اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)36%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133368 / تحميل: 10022
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قال عبدالرحمن بن صالح الأزدي: زار الرشيد قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم يفتخر بذلك، فتقدّم موسى بن جعفر فقال السلام عليك يا ابة، فتغير وجه الرشيد وقال: الفخر حقاً يا أبا حسن.

وقال النسابة يحيى بن جعفر العلوي المدني، وكان موجوداً بعد الثلاثمائة كان موسى يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخياً يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها الألف دينار، وكان يصرر الصرر مائتي دينار وأكثر ويرسل بها، فمن جاءته صرة استغنى.

قلت: هذا يدلّ على كثرة اعطاء الخلفاء العباسيين له، ولعل الرشيد ما حبسه إلاّ لقولته تلك: السلام عليك يا ابة، فان الخلفاء لا يحتملون مثل هذا.

روى الفضل بن الربيع، عن أبيه: ان المهدي حبس موسى بن جعفر، فرأى في المنام علياً وهو يقول:( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) (١) قال: فأرسل إلي ليلا، فراعني ذلك، وقال: علي بموسى، فجئته به، فعانقه وقص عليه الرؤيا وقال تؤمنني أن تخرج علي وعلى ولدي؟ فقال: والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني، قال: صدقت، واعطاه ثلاثة آلاف دينار وجهزه إلى المدينة.

ــــــــــــــــــــ

(١) محمد ٤٧: ٢٢.

٤١

عبدالله بن أبي سعد الوراق، حدّثني محمد بن الحسين الكناني، حدّثني عيسى بن مغيب القرطي قال: زرعت بطيخاً وقثاء في موضع بالجوانيه على بئر، فلما استوى بيته الجراد فأتى عليه كله، وكنت عرضت عليه مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر فسلم ثم قال: ايش حالك؟ فقلت: اصبحت كالعديم بيتني الجراد، فقال: يا عرفة ـ علامه ـ زن له مائة وخمسين ديناراً ثم دعا لي فيها، فبعث منها بعشرة آلاف درهم.

مات موسىرضي‌الله‌عنه في شهر رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل سنة ست، والأول أصح.

وعاش بعضاً وخمسين سنة كأبيه وجده وجد أبيه وجد جده، ما في الخمسة من بلغ الستين".

وقال أيضاً في كتابه العبر في خبر من غبر، طبع معهد المخطوطات في الكويت ١٩٦٠، ج١ ص٢٨٧:

"وفيها (أي سنة ثلاث وثمانين ومائة توفى) السيد أبو الحسن موسى الرضا، ولد سنة ثمان وعشرين ومائة، روى عن أبيه.

قال أبو حاتم: ثقة امام من أئمة المسلمين.

وقال غيره: اقدمه الرشيد معه من المدينة فحبسه ببغداد ومات في الحبس(رحمه الله).

وكان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر".

قول عماد الدين القرشي الدمشقي

١٤ ـ قال الحافظ عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، المتوفى سنة ٧٧٤، في كتاب البداية والنهاية في التاريخ، مطبعة السعادة مصر، ج١٠ ص١٨٣:

"موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو

الحسن الهاشمي، ويقال له الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة.

وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد انه يؤذيه ارسل إليه بالذهب والتحف، ولد له من الذكور والاناث أربعون نسمة.

٤٢

واهدى له مرة عبد عصيدة، فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار واعتقه ووهب المزرعة له.

وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له: يا محمد( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) (١) ، فاستيقظ مذعوراً وأمر به خارج من السجن ليلا، فاجلسه معه وعانقه وأقبل عليه وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي، فقال: صدقت، وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فرد إلى المدينة فما أصبح الصباح إلاّ وهو على الطريق.

فلم يزل بالمدينة حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم، فقال موسى: السلام عليك يا ابت، فقال الرشيد: هذا هو الفخر يا ابا الحسن.

ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وستين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إليه موسى رسالة يقول فيها: أما بعد يا أمير المؤمنين انه لم يقتص عني يوم البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يقضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون.

توفى لخمس بقين من رجب من هذه السنة ببغداد، وقبره هناك مشهور".

ــــــــــــــــــــ

(١) محمد ٤٧: ٢٢.

٤٣

قول محمد بن شاكر الكتبي

١٥ ـ قال محمد بن شاكر الكتبي المتوفى سنة ٧٦٤ في كتابه فوات الوفيات طبع دار صادر بيروت، ج١ ص٢٩٧ ـ ٢٩٨:

"جعيفران الموسوس بن علي بن اصفر بن السرى بن عبدالرحمن الانباري من ساكني سامراء، ومولده ببغداد، وكان أبوه من أبناء جند خراسان، وظهر لابيه انه يختلف إلى بعض سراريه، فطرده، وحج تلك السنة، وشكا ولده إلى موسى بن جعفر الكاظم، فقال له موسى: ان كنت صادقاً عليه فليس يموت حتى يفقد عقله، وان كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك ولا تطعمه شيئاً من مالك في حياتك وأخرجه عن ميراثك.

وسأل الفقهاء ممن حيله تخرجه عن ميراثه فدلوه على الطريق في ذلك، فاشهد عليه أبا يوسف القاضي.

فلما مات أبوه احضر القاضي الوصي وسأل جعيفران عن نسيه وتركه أبيه وأقام بينة عدولا، فاحضر الوصي بينة عدولا فشهد على أبيه بما كان احتال على منعه ميراثه، فلم ير أبو يوسف ذلك، وعزم على ان يورثه، فقال الوصي: أنا ادفع هذا عن الميراث بحجة واحدة، فأبى أبو يوسف أن يسمع منه، وجعيفران يقول قد ثبت عندك أمري فلا تدفعني، فاستمهل الوصي إلى غد، وكتب في رقعة خبره ما قاله موسى بن جعفر، ودفعها لمن دفعها إلى القاضي، فلما قراها دعا الوصي فاستحلفه على ذلك، فحلف باليمين الغموس، فقال: تعال غدا مع صاحبك فحضرا إليه، فحكم أبو يوسف للوصي، فلما امض الحكم وسوس جعيفران واختلط، وكان إذا تاب إليه عقله قال الشعر الجيد...".

٤٤

قول أبو محمد اليافعي اليمني المكي

١٦ ـ قال أبو محمد بن عبدالله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي، المتوفى سنة ٧٦٧هـ، في كتابه مراة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، طبع منشورات الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الثانية ١٣٩٠هـ، اوفست عن الطبعة الأولى بمطبعة دائرة المعارف النظامية الكائنة بمدينة حيدرآباد الركن سنة ١٣٣٧هـ، ج١ ص٣٩٤:

"وفيها (أي: سنة ١٨٣هـ) توفى السيد أبو الحسن موسى الكاظم ولد جعفر الصادق.

كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر، وهو أحد الائمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الامامية.

وكان يدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخياً كريماً كان يبلغه عن الرجل انه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيما الف دينار، وكان يسكن المدينة، فاقدمه المهدي بغداد فحبسه، فرأى في النوم ـ اعني: المهدي ـ علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه وهو يقول: يا محمد( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) (١) .

قال الربيع: وارسل الى المهدي ليلا، فراعني ذلك فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية ـ وكان أحسن الناس صوتاً ـ وقال: علي بموسى بن جعفر فجئته به، فعانقه واجلسه إلى جانبه وقال: يا ابا الحسن أني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه في النوم يقرأ علي كذا، فتومنني ان تخرج علي أو على أحد من أولادي، فقال: والله لا فعلت ذلك وما هو من شأني قال: صدقت، اعطوه ثلاثة آلاف دينار، وردوه إلى أهله إلى المدينة، قال الربيع فأحكمت أمره ليلا، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق خوف العوائق.

ــــــــــــــــــــ

(١) محمد ٤٧: ٢٢.

٤٥

ثم ان هارون الرشيد حبسه في خلافته إلى أن توفى في حبسه.

وروى ان هارون كان زار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: السلام عليك يا ابن العم مفتخراً بذلك، فقال موسى الكاظم: السلام عليك يا ابة، فتغير وجه هارون.

وروى ان هارون الرشيد قال: رأيت في المنام كان حسيناً(١) قد أتاني ومعه حربة وقال: ان خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلاّ نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه واعطه ثلاثين الف درهم، وقل له: ان احببت المقام قبلنا فلك ما تحب وان احببت المضي إلى المدينة فالاذن في ذلك لك، فلمّا اتاه واعطاه ما أمره به قال له موسى الكاظم: رأيت في منامي ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أتاني فقال: يا موسى حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فانك لا تبيت هذه الليلة في الحبس فقلت: بأبي وأمي ما أقول؟ قال لي: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، وياكسي العظام لحماً، ويا منشرها بعد الموت أسألك باسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا اناءة لا يقوى على اناءته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع ابداً ولا يحصى عدداً، فرج عني.

وله اخبار شهيرة ونوارد كثيرة".

قول شهاب الدين التويري

١٧ ـ قال شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب التويري، المتوفى سنة ٧٣٣، في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب، طبع المجلس الاعلى للثقافة القاهرة ١٤٠٤هـ، ج٢٢ ص١٣٣ ـ ١٣٤:

"وفيها (أي: سنة ثلاث وثمانين ومائة) توفى موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد، وكان سبب حبسه: ان الرشيد اعتمر في شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة، فلما عاد إلى المدينة دخل قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الناس، فلما انتهى إلى القبر الشريف وقف فقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم ـ قال ذلك افتخاراً على من

ــــــــــــــــــــ

(١) في المصدر الناقلة لهذه القصة: حبشياً.

٤٦

حوله ـ فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا ابت، فتغير وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا ابا الحسن جداً، ثم أخذه معه إلى العراق فحبسه عند السندي بن شاهك حتى مات.

وكان رجلا صالحاً خيراً ديناً يقوم الليل كله، وهو الملقّب بالكاظم، لقب بذلك لاحسانه لمن أساء إليه".

قول شهاب الدين العسقلاني

١٨ ـ قال شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، في كتابه تهذيب التهذيب(١) ، الطبعة الأولى سنة ١٣٢٧ بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند بمحروسة حيدرآباد الدكن ج١٠ ص٣٣٩ ـ ٣٤٠ قم ٥٩٧:
"موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو الحسن المدني الكاظم، روى عن أبيه وعبدالله بن دينار وعبدالملك بن قدامة الجمحي، وعنه أخواه علي ومحمد، وأولاده: ابراهيم وحسين واسماعيل وعلي الرضي، وصالح بن يزيد، ومحمد بن صدقة العنبري.

قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين.

قال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة: كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده.

وقال الخطيب: يقال: انه ولد بالمدينة في سنة ١٢٨هـ واقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة، وأقام بها إلى أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفاً من عمرة رمضان سنة ٧٩، فحمله معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفى في محبسه.

وقال محمد بن صدقة العنبري: توفى سنة ١٨٣، وقال غيره: في رجب

ــــــــــــــــــــ

(١) هذا الكتاب مختصر لكتاب تهذيب الكمال، وتهذيب الكمال مختصر لكتاب الكمال في أسماء الرجال.

٤٧

ومناقبه كثيرة.

قلت: ان ثبت ان مولده سنة ٨ فروايته عن عبدالله بن دينار منقطعة عبدالله بن دينار توفى سنة ٢٧".

وقال ايضاً في كتابه تقريب التهذيب(١) ، طبع المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ج٢ ص٢٨٠ رقم ١٤٤٤:

"موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، أبو الحسن الهاشمي، المعروف بالكاظم، صدوق عابد، من السابعة، مات سنة ثلاث وثمانين"(٢) .

قول جمال الدين الأتابكي

١٩ ـ قال جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الاتابكي المتوفى سنة ٨٧٤هـ، في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب في مصر، ج٢ ص١١٢:

"وفيها (أي في سنة ١٨٣هـ) توفى الامام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن السيد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

كان موسى المذكور يدعى العبد الصالح لعبادته، وبالكاظم لعلمه ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، وكان سيداً عالماً فاضلا سنياً جواداً ممدوحاً مجاب الدعوة".

قول الداعي إدريس عماد الدين

٢٠ ـ قال الداعي ادريس عماد الدين المتوفى سنة ٨٧٢، في كتابه تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب (القسم الخاص من كتاب عيون الأخبار) طبعة دار المغرب الاسلامي بيروت ١٩٨٥م ص٤٦ ـ ٤٧:

ــــــــــــــــــــ

(١) هذا الكتاب هو مختصر لكتاب تهذيب التهذيب للمؤلف، فيه زيادات في رجاب مصنفات أصحاب الكتب الستة غير الاصول.

(٢) ومائة.

٤٨

"روى عن عبدالرحمن بن بكار انه قال: حججت فدخلت المدينة فأتيت مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرأيت الناس مجتمعين على مالك بن أنس يسألونه ويفتيهم، فقصدت نحوه، فإذا أنا برجل وسيم حاضر في المسجد وحوله حفدته يدفعون الناس عنه، فقلت لبعض من حوله: من هذا؟ قالوا موسى بن جعفر فتركت مالكاً وتبعته، ولم ازل اتطلف حتى لصقت به، فقلت: يا ابن رسول الله، اني رجل من المغرب من شيعتكم وممن يدين الله بولايتكم قال لي: اليك عني يا رجل فانه قد وكل بنا حفظة اخافهم عليك.

قلت: يسلم الله وانما أردت أن أسألك، فقال: سل عما تريد، قلت: انا قد روينا عن(١) المهدي منكم، فمتى يكون قيامه؟

قال: ان مثل من سألت عنه كمثل عمود سقط من السماء رأسه في المغرب واصله في المشرق، فمن أين ترى العمود يقوم إذا أقيم؟ قلتد من قبل رأسه، قال: فحشبك من المغرب يقوم واصله من المشرق، وهناك يستوي قيامه ويتم أمره".

قول أبو الفلاح الحنبلي

٢١ ـ قال أبو الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي، المتوفى سنة ١٠٨٩هـ في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت لبنان، ج١ ص٣٠٤ ـ ٣٠٥:

"وفيها (أي: في سنة ١٨٣هـ) توفى السيد الجليل أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ووالد علي بن موسى الرضا، ولد سنة ١٢٨هـ، روى عن أبيه.

قال أبو حامد: ثقة إمام من أئمة المسلمين.

وقال غيره: كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر، بلغه عن رجل

ــــــــــــــــــــ

(١) كذا، الظاهر: ان.

٤٩

الاذى له فبعث بألف دينار، وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين على اعتقاد الامامية.

سكن المدينة، فأقدمه المهدي بغداد وحبسه، فرأى المهدي في نومه علياً كرم الله وجهه وهو يقول له: يا محمد( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) (١) فاطلقه على ان لا يخرج عليه ولا على أحد من بنيه واعطاه ثلاث آلاف ورده إلى المدينة.

ثم حبسه هارون الرشيد في دولته، ومات في حبسه.

وقيل: ان هارون قال: رأيت حسيناً في النوم قد اتى بالحربة وقال: ان خليت عن موسى هذه الليلة وإلاّ نحرتك بها فخلاه واعطاه ثلاثين ألف درهم.

وقال موسى: رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لي: يا موسى حبست ظلماً، فقل هذه الكلمات لا تبت هذه الليلة في الحبس:

يا سامع كل صوت، يا سائق(٢) الفوت، ياكسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك باسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع ابداً فرج عني.

واخباره كثيرة شهيرةرضي‌الله‌عنه ".

قول الشيخ سيد الشبلنجي

٢٢ ـ قال الشيخ سيد الشبلنجي المدعو بمومن، في كتابه نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار، طبع مكتبة الجمهورية العربية مصر، ص١٤٨ ـ ١٥٢:

"فصل: في ذكر مناقب سيدنا موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله

ــــــــــــــــــــ

(١) محمد ٤٧: ٢٢.

(٢) كذا، وفي بعض المصادر: يا سابق.

٥٠

عنهم:

أمه أم ولد يقال لها حميدة البربرية.

ولد موسى الكاظم بالابواء سنة ثمان وعشرين ومائة من الهجرة.

وكنيته أبو الحسن.

والقابه كثيرة، اشهرها الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والامين.

صفته: اسمر عقيق.

شاعره: السيد الحميري.

بوابه محمد بن الفضل.

نقش خاتمه: الملك لله وحده.

قال بعض أهل العلم: الكاظم هو الإمام الكبير القدر، الأوحد الحجة الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله، وذلك لنجح حوائج المتوسلين به، ومناقبهرضي‌الله‌عنه كثيرة شهيرة.

يحكى ان الرشيد سأله يوماً فقال: كيف قلتم نحن ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانتم بنو علي، وانما ينسب الرجل إلى جده لابيه دون جده لامه؟

فقال الكاظم: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك يجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ) (١) ، وليس لعيسى اب، وانما الحق بذرية الأنبياء من قبل أمه وكذلك الحقنا بذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل امنا فاطمة.

وزيادة اخرى يا امير المؤمنين: قال الله عزوجل( فمن حاجك فيه من

ــــــــــــــــــــ

(١) الانعام ٦: ٨٤ ـ ٨٥.

٥١

بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا ابناءنا وابنائكم ونساءنا ونسائكم وانفسنا وانفسكم نبتهل... ) (١) ، ولم يدعصلى‌الله‌عليه‌وآله عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وهم الابناء.

روى موسى الكاظم ـ صاحب الترجمة ـ عن آبائه مرفوعاً قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : نظر الولد إلى والديه عبادة.

وعن اسحاق بن جعفر قال: سألت أخي موسى الكاظم بن جعفر قلت: أصلحك الله أيكون المؤمن بخيلا قال: نعم، فقلت: أيكون خائناً قال: ولا يكون كذّاباً، ثم قال: حدثني أبي جعفر الصادق عن آبائه رضي الله عنهم قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: كل خلة يطوى المؤمن عليها ليس الكذب والخيانة.

كراماته :

الاولى: قال حسان بن حاتم الاصم: قال لي شقيق البلخي: خرجت حاجاً سنة ست وأربعين ومائة، فنزلت بالقادسية فبينما أنا انظر في مخرجهم إلى الحج وزينتهم وكثرتهم، إذ نظرت إلى شاب حسن الوجه شديد السمرة نحيف فوق ثيابه ثوب صوف مشتمل بشملة وفي رجليه نعلان وقد جلس منفرداً.

فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية ويريد أن يخرج مع الناس فيكون كلا عليهم في طريقهم، والله لامضين إليه ولاوبخنه، فدنوت منه، فلما رآني مقبلا نحوه قال: يا شقيق( اجتنوبا كثيراً من الظن أن بعض الظن إثم ) (٢) ثم تركني وولى.

ــــــــــــــــــــ

(١) آل عمران ٣: ٦١.

(٢) الحجرات ٤٩: ١٢.

٥٢

فقلت في نفسي ان هذا الأمر عجيب، تكلم بما في خاطري ونطق باسمي، هذا عبد صالح لالحقنه وأسألنه الدعاء واتحلله بما ظننت فيه فغاب عني ولم أره فلما نزلنا وادي فضة، فإذا هو قائم يصلي، فقلت: هذا صاحبي أمضي اليه واستحله فصبرت حتى فرغ من صلاتاه، فالتفت الي وقال: يا شقيق اتل( واني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) (١) ، ثم قام وتركني.

فقلت: هذا فتى من الابدال قد تكلم على سري مرتين.

فلما نزلنا بالابواء إذا انا بالفتى على البئر وأنا انظر اليه وبيده ركوة فيها ماء، فسقطت من يده في البئر، فرمق إلى السماء بطرفه، وسمعته يقول:

وقوتي إذا أردت طعاما انت شرابي إذا ظمئت من الماء

ثم قال: الهي وسيدي مالي سواك فلا تعدمنيها.

فوالله لقد رأيت الماء قد ارتفع إلى رأس البئر والركوة طائفة عليه، فمد يده فأخذها، فتوضأ منها وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيديه ويجعل في الركوة ويحركها ويشرب، فأقبلت نحوه وسلمت عليه، فردّ علي السلام. فقلت: اطعمني من فضل ما انعم الله به عليك، فقال: يا شقيق لم تزل نعم الله علي ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا فيها سويق بسكر، فوالله ما شربت قط الذّ منه ولا أطيب، فشربت روويت حتى شبعت، فأقمت أياماً لا اشتهي طعاماً ولا شراباً.

ثم لم أره حتى نزلنا بمكة، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب نصف الليل وهو قائم يصلي بخشوع وانين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم قام إلى حاشية المطاف فركع ركعتي الفجر هناك، ثم صلّى الصبح مع الناس،

ــــــــــــــــــــ

(١) طه ٢٠: ٨٢.

٥٣

ثم دخل المطاف فطاف إلى بعد شروق الشمس، ثم صلى خلف المقام، ثم خرج يريد الذهاب فخرجت خلفه أريد السلام عليه، وإذا بجماعة أحاطوا به يميناً وشمالا ومن خلفه ومن أمامه وخدم وحشم وأتباع خرجوا معه، فقلت لأحدهم: من هذا الفتى يا سيدي؟ فقال: هذا موسى الكاظم بن جعفر بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وهذه الكرامة رواها جماعة من أهل التأليف، ورواها ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ورواها الجنابذي في معالم العترة النبوية، والرامهرمزي في كتابه كرامات الأولياء، وهي كرامة اشتملت على كرامات.

الثانية: من كتاب الدلائل للحميري:

روى أحمد بن محمد، عن أبي قتادة، عن أبي خالد الزبالي قال: قدم علينا أبو الحسن موسى الكاظم زبالة ومعه جماعة من أصحاب المهدي بعثهم لاحضاره لديه إلى العراق من المدينة، وذلك في مسكنه الأول، فأتيته فسلّمت عليه، فسرّ برؤيتي وأوصاني بشراء الحوائج وتبقيتها عندي له، فراني غير منبسط، فقال: مالي أراك منقبضاً؟ فقلت: كيف لا انقبض وأنت سائر إلى هذه الفرقة الطاغية ولا أمن عليك.

فقال: يا أبا خالد، ليس علي بأس، فإذا كان في شهر كذا في اليوم الفلاني منه فانتظرني آخر النهار مع دخول الليل، فإني أوافيك ان شاء الله تعالى.

قال أبو خالد: فما كان لي هم إلاّ احصاء تلك الشهور والأيام إلى ذلك اليوم الذي وعدني المجيء فيه، فخرجت غروب الشمس فلم أر أحداً، فلما كان دخول الليل إذا بسواد قد أقبل من ناحية العراق، فقصدته فإذا هو على بغلة أمام القطار، فسلمت عليه وسررت بمقدمه وتخلّصه.

فقال لي: اداخلك الشك يا ابا خالد؟ فقلت: الحمد لله الذي خلصك من هذه الطاغية.

فقال: يا ابا خالد ان لهم إلي دعوة لا اتخلص منها.

٥٤

الثالثة: عن عيسى المدائني قال: خرجت سنة إلى مكة فأقمت بها مجاوراً ثم قلت اذهب إلى المدينة فأقيم بها سنة مثل ما اقمت بمكة فهو اعظم لثوابي فقدمت المدينة فنزلت طرف المصلى إلى جنب دار ابي ذر وجعلت اختلف إلى سيدنا موسى الكاظم، فبينا انا عنده في ليلة ممطرة إذ قال: يا عيسى قم فقد انهدم البيت على متاعك، فقمت فإذا البيت قد انهدم على المتاع، فاكتريت قوماً كشفوا عن متاعي واستخرجت جميعه، ولم يذهب لي غير صطل للوضوء، فلما اتيته من الغد قال: هل فقدت شيئاً من متاعك فندعو الله لك بالخلف، فقلت: ما فقدت غير صطل كان لي أتوضأ منه.

فأطرق رأسه ملياً ثم رفعه فقال: قد ظننت انك نسيته قبل ذلك، فات جارية رب الدار فاسألها عنه وقل لها: انسيت الصطل في بيت الخلاء فرديه، قال فسألتها عنه فردته.

الرابعة: عن عبدالله بن ادريس عن ابن سنان قال: حمل الرشيد في بعض الأيام إلى علي بن يقطين ثياباً فاخرة أكرمه بها ومن جملتها دراعة منسوجة بالذهب سوداء من لباس الخلفاء فانفذها علي بن يقطين لموسى الكاظم، فردها وكتب إليه: تحتفظ عليها ولا تخرجها عن يدك فسيكون لك بها شأن تحتاج معه إليها.

فارتاب علي بن يقطين لردها عليه ولم يدر ما سبب كلامه ذلك، ثم انه احتفظ بالدراعة وجعلها في سفط وختم عليها.

فلما كان بعد مدة يسيرة تغير علي بن يقطين على بعض غلمانه ممن كان يختص بأموره ويطلع عليها، فصرفه عن خدمته وطرده لأمر أوجب ذلك منه، فسعى الغلام بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقال له: ان علي بن يقطين يقول بامامة موسى الكاظم وانه يحمل إليه في كل سنة زكاة ماله والهدايا والتحف، وقد حمل إليه في هذه السنة ذلك وصحبته الدراعة السوداء التي اكرمته بها يا أمير المؤمنين في وقت كذا.

فاستشاط الرشد لذلك غيظاً وقال: لاكشفن عن ذلك، فان كان الأمر على ما ذكرت ازهقت روحه، وذلك من بعض جزائه، فانفذ في الوقت والحين من احضر علي بن يقطين، فلما مثل بين يديه قال: ما فعلت بالدراعة السوداء التي كسوتكها واختصصتك بها مدة من بين سائر خواصي.

قال: هي عندي يا أمير المؤمنين في سفط فيه طيب مختوم عليها.

٥٥

فقال احضرها الساعة.

قال نعم يا أمير المؤمنين، السمع والطاعة، واستدعى بعض خدمه، فقال: امض وخذ مفتاح البيت الفلاني من داري وافتح الصندوق الفلاني واتني السفط الذي فيه على حالته بختمه، فلم يلبث الخادم إلاّ قليلا حتى عاد وصحبته السفط مختوماً، فوضع بين يدي الرشيد فأمر بفك ختمه، ففك وفتح السفط، وإذا بالدراعة فيه م طوية على حالها لم تلبس ولن تدنس ولم يصبها شيء من الأشياء، فقال لعلي بن يقطين ردّها إلى مكانها وخذها وانصرف راشداً، فلن نصدق بعدك عليك ساعياً، وأمر أن يتبع بجائزة سنية وتقدّم بأن يضرب الساعي ألف سوط، فضرب فلما بلغوا به الخمسمائة سوط مات تحت الضرب قبل الالف.

الخامسة: روى اسحاق بن عمار قال: لما حبس هارون الرشيد موسى الكاظم دخل الحبس ليلا أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، فسلّما عليه وجلسا عنده وأرادا أن يختبراه بالسؤال لينظرا مكانه من العلم، فجاء بعض الموكلين به فقال له: ان نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف من غد أن شاء الله تعالى فان كان لك حاجة تأمرني ان اتيك به غدا إذا جئت، فقال مالي حاجة به انصرف.

ثم قال لابي يوسف ومحمد بن الحسن: اني لاعجب من هذا الرجل يسألني ان اكلفه حاجة يأتيني بها معه غدا إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة، فامسكا عن سؤاله وقاما ولم يسألاه عن شيء، وقالا: أردنا ان نسأله عن الفرض والسنة فأخذ يتكلم معنا بالغيب، والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره وينظر ماذا يكون من أمره، فأرسلا شخصاً من جهتهما جلس على باب ذلك الرجل، فلما كان اثناء الليل وإذا بالصراخ والناعية، فقيل لهم: ما الخبر؟ فقالوا مات صاحب البيت فجاة فعاد إليهما الرسول واخبرهما، فتعجبا من ذلك غاية العجب انتهى من الفصول المهمة.

كان موسى الكاظم رضي الله عنه اعبد أهل زمانه وأعلمهم واسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً، وكان يتفقد فقراء المدينة فيحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم ليك وكذلك النفقات ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلاّ بعد موته.

وكان كثيراً ما يدعوا بـ: اللهم اني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب.

تتمة: في الكلام على وفاته وأولاده رضي الله عنه.

٥٦

روى أحمد بن عبدالله بن عمار، عن محمد بن علي النوفلي قال: كان السبب في أخذ الرشيد لموسى بن جعفر وحبسه اياه انه سعى به إليه جماعة وقالوا: ان الاموال تحمل اليه من جميع الجهات والزكاة والاخماس، وانه اشترى ضيعة وسماها السيديه بثلاث آلاف دينار، فخرج الرشيد في تلك السنة يريد الحج، وبدأ بدخوله المدينة، فلما أتاها استقبله موسى الكاظم في جماعة من الاشراف فلما دخلها واستقر ومضى كل واحد إلى سبيله ذهب موسى على جاري عادته إلى المسجد، وأقام الرشيد الليل وسار إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله، اني اعتذر إليك من أمر أريد فعله، وهو: ان امسك موسى الكاظم فانه يريد التشغيب بين امتك وسفك دمائهم، واني أريد حقنها.

ثم خرج فأمر به فأخذ من المسجد، فدخل به إليه، فقيده في تلك الساعة واستدعى بقبتين... وسترهما بالفلاط، وجعله في احدى القبتين، وجعل مع كل واحدة منهما خيلا وأرسل بواحدة منهما على طريق البصرة وبواحدة على طريق الكوفة، وانما فعل ذلك الرشيد ليعمى على الناس أمره.

وكان موسى الكاظم بالقبة التي أرسلها بطريق البصرة، وأوصى القوم الذين كانوا معه أن يسلمون إلى عيسى بن جعفر المنصور، وكان على البصرة يومئذ ولياً فسلّموه وحبسه عنده سنة، فبعد السنة كتب إليه الرشيد في سفك دمه واراحته منه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خواصه وثقاته الناصحين، فاستشارهم بعد ان اراهم ما كتبه له الرشيد، فقالوا نشير عليك بالاستغفار من ذلك وان لا تقع فيه، فكتب عيسى بن جعفر للرشيد يقول:

يا أمير المؤمنين كتبت إلي في هذا الرجل وقد اختبرته طول مقامه في حبسي فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلاّ بخير، ولم يكن عنده تطلع للولاية ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين ولا على أحد الناس، ولا يدعو إلاّ بالمغفرة والرحمة لجميع المسلمين، مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فان رأى أمير المؤمنين يعفيني من أمره ويأمر بتسلمه مني وإلاّ سرحت سبيله، فاني منه في غاية الحرج.

فلما بلغ الرشيد كتاب عيسى بن جعفر كتب إلى السندي بن شاهك ان يتسلّم موسى الكاظم بن جعفر من عيسى بن جعفر وأمره فيه، فكان الذي تولى به السندي قتله: ان جعل له سماً في طعام وقدمه له، وقيل في رطب، فأكل منه موسى الكاظم.

٥٧

ثم انه أقام موعوكاً ثلاثة أيام، ومات رحمه الله تعالى.

ولما مات ادخل السندي الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ينظرون إليه ليس به أثر من جرح أو قتل أو خنق وانه مات حتف انفه.

روى انه لما حضرته الوفاة سأل ابن السندي أن يحضر مولى له مدنياً ينزل عند دار العباس بن محمد ليتولى غسله ودفنه وتكفينه.

فقال له السندي: أنا اقوم لك بذلك على احسن شيء واتمه.

فقال: أنا أهل بيت مهور نسائنا وحج مبرورنا وكفن موتانا وجهازنا من خالص أموالنا، وأريد أن يتولى ذلك مولاي، فأجابه إلى ذلك واحضره له فوصاه بجميع ما يفعل.

فلما مات تولى ذلك مولاه المذكور، كذا في الفصول المهمة.

ومن كتاب الصفوة لابن الجوزي قال: بعث موسى بن جعفر الكاظم إلى الرشيد من الحبس رسالة كتب فيها: بأنه لم ينقص عني يوم من البلاء إلاّ انقضى معه يوم عنك من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، هنالك يخسر المبطلون.

وقد كان قوم من الشيعة زعموا ان موسى الكاظم هو القائم المنتظر، وجعلوا حبسه هو الغيبة المذ زورة للقائم، فأمر هارون الرشيد يحيى بن خالد أن يضعه على الجسر ببغداد، وان ينادي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انه لا يموت، فانضروا إليه يمتاً، ففعل ونظر إليه.

ثم حمل ودفن موسى الكاظم في مقابر قريش بباب التين ببغداد، كذا في الانساب وغيره.

وكانت وفاته لخمس بقين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وله من العمر خمس وخمسون سنة.

٥٨

وأما أولاده ففي الفصول المهمة: كان له سبعة وثلاثين ولداً ما بين ذكر وانثى، وهم:

علي، والرضا(١) ، وابراهيم، والعباس، والقاسم، واسماعيل، وجعفر، وهارون والحسن، وعبدالله، واسحاق، وعبدالله(٢) ، وزيد، والحسن، وأحمد، ومحمد والفضل، وسليمان، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، وحليمة، وأم اسماء ورقيه الصغرى، وأم كلثوم، وميمونة، انتهى.

ولكنه لم يستوف العدد المذكور من أولاد الكاظم كما في بغية الطالب عون...".

قول الشيخ محمد الصبان

٢٣ ـ قال الشيخ محمد الصبان، في كتابه اسعاف الراغبين، مطبوع بهامش نور الأبصار المطبوع في مصر مكتبة الجمهورية العربية صفحة ٢٢٥ ـ ٢٢٧:

"ولنذكر طرفاً من مناقب اخيها (أي: السيدة عائشة) الامام موسى الكاظم وأبيها الإمام جعفر الصادق، وجدها الإمام محمد الباقر على سبيل الاستطراد:

فنقول: أما موسى الكاظم فكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان من أعبد أهل زمانه، ومن أكابر العلماء الاسخياء.

سأله الرشيد كيف تعقولن: نحن ابناء المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وانتم ابناء علي؟ فقرأ:

ــــــــــــــــــــ

(١) كذا، والظاهر: علي الرضا.

(٢) كذا، والظاهر عبيد الله.

٥٩

( ومن ذريته داود وسليمان ) إلى أن قال:( وعيسى ) (١) وليس له أب.

ولقب بالكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه.

ومن بديع كراماته ما حكاه بن الجوزي والرامهرمزي عن شقيق البلخي انه خرج حاجاً فراء بالقادسية منفرداً عن الناس، فقال في نفسه: هذا فتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس، لاوبخنه.

فمضى إليه فقال: يا شقيق( اجتنبوا كثيراً من الظن أن بعض الظن إثم ) (٢) فأراد أن يعانقه فغاب عن عينه.

ثم رآه بعد على بئر سقطت ركوته فيها، فدعا فطف الماء حتى أخذها فتوضأ وصلى، ثم مال إلى كثيب من الرمل فطرح منه ايها وشرب، قال: فقلت له: اطعمني مما رزقك الله، فقال: يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك، فناولنيها فشربت فإذا هو سويق وسكر، فأقمت اياماً لا اشتهي شراباً.

ولا طعاماً، ثم لم أره إلاّ بمكة.

ولما بلغ حج الرشيد سعى به اليه وقيل: ان الأموال تحمل إليه من كل جانب حتى اشترى له ضيعة بثلاثين الف دينار.

فقال الرشيد حين رآه جالساً عند الكعبة: أنت الذي يبايعك الناس سراً؟

قال: أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم.

ولما اجتمعا أمام الوجه الشريف قال الرشيد: سلام عليك يا ابن عم، وقال موسى: السلام عليك يا ابه. فلم يحتملها الرشيد، فحمله إلى بغداد مقيّداً وحبسه فلم يخرج من حبسه إلاّ مقيّداً ميتاً مسموماً".

ــــــــــــــــــــ

(١) الأنعام ٦: ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) الحجرات ٤٩: ١٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

دون بعض، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلاً، تَعْتَعَ بخالد بن الوليد عامله على " قنسرين " إذ بلغه أنّه أعطى الأشعث عشرة آلاف، فأمر به فعقله " بلال الحبشي " بعمامته، وأوقفه بين يديه على رِجل واحدة مكشوف الرأس على رؤوس الأشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص، يسأله عن العشرة آلاف أهي من ماله أم من مال الأُمة؟ فإن كانت من ماله فهو الإسراف والله لا يحبّ المسرفين، وإن كانت من مال الأُمة فهي الخيانة والله لا يحب الخائنين، ثم عزله فلم يولّه بعد حتى مات .

وكم لعمر مع بعض عمّاله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبّعون! لكنّ معاوية كان أثيره وخلّصه، على ما كان من التناقض في سيرتيهما، ما كفّ يده عن شيء ولا ناقشه الحساب في شيء، وربّما قال له : " لا آمرك ولا أنهاك "، يفوّض له العمل برأيه، فشدّة مراقبة الخليفة الثاني ودقّة محاسبته كانت من نصيب بعض عمّاله، ولم تشمل الجميع على حدّ سواء، إذ أنّ معاوية ـ وهو عامله على الشام ـ كان طليق اليدين يفعل ما تشاء أهواؤه وما تبغيه شهواته.

وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه " الأُموية " وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدّد الإسلام باسم الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفع هذا الخطر أمام أمرين لا ثالث لهما : إمّا المقاومة وإمّا المسالمة، وقد رأيا أنّ المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى صراطه المستقيم .

ومن هنا رأى الحسنعليه‌السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك، لكن أخذ عليه في عقد الصلح أن لا يعدو الكتاب

١٤١

والسنّة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الأُموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن، إلى غير ذلك من الشروط التي كان الإمام الحسن عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها وأنّه سيقوم بنقائضها .

هذا ما أعدَّهعليه‌السلام لرفع الغطاء عن الوجه " الأُموي " المموّه، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائغة، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال " الأُموية " كما هم جاهليّون لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّون لم تنسهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقاد بدر وأُحد والأحزاب .

وبالجملة: فإنّ هذه الخطّة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بدّ، أملاه ظرف الإمام الحسنعليه‌السلام ، إذ التبس الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلّحة ضارية، ما كان الحسنعليه‌السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمة هذا البيتعليهم‌السلام يسترشد الرسالة في إقدامه وإحجامه، امتحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً وخرج منها ظافراً طاهراً.

تهيّأ للحسنعليه‌السلام بهذا الصلح أن يفرش في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنّى له أن يلغم نصر الأُموية ببارود الأُموية نفسها، فيجعل نصرها جفاءً وريحَها هباءً .

لم يطل الوقت حتى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : " يا أهل العراق! إنّي والله لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن

١٤٢

ابن علي جعلته تحت قدميّ هاتين"(١) .

ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجر بكلّ ما يخالف الكتاب والسنّة من كلّ منكر في الإسلام، قتلاً للأبرار وهتكاً للأعراض وسلباً للأموال وسجناً للأحرار، ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحرّة، ويوم مكة إذ نصب عليهم العرّادات والمجانيق .

ومهما يكن من أمر فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الإمام الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحول بينهم وبين ما يبيّتون لرسالة جدّه من الكيد، وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأُموية بالجلاء، والحمد لله رب العالمين.

وبهذا استتبّ لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب .

وقد كاناعليهما‌السلام وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها، فالحسنعليه‌السلام لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسينعليه‌السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهاد صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة قبل أن تكون حسينيّة وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أولي الألباب ممّن تعمّق، لأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني، وراجع أيضاً شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦، وتأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٣

المكاره في صورة مستكين قاعد، وكانت شهادة الطفِّ حسنيّة أولاً وحسينيّة ثانياً ; لأنّ الحسن أنضج نتائجها ومهّد أسبابها .

وقد وقف الناس ـ بعد حادثتي ساباط والطفّ ـ يمعنون في الأحداث; فيرون في هؤلاء الأُمويين عصبة جاهلية منكرة، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله . .(١) .

زبدة المخض :

إذن تتلخّص أسباب الصلح فيما يلي :

١ ـ ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم وعدم انصياعهم لأوامره بعد تأثير دسائس معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخط الرسالي أمام مكر معاوية، وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخط وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه .

٢ ـ ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسنعليه‌السلام استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف بعد الامتنان عليهم بالحرّية، وكل هذه النتائج غير محمودة .

فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له، ولا سيَّما إذا اقترن بتصفية الخط الإمامي وإبادته الشاملة .

٣ ـ صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانية أهل البيتعليهم‌السلام وحفظهم من التصفية

__________

(١) راجع مقدمة صلح الإمام الحسن للشيخ راضي آل ياسين .

١٤٤

والإبادة الأُموية الشاملة بعد إحراز بقاء الحقد الأُموي لبني هاشم ومن يحذو حذوهم، كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلامي الدامي .

٤ ـ حقن دماء المسلمين حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية .

٥ ـ كشف واقع المخطّط الأُموي الجاهلي وتحصين الأُمة الإسلامية ضدّه بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أمية على زمام قيادة الأُمة المسلمة والتلاعب بمصير الكيان الإسلامي ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.

٦ ـ ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لمقارعة الكفر والنفاق المستتر من موقع القوّة .

لقد خفيت الأسباب الحقيقية التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهي الذي اتّخذّه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث وعلى بعض اللاحقين من أصحاب الرؤى السطحية أو المُضَلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق، لكن الأحداث التي أعقبت الصلح والسياسات العدوانية التي انتهجها معاوية وبقية الحكام الأُمويين والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسنعليه‌السلام .

١٤٥

البحث الثالث : ما بعد الصلح حتى الشهادة

الاجتماع في الكوفة :

بعد توقيع الصلح بين الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية اتّفقا على مكان يلتقيان به، ليكون هذا اللقاء تطبيقاً عملياً للصلح، وليعترف كلّ منهماعلى سمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده، فاختارا الكوفة فقصدا إليها، وقصدت معهما سيول من الناس غصّت بهم العاصمة الكبرى، وكان أكثر الحاضرين جند الفريقين، تركوا معسكريهما وحفّوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة .

ونودي في الناس إلى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك إلى الخطيبين الموقِّعَيْنِ على معاهدة الصلح، وكان لا بدّ لمعاوية أن يستبق إلى المنبر، فسبق إليه وجلس عليه(١) ، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها إلاّ فقراتها البارزة فقط .

منها : "أمّا بعد، ذلكم فإنّه لم تختلف أُمة بعد نبيّها إلاّ غلب باطلها حقّها !!". قال الراوي : وانتبه معاوية لما وقع فيه، فقال : إلاّ ما كان من هذه الأُمة، فإنّ حقّها غلب باطلها(٢) .

ومنها : "يا أهل الكوفة! أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج

__________

(١) قال جابر بن سمرة : "ما رأيت رسول الله يخطب إلاّ وهو قائم، فمن حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه" رواه الجزائري في آيات الأحكام: ٧٥، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٦

وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ؟ ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين!! ..."(١) .

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب ابن أبي ثابت مسنداً: أنه ذكر في هذه الخطبة عليّاً فنال منه، ثمّ نال من الحسن(٢) .

ثمّ قام الإمام الحسنعليه‌السلام فخطب في هذا الموقف الدقيق خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيتعليهم‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعظ ونصح ودعا المسلمين ـ في أوّلها ـ إلى المحبّة والرضا والاجتماع، وذكّرهم ـ في أواسطها ـ مواقف أهله بل مواقف الأنبياء، ثم ردّ على معاوية ـ في آخرها ـ دون أن يناله بسبٍّ أو شتم، ولكنّه كان بأسلوبه البليغ أوجع شاتم وسابٍّ .

وكان ممّا قالهعليه‌السلام (٣) : "أيّها الذاكر عليّاً ! أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة، وجدّتي خديجة، وجدّتك فُتَيْلَة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً" .

المعارضون للصلح :

أ ـ قيس بن سعد بن عبادة :

اشتهر قيس بموالاة أهل البيتعليهم‌السلام وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام قد عيّنه

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني .

(٢) شرح نهج البلاغة : ٤ / ١٦ .

(٣) نقل نص الخطاب الشيخ آل ياسين في "صلح الإمام الحسن" : ٢٨٦ ـ ٢٨٩ .

١٤٧

والياً على مصر في أوائل خلافته وعندما سمع قيس بن سعد نبأ التوقيع على الصلح بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية غشيته سحب من الأحزان، واستولت عليه موجة من الهموم، لكنّه عاد إلى الكوفة في نهاية المطاف .

وكان معاوية بعد أن خدع عبيد الله بن العباس; قد بعث رسالة إلى قيس يمنّيه ويتوعّده، فأجابه قيس : "لا والله لا تلقاني إلاّ بيني وبينك السيف أو الرمح ..."(١) ، فغضب معاوية لهذا الجواب القاطع فأرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وجاء فيها : "أمّا بعد، فإنّك يهودي تشقى نفسك، وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الجذ، وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران غريباً، والسلام"(٢) .

فأجابه قيس : "أمّا بعد، فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت فيه خرقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك، لم تزل حرباً لله ولرسوله، وحزباً من أحزاب المشركين، وعدوّاً لله ولنبيّه وللمؤمنين من عباده، وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلاّ قوسه، ولا رمى إلاّ غرضه، فشغب عليه من لا تشقّ غباره، ولا تبلغ كعبه، وزعمت أنّي يهوديّ ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أنّي وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ـ يعني الشرك ـ وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام"(٣) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٦٧ .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ .

(٣) نفس المصدر : ٢٦٨ .

١٤٨

ولمّا علم معاوية بعودة قيس إلى الكوفة دعاه إلى الحضور لمبايعته، لكن قيس رفض لأنّه كان قد عاهد الله أن لا يجتمع معه إلاّ وبينهما السيف أو الرمح، فأمر معاوية بإحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبرّ قيس بيمينه ولا يحنث، ووقتذاك حضر قيس الاجتماع وبايع معاوية(١) .

ب ـ حجر بن عدي :

وهو من كبار صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن أبدال عصره، وحسب ابن الأثير الجزري في "اُسد الغابة" وغيره، أنّه وصل مقاماً في القرب إلى الله تعالى بحيث أصبح مستجاب الدعوة، وقد قتل شهيداً في "مرج عذراء" وهي إحدى قرى الشام، بأمر معاوية وبواسطة أزلامه، وقد اندلعت إثر شهادته موجة من الاحتجاجات على سياسات معاوية وحتى ندّدت عائشة وآخرون بالجريمة(٢) .

وبالرغم من الحبّ والولاء اللذين يكنهما "حجر" للإمام الحسن وأبيهعليهما‌السلام ، إلاّ أنّ الانفعالات دفعت به إلى ظلمات اليأس والقنوط في اللحظات التي تمّ فيها قرار الصلح، من هنا خاطب الإمامعليه‌السلام وفي حضور معاوية بقوله : "أما والله لوددت أنّك متّ في ذلك اليوم ومتنا معك، ولم نر هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا" .

وحسب المدائني أنّ كلام "حجر" ترك في نفس الإمام بالغ الأسى والحزن، فانبرىعليه‌السلام وبعد أن فرغ المسجد مبيّناً له العلّة التي صالح من أجلها قائلاً : "يا حجر! قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسان يحبّ ما

__________

(١) راجع لمزيد من التفصيل مقاتل الطالبيين وحياة الإمام الحسن.

(٢) اُسد الغابة : ١ / ٣٨٦ .

١٤٩

تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلتُ إلاّ إبقاءً عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن"(١) .

ج ـ عدي بن حاتم :

وعدي من الشجعان والمخلصين لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد نقل أُنه قال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب : "يابن رسول الله! لوددت أنّي متّ قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحقّ الذي كنّا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنيّة من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا"، فأجابه الإمامعليه‌السلام : "يا عدي! إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيتُ دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن"(٢) .

د ـ المُسيَّب بن نجبة وسليمان بن صُرد :

وعرفا بالولاء والإخلاص لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تألّما من الصلح فأقبلا إلى الإمام وهما محزونا النفس فقالا : ما ينقضي تعجّبنا منك ! بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز"، فقال الإمام للمسيّب : "ما ترى؟" قال : والله أرى أن ترجع لأنّه نقض العهد، فأجابه الإمام : "إنّ الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت ..."(٣) .

وجاء في رواية أخرى أنّ الإمامعليه‌السلام أجابه : "يا مسيّب! إنّي لو أردت ـ بما

__________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ١٥ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٤ .

(٣) مناقب ابن شهر آشوب : ٤ / ٣٥، طبعة قم.

١٥٠

فعلت ـ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب منّي، ولكن أردت صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض"(١) .

إلى يثرب :

بقي الإمام الحسنعليه‌السلام في الكوفة أياماً، ثمّ عزم على مغادرة العراق، والشخوص إلى مدينة جدّه، وقد أظهر عزمه ونيّته إلى أصحابه، ولمّا أذيع ذلك دخل عليه المسيّب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التميمي ليودّعاه، فالتفت لهما قائلاً : "الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا إنّه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلاّ أن تضاموا وتنتقصوا، فأمّا نحن فإنّهم سيطلبون مودّتنا بكلّ ما قدروا عليه" .

وطلب منه المسيّب وظبيان المكث في الكوفة فامتنععليه‌السلام من إجابتهم قائلاً : "ليس إلى ذلك من سبيل"(٢) .

ولدى توجّههعليه‌السلام وأهل بيته إلى عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف(٣) .

وسار موكب الإمام ولكنّه لم يبعد كثيراً عن الكوفة حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يردّه إلى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج قد خرجت عليه، فأبىعليه‌السلام أن يعود وكتب إلى معاوية : "ولو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنّي تركتك لصلاح الأُمة وحقن دمائها"(٤) .

وانتهت قافلة الإمام إلى يثرب، فلمّا علم أهلها بتشريفهعليه‌السلام خفّوا

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٧ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ .

(٣) تحفة الأنام للفاخوري : ٦٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٧ .

١٥١

جميعاً لاستقباله، فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة والرحمة، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ أن نزح أمير المؤمنينعليه‌السلام عنهم .

جاء الحسنعليه‌السلام مع إخوته وأهل بيته إلى يثرب، فاستقام فيها عشر سنين، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ورقيق حنانه وحلمه، ونقدّم عرضاً موجزاً لبعض أعماله وشؤونه فيها .

مرجعية الإمام الحسنعليه‌السلام العلمية والدينيّة :

وتمثّلت في تربيته لكوكبة من طلاّب المعرفة، وتصدّيه للانحرافات الدينية التي كانت تؤدي إلى مسخ الشريعة، كما تصدّى لمؤامرة مسخ السنّة النبويّة الشريفة التي كان يخطّط لها معاوية بن أبي سفيان من خلال تنشيط وضع الأحاديث والمنع من تدوين الحديث النبويّ .

مدرسة الإمام ونشاطه العلمي :

أنشأ الإمام مدرسته الكبرى في يثرب، وراح يعمل مجدّاً في نشر الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء وعظماء المحدّثين والرواة، ووجد بهم خير عون لأداء رسالته الإصلاحية الخالدة التي بلورت عقلية المجتمع وأيقظته بعد الغفلة والجمود، وقد ذكر المؤرّخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم : ابنه الحسن المثنى، والمسيّب بن نجبة، وسويد بن غفلة، والعلا بن عبد الرحمن، والشعبي، ومبيرة بن بركم، والأصبغ بن نباتة، وجابر بن خلد، وأبو الجوزا، وعيسى بن مأمون بن زرارة، ونفالة بن المأموم، وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي، وأبو مريم قيس الثقفي، وطحرب العجلي، وإسحاق بنيسار والد محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن عوف،

١٥٢

وسفين بن الليل، وعمرو بن قيس الكوفيون(١) ، وقد ازدهرت يثرب بهذه الكوكبة من العلماء والرواة فكانت من أخصب البلاد الإسلامية علماً وأدباً وثقافة .

وكما كان يتولّى نشر العلم في يثرب كان يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتأدّب بسنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رفععليه‌السلام منار الأخلاق التي جاء بها جدّه الرسول لإصلاح المجتمع وتهذيبهم، فمن سموّ أخلاقه أنّه كان يصنع المعروف والإحسان حتى مع أعدائه ومناوئيه، وقد بلغه أنّ الوليد بن عقبة قد ألمّ به السقم فمضى لعيادته مع ما عُرف به الوليد من البغض والعداء لآل البيت، فلمّا استقرّ المجلس بالإمام انبرى إليه الوليد قائلاً: "إنّي أتوب إلى الله تعالى ممّا كان بيني وبين جميع الناس إلاّ ما كان بيني وبين أبيك فإنّي لا أتوب منه"(٢) .

وأعرض الإمام عنه ولم يقابله بالمثل، ولعلّه أوصله ببعض ألطافه وهداياه(٣) .

مرجعيّته الاجتماعية :

والتي تمثّلت في عطفه على الفقراء وإحسانه وبذله المعروف، وتجلّت في استجارة المستجيرين به للتخلّص من ظلم الأُمويين وأذاهم .

أ ـ عطفه على الفقراء :

وأخذعليه‌السلام يفيض الخير والبرّ على الفقراء والبائسين، ينفق جميع ما

__________

(١) تاريخ ابن عساكر : ج١٢، صورة فوتوغرافية في مكتبة الإمام أمير المؤمنين .

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٣٦٤ .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ .

١٥٣

عنده عليهم، وقد ملأ قلوبهم سروراً بإحسانه ومعروفه، ومن كرمه أنّه جاءه رجل في حاجة فقال له : "أُكتب حاجتك في رقعة وادفعها إلينا"، فكتبها ذلك الشخص ورفعها إليه، فأمرعليه‌السلام بضعفها له، قال بعض الحاضرين: ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يا بن رسول الله ؟!، فأجابهعليه‌السلام : "بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا من أعطيته بعد مسألة فإنّما أعطيته بما بذل لك من وجهه، وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته، أبكآبة أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد، وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذلك من وجهه فإنّ ذلك أعظم ممّا نال من معروفك" .

لقد كان موئلاً للفقراء والمحرومين، وملجأً للأرامل والأيتام، وقد تقدّمت بعض بوادر جوده ومعروفه التي كان بها مضرب المثل للكرم والسخاء .

ب ـ الاستجارة به :

كانعليه‌السلام في عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كهفاً منيعاً لمن يلجأ إليه، وملاذاً حصيناً لمن يلوذ به، قد كرّس أوقاته في قضاء حوائج الناس، ودفع الضيم والظلم عنهم، وقد استجار به سعيد بن أبي سرح من زياد فأجاره، فقد ذكر الرواة أنّه كان معروفاً بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام فطلبه زياد من أجل ذلك فهرب إلى يثرب مستجيراً بالإمام، ولمّا علم زياد ذلك عمد إلى أخيه وولده وزوجه فحبسهم، ونقض داره، وصادر أمواله، وحينما علم الإمام الحسن ذلك شقّ عليه الأمر، فكتب رسالة إلى زياد يأمره فيها بأن يعطيه الأمان،

١٥٤

ويخلّي سبيل عياله وأطفاله، ويشيّد داره، ويردّ عليه أمواله(١) .

مرجعيّته السياسيّة :

لقد صالح الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية من موقع القوّة، كما نصّت المعاهدة على أن يكون الأمر من بعده للحسن ولا يبغي له الغوائل والمكائد .

إذن من الطبيعي أن يكون الإمام محور المعارضة والشوكة التي تنغّص على بني أمية ومعاوية ملكهم وتكدّر صفوهم، ونجد في أدعية الإمام ولقاءاته بالحاكمين وبطانتهم ورسائله وخطبه نشاطاً سياسياً واضحاً تمثّل في :

أ ـ مراقبته للأحداث ومتابعتها ومراقبة سلوك الحاكمين وعمّالهم، وأمرهم بالمعروف وردعهم عن المنكر، كما لاحظنا في مراسلته لزياد لرفع الضغط عن سعيد بن أبي سرح، ولومه لحبيب بن مسلمة وهو في الطواف على إطاعته لمعاوية(٢) .

ب ـ النشاط السياسي المنظَّم والذي كان يتمثّل في استقباله لوفود المعارضة، وتوجيههم ودعوتهم إلى الصبر، وأخذ الحزم وانتظار أوامر الإمام التي ستصدر في الفرصة المناسبة، كما تمثّل في تأكيده المستمرّ على الدور القيادي لأهل البيتعليهم‌السلام واستحقاقه للخلافة والإمامة .

ويرى الدكتور طه حسين أنّ الإمام قد شكّل حزباً سياسياً حين مكثه في المدينة، وتولّى هو رئاسته وتوجيهه الوجهة المناسبة لتلك الظروف .

ج ـ عدم تعاطفه مع أركان النظام الحاكم بالرغم من محاولاتهم لكسب عطف الإمام أو تغطية نشاطاته أو إدانتها، وقد تمثّل هذا الجانب في رفضه

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ .

(٢) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٣ .

١٥٥

لمصاهرة الأُمويين وفضحه لخططهم وكشفه لواقعهم المنحرف وعدم استحقاق معاوية للخلافة، وتجلّى بوضوح في مناظراته مع معاوية وبطانته في المدينة ودمشق على حدّ سواء، ونكتفي بالإشارة إلى بعض مواقفه .

رفض الإمامعليه‌السلام مصاهرة الأُمويين :

ورام معاوية أن يصاهر بني هاشم ليحوز بذلك الشرف والمجد، فكتب إلى عامله على المدينة مروان بن الحكم أن يخطب ليزيد زينب بنت عبد الله ابن جعفر على حكم أبيها في الصداق، وقضاء دينه بالغاً ما بلغ، وعلى صلح الحيّين بني هاشم وبني أمية، فبعث مروان خلف عبد الله، فلمّا حضر عنده فاوضه في أمر كريمته، فأجابه عبد الله : إنّ أمر نسائنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه، فأقبل مروان إلى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله، فقالعليه‌السلام : "اجمع مَن أردت" فانطلق مروان فجمع الهاشميّين والأُمويين في صعيد واحد وقام فيهم خطيباً، وبيّن أمر معاوية له .

فردّ الإمامعليه‌السلام عليه، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : "أمّا ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق فإنّا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهله وبناته(١) ، وأمّا قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهن ؟ وأمّا صلح الحيّين فإنّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا ..." .

وفي ختام كلمته قال الإمامعليه‌السلام : "وقد رأينا أن نزّوجها (يعني زينب) من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر، وقد زوّجتها منه، وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة، وقد أعطاني معاوية بها عشرة آلاف دينار" .

__________

(١) كانت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مهر أزواجه وبناته أربعمئة درهم .

١٥٦

ورفع مروان رسالة إلى معاوية أخبره بما حصل، فلمّا وصلت إليه قال : "خطبنا إليهم فلم يفعلوا، ولو خطبوا إلينا لما رددناهم"(١) .

من مواقف الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية وبطانته :

أ ـ مع معاوية في المدينة :

روى الخوارزمي أنّ معاوية سافر إلى يثرب فرأى تكريم الناس وحفاوتهم بالإمام وإكبارهم له ممّا ساءه ذلك، فاستدعى أبا الأسود الدؤلي والضحّاك بن قيس الفهري، فاستشارهم في أمر الحسن وأنّه بماذا يوصمه ليتّخذ من ذلك وسيلة للحطّ من شأنه والتقليل من أهميّته أمام الجماهير، فأشار عليه أبو الأسود بالترك قائلاً :

"رأي أمير المؤمنين أفضل، وأرى ألاّ يفعل فإنّ أمير المؤمنين لن يقول فيه قولاً إلاّ أنزله سامعوه منه به حسداً، ورفعوا به صعداً، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، أحضر ما هو كائن جوابه، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنوبك(٢) ، ويبدي به عيوبك، فإنّ كلامك فيه صار له فضلاً، وعليك كلاً، إلاّ أن تكون تعرف له عيباً في أدب، أو وقيعة في حسب، وإنّه لهو المهذّب، قد أصبح من صريح العرب في عزّ لُبابها، وكريم محتدها، وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين" .

وقد أشار عليه أبو الأسود بالصواب، ومنحه النصيحة، فأيّ نقص أو عيب في الإمام حتى يوصمه به، وهو المطهّر من كلّ رجس ونقص كما نطق

__________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٢٤ .

(٢) الظنوب : العظم اليابس من الساق .

١٥٧

بذلك الذكر الحكيم؟ ولكنّ الضحّاك بن قيس قد أشار على معاوية بعكس ذلك فحبّذ له أن ينال من الإمام ويتطاول عليه قائلاً : "امضِ يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك، فإنّك لو رميته بقوارص كلامك ومحكم جوابك لذلّ لك كما يذلّ البعير الشارف(١) من الإبل" .

واستجاب معاوية لرأي الضحّاك، فلمّا كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيّد المسلمين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فانتقصه، ثم قال :

"أيّها الناس! إنّ صبية من قريش ذوي سفه وطيش وتكدّر من عيش أتعبتهم المقادير، فاتّخذ الشيطان رؤوسهم مقاعد، وألسنتهم مبارد، فأباض وفرخ في صدورهم، ودرج في نحورهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، وأعمى عليهم السُبل، وأرشدهم إلى البغي والعدوان والزور والبهتان، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) وكفى لهم مؤدّباً، والمستعان الله" .

فوثب إليه الإمام الحسن مندفعاً كالسيل رادّاً عليه افتراءه وأباطيله قائلاً :

"أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن نبيّ الله، أنا ابن من جعلت له الأرضُ مسجداً وطهوراً، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، أنا ابن من بعث إلى الجنّ والإنس، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين" .

__________

(١) البعير الشارف : المسنّ الهرم .

١٥٨

وشقّ على معاوية كلام الإمام فبادر إلى قطعه قائلاً : "يا حسن! عليك بصفة الرطب"، فقالعليه‌السلام :"الريح تلقحه والحرّ ينضجه، والليل يبرده ويطيبه، على رغم أنفك يا معاوية" ثم استرسلعليه‌السلام في تعريف نفسه قائلاً :

"أنا ابن مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، ويقرع باب الجنّة، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبيّ قبله، أنا ابن من نصر على الأحزاب، أنا ابن من ذلّت له قريش رَغماً" .

وغضب معاوية واندفع يصيح : "أما أنّك تحدّث نفسك بالخلافة" .

فأجابه الإمامعليه‌السلام عمّن هو أهل للخلافة قائلاً :"أمّا الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنَّة نبيّه، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطّل السنّة، إنّما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكاً فتمتّع به، وكأنّه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه" .

وراوغ معاوية، وانحط كبرياؤه فقال : "ما في قريش رجل إلاّ ولنا عنده نِعَم جزيلة ويد جميلة" .

فردّعليه‌السلام قائلاً :"بلى، من تعزّزت به بعد الذلّة، وتكثّرت به بعد القلّة" .

فقال معاوية : "من أُولئك يا حسن ؟"، فأجابه الإمامعليه‌السلام :"من يلهيك عن معرفتهم" .

ثم استمرعليه‌السلام في تعريف نفسه إلى المجتمع فقال :

"أنا ابن من ساد قريشاً شاباً وكهلاً، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلاً، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق، والفرع الباسق، والفضل السابق، أنا ابن من رضاه رضى الله، وسخطه سخطه، فهل لك أن تساميه يا معاوية ؟" ، فقال معاوية : أقول لا تصديقاً لقولك، فقال الحسن :"الحق أبلج، والباطل لجلج، ولم يندم من ركب الحقّ، وقد خاب من ركب الباطل :

والحقّ يعرفه ذوو الألباب )

فقال معاوية على عادته من

١٥٩

المراوغة : لا مرحباً بمن ساءك(١) .

ب ـ في دمشق :

اتفق جمهور المؤرّخين على أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد وفد على معاوية في دمشق، واختلفوا في أنّ وفادته كانت مرةً واحدةً أو أكثر، وإطالة الكلام في تحقيق هذه الجهة لا تغنينا شيئاً، وإنّما المهم البحث عن سرّ سفره، فالذي نذهب إليه أنّ المقصود منه ليس إلاّ نشر مبدأ أهل البيتعليهم‌السلام وإبراز الواقع الأُموي أمام ذلك المجتمع الذي ضلّله معاوية وحرّفه عن الطريق القويم، أمّا الاستدلال عليه فإنّه يظهر من مواقفه ومناظراته مع معاوية، فإنّه قد هتك بها حجابه .

أمّا الذاهبون إلى أنّ سفره كان لأخذ العطاء فقد استندوا إلى إحدى الروايات الموضوعة فيما نحسب، وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها; لأنّ الإمام قد عرف بالعزّة والإباء والشمم، على أنّه كان في غنىً عن صلات معاوية; لأنّ له ضياعاً كبيرة في يثرب كانت تدرّ عليه بالأموال الطائلة، مضافاً إلى ما كان يصله من الحقوق التي كان يدفعها خيار المسلمين وصلحاؤهم.

على أنّ الأموال التي كان يصله بها معاوية على القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله، فقد ورد أنّه لم يكن يأخذ منها مقدار ما تحمله الدابة بفيها(٢) .

وروى الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : "أنّ الحسن والحسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان"(٣) .

__________

(١) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ عن الخوارزمي .

(٢) جامع أسرار العلماء ، مخطوط بمكتبة كاشف الغطاء العامة .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206