اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133454 / تحميل: 10033
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وضاق معاوية ذرعاً بالإمام الحسنعليه‌السلام حينما كان في دمشق بعد الذي رآه من إقبال الناس واحتفائهم به، فعقد مجالس حشدها بالقوى المنحرفة عن أهل البيتعليهم‌السلام والمعادية لهم مثل : ابن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة وزياد بن أبيه وعبد الله بن الزبير، وأوعز لهم بالتطاول على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنيل منه، ليزهد الناس فيه، ويشفي نفسه من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش، وقد قابله هؤلاء الأوغاد بمرارة القول وبذاءة الكلام، وكانعليه‌السلام يسدِّد لهم سهاماً من منطقه الفيّاض فيسكتهم.

ولقد كان الإمام في جميع تلك المناظرات هو الظافر المنتصر، وخصومه الضعفاء قد اعترتهم الاستكانة والهزيمة والذهول .

المناظرة الأُولى :

أقبل معاوية على الإمامعليه‌السلام فقال له : "يا حسن أنا خير منك !" فقال له الإمامعليه‌السلام : "وكيف ذاك يا بن هند ؟"، فقال معاوية : لأنّ الناس قد أجمعوا عليّ، ولم يجمعوا عليك .

فقال له الإمامعليه‌السلام : "هيهات، لشرّ ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنّك لا خير فيك، فإنّ الله قد برّأني من الرذائل كما برأك من الفضائل"(١) .

المناظرة الثانية :

وهناك موقف آخر، ولعلّه من أروع ما نقله التأريخ من مواقف الإمامعليه‌السلام ، فقد اجتمع لدى معاوية أربعة من أعمدة حكمه ومروّجي جاهليّته، وهم : عمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، وطلبوا منه إحضار الإمامعليه‌السلام لكي يعيبوه وينالوا منه، بعدما ساءهم إلتفاف الناس حوله يلتمسون منه عطاء العلم والدين.

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٦ ، عن روضة الواعظين للنيسابوري .

١٦١

ويقال : إنّ معاوية رفض أن يرسل إليه، وقال : "لا تفعلوا، فوالله ما رأيته قطّ جالساً عندي إلاّ خفت مقامه وعيبه لي، وقال : إنّه ألسن بني هاشم" فعزموا عليه بأن يرسل إليه .

فقال : إن بعثت إليه لأنصفنّه منكم، فقال ابن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقّنا ؟! قال معاوية : أما إنّي إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلّم بلسانه كلّه، واعلموا أنّهم أهل بيت، لا يعيبهم العائب، ولا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له : إنّ أباك قتل عثمان، وكره خلافة الخلفاء قبله .

ثم أرسل إلى الإمام من يدعوه، فحضر فأكرمه معاوية وأعظمه، وقال له : إنّي كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك، وإنّ لك منهم النصف ومنّي، وإنّا دعوناك لنقرّرك أنّ عثمان قتل مظلوماً، وأنّ أباك قتله، فأجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلّم بكلّ لسانك .

فتكلّم عمرو بن العاص، فذكر عليّاً، وتجاوز في سبّه وشتمه، ثم ثنّى بالحسن وعابه وأغرق في الخدشة، وممّا قاله : "... يا حسن، تحدّث نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبّه وإنّما دعوناك لنسبّك أنت وأباك ..." .

ثم تكلّم الوليد بن عقبة فشنّع وأبان عن عنصريته، ونال من بني هاشم.

ثم تكلّم عتبة بن أبي سفيان، فأفصح عن حقده ولؤمه، وممّا قال : "... يا حسن، كان أبوك شرّ قريش لقريش، أسفكه لدمائها، وأقطعه لأرحامها، طويل السيف واللسان، يقتل الحيّ ويصيب الميّت، وأمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادماً، ولا في ميزانها راجحاً" .

ثم تكلّم المغيرة بن شعبة، فشتم عليّاً وقال : "والله ما أعيبه في قضية بخون، ولا في حكم بميل، ولكنّه قتل عثمان .

ثم سكتوا، فتكلّم الإمامعليه‌السلام ، وممّا قال :

"أمّا بعد يا معاوية، فما هؤلاء شتموني، ولكنّك شتمتني، فحشاً ألفته، وسوء رأي عرفت به، وخُلقاً سيئاً ثبتّ عليه، وبغياً علينا عداوة لمحمد وآله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولنّ فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم" .

ثم أخذ في المقارنة بين مواقف أبيه ومواقف معاوية وأبيه، فقال :

"أنشدكم الله، هل تعلمون أُنه أول الناس إيماناً، وأ نّك يا معاوية وأباك من المؤلّفة قلوبهم، تسرّون الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال.

١٦٢

وإنّه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر، وإنّ راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم اُحد ويوم الأحزاب، ومعه راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعك ومع أبيك راية الشرك، وفي كلّ ذلك يفتح الله له، ويفلج حجّته، وينصر دعوته، ويصدق حديثه، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المواطن كلّها عنه راض، وعليك وعلى أبيك ساخط" .

وأخذعليه‌السلام في تعداد فضائل أبيه وما ورد فيه من الأحاديث على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواقفه العظيمة التي نصر بها الدين وأذلّ بها المشركين، ثم قال :"وجاء أبوك على جمل أحمر يوم الأحزاب يحرّض الناس وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعن الراكب والقائد والسائق، وأنت يا معاوية، دعا عليك رسول الله لمّا أراد أن يكتب كتاباً إلى بني خزيمة فبعث إليك، فنهمك إلى يوم القيامة فقال :اللّهمّ لا تشبعه" .

ثم أخذ في بيان بعض مواقف أبيه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمواطن السبعة التي لعن فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان، وبعد أن أنهى خطابه لمعاوية، التفت إلى عمرو بن العاص فقال:

وأمّا أنت يا بن النابغة، فادّعاك خمسة من قريش، غلب عليك الأمهم حسباً وأخبثهم منصباً، وولدت على فراش مشترك، ثم قام أبوك فقال : أنا شانئ محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) وقاتلت رسول الله في جميع المشاهد وهجوته، وآذيته في مكة وكدته، وكنت من أشدّ الناس له تكذيباً وعداوة .

ثمّ خرجت تريد النجاشي، لتأتي بجعفر وأصحابه، فلمّا أخطأك ما رجوت ورجعك الله خائباً، وأكذبك واشياً، جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي، ففضحك الله، وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام .

وهجوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتاً من الشعر، فقال : اللهمّ إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللّهمّ العنه بكلّ حرف ألف لعنة .

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان، فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً، ثم لحقت بفلسطين، فلمّا أتاك قتله، قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ودّ، وبالله ما نصرت عثمان حباً، ولا غضبت له مقتولاً ..." .

١٦٣

والتفتعليه‌السلام إلى الوليد فقال له :

"فوالله ما ألومك على بغض عليٍّ وقد قتل أباك بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبراً، وجلدك ثمانين في الخمر لمّا صليت بالمسلمين سكران، وسمّاك الله في كتابه فاسقاً، وسمّي أمير المؤمنين مؤمناً، حيث تفاخرتما ..." .

ثم التفت إلى عتبة بن أبي سفيان، وقال له :

"وأمّا أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما عندك خير يرجى، ولا شرّ يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلاّ سواء، وما يضرّ عليّاً لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأمّا وعيدك إيّاي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك وكيف ألومك على بغض عليّ ؟ وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدّك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد" .

ثم التفت إلى المغيرة بن شعبة، وقال له :

"وأمّا أنت يا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه والله لا يشقّ علينا كلامك وإنَّ حدَّ الله عليك في الزنا لثابت، ولقد درأ عمر عنك حقاً، الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها، فقال : لا بأس بذلك يا مغيرة، ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنّك زان .

وأمّا فخركم علينا بالإمارة، فإنّ الله تعالى يقول : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) " (١) .

ثمّ قام الحسنعليه‌السلام فنفض ثوبه وانصرف، فتعلّق عمرو بثوبه وقال : يا أمير المؤمنين، قد شهدت قوله فيّ، وأنا مطالب له بحدّ القذف، فقال معاوية : خلّ عنه، لا جزاك الله خيراً فتركه .

فقال معاوية : قد أنبأتكم أنّه ممّن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبّوه فعصيتموني، والله ما قام حتى أظلم عليَّ البيت قوموا عنّي، فلقد فضحكم الله، وأخزاكم بترككم الحزم، وعدولكم عن رأي الناصح المشفق(٢) .

وينتهي هنا الحوار الفريد الذي ذكرناه بطوله رغم اختصارنا له، واحتفاظنا بالنقاط الأساسية التي يهمّنا أن نضعها بين يدي القارئ، ليتعرّف

__________

(١) الإسراء (١٧) : ١٦ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٣٥، وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد أيضاً : ٢ / ١٠١ .

١٦٤

على الملامح الواقعية لتلك الزمرة المتسلّطة التي تنكّرت لكلّ القيم الأخلاقية، وسلكت طريق الشيطان.

وبهذا الحوار أعطى الإمامعليه‌السلام للمعارضة زخماً جديداً وفاعليةً كبيرةً، حيث كشف للأمة عن الواقع المرير الذي اكتنف الحكم الإسلامي بتسلّط هذه النماذج المنحرفة في أصولها، والمنفعلة برواسبها الجاهلية، والتي لا يمثّل عندها الإسلام إلاّ الوسيلة الفريدة للتسلّط على رقاب الناس، وتلافي النقائص الذاتية التي قدّر لهم أن يرزحوا تحت عبئها البغيض .

وأثبت الإمامعليه‌السلام أنّه ما يزال يقف في موقفه الصامد الذي انطلق منه في صراعه مع الجاهليّة الأُموية. وإن ألجأته ظروف المحنة إلى وضع السيف في غمده وتخطّي مرحلة الحرب; فإنّ كلمة الحقّ الصارخة التي تصمّ آذان الباطل لا يمكن أن يدعها تموت في زحام أراجيف الضلال .

وهكذا ينطلق الإمام في خطاه الرسالية ـ التي هي امتداد لخطى جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعليه تقع مسؤولية حفظ المبادئ الأصيلة التي جاءت من أجلها الرسالة; لترتفع كلمة الله في الأرض.

١٦٥

البحث الرابع : مصير شروط الصلح وشهادة الإمام الحسنعليه‌السلام

إخلال معاوية بالشروط :

كان الشرط الأول ـ وكما مرّ علينا ـ هو أن يسلّم الإمام الأمر لمعاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين .

وقد وقف الإمام الحسنعليه‌السلام عند عهده رغم الضغوط الكثيرة من أصحابه ومخلصيه، مع أنّ الإمام كان في حلّ من شرطه لو أراد; لأنّ التسليم كان مشروطاً، ولم يف معاوية بأيّ واحد من الشروط التي أخذت عليه .

أمّا معاوية فلم يلتزم بالشرط الأول، وأمّا عن الشرط الثاني ـ وهو أن يكون الأمر من بعده للحسن ثم للحسين وأن لا يعهد إلى أحد من بعده ـ فقد أجمع المؤرّخون على أنّ معاوية لم يف بشرطه هذا، بل نقضه بجعل الولاية لابنه يزيد من بعده(١) .

وفيما يتعلّق بالشرط الثالث ـ وهو رفع السبّ عن الإمام عليّعليه‌السلام مطلقاً أو في حضور الإمام الحسن خاصة ـ فقد عزّ على معاوية الوفاء به، لأنّ سبّ عليّ يمثّل لديه الأساس القوي الذي يعتمده في إبعاد الناس عن بني هاشم، وقد ركّز معاوية بعناد وقوة على لزوم اتّباع طريقته في سبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصاياه وكتبه لعمّاله(٢) .

وبخصوص الشرط الرابع فقد قيل: إنّ أهل البصرة حالوا بين الإمام

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٤٢ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ١٥ .

١٦٦

الحسن وبين خراج أبجر، وقالوا: فيئنا(١) ، وكان منعهم بأمر من معاوية لهم(٢) .

وأما الشرط الخامس ـ وهو العهد بالأمان العام، والأمان لشيعة عليّ على الخصوص، وأن لا يبغي للحسنينعليهما‌السلام وأهل بيتهما غائلة سرّاً ولا جهراً ـ وللمؤرّخين فيما يرجع إلى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكّام الأُمويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة(٣) .

وأكّد جميع المؤرخين أنّ الصلح بشروطه الخمسة لم يلق من معاوية أيّة رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والأَيْمان التي قطعها على نفسه، ولكنّه طالع المسلمين بشكل عام بالأوليات البكر والأفاعيل النكراء من بوائقه، وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام بشكل خاص، فكان أول رأس يُطاف به في الإسلام منهم ـ أي من الشيعة ـ وبأمره يُطاف به، وكان أول إنسان يدفن حيّاً في الإسلام منهم، وبأمره يفعل به ذلك .

وكانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم، وهو الآمر بسجنها، وكانت أول مجموعة من الشهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم، وهو الذي قتلهم، واستقصى معاوية بنود المعاهدة كلّها بالخلف، فاستقصى أيْمانه المغلّظة بالحنث، ومواثيقه المؤكّدة التي واثق الله تعالى عليها بالنقض، فأين

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٥٤ .

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير : ٣ / ١٦٢ .

(٣) راجع : صلح الإمام الحسن : ٣١٧ ، في فصل الوفاء بالشروط، وحياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٥٦ ـ ٤٢٣ .

١٦٧

هي الخلافة الدينية يا ترى ؟!(١) .

وبقي آخر شقٍّ من الشروط وهو الأدقّ والأكثر حساسيةً، وكان عليه إذا أساء الصنيع بهذا الشقّ أن يتحدّى القرآن صراحة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة، فصبر عليه ثماني سنين، ثم ضاق به ذرعاً، وثارت به أُمويّته التي جعلته ابن أبي سفيان حقاً بما جاء به من فعلته التي أنست الناس الرزايا قبلها .

وهي أول ذلٍّ دخل على العرب، وكانت بطبيعتها أبعد مواد الصلح عن الخيانة، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية، وكانت بعد نزع السلاح والالتزام من الخصم بالوفاء، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم .

تآمر معاوية على الإمام الحسنعليه‌السلام :

لقد حاول معاوية أن يجعل الخلافة ملكاً عضوضاً وراثة في أبنائه، وقد بذل جميع جهوده وصرف الأموال الطائلة لذلك، فوجد أنّه لا يظفر بما يريد والحسن بن عليّعليه‌السلام حيّ ينتظر المسلمون حكمه العادل وخيره العميم، ومن هنا قرّر اغتيال الإمام المجتبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اغتال به من قبل مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص وغيرهما .

فأرسل إلى الإمام غير مرّة سمّاً فاتكاً حين كان في دمشق فلم ينجح حتى راسل ملك الروم وطلب منه بإصرار أن يرسل له سمّاً فاتكاً، وحصل عليه بعد امتناعه حين أفهمه أنّه يريد قتل ابن من خرج بأرض تهامة لتحطيم عروش الشرك والكفر والجاهلية وهدّد سلطان أهل الكتاب .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٢ .

١٦٨

إنّ بائقة الأب هذه كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن ليشتركا ـ متضامنين ـ في إنجاز أعظم جريمة في تاريخ الإسلام، تلك هي قتل سيّدي شباب أهل الجنة اللذين لا ثالث لهما، وليتعاونا معاً على قطع "الواسطة الوحيدة" التي انحصر بها نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجريمة ـ بهذا المعنى ـ قتل مباشر لحياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامتدادها التأريخي. نعم، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الإسلام !!! فواضَيْعَةَ الإسلام إن كان خلفاؤه من هذه النماذج !!!

وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زيّن له أُسلوباً من القتل قصّر عنه ابنه يزيد، فكان هذا "الشابّ المغرور" وكان ذاك "الداهية المحنّك في تصريف الأمور" !!! ولو تنفس العمر بأبي سفيان إلى عهد ولديه هذين لأيقن أنّهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني أمية .

كيف استشهد الإمام الحسنعليه‌السلام ؟

لقد دعا معاوية مروان بن الحكم إلى إقناع جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الإمام الحسنعليه‌السلام ـ بأن تسقي الحسن السمّ وكان شربة من العسل بماء رومة(١) ، فإن هو قضى نحبه زوّجها بيزيد، وأعطاها مئة ألف درهم .

وكانت جعدة هذه بحكم بنوّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف الذي أسلم مرتين بينهما ردّة منكرة ـ أقرب الناس روحاً إلى قبول هذه المعاملة النكراء .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ وقد اشتهرت كلمة معاوية : " إنّ لله جنوداً من عسل " .

١٦٩

قال الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :"إنّ الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وابنته جعدة سمّت الحسن، وابنه محمّد شرك في دم الحسين عليه‌السلام " (١) .

وهكذا تمّ لمعاوية ما أراد، وكانت شهادتهعليه‌السلام بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة أو تسع وأربعين .

وحكم معاوية بفعلته هذه على مصير أُمة بكاملها، فأغرقها بالنكبات وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات، وتمّ له بذلك نقض المعاهدة إلى آخر سطر فيها .

وقال الإمام الحسنعليه‌السلام وقد حضرته الوفاة :"لقد حاقت شربته، وبلغ أمنيته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال" (٢) .

وورد بريد مروان إلى معاوية بتنفيذ الخطّة المسمومة فلم يملك نفسه من إظهار السرور بموت الإمام الحسنعليه‌السلام ، "وكان بالخضراء فكبّر وكبّر معه أهل الخضراء، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [زوج معاوية] من خوخة(٣) لها، فقالت : سرّك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن عليّ، فقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم بكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(٤) .

والنصوص على اغتيال معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام بالسمّ متضافرة كأوضح قضية في التاريخ(٥) .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ .

(٢) المسعودي ، بهامش ابن الأثير : ٦ / ٥٥ .

(٣) هي الكوة التي تؤدي الضوء إلى البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير .

(٤) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ .

(٥) راجع طبقات ابن سعد ومقاتل الطالبيين ومستدرك الحاكم وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٧ ، وتذكرة الخواص : ٢٢٢ ، والاستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، وكلّها مصادر غير إمامية .

١٧٠

وصاياه الأخيرة :

أ ـ وصيّته لجنادة :

دخل جنادة بن أبي أُميّة ـ الصحابيّ الجليل ـ على الإمام عائداً له ، فالتفت إلى الإمام قائلاً : عظني يا بن رسول الله .

فأجابعليه‌السلام طلبته وهو في أشدّ الأحوال حراجةً ، وأقساها ألماً ومحنةً ، فأتحفه بهذه الكلمات الذهبية التي هي أغلى وأثمن من الجوهر وقد كشفت عن أسرار إمامته ، قائلاً :

" يا جنادة! استعد لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الّذي أنت فيه ، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك ، واعلم أنّ الدنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك ، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العقاب فالعقاب يسير ، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً ، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عَزَّ وجَلَّ ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك وإن قُلتَ صَدَّق قولك ، وإن صُلتَ شَدَّ صولَتَك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألت أعطاك ، وإن سكت عنه إبتدأك ، وإن نزلت بك إحدى الملمّات واساك من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ،

١٧١

ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك "(١) .

ويشتدّ الوجع بالإمامعليه‌السلام ويسعر عليه الألم فيجزع ، فيلتفت إليه بعض عوّاده قائلاً له: يا بن رسول الله ، لِمَ هذا الجزع ؟ أليس الجدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأب علي والأم فاطمة ، وأنت سيّد شباب أهل الجنة ؟! .

فأجابه بصوت خافت: "أبكي لخصلتين : هول المطلع ، وفراق الأحبّة"(٢) .

ب ـ وصيّته للإمام الحسينعليه‌السلام :

ولمّا ازداد ألمه وثقل حاله استدعى أخاه سيّد الشهداء فأوصاه بوصيّته وعهد إليه بعهده ، وهذا نصّه :

"هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأنّه يعبده حقّ عبادته ، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً ، وأنّه أولى من عبده ، وأحقّ من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّي أحقّ به وببيته ، فإن أبوا عليك فأُنشدك الله وبالقرابة التي قرّب الله منك والرحم الماسّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا"(٣) .

ج ـ وصيّته لمحمد بن الحنفية :

وأمر الإمامعليه‌السلام قنبراً أن يحضر أخاه محمد بن الحنفية ، فمضى إليه مسرعاً فلمّا رآه محمد ذُعر فقال : هل حدث إلاّ خير ؟ ، فأجابه بصوت خافت : " أجب أبا محمد " .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٥ .

(٢) أمالي الصدوق : ١٣٣ .

(٣) أعيان الشيعة : ٤ / ٧٩ .

١٧٢

فذهل محمّد واندهش وخرج يعدو حتى أنّه لم يسوِّ شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفرّ الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفتعليه‌السلام له :

"إجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء. كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى; فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ الله عَزَّ وجَلَّ جعل ولد إبراهيم أئمة، وفضّل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبوراً؟ وقد علمت بما استأثر الله به محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا محمد بن علي إنّي لا أخاف عليك الحسد، وإنمّا وصف الله به الكافرين ، فقال تعالى:( كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً. يا محمد بن علي! ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك ؟" .

قال محمد: بلى، فأجابه الإمامعليه‌السلام : " سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً. يا محمد بن علي! لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك. يا محمد بن علي! أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند الله في الكتاب الماضي وراثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابها في وراثة أبيه وأمه ؟ علم الله أنّكم خير خلقه فاصطفى منكم محمداً ، واختار محمد علياً ، واختارني عليّ للإمامة، واخترت أنا الحسين".

فانبرى إليه محمّد مظهراً له الطاعة والانقياد(١) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٨٧ ـ ٤٨٩ .

١٧٣

إلى الرفيق الأعلى :

وثقل حال الإمامعليه‌السلام واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً :

"أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء" .

فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً :

" اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي " .

ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إيّاه فقال :

" لقد حاقت شربته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال "(١) .

وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى ، وسمت إلى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً .

لقد مات حليم المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول وقرّة عينه ، فأظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه(٢) .

__________

(١) تذكرة الخواص : ٢٣ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٦ ، وحلية الأولياء : ٢ / ٣٨ ، وصفوة الصفوة : ١ / ٣٢٠.

(٢) اختلف المؤرّخون في السنة التي توفّي فيها الإمام فقيل : سنة ٤٩ هـ ، ذهب إلى ذلك ابن الأثير وابن حجر في تهذيب التهذيب ، وقيل : سنة ٥١ هـ ، ذهب إلى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، وقيل غير ذلك ، وأمّا الشهر الذي استشهد فيه فقد اختلف فيه أيضاً ، فقيل : في ربيع الأول لخمس بقين منه ، وقيل: في صفر لليلتين بقيتا منه ، وقيل: يوم العاشر من المحرم يوم الأحد سنة ٤٥ من الهجرة كما في المسامرات ( ص٢٦ ) ، وثمّة قول آخر: إنّه استشهدعليه‌السلام في السابع من صفر .

١٧٤

وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع أبو هريرة وهو باكي العين مذهول اللبّ إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي بأعلى صوته : "يا أيّها الناس! مات اليوم حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابكوا"(١) .

وصدعت كلماته القلوب ، وتركت الأسى يحزّ في النفوس ، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة .

تجهيز الإمام وتشييعه :

وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه ، وقد أعانه على ذلك عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن جعفر وعلي بن عبد الله بن عباس وأخواه محمد بن الحنفية وأبو الفضل العباس، فغسّله وكفّنه وحنّطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، وبعد الفراغ من تجهيزه; أمرعليه‌السلام بحمل الجثمان المقدّس إلى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه(٢) .

وكان تشييع الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد نظيره عاصمة الرسول ، فقد بعث الهاشميّون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم(٣) وقد حدّث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال :

__________

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٣٠١ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٧ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٠ .

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٨ / ٢٢٨ .

١٧٥

" شهدت الحسن يوم مات ، ودفن في البقيع ، ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان "(١) . وقد بلغ من ضخامة التشييع أنّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس.

دفن الإمامعليه‌السلام وفتنة عائشة :

ولم يشكَّ مروان ومن معه من بني أمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسينعليه‌السلام إلى قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجدّد به عهداً; أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، أَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.

وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثم نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّهعليه‌السلام كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.

ثم أقبل على عائشة وقال لها: وا سوأتاه! يوماً على

__________

(١) الإصابة : ١ / ٣٣٠ .

١٧٦

بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفِئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين والله منتصر لأهل البيت ولو بعد حين .

وقال الحسينعليه‌السلام :"والله لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا" .

ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها)(١) .

ووقف الإمام الحسينعليه‌السلام على حافة القبر ، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً :" رحمك الله يا أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى رَوْح ورَيْحان ، وجنّة ونعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسى عنه " (٢) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٩٩ عن كفاية الطالب: ٢٦٨ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٥٠٠ .

١٧٧

الفصل الثالث: تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام

١ ـ نظرة عامة في تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام :

الإمام المجتبىعليه‌السلام كأبيه المرتضى وجدّه المصطفى قائد مبدئي تتلخّص مهمّاته القيادية في كلمة موجزة ذات معنىً واسع وأبعاد شتى هي : "الهداية بأمر الله تعالى" انطلاقاً من قوله تعالى :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (١) .

والهداية بأمر الله سبحانه تتجلّى في تبيان الشريعة وتقديم تفاصيل الأحكام العامة أو المطلقة التي نصّ عليها القرآن الكريم والرسول العظيم، كما تتجلّى في تفسير القرآن الحكيم وإيضاح مقاصد الرسول الكريم .

وتتجلّى الهداية في تطبيق أحكام الله تعالى على الأُمة المسلمة وصيانة الشريعة والنصوص الإلهية من أيّ تحريف أو تحوير يتصدّى له الضالّون المضلّون .

والثورة التي فجّرها الإسلام العظيم هي ثورة ثقافية قبل أن تكون ثورة اجتماعية أو اقتصادية، فلا غرو أن تجد الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يفرّغون أنفسهم لتربية الأُمة وتثقيفها على مفاهيم الرسالة وقيمها، وهم

__________

(١) الأنبياء (٢١) : ٧٣ .

١٧٨

يرون أنّ مهمّتهم الأُولى هي التربية والتثقيف انطلاقاً من النصّ القرآني الصريح في بيان أهداف الرسالة والرسول الذي يرى الإمام نفسه استمراراً له وقيّماً على ما أثمرته جهود الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من "رسالة" و "أُمة" و "دولة"، قال تعالى مفصِّلاً لأهداف الرسالة ومهمّات الرسول :( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

ولئن غضّ الإمام المجتبى الطرف عن الخلافة لأسباب دينية ومبدئية; فهو لم يترك الساحة ومواريث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتنهب بأيدي الجاهلييّن، بل نجده قد تصدّى لتربية القاعدة التي على أساسها تقوم الدولة وعليها تطبّق أحكام الشريعة.

وقد خلّف الإمام المجتبى تراثاً فكرياً وعلمياً ثرّاً من خلال ما قدّمه من نصوص للأُمة الإسلامية على شكل خطب أو وصايا أو احتجاجات أو رسائل أو أحاديث وصلتنا في فروع المعرفة المختلفة، ممّا يكشف عن تنوّع اهتمامات الإمام الحسن وسعة علمه وإحاطته بمتطلّبات المرحلة التي كانت تعيشها الأُمة المسلمة في عصره المحفوف بالفتن والدواهي التي قلّ فيها من كان يعي طبيعة المرحلة ومتطلباتها إلاّ أن يكون محفوفاً برعاية الله وتسديده.

ونستعرض صوراً من اهتمامات الإمام العلمية، ونلتقط شيئاً من المفاهيم والقيم المُثلى التي ظهرت على لسانه وعبّر عنها ببليغ بيانه، أو تجلّت في تربيته لتلامذته وأصحابه .

__________

(١) الجمعة (٦٢) : ٢ .

١٧٩

٢ ـ في رحاب العلم والعقل :

أ ـ قالعليه‌السلام في الحثّ على طلب العلم وكيفية طلبه وأُسلوب تنميته :

١ ـ "تعلّموا العلم، فإنّكم صغار في القوم، وكبارهم غداً، ومن لم يحفظ منكم فليكتب"(١) .

٢ ـ "حُسن السؤال نصف العلم"(٢) .

٣ ـ "علّم الناس، وتعلَّم عِلمَ غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلمتَ ما لمَ تَعلم"(٣) .

٤ ـ "قَطعَ العلم عُذر المتعلّمين" .

٥ ـ "اليقين معاذ السلامة" .

٦ ـ "أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكّر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمه"(٤) .

ب ـ إنّ العقل أساس العلم، ومن هنا فقد عرّف العقل من خلال لوازمه وآثاره العلمية ومدى أهميته ودوره في كمال الإنسان بقوله :

١ ـ "العقل حفظ القلب كلّ ما استرعيته"(٥) .

٢ ـ "لا أدب لمن لا عقل له، ولا مودّة لمن لا همّة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك سعادة الدارين، ومن حرم العقل حرمهما جميعاً" .

٣ ـ "لا يغشّ العقل من استنصحه" .

__________

(١) عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ١٤٢ .

(٢) نور الأبصار : ١١٠ .

(٣) الأئمة الاثنا عشر : ٣٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٤٣، ٣٤٦ .

(٥) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٥٧ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206