦ .

(٣) نقل نص الخطاب الشيخ آل ياسين في "صلح الإمام الحسن" : ٢٨٦ ـ ٢٨٩ .

١٤٧

والياً على مصر في أوائل خلافته وعندما سمع قيس بن سعد نبأ التوقيع على الصلح بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية غشيته سحب من الأحزان، واستولت عليه موجة من الهموم، لكنّه عاد إلى الكوفة في نهاية المطاف .

وكان معاوية بعد أن خدع عبيد الله بن العباس; قد بعث رسالة إلى قيس يمنّيه ويتوعّده، فأجابه قيس : "لا والله لا تلقاني إلاّ بيني وبينك السيف أو الرمح ..."(١) ، فغضب معاوية لهذا الجواب القاطع فأرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وجاء فيها : "أمّا بعد، فإنّك يهودي تشقى نفسك، وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الجذ، وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران غريباً، والسلام"(٢) .

فأجابه قيس : "أمّا بعد، فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت فيه خرقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك، لم تزل حرباً لله ولرسوله، وحزباً من أحزاب المشركين، وعدوّاً لله ولنبيّه وللمؤمنين من عباده، وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلاّ قوسه، ولا رمى إلاّ غرضه، فشغب عليه من لا تشقّ غباره، ولا تبلغ كعبه، وزعمت أنّي يهوديّ ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أنّي وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ـ يعني الشرك ـ وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام"(٣) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٦٧ .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ .

(٣) نفس المصدر : ٢٦٨ .

١٤٨

ولمّا علم معاوية بعودة قيس إلى الكوفة دعاه إلى الحضور لمبايعته، لكن قيس رفض لأنّه كان قد عاهد الله أن لا يجتمع معه إلاّ وبينهما السيف أو الرمح، فأمر معاوية بإحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبرّ قيس بيمينه ولا يحنث، ووقتذاك حضر قيس الاجتماع وبايع معاوية(١) .

ب ـ حجر بن عدي :

وهو من كبار صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن أبدال عصره، وحسب ابن الأثير الجزري في "اُسد الغابة" وغيره، أنّه وصل مقاماً في القرب إلى الله تعالى بحيث أصبح مستجاب الدعوة، وقد قتل شهيداً في "مرج عذراء" وهي إحدى قرى الشام، بأمر معاوية وبواسطة أزلامه، وقد اندلعت إثر شهادته موجة من الاحتجاجات على سياسات معاوية وحتى ندّدت عائشة وآخرون بالجريمة(٢) .

وبالرغم من الحبّ والولاء اللذين يكنهما "حجر" للإمام الحسن وأبيهعليهما‌السلام ، إلاّ أنّ الانفعالات دفعت به إلى ظلمات اليأس والقنوط في اللحظات التي تمّ فيها قرار الصلح، من هنا خاطب الإمامعليه‌السلام وفي حضور معاوية بقوله : "أما والله لوددت أنّك متّ في ذلك اليوم ومتنا معك، ولم نر هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا" .

وحسب المدائني أنّ كلام "حجر" ترك في نفس الإمام بالغ الأسى والحزن، فانبرىعليه‌السلام وبعد أن فرغ المسجد مبيّناً له العلّة التي صالح من أجلها قائلاً : "يا حجر! قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسان يحبّ ما

__________

(١) راجع لمزيد من التفصيل مقاتل الطالبيين وحياة الإمام الحسن.

(٢) اُسد الغابة : ١ / ٣٨٦ .

١٤٩

تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلتُ إلاّ إبقاءً عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن"(١) .

ج ـ عدي بن حاتم :

وعدي من الشجعان والمخلصين لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد نقل أُنه قال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب : "يابن رسول الله! لوددت أنّي متّ قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحقّ الذي كنّا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنيّة من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا"، فأجابه الإمامعليه‌السلام : "يا عدي! إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيتُ دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن"(٢) .

د ـ المُسيَّب بن نجبة وسليمان بن صُرد :

وعرفا بالولاء والإخلاص لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تألّما من الصلح فأقبلا إلى الإمام وهما محزونا النفس فقالا : ما ينقضي تعجّبنا منك ! بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز"، فقال الإمام للمسيّب : "ما ترى؟" قال : والله أرى أن ترجع لأنّه نقض العهد، فأجابه الإمام : "إنّ الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت ..."(٣) .

وجاء في رواية أخرى أنّ الإمامعليه‌السلام أجابه : "يا مسيّب! إنّي لو أردت ـ بما

__________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ١٥ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٤ .

(٣) مناقب ابن شهر آشوب : ٤ / ٣٥، طبعة قم.

١٥٠

فعلت ـ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب منّي، ولكن أردت صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض"(١) .

إلى يثرب :

بقي الإمام الحسنعليه‌السلام في الكوفة أياماً، ثمّ عزم على مغادرة العراق، والشخوص إلى مدينة جدّه، وقد أظهر عزمه ونيّته إلى أصحابه، ولمّا أذيع ذلك دخل عليه المسيّب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التميمي ليودّعاه، فالتفت لهما قائلاً : "الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا إنّه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلاّ أن تضاموا وتنتقصوا، فأمّا نحن فإنّهم سيطلبون مودّتنا بكلّ ما قدروا عليه" .

وطلب منه المسيّب وظبيان المكث في الكوفة فامتنععليه‌السلام من إجابتهم قائلاً : "ليس إلى ذلك من سبيل"(٢) .

ولدى توجّههعليه‌السلام وأهل بيته إلى عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف(٣) .

وسار موكب الإمام ولكنّه لم يبعد كثيراً عن الكوفة حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يردّه إلى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج قد خرجت عليه، فأبىعليه‌السلام أن يعود وكتب إلى معاوية : "ولو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنّي تركتك لصلاح الأُمة وحقن دمائها"(٤) .

وانتهت قافلة الإمام إلى يثرب، فلمّا علم أهلها بتشريفهعليه‌السلام خفّوا

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٧ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ .

(٣) تحفة الأنام للفاخوري : ٦٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٧ .

١٥١

جميعاً لاستقباله، فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة والرحمة، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ أن نزح أمير المؤمنينعليه‌السلام عنهم .

جاء الحسنعليه‌السلام مع إخوته وأهل بيته إلى يثرب، فاستقام فيها عشر سنين، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ورقيق حنانه وحلمه، ونقدّم عرضاً موجزاً لبعض أعماله وشؤونه فيها .

مرجعية الإمام الحسنعليه‌السلام العلمية والدينيّة :

وتمثّلت في تربيته لكوكبة من طلاّب المعرفة، وتصدّيه للانحرافات الدينية التي كانت تؤدي إلى مسخ الشريعة، كما تصدّى لمؤامرة مسخ السنّة النبويّة الشريفة التي كان يخطّط لها معاوية بن أبي سفيان من خلال تنشيط وضع الأحاديث والمنع من تدوين الحديث النبويّ .

مدرسة الإمام ونشاطه العلمي :

أنشأ الإمام مدرسته الكبرى في يثرب، وراح يعمل مجدّاً في نشر الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء وعظماء المحدّثين والرواة، ووجد بهم خير عون لأداء رسالته الإصلاحية الخالدة التي بلورت عقلية المجتمع وأيقظته بعد الغفلة والجمود، وقد ذكر المؤرّخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم : ابنه الحسن المثنى، والمسيّب بن نجبة، وسويد بن غفلة، والعلا بن عبد الرحمن، والشعبي، ومبيرة بن بركم، والأصبغ بن نباتة، وجابر بن خلد، وأبو الجوزا، وعيسى بن مأمون بن زرارة، ونفالة بن المأموم، وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي، وأبو مريم قيس الثقفي، وطحرب العجلي، وإسحاق بنيسار والد محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن عوف،

١٥٢

وسفين بن الليل، وعمرو بن قيس الكوفيون(١) ، وقد ازدهرت يثرب بهذه الكوكبة من العلماء والرواة فكانت من أخصب البلاد الإسلامية علماً وأدباً وثقافة .

وكما كان يتولّى نشر العلم في يثرب كان يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتأدّب بسنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رفععليه‌السلام منار الأخلاق التي جاء بها جدّه الرسول لإصلاح المجتمع وتهذيبهم، فمن سموّ أخلاقه أنّه كان يصنع المعروف والإحسان حتى مع أعدائه ومناوئيه، وقد بلغه أنّ الوليد بن عقبة قد ألمّ به السقم فمضى لعيادته مع ما عُرف به الوليد من البغض والعداء لآل البيت، فلمّا استقرّ المجلس بالإمام انبرى إليه الوليد قائلاً: "إنّي أتوب إلى الله تعالى ممّا كان بيني وبين جميع الناس إلاّ ما كان بيني وبين أبيك فإنّي لا أتوب منه"(٢) .

وأعرض الإمام عنه ولم يقابله بالمثل، ولعلّه أوصله ببعض ألطافه وهداياه(٣) .

مرجعيّته الاجتماعية :

والتي تمثّلت في عطفه على الفقراء وإحسانه وبذله المعروف، وتجلّت في استجارة المستجيرين به للتخلّص من ظلم الأُمويين وأذاهم .

أ ـ عطفه على الفقراء :

وأخذعليه‌السلام يفيض الخير والبرّ على الفقراء والبائسين، ينفق جميع ما

__________

(١) تاريخ ابن عساكر : ج١٢، صورة فوتوغرافية في مكتبة الإمام أمير المؤمنين .

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٣٦٤ .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ .

١٥٣

عنده عليهم، وقد ملأ قلوبهم سروراً بإحسانه ومعروفه، ومن كرمه أنّه جاءه رجل في حاجة فقال له : "أُكتب حاجتك في رقعة وادفعها إلينا"، فكتبها ذلك الشخص ورفعها إليه، فأمرعليه‌السلام بضعفها له، قال بعض الحاضرين: ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يا بن رسول الله ؟!، فأجابهعليه‌السلام : "بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا من أعطيته بعد مسألة فإنّما أعطيته بما بذل لك من وجهه، وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته، أبكآبة أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد، وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذلك من وجهه فإنّ ذلك أعظم ممّا نال من معروفك" .

لقد كان موئلاً للفقراء والمحرومين، وملجأً للأرامل والأيتام، وقد تقدّمت بعض بوادر جوده ومعروفه التي كان بها مضرب المثل للكرم والسخاء .

ب ـ الاستجارة به :

كانعليه‌السلام في عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كهفاً منيعاً لمن يلجأ إليه، وملاذاً حصيناً لمن يلوذ به، قد كرّس أوقاته في قضاء حوائج الناس، ودفع الضيم والظلم عنهم، وقد استجار به سعيد بن أبي سرح من زياد فأجاره، فقد ذكر الرواة أنّه كان معروفاً بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام فطلبه زياد من أجل ذلك فهرب إلى يثرب مستجيراً بالإمام، ولمّا علم زياد ذلك عمد إلى أخيه وولده وزوجه فحبسهم، ونقض داره، وصادر أمواله، وحينما علم الإمام الحسن ذلك شقّ عليه الأمر، فكتب رسالة إلى زياد يأمره فيها بأن يعطيه الأمان،

١٥٤

ويخلّي سبيل عياله وأطفاله، ويشيّد داره، ويردّ عليه أمواله(١) .

مرجعيّته السياسيّة :

لقد صالح الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية من موقع القوّة، كما نصّت المعاهدة على أن يكون الأمر من بعده للحسن ولا يبغي له الغوائل والمكائد .

إذن من الطبيعي أن يكون الإمام محور المعارضة والشوكة التي تنغّص على بني أمية ومعاوية ملكهم وتكدّر صفوهم، ونجد في أدعية الإمام ولقاءاته بالحاكمين وبطانتهم ورسائله وخطبه نشاطاً سياسياً واضحاً تمثّل في :

أ ـ مراقبته للأحداث ومتابعتها ومراقبة سلوك الحاكمين وعمّالهم، وأمرهم بالمعروف وردعهم عن المنكر، كما لاحظنا في مراسلته لزياد لرفع الضغط عن سعيد بن أبي سرح، ولومه لحبيب بن مسلمة وهو في الطواف على إطاعته لمعاوية(٢) .

ب ـ النشاط السياسي المنظَّم والذي كان يتمثّل في استقباله لوفود المعارضة، وتوجيههم ودعوتهم إلى الصبر، وأخذ الحزم وانتظار أوامر الإمام التي ستصدر في الفرصة المناسبة، كما تمثّل في تأكيده المستمرّ على الدور القيادي لأهل البيتعليهم‌السلام واستحقاقه للخلافة والإمامة .

ويرى الدكتور طه حسين أنّ الإمام قد شكّل حزباً سياسياً حين مكثه في المدينة، وتولّى هو رئاسته وتوجيهه الوجهة المناسبة لتلك الظروف .

ج ـ عدم تعاطفه مع أركان النظام الحاكم بالرغم من محاولاتهم لكسب عطف الإمام أو تغطية نشاطاته أو إدانتها، وقد تمثّل هذا الجانب في رفضه

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ .

(٢) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٣ .

١٥٥

لمصاهرة الأُمويين وفضحه لخططهم وكشفه لواقعهم المنحرف وعدم استحقاق معاوية للخلافة، وتجلّى بوضوح في مناظراته مع معاوية وبطانته في المدينة ودمشق على حدّ سواء، ونكتفي بالإشارة إلى بعض مواقفه .

رفض الإمامعليه‌السلام مصاهرة الأُمويين :

ورام معاوية أن يصاهر بني هاشم ليحوز بذلك الشرف والمجد، فكتب إلى عامله على المدينة مروان بن الحكم أن يخطب ليزيد زينب بنت عبد الله ابن جعفر على حكم أبيها في الصداق، وقضاء دينه بالغاً ما بلغ، وعلى صلح الحيّين بني هاشم وبني أمية، فبعث مروان خلف عبد الله، فلمّا حضر عنده فاوضه في أمر كريمته، فأجابه عبد الله : إنّ أمر نسائنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه، فأقبل مروان إلى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله، فقالعليه‌السلام : "اجمع مَن أردت" فانطلق مروان فجمع الهاشميّين والأُمويين في صعيد واحد وقام فيهم خطيباً، وبيّن أمر معاوية له .

فردّ الإمامعليه‌السلام عليه، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : "أمّا ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق فإنّا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهله وبناته(١) ، وأمّا قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهن ؟ وأمّا صلح الحيّين فإنّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا ..." .

وفي ختام كلمته قال الإمامعليه‌السلام : "وقد رأينا أن نزّوجها (يعني زينب) من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر، وقد زوّجتها منه، وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة، وقد أعطاني معاوية بها عشرة آلاف دينار" .

__________

(١) كانت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مهر أزواجه وبناته أربعمئة درهم .

١٥٦

ورفع مروان رسالة إلى معاوية أخبره بما حصل، فلمّا وصلت إليه قال : "خطبنا إليهم فلم يفعلوا، ولو خطبوا إلينا لما رددناهم"(١) .

من مواقف الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية وبطانته :

أ ـ مع معاوية في المدينة :

روى الخوارزمي أنّ معاوية سافر إلى يثرب فرأى تكريم الناس وحفاوتهم بالإمام وإكبارهم له ممّا ساءه ذلك، فاستدعى أبا الأسود الدؤلي والضحّاك بن قيس الفهري، فاستشارهم في أمر الحسن وأنّه بماذا يوصمه ليتّخذ من ذلك وسيلة للحطّ من شأنه والتقليل من أهميّته أمام الجماهير، فأشار عليه أبو الأسود بالترك قائلاً :

"رأي أمير المؤمنين أفضل، وأرى ألاّ يفعل فإنّ أمير المؤمنين لن يقول فيه قولاً إلاّ أنزله سامعوه منه به حسداً، ورفعوا به صعداً، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، أحضر ما هو كائن جوابه، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنوبك(٢) ، ويبدي به عيوبك، فإنّ كلامك فيه صار له فضلاً، وعليك كلاً، إلاّ أن تكون تعرف له عيباً في أدب، أو وقيعة في حسب، وإنّه لهو المهذّب، قد أصبح من صريح العرب في عزّ لُبابها، وكريم محتدها، وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين" .

وقد أشار عليه أبو الأسود بالصواب، ومنحه النصيحة، فأيّ نقص أو عيب في الإمام حتى يوصمه به، وهو المطهّر من كلّ رجس ونقص كما نطق

__________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٢٤ .

(٢) الظنوب : العظم اليابس من الساق .

١٥٧

بذلك الذكر الحكيم؟ ولكنّ الضحّاك بن قيس قد أشار على معاوية بعكس ذلك فحبّذ له أن ينال من الإمام ويتطاول عليه قائلاً : "امضِ يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك، فإنّك لو رميته بقوارص كلامك ومحكم جوابك لذلّ لك كما يذلّ البعير الشارف(١) من الإبل" .

واستجاب معاوية لرأي الضحّاك، فلمّا كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيّد المسلمين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فانتقصه، ثم قال :

"أيّها الناس! إنّ صبية من قريش ذوي سفه وطيش وتكدّر من عيش أتعبتهم المقادير، فاتّخذ الشيطان رؤوسهم مقاعد، وألسنتهم مبارد، فأباض وفرخ في صدورهم، ودرج في نحورهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، وأعمى عليهم السُبل، وأرشدهم إلى البغي والعدوان والزور والبهتان، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) وكفى لهم مؤدّباً، والمستعان الله" .

فوثب إليه الإمام الحسن مندفعاً كالسيل رادّاً عليه افتراءه وأباطيله قائلاً :

"أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن نبيّ الله، أنا ابن من جعلت له الأرضُ مسجداً وطهوراً، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، أنا ابن من بعث إلى الجنّ والإنس، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين" .

__________

(١) البعير الشارف : المسنّ الهرم .

١٥٨

وشقّ على معاوية كلام الإمام فبادر إلى قطعه قائلاً : "يا حسن! عليك بصفة الرطب"، فقالعليه‌السلام :"الريح تلقحه والحرّ ينضجه، والليل يبرده ويطيبه، على رغم أنفك يا معاوية" ثم استرسلعليه‌السلام في تعريف نفسه قائلاً :

"أنا ابن مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، ويقرع باب الجنّة، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبيّ قبله، أنا ابن من نصر على الأحزاب، أنا ابن من ذلّت له قريش رَغماً" .

وغضب معاوية واندفع يصيح : "أما أنّك تحدّث نفسك بالخلافة" .

فأجابه الإمامعليه‌السلام عمّن هو أهل للخلافة قائلاً :"أمّا الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنَّة نبيّه، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطّل السنّة، إنّما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكاً فتمتّع به، وكأنّه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه" .

وراوغ معاوية، وانحط كبرياؤه فقال : "ما في قريش رجل إلاّ ولنا عنده نِعَم جزيلة ويد جميلة" .

فردّعليه‌السلام قائلاً :"بلى، من تعزّزت به بعد الذلّة، وتكثّرت به بعد القلّة" .

فقال معاوية : "من أُولئك يا حسن ؟"، فأجابه الإمامعليه‌السلام :"من يلهيك عن معرفتهم" .

ثم استمرعليه‌السلام في تعريف نفسه إلى المجتمع فقال :

"أنا ابن من ساد قريشاً شاباً وكهلاً، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلاً، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق، والفرع الباسق، والفضل السابق، أنا ابن من رضاه رضى الله، وسخطه سخطه، فهل لك أن تساميه يا معاوية ؟" ، فقال معاوية : أقول لا تصديقاً لقولك، فقال الحسن :"الحق أبلج، والباطل لجلج، ولم يندم من ركب الحقّ، وقد خاب من ركب الباطل :

والحقّ يعرفه ذوو الألباب )

فقال معاوية على عادته من

١٥٩

المراوغة : لا مرحباً بمن ساءك(١) .

ب ـ في دمشق :

اتفق جمهور المؤرّخين على أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد وفد على معاوية في دمشق، واختلفوا في أنّ وفادته كانت مرةً واحدةً أو أكثر، وإطالة الكلام في تحقيق هذه الجهة لا تغنينا شيئاً، وإنّما المهم البحث عن سرّ سفره، فالذي نذهب إليه أنّ المقصود منه ليس إلاّ نشر مبدأ أهل البيتعليهم‌السلام وإبراز الواقع الأُموي أمام ذلك المجتمع الذي ضلّله معاوية وحرّفه عن الطريق القويم، أمّا الاستدلال عليه فإنّه يظهر من مواقفه ومناظراته مع معاوية، فإنّه قد هتك بها حجابه .

أمّا الذاهبون إلى أنّ سفره كان لأخذ العطاء فقد استندوا إلى إحدى الروايات الموضوعة فيما نحسب، وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها; لأنّ الإمام قد عرف بالعزّة والإباء والشمم، على أنّه كان في غنىً عن صلات معاوية; لأنّ له ضياعاً كبيرة في يثرب كانت تدرّ عليه بالأموال الطائلة، مضافاً إلى ما كان يصله من الحقوق التي كان يدفعها خيار المسلمين وصلحاؤهم.

على أنّ الأموال التي كان يصله بها معاوية على القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله، فقد ورد أنّه لم يكن يأخذ منها مقدار ما تحمله الدابة بفيها(٢) .

وروى الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : "أنّ الحسن والحسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان"(٣) .

__________

(١) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ عن الخوارزمي .

(٢) جامع أسرار العلماء ، مخطوط بمكتبة كاشف الغطاء العامة .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية، فإنّ أقصى ما في هذه، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي، بقصة موسى وفرعون، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة، وعدم انتهائها بآية ثانية، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر ـ ١٥ ).

قال المستدل في فرائده: إنّ قوله سبحانه:( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة(١) .

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

١. الظاهر من « الروح » هو الوحي(٢) فاستعير له الروح، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

__________________

(١) الفرائد: ص ٣١٣ وص ١٢٦ من الطبعة الحجرية.

(٢) وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة، وما اخترناه هو الأولى، فتدبر.

١٨١

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى ـ ٥٢ ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ ٨٥ ).

٢. يوم التلاق: إنّما هو يوم لقاء الله، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود، وأهل الأرض والسماء، كما يوضحه ما بعد الآية:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر ـ ١٦ ).

والمراد من قوله:( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه، ويجزي المحسن والمسيء، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها، بلا نظر إلى زمان النسبة، سواء أكان الماضي، أم الحال أم المستقبل، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

وعلى هذا، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ). أو يطعن ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف ـ ٣١ ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض، التعبير بالماضي، أو المضارع، فسواء أقال: « القى الروح » أم قال:( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف، والمقصد الأسنى ،

١٨٢

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب، فيجيب الملك بقوله: إنّ الامر بيدنا، نقدم من نشاء، ونؤخر من نشاء، نرفع من نشاء ونضع من نشاء

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل، متمسكاً بأنّه قال: « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل: « قدمت ».

لا، ليس لك ولا لغيرك هذا، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول: إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد: إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع، والعلم بأنّه خلاف دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار(١) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ٣٩.

١٨٣

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم(١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب، إلى أن قال: يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامة للخلق، ولقوله تعالى:( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ـ ٤٧ ).

الثانية: قوله سبحانه:( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إلّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس ـ ٤٩ ).

تقرير هذه الشبهة أنّ الله حدد حياة الاُمم بحد خاص، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم، فلها أجل خاص، ومدة محدودة، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم(٢) .

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين: أمّا الآية الاُولى، أعني قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ الله سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

__________________

(١) اللوامع الالهية في المباحث الكلامية: ص ٢٢٥.

(٢) الفرائد: ص ١٧ الطبعة الحجرية.

١٨٤

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها، فالآية غير ناظرة إليه، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام، لا، لا تجده من نفسك، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية، فكشف الغطاء عن محيا الحق، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة، فنقول :

قال الراغب: الاُمّة، كل جماعة يجمعهم أمر ما: أمّا دين، أو مكان، أو زمان، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً(١) .

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني، كما في قوله سبحانه:( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة ـ ١٢٨ ) وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣ مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال: أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة، لاطلاقها على الجماعة.

١٨٥

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٤ ) وفسّرها المفسّرون بلازم المعنى وقالوا: بعد حين، أي بعد انقضاء أهل عصر، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة، ومثله قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود ـ ٨ ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى، وقال: إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني: نحو قوله سبحانه:( ولـمّاوَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص ـ ٢٣ ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه:( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف ـ ١٦٠ ).

وقوله:( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ) ( الأعراف ـ ١٦٨ ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية، إلّا أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل ـ ١٢٠ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

١٨٦

كقوله سبحانه:( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ ٣٨ ).

فعدّ الله كل صنف من الدواب والطيور اُمماً، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق، فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة: الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه، في الكتاب والسنّة، وهو الطريقة والدين، كقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٢ ) وقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٣ ).

قال الجوهري في صحاحه: الاُمّة، الطريقة والدين، يقال لا اُمّة له، أي لا دين ونحلة، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور

وقال الفيروز آبادي: الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلّا في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣.

١٨٧

فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه: فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) إذ يجب حينئذ أن يقول: فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة(١) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني: أعني الجماعة، التي يربطهم في الحياة أمر ما، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم، فلا إمهال ولا تأخير، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة(٢) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً، أو عنصراً، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه، وأوضحناه، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٣) *مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

__________________

(١) سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.

(٢) وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».

(٣) أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

١٨٨

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر ٤ ـ ٥ )، وقوله سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ *مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون ٤٢ ـ ٤٣ ).

وقريب منه قوله سبحانه:( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون: ١٠ ـ ١١ )، وقوله سبحانه:( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح ـ ٤ ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع، وانتهاء أمدها، بل قصر استعماله على موارد اُخرى، لبيان آجال الديون، والعقود كقوله تعالى:( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

وقوله سبحانه:( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد ـ ٢ ).

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فيحتمل وجوهاً :

١. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً، كتب وفرض في ذلك الأجل، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

٢. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

١٨٩

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

٣. انّ المراد منه: انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

٤. انّ لكل أمر قضاه الله كتاب كتب فيه، وأبعد الوجوه هو الأخير، إذ هو تفسير بالأعم، وهو سبحانه يقول:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فلقد كانوا يقترحون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الآيات، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً، كتبه الله لذلك الوقت، ولا يجري إلّا فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً، إلّا على الوجه الثاني، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً، والحكم ليس نفس الدين والشريعة، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة، إذ لنا أن نقول: إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان، في أديم الأرض وقيام القيامة، وحضور الساعة، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

١٩٠

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول الله :

هلم نسأله، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أنّه بعد ما نزلت آية:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابه بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم(١) .

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

نعم تفسير اليوم بألف عام، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج ـ ٤٧ ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة، استناداً إلى قوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج ـ ٤ ).

وأمّا ما رواه العلّامة المجلسي، مسنداً عن كعب الأحبار، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام، من الحديث، فمما لا يقام له وزن، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

__________________

(١) الفرائد: صفحة ١٧ الطبعة الحجرية.

(٢) ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام ٩٥٥ ه‍ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق: انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال، ثمّ نزول عيسى، وخروج الدابة و حتى لو لم يبق من الدنيا إلّا مقدار يوم واحد، فوقع ذلك كلّه، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته: وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه، أعاذنا الله منه ) من اليوم الذي وعد به رسول الله بقوله في اُمّته: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج ٢ ص ١٦٠ ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

١٩١

كذّاب مدلس، لم تخرج اليهودية من قلبه، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى الولي، فكيف يكون حجّة ؟

ثمّ إننا نسأل صاحب الفرائد(١) ومن مشى مشيه، ونقول: إنّ رسول الله قال ( بزعمكم ): إن صلحت اُمّتي فلها يوم فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام، وازدهر فيهم العدل والإحسان، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام، التي هي نصف يوم، من اليوم الربّاني، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي الله الأعظم، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل الله فرجه ) لا عام بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو هجرته أو وفاته، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني، عام غيبة الولي، أعني عام ٢٦٠ من الهجرة النبوية، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب(٢) على اختتام ألف عام(٣) .

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى، مفتتح عام ١٢٦٠ من الهجرة النبوية.

__________________

(١) أبو الفصل الجرفادقاني.

(٢) المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.

(٣) فالرجل قد وضع فكرة معينة، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن

١٩٢

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور ـ ٢٥ ).

قال: إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم، كما قال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي(١) .

الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر(٢) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي، فسّره في مجمعه بقوله: يتم الله لهم جزائهم الحق، فالدين بمعنى الجزاء(٣) ، وقال الزمخشري: الحق، صفة الدين وهو الجزاء(٤) لا الطريقة والشريعة.

__________________

كلّ هوى وميل شخصي، ويتابع النصوص ومفادها، فما أدت إليه بعد التمحيص، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

(١) الفرائد: صفحة ١٢٢ الطبعة الحجرية.

(٢) فقد ألّف « الفرائد » بمصر، أيام اقامته هناك، وفرغ منه عام ١٣١٥.

(٣) مجمع البيان: ج ٧ ص ١٣٤.

(٤) الكشّاف: ج ٣ ص ٢٢٣.

١٩٣

وليت الكاتب، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية، فهل هذا اليوم إلّا يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم الله جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ويوفي الله دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، لإستعظام ما ركبوا من ذلك، وما أقدموا عليه، إذ قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور: ٢٣ ـ ٢٥ ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

١. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

٢. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

٣. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته، وأرخى قلمه ولسانه، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم، وهي الاستدلال

١٩٤

بالآية التالية:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة ـ ٥ ).

فقد فسّر صاحب الفرائد(١) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين، ورفضه في مراحل الحياة، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي، مدلهمّة بالخطايا، مريضة بشيوع الفساد والفوضى، فيبعث الله عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلّا يوماً ربّانياً، وهو ألف سنة ممّا تعدون(٢) .

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة، لا يصح إلّا بعد تسليم اُمور، لم يسلم واحد منها :

١. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

٢. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

٣. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل: فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض، باحدى

__________________

(١) الفرائد الطبعة الحجرية.

(٢) ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي الله الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً، إلّا بتحريف كلام الله وتأويله السخيف.

١٩٥

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت: التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها، كما قال سبحانه:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات ـ ٥ ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد ـ ٢٤ ).

وقوله سبحانه:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص ـ ٢٩ ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعد عليه النار وقال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(١) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال: إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها، كما يقال أمرته: إذا كلّفته، فيصح تفسيره بالشريعة، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب: انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود، فإنّ كل ما يسيطر على العالم، من نظام وسنن وقوانين، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

١٩٦

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس: ٨٢ ـ ٨٣ ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

١. لفظ التدبير، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض، على وجه تقتضيه المصلحة، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة، فلا السماء تسقط على الأرض، ولا الأرض تنخسف بنا، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً، إلى غير ذلك من سنن ونظم

٢. سياق ما تقدمها من الآيات، فإنّ محور البحث في سابقها، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة ـ ٤ ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة، وأنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية، ولكن أوامره سبحانه، أوامر تكوينية، لا يقوم بوجهها شيء، فما قال له كن، فيكون، بلا تراخ ولا تمرّد.

١٩٧

٣. الآيات المنزّلة في هذا المضمار، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ ٣ ).

وقوله سبحانه:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) ( يونس ـ ٣١ ).

وقوله سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد ـ ٢ ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ ٥٤ ) هو أمر الخليقة، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة: فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ ٤ ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

١٩٨

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء، بل كل ما يستفاد، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلّا بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب(١) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلّا عام غيبة الإمام، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى، فقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه، فينتقض كلامه من جانب آخر، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

__________________

(١) فقد اتفقت غيبة الإمام عام ٢٦٠، وادّعى الباب ما ادّعى، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة ١٢٦٠.

١٩٩

النسخ التدريجي عام فوت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العصور التي جاءت من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها، فتصافقوا على تجاهل النص، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة(١) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع، ونسخ جميعها.

__________________

(١) هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206