اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133569 / تحميل: 10060
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لاحظنا طبيعة القوم في أول الدعوة ، والظروف المحيطة بالمنطقة العربية مما كان يستدعي هذا الحث ، وهذا التأكيد.

لقد أطل الاسلام بنوره على الجزيرة العربية والقوم غارقون في ظلمات تقاليدهم الموحشة من الغزو ، والنهب ، وتقديم القوي على الضعيف ليكون هذا طعمة سائغة له فيرزح تحت الضغط الذي يواجهه من الطبقة المتجاوزة.

المنطقة المتكالبة لا عمل لها سوى الغزو ، والنهب والحروب المستعرة تجرها النعرات القبلية لتعيش على أسمال الغنيمة المغتصبة ولذلك كان الضعيف طعمة للقوي فكيف باليتيم ، والذي يأتي في الرعيل الاول من مسيرة الضعفاء والبائسين.

مجتمع قاسٍ لا يرى كرامة الانسان مهما كانت شخصيته ما دام لا يتمكن من حفظ نفسه أمام تيارات القوة والتعدي.

مجتمع يضفي على نفسه شكل مرير من التقوقع القبلي فتتخذ كل قبيلة لها شاعراً يمجد بها ، ويصوغ من غزوها ، ونهبها درراً يشب الصغير على ترتيلها ليكبر ، وتكبر معه روح التجاوز والانتقام.

في هذا الجو المليء بالشجون ، والمآسي يقبع اليتيم يندب حظه العاثر ليخضع لتجاوز الاولياء ، والاقوياء فلم يجد له من يمد له العون ليحفظ له حقوقه ، ويراعي شؤونه ، وقد بقي وحيداً في معركة الحياة ولكن الاسلام :

دين العدل ، والمساواة ، ومبدأ الرحمة ، والعطف جاء ليأخذ بيد الضعفاء فيرفع بهم إلى المستوى الذي يجدون فيه حقوقهم كاملة غير منقوصة مهما كلف الثمن فالقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق ، والضعيف في نظره قوي حتى يأخذ له حقه.

٢١

بهذا المنطق القويم جاء الاسلام ليحل بين ظهراني تلك القبائل المتمردة على العرف الانساني لذلك لا نجد غرابة لو كانت حصة اليتيم وافرة في مقام التشريع فيلقى الاهمية البالغة من جانبه سواءاً في الكتاب المجيد ، أو في السنة على لسان أمناء الوحي النبي الاكرم ، وأهل بيته ومن تبعه على حق.

اليتيم والتقييم التشريعي :

تناولت الموسوعة التشريعية تقييم اليتيم من الجهتين : الاجتماعية والمالية.

فشرعت له في هذين المجالين ما يحقق رعايته كفرد فقد كفيله ، فأصبح إلى من يبادله العطف ، والحنان ، والتربية الصالحة ليكون فرداً صالحاً لا تؤثر على نفسيته حياة اليتيم ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافاً يسقطه عن المستوى الذي يتحلى به بقية الافراد ممن يتنعم بحنان الابوة ، وعطفها.

ومن جهة أخرى أحكمت له حقوقه المالية حيث يكون ـ والحالة هذه ـ عرضة للاستيلاء من جانب الاقوياء.

١ ـ اليتيم وحقوقه الاجتماعية:

لقد تنوع الاسلوب التشريعي في بيان حقوق اليتيم الاجتماعية : ولكنه شرع معه من حين الطفولة المبكرة لما لهذه المرحلة من الاهمية البالغة في احتضان اليتيم ، وإيوائه ليعيش في جو من الحنان الدافىء لينسيه مرارة اليتم ، وليعوض عليه ما فاته من عواطف الابوة.

ولذلك نرى الكتاب الكريم يسلك طريقاً جديداً للوصول إلى بيان

٢٢

حقوق اليتيم الاجتماعية ذلك هو توجيه الخطاب إلى النبي الاكرم متخذاً من الواقع المرير الذي مر به وهو طفل خير درس يوجهه إلى الأفراد لرعاية هذه الزهور الذابلة.

من هذه النقطة سيكون المنطلق لمسيرة الاسلام مع الحملة التوجيهية لليتيم.

لقد مرت هذه الادوار بالرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فقد أباه وهو طفل فقيض الله له جده عبد المطلب ( شيخ الابطح ) ليقوم برعايته ، وتربيته فقد شاءت الحكمة الإِلهية أن يذوق المنقذ الاول للانسانية مرارة اليتم ، فيفقد الحنان الابوي لولا أن يعوضه الله بمن سد له هذه الخله ليطبق الدرس تطبيقاً عملياً فتسير الامة على هداه ، وتنحو هذا النحو من السلوك الذي تتمخض نتائجه بالتوجيه الصالح للافراد.

١ ـ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

٢ ـ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ ) .

٣ ـ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

٤ ـ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) (١) .

هذه الآيات الكريمة جمعت بين طياتها درساً كاملاً لكل ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية.

فهي الدستور الذي لا بد من تطبيقه للوصول إلى الغاية السامية من رعاية حقوق الضعفاء.

وهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لابد للكبار من اجتيازها للوصول بهذا الانسان إلى الهدف المنشود.

__________________

(١) سورة الضحى : الآيات ( ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ).

٢٣

فالمشاكل التي يواجهها اليتيم في بداية الشوط ثلاث :

ـ المسكن الذي يلجأ إليه.

ـ والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم.

ـ والمال الذي ينفق عليه منه.

١ ـ إيواء اليتيم :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

أول ما يحتاجه اليتيم في هذه الحياة هو :

الحضن الذي يضمه.

والصدر الذي يغمره بدفئه.

والبيت الذي يمرح فيه.

فإذا تهيأت هذه الثلاث كان بالامكان أن يحفظ هذا الطفل المهمل ليقوم بالانفاق عليه مادياً ، ومعنوياً.

ومن هنا جاءت فكرة الملاجيء للأيتام ومدى ما تسديه من خدمة للمجتمع في محافظتها على هذه الفئة من الاطفال.

لذلك يبدأ الكتاب المجيد بتذكير المشرع الاعظم بأولى مراحل احتياجاته وهو طفل يتيم فيخاطبه بهذا الاسلوب الهاديء لينقله إلى ذلك الدور الذي مر عليه.

أنت أيها المشرّع أحسست بهذا الشعور يوم ودع أبوك هذه الدنيا وهو في ريعان شبابه فكنت مشتبكاً لهذه الحوادث القاسية فأواك الله ، وعطف عليك قلوب الحواضن ، وإذا بجدك عبد المطلب يحتضنك فيوليك من حنانه ما يعوضك عن حنان الابوة ، ويوصي بك لعمك أبي طالب فيكفلك ويفضلك على أولاده وليكن بعد ذلك خير ساعد لك على دعوتك المقدسة ووسط هذا العطف تنعمت بما أنساك مرارة الوحدة الابوية وذل اليتم.

٢٤

هذا العم الحنون الذي جاهد ، وكافح في سبيل رعاية ابن أخيه في الوقت الذي كانت العرب تنظر إليه كسير الجناح مهيض الجانب يتيماً لا أب له.

ان أبناء الجزيرة ـ كما أسلفنا ـ كانوا قد فقدوا القيم الرفيعة بتكالبهم الوحشي على اغتصاب الآخرين.

لذلك كانت الشريعة المقدسة قد غيرت المفاهيم الخاطئة وأصلحت ما كان منها فاسداً ، فاختارت من بين هذه المجموعة الضعيفة يتيماً كان محطاً للرحمة الإِلهية في تبليغ رسالة السماء إلى أبناء الارض ليعطي صورة واضحة عن القيم ، والاخلاق وليزيل عن الاذهان الصور الخاطئة ، والتي كانت تعبر عن الانحراف الذهني لابناء الجزيرة العربية في عصورها المظلمة.

إذاً فلا بد من المأوى لليتيم ، ولا بد من تهيئة الملجأ لليتيم فبلا مأوىً سيصبح هذا الطفل متسولاً تتلاقفه ارصفة الشوارع ، ومنعطفات الأزقة ، فيكون عالة على بلده ، ويكون هذا التسيب مبدأ مسيرته الاجرامية ، فلا مخدع يؤيه ، ولا رقيب ينتظره يقطع ساعات الليل متسكعاً ليلحقها في نهارة منبوذاً تحتضنه تكايا الرذيلة فاذا به عضو فاسد تخسره الامة ، ويكون وبالاً عليها وعلى أبنائها.

وقد جاء في الخبر عن النبي (ص) قوله « خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه »(١) .

فلماذا هذه الاساءة لطفل لا ذنب له ، ولا دخل له في تحقق اليتم ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة تحت رقم (٣٦٧٩).

٢٥

وإنطباقه عليه. إنه كبقية الاطفال ، وقد شاءت الاقدار أن تخطف منه من يحنو عليه ، فهل يكون ذلك سبباً في تسويغ الاساءة إليه.

إن العطف الانساني ، واللطف ، والرعاية ليدعو كل ذلك إلى تقديم هذا المحروم على بقية الاولاد ممن يضمهم البيت لئلا يشعر اليتيم بذل الوحدة ، ومرارة الوحشة. وإلا فإن البيت الذي لا يجد هذا الصغير فيه المعاملة الحسنة هو شر البيوت كما يحدث عنه الخبر ، وبالعكس إن وجد اليتيم اليد الحانية في ذلك البيت ، والعطف الذي يدغدغ قلبه الكسير كان ذلك البيت خير بيت تحوطه البركة ، وتشمله الرعاية الإِلهية.

٢ ـ الانفاق على اليتيم :

( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

وسواء كان الغنى المقصود هو الانفاق من أبي طالب ، أو الاموال التي صرفتها خديجة على النبي الاكرم فان المال هو العصب الذي يقوم بحفظ حياة الانسان ليحقق له احتياجاته كإنسان يأكل ، ويشرب ، ويلبس.

ان الغنى هو ما يقابل الفقر على كل حال ، ولذلك أخذت الآية الكريمة تذكر نبي الرحمة بهذه النقطة الحساسة لتدفع في نفسه الهمة على مساعدة الضعفاء ممن مروا بهذه المرحلة العسيرة.

فاليتيم وهو فقير بحاجة إلى من يمد له يد العون فيشبع له بطنه ، ويستر له عريه ولذلك تنوعت دعوة القرآن إلى مساعدة الضعفاء ، والاخذ بأيديهم لتأمين احتياجاتهم المعاشية.

ولنستعرض معاً هذه الطرق التي سلكها الكتاب الكريم لحث الناس على الانفاق والعطاء.

٢٦

التجارة مع الله

ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني.

وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :

في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله. وفي الآخرة بالثواب الجزيل.

وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه.

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (١) .

( آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٢) .

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٤) .

__________________

(١) سورة فاطر : آية (٢٩).

(٢) سورة الحديد : آية (٧).

(٣) سورة البقرة : آية (٢٦١).

(٤) سورة البقرة : آية (٢٦٥).

٢٧

ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير.

وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم.

ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب.

فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه.

( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (١) .

وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) .

أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست

__________________

(١) سورة محمد : آية (٣٨).

٢٨

عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير.

ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية.

وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق.

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد.

أنها حياة الزراعة ، والنمو.

وحياة الربح ، والاستفادة.

ومن منّا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والنسبة الحسابية لهذه العملية هي.

واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٦١).

٢٩

وليقارن الفرد بين العمليتين الحبة يزرعها في الارض فيجني من وراء هذه النبتة سبعمائة حبة.

والدرهم ينفقه الانسان في سبيل الله يجني من ورائه سبعمائة درهم ، أو بمقدار هذه النسبة من الأجر عند الله.

فما ينفقه الملي لانتشال الضعيف من برائن المرض ، والجهل والفقر يساعده على السير إلى الامام ، ومن ثم تحويله إلى المجتمع عضواً صالحاً تستفيد الامة من مواهبه ينتج له بالاضافة إلى هذه الخدمة التي ترضي ضميره ربحاً من الثواب ينتفع به يوم لا ينفع مال ، ولا بنون ، ومن ثم فلطف الله لم يقف عند حد ورحمته أوسع من أن تقدر بقدر ، وبعد كل هذا الربح المعاوضي.

( وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ) .

وليقدر العبد هذه المضاعفة حيث لم تحدها الآية الكريمة إلى مرة ، أو مرتين بل الله يضاعف ، ولتقر عين العبد إذا كان ربه أحد طرفي هذه العملية ، وليس كأحد التجار يحسب معه الحساب الدقيق ، بل هو كريم بلطفه ، ورحيم بعطفه.

ولربما يستكثر البعض أن يكون هذا العمل الانساني مثمراً بهذه الكثرة كمثل الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وبعد كل ذلك فالله يضاعف لمن يشاء.

ويجاب عن ذلك : وهل يحد فضل الله ، وإحسانه ، أو تقف رحمته عند حد أنها العناية الإِلهية هي التي تؤلف بين هذه القلوب الانسانية فتهب الخير ، والثواب ازاء عمل يخدم به مصلحة الآخرين ليكون أداة لتشجيع الباقين.

وتتوالى الصور الحية يعرضها القرآن الكريم ليهيج مشاعر الانسان

٣٠

لتوجيهه نحو عمل الخير ، ومن جملة هذه الصور المعروضة.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ) .

ويحاول القرآن الكريم أن يعيش مع الافراد ليدخل إلى قلوبهم ، ويعرض عليهم صوراً من الدروس الحية فيمثل لهم أمثلة نابعة من صميم حياتهم اليومية ليكون ذلك أبلغ في الوصول إلى المقصود.

فمرة يمثل الانفاق بالتجارة.

وأخرى يمثله بالزراعة.

وثالثة يعرض أمام القارىء صوراً لحبة على ربوة وإذا بالمطر يغمرها فتقدم نتاجها المضاعف.

كل ذلك ليصل ممن وراء هذه الصور الى القلوب ليغرس فيها حُب الخير بالانفاق الى الضعفاء ، والمعوزين لئلا يبقى فقير جائع بين المجموعة.

وإذا ما أذكى نغم القرآن العذب لهب العزم على الخير في تلك القلوب التي استجابت لنداء الحق ، وقرب إلى أذهانهم نتائج أعمالهم الطيبة كحبة أثمرت سبعمائة حبة ، أو كحبة أتت أكلها ضعفين.

وأنهم بذلك يربحون صفقة تجارية رابحة أحد طرفيها ـ الله عز وجل ـ هرع الناس إلى النبي الاكرم يسألونه عن بنود هذه العملية الرابحة ، ويتكشفون منه حقيقة هذا الانفاق الذي يريده الله.

ماذا ولمن ؟.

فنوعية الانفاق ، وكيفيته ، وجنس ما ينفق ، ولمن يكون الانفاق ، وعلى من يلزمهم الصرف ، والعطاء.

٣١

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (١) .

والسؤال في ظاهر الآية عما ينفق بينما جاء الجواب عمن ينفق عليه ولرفع هذا الالتباس يقول علماء التفسير.

فان قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله( مَا أَنفَقْتُم ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف.

قلت : قد تضمن قوله( مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبين الكلام على ما حداهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها »(٢) .

وقال الطبرسي : « السؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عمله فانهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق »(٣) .

لقد كان التحضير من الآيات الكريمة السابقة في الترغيب والتشويق الى الانفاق هو الذي دعاهم للسؤال عن كيفية الإِنفاق.

لذلك بدأ القرآن يبين لهم مراحل الإِنفاق بجهتيه :

نوعيته ، ومصرفه.

فعن النوعية لم يحدد لهم شيئاً يفرض فيه الانفاق ، بل ترك ذلك إلى تقديرهم.

فالاطعام خير ، والكساء خير ، والمال خير.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

(٢) الكشاف للزمخشري : في تفسيره لهذه الآية.

(٣) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

٣٢

وهكذا نرى الشارع المقدس يترك الباب مفتوحاً ، فلم يحدد نوعية الانفاق ، بل يصفه بالخير جاء ذلك في آيات عديدة قال تعالى فيها :

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ) (١) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) (٢) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (٣) .

وعن المصرف ، وهو المنفق عليه : بدأ الكتاب الكريم بأسرتي الإِنسان الخاصة ، والعامة ليحيط بره جميع الاطراف التي تضم الانسان.

فالاسرة الخاصة : وتتألف من الابوين العمودين ومن ثم الحواشي ، وهم الاطراف النسبية قال تعالى :

( قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) .

واذا ما تجاوزنا أسرة الانسان الخاصة رأينا القرآن الكريم يلحق بهذه الاسرة المكونة من الوشائج النسبية الاسرة العامة ، وتتألف من :

اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل.

وهذا التدرج هو الذي تقتضيه طبيعة الاجتماع في هذه الحياة ، وقوانينه.

فالوالدان عمودا الانسان ، ومن ثم حواشيه وهم أطرافه وكلالته على حد تعبير الفقهاء لهم حصة في الميراث حسب التدرج في الطبقات لانهم يحيطون بالرجل كالاكليل الذي يحيط بالرأس.

ومن ثم يتعدى في المراحل إلى الجماعة العامة من أصناف المعوزين.

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) سورة البقرة : الآيات ( ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ).

٣٣

ولا بد للمنفق من السير على هذا الخط الذي رسمته الآية الكريمة فانه من الايحاءات في البيئة المتقاربة ، والتي هي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما يقوله الحديث الشريف.

واذا ما عرضنا فقرات الآية الكريمة على هذا النحو من الاجمال فلا بد لنا من الاحاطة بكل فقرة على نحو من التفصيل لنصل من وراء ذلك إلى ما يعطيه هذا التموج التدريجي في التركيب الفني الجميل.

الأسرة الخاصة :

وقد قلنا بانها تتكون من الوالدين ، والاقربين حسبما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى :

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) (١) .

الوالدان :

الابوة : لفظة بنفسها تعطي ما تحمله هذه الكلمة بين طياتها من الحنان ، والعطف نحو زهرة الحياة ، وبراعم العمر.

والامومة : أنها الشمعة الزاهية باضوائها الحلوة تذيب نفسها لتنير الطريق إلى الآخرين.

ولا يمكن لاي وليدٍ أن يؤدي بعض الحق المفروض عليه تجاه أبويه ، فلطالما سهر الليالي لينعم الوليد بلذة النوم ، ولكم ضمه صدر أم

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

٣٤

حنون ليشعر بدفء لذيذ حتى قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يخاطب ولده الامام الحسن (ع).

« وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى لو أن شيئاً أصابك أصابني »(١) .

هذا الانصهار في الكيان بين الوليد ، ووالده ، وهذه الوحدة في الذات هما اللذان أوجبا أن يصور لنا الامام (ع) هذا الانشداد ليبين أن ما يصيب الولد يصيب الوالد لانهما شيء واحد بفارق يميز أحدهما أنه فرع ، والآخر أنه الأصل ، والنبتة التي كانت منشأ ، لذلك الفرع الجميل.

وإنما أولادنا في الورى

أكبادنا تمشي على الارض

وإذا ما أردنا أن نتبع هذه العواطف الجياشة الكامنة في قلب الاب تجاه وليده لوجدنا مشهداً من هذه المشاهد حيث تنعكس على صفحاته آيات الحب ، والعطف الابوي بين وليد يتمتع بنظارة الشباب ، وشيخ أحنت عليه السنون.

ففي خضم من القلق ، والاضطراب يتجه الشيخ الكبير يحمل فوق كتفيه متاعب القرون الماضية ليستعطف ربه بلهجة كلها الرقة ، والكلمات تتكسر بين شفتيه :

( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) .

إنه نوح ( نبي الله ) أبو البشر الثاني كما تعتبر عنه كتب التأريخ والعبد الصالح المجاهد في سبيل الله. دعى قومه إلى عبادة الله والتوحيد به ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً.

__________________

(١) مقطع من وصية الامير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أوصى بها ولده الامام الحسن (ع) قالها عند رجوعه من صفين.

٣٥

وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فلما يفيق يتجه إلى ربه وبفمٍ تتصاعد منه الحسرات يناجي ربه قائلاً :

« اللهم إهدِ قومي فانهم لا يعلمون ».

وتشاء القدرة الإِلهية أن ينزل العذاب على هؤلاء المعاندين ويكتب لهم الغرق.

( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) .

وانتهى كل شيء وأصبحت السفينة ، وهي سفينة الامان ، جاهزة ووقت اليوم المعلوم لينفذ العذاب في هؤلاء.

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) .

وكانت هذه العلامة ساعة الصفر. ولندع المفسرين ، وخلافاتهم في هذا التنور أين كان ، وفي أي بقعة من الأرض كان قابعا. المهم أنه كان مصدر نبع الماء ، وإندفعت المياه من السماء ضباباً بلا قطرات ، وتفجرت الأرض عيوناً منهمرة ، وفاضت البحار ، وطفحت الانهار ، وكان نوح قد أمر أن يحمل في سفينته :

( مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

من كل جنس من الحيوان زوجين أي ذكراً ، وأنثى.

( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

أي من سبق الوعد بإهلاكه ، والمقصود بذلك أمرئته الخائنة وأضيف إلى أسرة السفينة من الراكبين فيها.

( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

٣٦

واقصر ما قيل في عدد من آمن به ثمانين نفر.

وتكامل العدد ، وسارت السفينة وسط دنياً من المياه المنهمرة من كل حدب ، وصوب.

( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ) .

والرياح العاتية تهبط بالسفينة ، وترفعها ، وكسفت الشمس.

تمر تلك اللحظات ، ويتفقد ربان السفينة ، نبي الله نوح فلم يجد إبنه كنعان من ضمن الراكبين ، وحانت منه التفاتة وإذا بالولد يهرب صوب الجبال التي بعد لم يصل إليها الماء والهلع يأخذ منه مأخذه.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) .

يا بني : إنه نداء الابوة الحنون ينبثق من القلب العطوف يرتل هذا النغم الهاديء ليصل إلى مسامع الولد المذهول من هذا المنظر المخيف يطلب إليه أن يلحتق بسفينته لينجو من عذاب الله المحتم.

ولكن الولد المذعور يهرب من هذا النداء الابوي ليطلقها صيحة مدوية تضيع بين زمجرة الامواج العالية.

( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) .

فهو يحاول عبثاً أن يأوي إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، ويبعد عنه شبح الموت الذي يتراءى له من بين هذه المياه المتدفقة من جميع الجهات.

وعلى العكس فلم ييأس الشيخ الوقور ، وأعاد الكرة ، وظن أنه سيفلح في إقناع ولده ، فعاد إليه ، والحسرة تأكل قلبه متوسلاً وهو يقول :

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) .

٣٧

وضاعت التوسلات وسط الامواج ، وبعد الشبح ، وذهب الولد هارباً ، وأسدل الستار على الحوار العاطفي.

( وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ ) .

وابتلعت المياه كل شيء ، ولم يبق من مخلوقات الله إلا :

( مَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

وهم ركاب السفينة.

وصدرت الأوامر الإِلهية :

( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وتنفس الشيخ الهرم الصعداء ، فلقد أخذت المياه كل أولئك الذين كفروا برسالته ، واذاقوه ألوان العذاب.

ولم تشغل هذه المناظر المرعبة ، والنتائج التي حصل عليها في التغلب على الاعداء من التفكير في ولده بعد أن ضاعت توسلاته بابنه المغرور لذلك اتجه إلى ربه يذكره بوعده بأن أهله من ضمن الناجين من العذاب إلا إمرأته التي خانته في الإِيمان به ، وولده من أهله.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) .

أنه بهذا التضرع يعترف من طرف خفي بحقيقة العاطفة الطاغية على مركز النبوة ، والعصمة.

وماتت البسمة ، وانطفأ الأمل ، ومات شبح الابن حينما جاءه النداء :

( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا

٣٨

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) .

لقد أرخى الشيخ الكبير لعاطفته العنان فتجاوز الحد المرسوم ، وطالب بما ليس له أن يطالب فيه ، وها هو يتلقى التهديد بالترك عما يطلب ، وإذا به يعود إلى لطفه وعطفه فيتضرع من أجل هذا الالحاح قائلاً :

( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

بماذا تجازى هذه العواطف الجياشة من الآباء.

وما هو الاسلوب الذي يلزمنا تجاه هذا البركان المتفجر من العطف أنه القرآن الكريم حدد لنا ، وتكفل ببيان هذه الكيفية التي لا بد من تطبيقها نحو هذين الملاكين في المجالين التربوي ، والمالي.

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ،وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (٢) .

درس بليغ في الادب نستوضحه من خلال هذه الآية الكريمة حيث تدرج الشارع المقدس ببيان المراحل السلوكية مع الابوين على النحو التالي :

الاولى :

بيان مكانة الابوين ، وقيمتهما المعنوية ، ويبدو هذا واضحاً في اعتبار الاحسان اليهما بالدرجة التالية مباشرة لعبادة

__________________

(١) الآيات المتقدمة من سورة هود : ( ٣٦ ، ٤٧ ).

(٢) سورة الاسراء آية ( ٣٣ ـ ٣٤ ).

٣٩

الله ، وبذلك نعرف مدى الواجب على الابناء في تقدير الابوين ، وقد جاء مثل هذا الايصاء في آيات أخرى فقد قال تعالى :

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) (١) .

( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ ) (٢) .

لقد أتى رجل إلى رسول الله (ص) فقال : ( يا رسول الله : أوصني فقال : لا تشرك بالله شيئاً ، وإن حرقت بالنار ، وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك ، فأطعمهما ، وبرهما حيين كانا ، أو ميتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ، ومالك فافعل ، فان ذلك من الايمان »(٣) .

إن هذه الوصية من النبي (ص) تعطينا مدى اهتمام المشرع بالوالدين ، فقد قرن الايصاء بالاحسان إليهما بعبادة الله وعدم الشرك به ، وجعل ذلك من الايمان ، ثم أنه لم يكتف بالايصاء بالبر بهما في حياتهما بل أمر بذلك بعد موتهما. ولما يتسائل عن كيفية البر بالوالدين بعد الموت ذلك لأن الاحسان إنما يكون لمن هو حي يتقبل ما يجود به الانسان عليه ، أما إذا مات الانسان فقد انقطعت عنه الحياة ومات فيه الشعور فكيف يكون الاحسان إليه ؟

لقد أوضح الامام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) هذه الجهة عندما قال :

« من يمنع الرجل منكم أن يبر بوالديه حيين ، وميتين يصلي عنهما ، ويتصد عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع

__________________

(١) سورة : آية (٣٦).

(٢) سورة لقمان آية (١٤).

(٣) اصول الكافي : حديث (٢) باب البر بالوالدين.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وضاق معاوية ذرعاً بالإمام الحسنعليه‌السلام حينما كان في دمشق بعد الذي رآه من إقبال الناس واحتفائهم به، فعقد مجالس حشدها بالقوى المنحرفة عن أهل البيتعليهم‌السلام والمعادية لهم مثل : ابن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة وزياد بن أبيه وعبد الله بن الزبير، وأوعز لهم بالتطاول على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنيل منه، ليزهد الناس فيه، ويشفي نفسه من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش، وقد قابله هؤلاء الأوغاد بمرارة القول وبذاءة الكلام، وكانعليه‌السلام يسدِّد لهم سهاماً من منطقه الفيّاض فيسكتهم.

ولقد كان الإمام في جميع تلك المناظرات هو الظافر المنتصر، وخصومه الضعفاء قد اعترتهم الاستكانة والهزيمة والذهول .

المناظرة الأُولى :

أقبل معاوية على الإمامعليه‌السلام فقال له : "يا حسن أنا خير منك !" فقال له الإمامعليه‌السلام : "وكيف ذاك يا بن هند ؟"، فقال معاوية : لأنّ الناس قد أجمعوا عليّ، ولم يجمعوا عليك .

فقال له الإمامعليه‌السلام : "هيهات، لشرّ ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنّك لا خير فيك، فإنّ الله قد برّأني من الرذائل كما برأك من الفضائل"(١) .

المناظرة الثانية :

وهناك موقف آخر، ولعلّه من أروع ما نقله التأريخ من مواقف الإمامعليه‌السلام ، فقد اجتمع لدى معاوية أربعة من أعمدة حكمه ومروّجي جاهليّته، وهم : عمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، وطلبوا منه إحضار الإمامعليه‌السلام لكي يعيبوه وينالوا منه، بعدما ساءهم إلتفاف الناس حوله يلتمسون منه عطاء العلم والدين.

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٦ ، عن روضة الواعظين للنيسابوري .

١٦١

ويقال : إنّ معاوية رفض أن يرسل إليه، وقال : "لا تفعلوا، فوالله ما رأيته قطّ جالساً عندي إلاّ خفت مقامه وعيبه لي، وقال : إنّه ألسن بني هاشم" فعزموا عليه بأن يرسل إليه .

فقال : إن بعثت إليه لأنصفنّه منكم، فقال ابن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقّنا ؟! قال معاوية : أما إنّي إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلّم بلسانه كلّه، واعلموا أنّهم أهل بيت، لا يعيبهم العائب، ولا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له : إنّ أباك قتل عثمان، وكره خلافة الخلفاء قبله .

ثم أرسل إلى الإمام من يدعوه، فحضر فأكرمه معاوية وأعظمه، وقال له : إنّي كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك، وإنّ لك منهم النصف ومنّي، وإنّا دعوناك لنقرّرك أنّ عثمان قتل مظلوماً، وأنّ أباك قتله، فأجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلّم بكلّ لسانك .

فتكلّم عمرو بن العاص، فذكر عليّاً، وتجاوز في سبّه وشتمه، ثم ثنّى بالحسن وعابه وأغرق في الخدشة، وممّا قاله : "... يا حسن، تحدّث نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبّه وإنّما دعوناك لنسبّك أنت وأباك ..." .

ثم تكلّم الوليد بن عقبة فشنّع وأبان عن عنصريته، ونال من بني هاشم.

ثم تكلّم عتبة بن أبي سفيان، فأفصح عن حقده ولؤمه، وممّا قال : "... يا حسن، كان أبوك شرّ قريش لقريش، أسفكه لدمائها، وأقطعه لأرحامها، طويل السيف واللسان، يقتل الحيّ ويصيب الميّت، وأمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادماً، ولا في ميزانها راجحاً" .

ثم تكلّم المغيرة بن شعبة، فشتم عليّاً وقال : "والله ما أعيبه في قضية بخون، ولا في حكم بميل، ولكنّه قتل عثمان .

ثم سكتوا، فتكلّم الإمامعليه‌السلام ، وممّا قال :

"أمّا بعد يا معاوية، فما هؤلاء شتموني، ولكنّك شتمتني، فحشاً ألفته، وسوء رأي عرفت به، وخُلقاً سيئاً ثبتّ عليه، وبغياً علينا عداوة لمحمد وآله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولنّ فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم" .

ثم أخذ في المقارنة بين مواقف أبيه ومواقف معاوية وأبيه، فقال :

"أنشدكم الله، هل تعلمون أُنه أول الناس إيماناً، وأ نّك يا معاوية وأباك من المؤلّفة قلوبهم، تسرّون الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال.

١٦٢

وإنّه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر، وإنّ راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم اُحد ويوم الأحزاب، ومعه راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعك ومع أبيك راية الشرك، وفي كلّ ذلك يفتح الله له، ويفلج حجّته، وينصر دعوته، ويصدق حديثه، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المواطن كلّها عنه راض، وعليك وعلى أبيك ساخط" .

وأخذعليه‌السلام في تعداد فضائل أبيه وما ورد فيه من الأحاديث على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواقفه العظيمة التي نصر بها الدين وأذلّ بها المشركين، ثم قال :"وجاء أبوك على جمل أحمر يوم الأحزاب يحرّض الناس وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعن الراكب والقائد والسائق، وأنت يا معاوية، دعا عليك رسول الله لمّا أراد أن يكتب كتاباً إلى بني خزيمة فبعث إليك، فنهمك إلى يوم القيامة فقال :اللّهمّ لا تشبعه" .

ثم أخذ في بيان بعض مواقف أبيه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمواطن السبعة التي لعن فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان، وبعد أن أنهى خطابه لمعاوية، التفت إلى عمرو بن العاص فقال:

وأمّا أنت يا بن النابغة، فادّعاك خمسة من قريش، غلب عليك الأمهم حسباً وأخبثهم منصباً، وولدت على فراش مشترك، ثم قام أبوك فقال : أنا شانئ محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) وقاتلت رسول الله في جميع المشاهد وهجوته، وآذيته في مكة وكدته، وكنت من أشدّ الناس له تكذيباً وعداوة .

ثمّ خرجت تريد النجاشي، لتأتي بجعفر وأصحابه، فلمّا أخطأك ما رجوت ورجعك الله خائباً، وأكذبك واشياً، جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي، ففضحك الله، وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام .

وهجوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتاً من الشعر، فقال : اللهمّ إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللّهمّ العنه بكلّ حرف ألف لعنة .

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان، فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً، ثم لحقت بفلسطين، فلمّا أتاك قتله، قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ودّ، وبالله ما نصرت عثمان حباً، ولا غضبت له مقتولاً ..." .

١٦٣

والتفتعليه‌السلام إلى الوليد فقال له :

"فوالله ما ألومك على بغض عليٍّ وقد قتل أباك بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبراً، وجلدك ثمانين في الخمر لمّا صليت بالمسلمين سكران، وسمّاك الله في كتابه فاسقاً، وسمّي أمير المؤمنين مؤمناً، حيث تفاخرتما ..." .

ثم التفت إلى عتبة بن أبي سفيان، وقال له :

"وأمّا أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما عندك خير يرجى، ولا شرّ يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلاّ سواء، وما يضرّ عليّاً لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأمّا وعيدك إيّاي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك وكيف ألومك على بغض عليّ ؟ وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدّك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد" .

ثم التفت إلى المغيرة بن شعبة، وقال له :

"وأمّا أنت يا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه والله لا يشقّ علينا كلامك وإنَّ حدَّ الله عليك في الزنا لثابت، ولقد درأ عمر عنك حقاً، الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها، فقال : لا بأس بذلك يا مغيرة، ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنّك زان .

وأمّا فخركم علينا بالإمارة، فإنّ الله تعالى يقول : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) " (١) .

ثمّ قام الحسنعليه‌السلام فنفض ثوبه وانصرف، فتعلّق عمرو بثوبه وقال : يا أمير المؤمنين، قد شهدت قوله فيّ، وأنا مطالب له بحدّ القذف، فقال معاوية : خلّ عنه، لا جزاك الله خيراً فتركه .

فقال معاوية : قد أنبأتكم أنّه ممّن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبّوه فعصيتموني، والله ما قام حتى أظلم عليَّ البيت قوموا عنّي، فلقد فضحكم الله، وأخزاكم بترككم الحزم، وعدولكم عن رأي الناصح المشفق(٢) .

وينتهي هنا الحوار الفريد الذي ذكرناه بطوله رغم اختصارنا له، واحتفاظنا بالنقاط الأساسية التي يهمّنا أن نضعها بين يدي القارئ، ليتعرّف

__________

(١) الإسراء (١٧) : ١٦ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٣٥، وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد أيضاً : ٢ / ١٠١ .

١٦٤

على الملامح الواقعية لتلك الزمرة المتسلّطة التي تنكّرت لكلّ القيم الأخلاقية، وسلكت طريق الشيطان.

وبهذا الحوار أعطى الإمامعليه‌السلام للمعارضة زخماً جديداً وفاعليةً كبيرةً، حيث كشف للأمة عن الواقع المرير الذي اكتنف الحكم الإسلامي بتسلّط هذه النماذج المنحرفة في أصولها، والمنفعلة برواسبها الجاهلية، والتي لا يمثّل عندها الإسلام إلاّ الوسيلة الفريدة للتسلّط على رقاب الناس، وتلافي النقائص الذاتية التي قدّر لهم أن يرزحوا تحت عبئها البغيض .

وأثبت الإمامعليه‌السلام أنّه ما يزال يقف في موقفه الصامد الذي انطلق منه في صراعه مع الجاهليّة الأُموية. وإن ألجأته ظروف المحنة إلى وضع السيف في غمده وتخطّي مرحلة الحرب; فإنّ كلمة الحقّ الصارخة التي تصمّ آذان الباطل لا يمكن أن يدعها تموت في زحام أراجيف الضلال .

وهكذا ينطلق الإمام في خطاه الرسالية ـ التي هي امتداد لخطى جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعليه تقع مسؤولية حفظ المبادئ الأصيلة التي جاءت من أجلها الرسالة; لترتفع كلمة الله في الأرض.

١٦٥

البحث الرابع : مصير شروط الصلح وشهادة الإمام الحسنعليه‌السلام

إخلال معاوية بالشروط :

كان الشرط الأول ـ وكما مرّ علينا ـ هو أن يسلّم الإمام الأمر لمعاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين .

وقد وقف الإمام الحسنعليه‌السلام عند عهده رغم الضغوط الكثيرة من أصحابه ومخلصيه، مع أنّ الإمام كان في حلّ من شرطه لو أراد; لأنّ التسليم كان مشروطاً، ولم يف معاوية بأيّ واحد من الشروط التي أخذت عليه .

أمّا معاوية فلم يلتزم بالشرط الأول، وأمّا عن الشرط الثاني ـ وهو أن يكون الأمر من بعده للحسن ثم للحسين وأن لا يعهد إلى أحد من بعده ـ فقد أجمع المؤرّخون على أنّ معاوية لم يف بشرطه هذا، بل نقضه بجعل الولاية لابنه يزيد من بعده(١) .

وفيما يتعلّق بالشرط الثالث ـ وهو رفع السبّ عن الإمام عليّعليه‌السلام مطلقاً أو في حضور الإمام الحسن خاصة ـ فقد عزّ على معاوية الوفاء به، لأنّ سبّ عليّ يمثّل لديه الأساس القوي الذي يعتمده في إبعاد الناس عن بني هاشم، وقد ركّز معاوية بعناد وقوة على لزوم اتّباع طريقته في سبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصاياه وكتبه لعمّاله(٢) .

وبخصوص الشرط الرابع فقد قيل: إنّ أهل البصرة حالوا بين الإمام

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٤٢ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ١٥ .

١٦٦

الحسن وبين خراج أبجر، وقالوا: فيئنا(١) ، وكان منعهم بأمر من معاوية لهم(٢) .

وأما الشرط الخامس ـ وهو العهد بالأمان العام، والأمان لشيعة عليّ على الخصوص، وأن لا يبغي للحسنينعليهما‌السلام وأهل بيتهما غائلة سرّاً ولا جهراً ـ وللمؤرّخين فيما يرجع إلى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكّام الأُمويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة(٣) .

وأكّد جميع المؤرخين أنّ الصلح بشروطه الخمسة لم يلق من معاوية أيّة رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والأَيْمان التي قطعها على نفسه، ولكنّه طالع المسلمين بشكل عام بالأوليات البكر والأفاعيل النكراء من بوائقه، وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام بشكل خاص، فكان أول رأس يُطاف به في الإسلام منهم ـ أي من الشيعة ـ وبأمره يُطاف به، وكان أول إنسان يدفن حيّاً في الإسلام منهم، وبأمره يفعل به ذلك .

وكانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم، وهو الآمر بسجنها، وكانت أول مجموعة من الشهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم، وهو الذي قتلهم، واستقصى معاوية بنود المعاهدة كلّها بالخلف، فاستقصى أيْمانه المغلّظة بالحنث، ومواثيقه المؤكّدة التي واثق الله تعالى عليها بالنقض، فأين

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٥٤ .

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير : ٣ / ١٦٢ .

(٣) راجع : صلح الإمام الحسن : ٣١٧ ، في فصل الوفاء بالشروط، وحياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٥٦ ـ ٤٢٣ .

١٦٧

هي الخلافة الدينية يا ترى ؟!(١) .

وبقي آخر شقٍّ من الشروط وهو الأدقّ والأكثر حساسيةً، وكان عليه إذا أساء الصنيع بهذا الشقّ أن يتحدّى القرآن صراحة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة، فصبر عليه ثماني سنين، ثم ضاق به ذرعاً، وثارت به أُمويّته التي جعلته ابن أبي سفيان حقاً بما جاء به من فعلته التي أنست الناس الرزايا قبلها .

وهي أول ذلٍّ دخل على العرب، وكانت بطبيعتها أبعد مواد الصلح عن الخيانة، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية، وكانت بعد نزع السلاح والالتزام من الخصم بالوفاء، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم .

تآمر معاوية على الإمام الحسنعليه‌السلام :

لقد حاول معاوية أن يجعل الخلافة ملكاً عضوضاً وراثة في أبنائه، وقد بذل جميع جهوده وصرف الأموال الطائلة لذلك، فوجد أنّه لا يظفر بما يريد والحسن بن عليّعليه‌السلام حيّ ينتظر المسلمون حكمه العادل وخيره العميم، ومن هنا قرّر اغتيال الإمام المجتبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اغتال به من قبل مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص وغيرهما .

فأرسل إلى الإمام غير مرّة سمّاً فاتكاً حين كان في دمشق فلم ينجح حتى راسل ملك الروم وطلب منه بإصرار أن يرسل له سمّاً فاتكاً، وحصل عليه بعد امتناعه حين أفهمه أنّه يريد قتل ابن من خرج بأرض تهامة لتحطيم عروش الشرك والكفر والجاهلية وهدّد سلطان أهل الكتاب .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٢ .

١٦٨

إنّ بائقة الأب هذه كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن ليشتركا ـ متضامنين ـ في إنجاز أعظم جريمة في تاريخ الإسلام، تلك هي قتل سيّدي شباب أهل الجنة اللذين لا ثالث لهما، وليتعاونا معاً على قطع "الواسطة الوحيدة" التي انحصر بها نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجريمة ـ بهذا المعنى ـ قتل مباشر لحياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامتدادها التأريخي. نعم، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الإسلام !!! فواضَيْعَةَ الإسلام إن كان خلفاؤه من هذه النماذج !!!

وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زيّن له أُسلوباً من القتل قصّر عنه ابنه يزيد، فكان هذا "الشابّ المغرور" وكان ذاك "الداهية المحنّك في تصريف الأمور" !!! ولو تنفس العمر بأبي سفيان إلى عهد ولديه هذين لأيقن أنّهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني أمية .

كيف استشهد الإمام الحسنعليه‌السلام ؟

لقد دعا معاوية مروان بن الحكم إلى إقناع جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الإمام الحسنعليه‌السلام ـ بأن تسقي الحسن السمّ وكان شربة من العسل بماء رومة(١) ، فإن هو قضى نحبه زوّجها بيزيد، وأعطاها مئة ألف درهم .

وكانت جعدة هذه بحكم بنوّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف الذي أسلم مرتين بينهما ردّة منكرة ـ أقرب الناس روحاً إلى قبول هذه المعاملة النكراء .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ وقد اشتهرت كلمة معاوية : " إنّ لله جنوداً من عسل " .

١٦٩

قال الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :"إنّ الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وابنته جعدة سمّت الحسن، وابنه محمّد شرك في دم الحسين عليه‌السلام " (١) .

وهكذا تمّ لمعاوية ما أراد، وكانت شهادتهعليه‌السلام بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة أو تسع وأربعين .

وحكم معاوية بفعلته هذه على مصير أُمة بكاملها، فأغرقها بالنكبات وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات، وتمّ له بذلك نقض المعاهدة إلى آخر سطر فيها .

وقال الإمام الحسنعليه‌السلام وقد حضرته الوفاة :"لقد حاقت شربته، وبلغ أمنيته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال" (٢) .

وورد بريد مروان إلى معاوية بتنفيذ الخطّة المسمومة فلم يملك نفسه من إظهار السرور بموت الإمام الحسنعليه‌السلام ، "وكان بالخضراء فكبّر وكبّر معه أهل الخضراء، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [زوج معاوية] من خوخة(٣) لها، فقالت : سرّك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن عليّ، فقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم بكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(٤) .

والنصوص على اغتيال معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام بالسمّ متضافرة كأوضح قضية في التاريخ(٥) .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ .

(٢) المسعودي ، بهامش ابن الأثير : ٦ / ٥٥ .

(٣) هي الكوة التي تؤدي الضوء إلى البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير .

(٤) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ .

(٥) راجع طبقات ابن سعد ومقاتل الطالبيين ومستدرك الحاكم وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٧ ، وتذكرة الخواص : ٢٢٢ ، والاستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، وكلّها مصادر غير إمامية .

١٧٠

وصاياه الأخيرة :

أ ـ وصيّته لجنادة :

دخل جنادة بن أبي أُميّة ـ الصحابيّ الجليل ـ على الإمام عائداً له ، فالتفت إلى الإمام قائلاً : عظني يا بن رسول الله .

فأجابعليه‌السلام طلبته وهو في أشدّ الأحوال حراجةً ، وأقساها ألماً ومحنةً ، فأتحفه بهذه الكلمات الذهبية التي هي أغلى وأثمن من الجوهر وقد كشفت عن أسرار إمامته ، قائلاً :

" يا جنادة! استعد لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الّذي أنت فيه ، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك ، واعلم أنّ الدنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك ، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العقاب فالعقاب يسير ، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً ، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عَزَّ وجَلَّ ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك وإن قُلتَ صَدَّق قولك ، وإن صُلتَ شَدَّ صولَتَك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألت أعطاك ، وإن سكت عنه إبتدأك ، وإن نزلت بك إحدى الملمّات واساك من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ،

١٧١

ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك "(١) .

ويشتدّ الوجع بالإمامعليه‌السلام ويسعر عليه الألم فيجزع ، فيلتفت إليه بعض عوّاده قائلاً له: يا بن رسول الله ، لِمَ هذا الجزع ؟ أليس الجدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأب علي والأم فاطمة ، وأنت سيّد شباب أهل الجنة ؟! .

فأجابه بصوت خافت: "أبكي لخصلتين : هول المطلع ، وفراق الأحبّة"(٢) .

ب ـ وصيّته للإمام الحسينعليه‌السلام :

ولمّا ازداد ألمه وثقل حاله استدعى أخاه سيّد الشهداء فأوصاه بوصيّته وعهد إليه بعهده ، وهذا نصّه :

"هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأنّه يعبده حقّ عبادته ، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً ، وأنّه أولى من عبده ، وأحقّ من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّي أحقّ به وببيته ، فإن أبوا عليك فأُنشدك الله وبالقرابة التي قرّب الله منك والرحم الماسّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا"(٣) .

ج ـ وصيّته لمحمد بن الحنفية :

وأمر الإمامعليه‌السلام قنبراً أن يحضر أخاه محمد بن الحنفية ، فمضى إليه مسرعاً فلمّا رآه محمد ذُعر فقال : هل حدث إلاّ خير ؟ ، فأجابه بصوت خافت : " أجب أبا محمد " .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٥ .

(٢) أمالي الصدوق : ١٣٣ .

(٣) أعيان الشيعة : ٤ / ٧٩ .

١٧٢

فذهل محمّد واندهش وخرج يعدو حتى أنّه لم يسوِّ شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفرّ الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفتعليه‌السلام له :

"إجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء. كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى; فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ الله عَزَّ وجَلَّ جعل ولد إبراهيم أئمة، وفضّل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبوراً؟ وقد علمت بما استأثر الله به محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا محمد بن علي إنّي لا أخاف عليك الحسد، وإنمّا وصف الله به الكافرين ، فقال تعالى:( كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً. يا محمد بن علي! ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك ؟" .

قال محمد: بلى، فأجابه الإمامعليه‌السلام : " سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً. يا محمد بن علي! لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك. يا محمد بن علي! أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند الله في الكتاب الماضي وراثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابها في وراثة أبيه وأمه ؟ علم الله أنّكم خير خلقه فاصطفى منكم محمداً ، واختار محمد علياً ، واختارني عليّ للإمامة، واخترت أنا الحسين".

فانبرى إليه محمّد مظهراً له الطاعة والانقياد(١) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٨٧ ـ ٤٨٩ .

١٧٣

إلى الرفيق الأعلى :

وثقل حال الإمامعليه‌السلام واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً :

"أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء" .

فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً :

" اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي " .

ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إيّاه فقال :

" لقد حاقت شربته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال "(١) .

وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى ، وسمت إلى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً .

لقد مات حليم المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول وقرّة عينه ، فأظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه(٢) .

__________

(١) تذكرة الخواص : ٢٣ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٦ ، وحلية الأولياء : ٢ / ٣٨ ، وصفوة الصفوة : ١ / ٣٢٠.

(٢) اختلف المؤرّخون في السنة التي توفّي فيها الإمام فقيل : سنة ٤٩ هـ ، ذهب إلى ذلك ابن الأثير وابن حجر في تهذيب التهذيب ، وقيل : سنة ٥١ هـ ، ذهب إلى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، وقيل غير ذلك ، وأمّا الشهر الذي استشهد فيه فقد اختلف فيه أيضاً ، فقيل : في ربيع الأول لخمس بقين منه ، وقيل: في صفر لليلتين بقيتا منه ، وقيل: يوم العاشر من المحرم يوم الأحد سنة ٤٥ من الهجرة كما في المسامرات ( ص٢٦ ) ، وثمّة قول آخر: إنّه استشهدعليه‌السلام في السابع من صفر .

١٧٤

وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع أبو هريرة وهو باكي العين مذهول اللبّ إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي بأعلى صوته : "يا أيّها الناس! مات اليوم حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابكوا"(١) .

وصدعت كلماته القلوب ، وتركت الأسى يحزّ في النفوس ، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة .

تجهيز الإمام وتشييعه :

وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه ، وقد أعانه على ذلك عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن جعفر وعلي بن عبد الله بن عباس وأخواه محمد بن الحنفية وأبو الفضل العباس، فغسّله وكفّنه وحنّطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، وبعد الفراغ من تجهيزه; أمرعليه‌السلام بحمل الجثمان المقدّس إلى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه(٢) .

وكان تشييع الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد نظيره عاصمة الرسول ، فقد بعث الهاشميّون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم(٣) وقد حدّث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال :

__________

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٣٠١ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٧ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٠ .

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٨ / ٢٢٨ .

١٧٥

" شهدت الحسن يوم مات ، ودفن في البقيع ، ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان "(١) . وقد بلغ من ضخامة التشييع أنّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس.

دفن الإمامعليه‌السلام وفتنة عائشة :

ولم يشكَّ مروان ومن معه من بني أمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسينعليه‌السلام إلى قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجدّد به عهداً; أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، أَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.

وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثم نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّهعليه‌السلام كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.

ثم أقبل على عائشة وقال لها: وا سوأتاه! يوماً على

__________

(١) الإصابة : ١ / ٣٣٠ .

١٧٦

بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفِئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين والله منتصر لأهل البيت ولو بعد حين .

وقال الحسينعليه‌السلام :"والله لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا" .

ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها)(١) .

ووقف الإمام الحسينعليه‌السلام على حافة القبر ، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً :" رحمك الله يا أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى رَوْح ورَيْحان ، وجنّة ونعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسى عنه " (٢) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٩٩ عن كفاية الطالب: ٢٦٨ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٥٠٠ .

١٧٧

الفصل الثالث: تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام

١ ـ نظرة عامة في تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام :

الإمام المجتبىعليه‌السلام كأبيه المرتضى وجدّه المصطفى قائد مبدئي تتلخّص مهمّاته القيادية في كلمة موجزة ذات معنىً واسع وأبعاد شتى هي : "الهداية بأمر الله تعالى" انطلاقاً من قوله تعالى :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (١) .

والهداية بأمر الله سبحانه تتجلّى في تبيان الشريعة وتقديم تفاصيل الأحكام العامة أو المطلقة التي نصّ عليها القرآن الكريم والرسول العظيم، كما تتجلّى في تفسير القرآن الحكيم وإيضاح مقاصد الرسول الكريم .

وتتجلّى الهداية في تطبيق أحكام الله تعالى على الأُمة المسلمة وصيانة الشريعة والنصوص الإلهية من أيّ تحريف أو تحوير يتصدّى له الضالّون المضلّون .

والثورة التي فجّرها الإسلام العظيم هي ثورة ثقافية قبل أن تكون ثورة اجتماعية أو اقتصادية، فلا غرو أن تجد الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يفرّغون أنفسهم لتربية الأُمة وتثقيفها على مفاهيم الرسالة وقيمها، وهم

__________

(١) الأنبياء (٢١) : ٧٣ .

١٧٨

يرون أنّ مهمّتهم الأُولى هي التربية والتثقيف انطلاقاً من النصّ القرآني الصريح في بيان أهداف الرسالة والرسول الذي يرى الإمام نفسه استمراراً له وقيّماً على ما أثمرته جهود الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من "رسالة" و "أُمة" و "دولة"، قال تعالى مفصِّلاً لأهداف الرسالة ومهمّات الرسول :( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

ولئن غضّ الإمام المجتبى الطرف عن الخلافة لأسباب دينية ومبدئية; فهو لم يترك الساحة ومواريث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتنهب بأيدي الجاهلييّن، بل نجده قد تصدّى لتربية القاعدة التي على أساسها تقوم الدولة وعليها تطبّق أحكام الشريعة.

وقد خلّف الإمام المجتبى تراثاً فكرياً وعلمياً ثرّاً من خلال ما قدّمه من نصوص للأُمة الإسلامية على شكل خطب أو وصايا أو احتجاجات أو رسائل أو أحاديث وصلتنا في فروع المعرفة المختلفة، ممّا يكشف عن تنوّع اهتمامات الإمام الحسن وسعة علمه وإحاطته بمتطلّبات المرحلة التي كانت تعيشها الأُمة المسلمة في عصره المحفوف بالفتن والدواهي التي قلّ فيها من كان يعي طبيعة المرحلة ومتطلباتها إلاّ أن يكون محفوفاً برعاية الله وتسديده.

ونستعرض صوراً من اهتمامات الإمام العلمية، ونلتقط شيئاً من المفاهيم والقيم المُثلى التي ظهرت على لسانه وعبّر عنها ببليغ بيانه، أو تجلّت في تربيته لتلامذته وأصحابه .

__________

(١) الجمعة (٦٢) : ٢ .

١٧٩

٢ ـ في رحاب العلم والعقل :

أ ـ قالعليه‌السلام في الحثّ على طلب العلم وكيفية طلبه وأُسلوب تنميته :

١ ـ "تعلّموا العلم، فإنّكم صغار في القوم، وكبارهم غداً، ومن لم يحفظ منكم فليكتب"(١) .

٢ ـ "حُسن السؤال نصف العلم"(٢) .

٣ ـ "علّم الناس، وتعلَّم عِلمَ غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلمتَ ما لمَ تَعلم"(٣) .

٤ ـ "قَطعَ العلم عُذر المتعلّمين" .

٥ ـ "اليقين معاذ السلامة" .

٦ ـ "أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكّر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمه"(٤) .

ب ـ إنّ العقل أساس العلم، ومن هنا فقد عرّف العقل من خلال لوازمه وآثاره العلمية ومدى أهميته ودوره في كمال الإنسان بقوله :

١ ـ "العقل حفظ القلب كلّ ما استرعيته"(٥) .

٢ ـ "لا أدب لمن لا عقل له، ولا مودّة لمن لا همّة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك سعادة الدارين، ومن حرم العقل حرمهما جميعاً" .

٣ ـ "لا يغشّ العقل من استنصحه" .

__________

(١) عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ١٤٢ .

(٢) نور الأبصار : ١١٠ .

(٣) الأئمة الاثنا عشر : ٣٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٤٣، ٣٤٦ .

(٥) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٥٧ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206