اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133188 / تحميل: 10007
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وضاق معاوية ذرعاً بالإمام الحسنعليه‌السلام حينما كان في دمشق بعد الذي رآه من إقبال الناس واحتفائهم به، فعقد مجالس حشدها بالقوى المنحرفة عن أهل البيتعليهم‌السلام والمعادية لهم مثل : ابن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة وزياد بن أبيه وعبد الله بن الزبير، وأوعز لهم بالتطاول على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنيل منه، ليزهد الناس فيه، ويشفي نفسه من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش، وقد قابله هؤلاء الأوغاد بمرارة القول وبذاءة الكلام، وكانعليه‌السلام يسدِّد لهم سهاماً من منطقه الفيّاض فيسكتهم.

ولقد كان الإمام في جميع تلك المناظرات هو الظافر المنتصر، وخصومه الضعفاء قد اعترتهم الاستكانة والهزيمة والذهول .

المناظرة الأُولى :

أقبل معاوية على الإمامعليه‌السلام فقال له : "يا حسن أنا خير منك !" فقال له الإمامعليه‌السلام : "وكيف ذاك يا بن هند ؟"، فقال معاوية : لأنّ الناس قد أجمعوا عليّ، ولم يجمعوا عليك .

فقال له الإمامعليه‌السلام : "هيهات، لشرّ ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنّك لا خير فيك، فإنّ الله قد برّأني من الرذائل كما برأك من الفضائل"(١) .

المناظرة الثانية :

وهناك موقف آخر، ولعلّه من أروع ما نقله التأريخ من مواقف الإمامعليه‌السلام ، فقد اجتمع لدى معاوية أربعة من أعمدة حكمه ومروّجي جاهليّته، وهم : عمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، وطلبوا منه إحضار الإمامعليه‌السلام لكي يعيبوه وينالوا منه، بعدما ساءهم إلتفاف الناس حوله يلتمسون منه عطاء العلم والدين.

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٦ ، عن روضة الواعظين للنيسابوري .

١٦١

ويقال : إنّ معاوية رفض أن يرسل إليه، وقال : "لا تفعلوا، فوالله ما رأيته قطّ جالساً عندي إلاّ خفت مقامه وعيبه لي، وقال : إنّه ألسن بني هاشم" فعزموا عليه بأن يرسل إليه .

فقال : إن بعثت إليه لأنصفنّه منكم، فقال ابن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقّنا ؟! قال معاوية : أما إنّي إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلّم بلسانه كلّه، واعلموا أنّهم أهل بيت، لا يعيبهم العائب، ولا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له : إنّ أباك قتل عثمان، وكره خلافة الخلفاء قبله .

ثم أرسل إلى الإمام من يدعوه، فحضر فأكرمه معاوية وأعظمه، وقال له : إنّي كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك، وإنّ لك منهم النصف ومنّي، وإنّا دعوناك لنقرّرك أنّ عثمان قتل مظلوماً، وأنّ أباك قتله، فأجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلّم بكلّ لسانك .

فتكلّم عمرو بن العاص، فذكر عليّاً، وتجاوز في سبّه وشتمه، ثم ثنّى بالحسن وعابه وأغرق في الخدشة، وممّا قاله : "... يا حسن، تحدّث نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبّه وإنّما دعوناك لنسبّك أنت وأباك ..." .

ثم تكلّم الوليد بن عقبة فشنّع وأبان عن عنصريته، ونال من بني هاشم.

ثم تكلّم عتبة بن أبي سفيان، فأفصح عن حقده ولؤمه، وممّا قال : "... يا حسن، كان أبوك شرّ قريش لقريش، أسفكه لدمائها، وأقطعه لأرحامها، طويل السيف واللسان، يقتل الحيّ ويصيب الميّت، وأمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادماً، ولا في ميزانها راجحاً" .

ثم تكلّم المغيرة بن شعبة، فشتم عليّاً وقال : "والله ما أعيبه في قضية بخون، ولا في حكم بميل، ولكنّه قتل عثمان .

ثم سكتوا، فتكلّم الإمامعليه‌السلام ، وممّا قال :

"أمّا بعد يا معاوية، فما هؤلاء شتموني، ولكنّك شتمتني، فحشاً ألفته، وسوء رأي عرفت به، وخُلقاً سيئاً ثبتّ عليه، وبغياً علينا عداوة لمحمد وآله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولنّ فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم" .

ثم أخذ في المقارنة بين مواقف أبيه ومواقف معاوية وأبيه، فقال :

"أنشدكم الله، هل تعلمون أُنه أول الناس إيماناً، وأ نّك يا معاوية وأباك من المؤلّفة قلوبهم، تسرّون الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال.

١٦٢

وإنّه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر، وإنّ راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم اُحد ويوم الأحزاب، ومعه راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعك ومع أبيك راية الشرك، وفي كلّ ذلك يفتح الله له، ويفلج حجّته، وينصر دعوته، ويصدق حديثه، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المواطن كلّها عنه راض، وعليك وعلى أبيك ساخط" .

وأخذعليه‌السلام في تعداد فضائل أبيه وما ورد فيه من الأحاديث على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواقفه العظيمة التي نصر بها الدين وأذلّ بها المشركين، ثم قال :"وجاء أبوك على جمل أحمر يوم الأحزاب يحرّض الناس وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعن الراكب والقائد والسائق، وأنت يا معاوية، دعا عليك رسول الله لمّا أراد أن يكتب كتاباً إلى بني خزيمة فبعث إليك، فنهمك إلى يوم القيامة فقال :اللّهمّ لا تشبعه" .

ثم أخذ في بيان بعض مواقف أبيه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمواطن السبعة التي لعن فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان، وبعد أن أنهى خطابه لمعاوية، التفت إلى عمرو بن العاص فقال:

وأمّا أنت يا بن النابغة، فادّعاك خمسة من قريش، غلب عليك الأمهم حسباً وأخبثهم منصباً، وولدت على فراش مشترك، ثم قام أبوك فقال : أنا شانئ محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) وقاتلت رسول الله في جميع المشاهد وهجوته، وآذيته في مكة وكدته، وكنت من أشدّ الناس له تكذيباً وعداوة .

ثمّ خرجت تريد النجاشي، لتأتي بجعفر وأصحابه، فلمّا أخطأك ما رجوت ورجعك الله خائباً، وأكذبك واشياً، جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي، ففضحك الله، وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام .

وهجوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتاً من الشعر، فقال : اللهمّ إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللّهمّ العنه بكلّ حرف ألف لعنة .

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان، فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً، ثم لحقت بفلسطين، فلمّا أتاك قتله، قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ودّ، وبالله ما نصرت عثمان حباً، ولا غضبت له مقتولاً ..." .

١٦٣

والتفتعليه‌السلام إلى الوليد فقال له :

"فوالله ما ألومك على بغض عليٍّ وقد قتل أباك بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبراً، وجلدك ثمانين في الخمر لمّا صليت بالمسلمين سكران، وسمّاك الله في كتابه فاسقاً، وسمّي أمير المؤمنين مؤمناً، حيث تفاخرتما ..." .

ثم التفت إلى عتبة بن أبي سفيان، وقال له :

"وأمّا أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما عندك خير يرجى، ولا شرّ يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلاّ سواء، وما يضرّ عليّاً لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأمّا وعيدك إيّاي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك وكيف ألومك على بغض عليّ ؟ وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدّك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد" .

ثم التفت إلى المغيرة بن شعبة، وقال له :

"وأمّا أنت يا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه والله لا يشقّ علينا كلامك وإنَّ حدَّ الله عليك في الزنا لثابت، ولقد درأ عمر عنك حقاً، الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها، فقال : لا بأس بذلك يا مغيرة، ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنّك زان .

وأمّا فخركم علينا بالإمارة، فإنّ الله تعالى يقول : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) " (١) .

ثمّ قام الحسنعليه‌السلام فنفض ثوبه وانصرف، فتعلّق عمرو بثوبه وقال : يا أمير المؤمنين، قد شهدت قوله فيّ، وأنا مطالب له بحدّ القذف، فقال معاوية : خلّ عنه، لا جزاك الله خيراً فتركه .

فقال معاوية : قد أنبأتكم أنّه ممّن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبّوه فعصيتموني، والله ما قام حتى أظلم عليَّ البيت قوموا عنّي، فلقد فضحكم الله، وأخزاكم بترككم الحزم، وعدولكم عن رأي الناصح المشفق(٢) .

وينتهي هنا الحوار الفريد الذي ذكرناه بطوله رغم اختصارنا له، واحتفاظنا بالنقاط الأساسية التي يهمّنا أن نضعها بين يدي القارئ، ليتعرّف

__________

(١) الإسراء (١٧) : ١٦ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٣٥، وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد أيضاً : ٢ / ١٠١ .

١٦٤

على الملامح الواقعية لتلك الزمرة المتسلّطة التي تنكّرت لكلّ القيم الأخلاقية، وسلكت طريق الشيطان.

وبهذا الحوار أعطى الإمامعليه‌السلام للمعارضة زخماً جديداً وفاعليةً كبيرةً، حيث كشف للأمة عن الواقع المرير الذي اكتنف الحكم الإسلامي بتسلّط هذه النماذج المنحرفة في أصولها، والمنفعلة برواسبها الجاهلية، والتي لا يمثّل عندها الإسلام إلاّ الوسيلة الفريدة للتسلّط على رقاب الناس، وتلافي النقائص الذاتية التي قدّر لهم أن يرزحوا تحت عبئها البغيض .

وأثبت الإمامعليه‌السلام أنّه ما يزال يقف في موقفه الصامد الذي انطلق منه في صراعه مع الجاهليّة الأُموية. وإن ألجأته ظروف المحنة إلى وضع السيف في غمده وتخطّي مرحلة الحرب; فإنّ كلمة الحقّ الصارخة التي تصمّ آذان الباطل لا يمكن أن يدعها تموت في زحام أراجيف الضلال .

وهكذا ينطلق الإمام في خطاه الرسالية ـ التي هي امتداد لخطى جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعليه تقع مسؤولية حفظ المبادئ الأصيلة التي جاءت من أجلها الرسالة; لترتفع كلمة الله في الأرض.

١٦٥

البحث الرابع : مصير شروط الصلح وشهادة الإمام الحسنعليه‌السلام

إخلال معاوية بالشروط :

كان الشرط الأول ـ وكما مرّ علينا ـ هو أن يسلّم الإمام الأمر لمعاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين .

وقد وقف الإمام الحسنعليه‌السلام عند عهده رغم الضغوط الكثيرة من أصحابه ومخلصيه، مع أنّ الإمام كان في حلّ من شرطه لو أراد; لأنّ التسليم كان مشروطاً، ولم يف معاوية بأيّ واحد من الشروط التي أخذت عليه .

أمّا معاوية فلم يلتزم بالشرط الأول، وأمّا عن الشرط الثاني ـ وهو أن يكون الأمر من بعده للحسن ثم للحسين وأن لا يعهد إلى أحد من بعده ـ فقد أجمع المؤرّخون على أنّ معاوية لم يف بشرطه هذا، بل نقضه بجعل الولاية لابنه يزيد من بعده(١) .

وفيما يتعلّق بالشرط الثالث ـ وهو رفع السبّ عن الإمام عليّعليه‌السلام مطلقاً أو في حضور الإمام الحسن خاصة ـ فقد عزّ على معاوية الوفاء به، لأنّ سبّ عليّ يمثّل لديه الأساس القوي الذي يعتمده في إبعاد الناس عن بني هاشم، وقد ركّز معاوية بعناد وقوة على لزوم اتّباع طريقته في سبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصاياه وكتبه لعمّاله(٢) .

وبخصوص الشرط الرابع فقد قيل: إنّ أهل البصرة حالوا بين الإمام

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٤٢ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ١٥ .

١٦٦

الحسن وبين خراج أبجر، وقالوا: فيئنا(١) ، وكان منعهم بأمر من معاوية لهم(٢) .

وأما الشرط الخامس ـ وهو العهد بالأمان العام، والأمان لشيعة عليّ على الخصوص، وأن لا يبغي للحسنينعليهما‌السلام وأهل بيتهما غائلة سرّاً ولا جهراً ـ وللمؤرّخين فيما يرجع إلى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكّام الأُمويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة(٣) .

وأكّد جميع المؤرخين أنّ الصلح بشروطه الخمسة لم يلق من معاوية أيّة رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والأَيْمان التي قطعها على نفسه، ولكنّه طالع المسلمين بشكل عام بالأوليات البكر والأفاعيل النكراء من بوائقه، وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام بشكل خاص، فكان أول رأس يُطاف به في الإسلام منهم ـ أي من الشيعة ـ وبأمره يُطاف به، وكان أول إنسان يدفن حيّاً في الإسلام منهم، وبأمره يفعل به ذلك .

وكانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم، وهو الآمر بسجنها، وكانت أول مجموعة من الشهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم، وهو الذي قتلهم، واستقصى معاوية بنود المعاهدة كلّها بالخلف، فاستقصى أيْمانه المغلّظة بالحنث، ومواثيقه المؤكّدة التي واثق الله تعالى عليها بالنقض، فأين

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ١٥٤ .

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير : ٣ / ١٦٢ .

(٣) راجع : صلح الإمام الحسن : ٣١٧ ، في فصل الوفاء بالشروط، وحياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٥٦ ـ ٤٢٣ .

١٦٧

هي الخلافة الدينية يا ترى ؟!(١) .

وبقي آخر شقٍّ من الشروط وهو الأدقّ والأكثر حساسيةً، وكان عليه إذا أساء الصنيع بهذا الشقّ أن يتحدّى القرآن صراحة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة، فصبر عليه ثماني سنين، ثم ضاق به ذرعاً، وثارت به أُمويّته التي جعلته ابن أبي سفيان حقاً بما جاء به من فعلته التي أنست الناس الرزايا قبلها .

وهي أول ذلٍّ دخل على العرب، وكانت بطبيعتها أبعد مواد الصلح عن الخيانة، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية، وكانت بعد نزع السلاح والالتزام من الخصم بالوفاء، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم .

تآمر معاوية على الإمام الحسنعليه‌السلام :

لقد حاول معاوية أن يجعل الخلافة ملكاً عضوضاً وراثة في أبنائه، وقد بذل جميع جهوده وصرف الأموال الطائلة لذلك، فوجد أنّه لا يظفر بما يريد والحسن بن عليّعليه‌السلام حيّ ينتظر المسلمون حكمه العادل وخيره العميم، ومن هنا قرّر اغتيال الإمام المجتبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اغتال به من قبل مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص وغيرهما .

فأرسل إلى الإمام غير مرّة سمّاً فاتكاً حين كان في دمشق فلم ينجح حتى راسل ملك الروم وطلب منه بإصرار أن يرسل له سمّاً فاتكاً، وحصل عليه بعد امتناعه حين أفهمه أنّه يريد قتل ابن من خرج بأرض تهامة لتحطيم عروش الشرك والكفر والجاهلية وهدّد سلطان أهل الكتاب .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٢ .

١٦٨

إنّ بائقة الأب هذه كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن ليشتركا ـ متضامنين ـ في إنجاز أعظم جريمة في تاريخ الإسلام، تلك هي قتل سيّدي شباب أهل الجنة اللذين لا ثالث لهما، وليتعاونا معاً على قطع "الواسطة الوحيدة" التي انحصر بها نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجريمة ـ بهذا المعنى ـ قتل مباشر لحياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامتدادها التأريخي. نعم، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الإسلام !!! فواضَيْعَةَ الإسلام إن كان خلفاؤه من هذه النماذج !!!

وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زيّن له أُسلوباً من القتل قصّر عنه ابنه يزيد، فكان هذا "الشابّ المغرور" وكان ذاك "الداهية المحنّك في تصريف الأمور" !!! ولو تنفس العمر بأبي سفيان إلى عهد ولديه هذين لأيقن أنّهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني أمية .

كيف استشهد الإمام الحسنعليه‌السلام ؟

لقد دعا معاوية مروان بن الحكم إلى إقناع جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الإمام الحسنعليه‌السلام ـ بأن تسقي الحسن السمّ وكان شربة من العسل بماء رومة(١) ، فإن هو قضى نحبه زوّجها بيزيد، وأعطاها مئة ألف درهم .

وكانت جعدة هذه بحكم بنوّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف الذي أسلم مرتين بينهما ردّة منكرة ـ أقرب الناس روحاً إلى قبول هذه المعاملة النكراء .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ وقد اشتهرت كلمة معاوية : " إنّ لله جنوداً من عسل " .

١٦٩

قال الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :"إنّ الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وابنته جعدة سمّت الحسن، وابنه محمّد شرك في دم الحسين عليه‌السلام " (١) .

وهكذا تمّ لمعاوية ما أراد، وكانت شهادتهعليه‌السلام بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة أو تسع وأربعين .

وحكم معاوية بفعلته هذه على مصير أُمة بكاملها، فأغرقها بالنكبات وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات، وتمّ له بذلك نقض المعاهدة إلى آخر سطر فيها .

وقال الإمام الحسنعليه‌السلام وقد حضرته الوفاة :"لقد حاقت شربته، وبلغ أمنيته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال" (٢) .

وورد بريد مروان إلى معاوية بتنفيذ الخطّة المسمومة فلم يملك نفسه من إظهار السرور بموت الإمام الحسنعليه‌السلام ، "وكان بالخضراء فكبّر وكبّر معه أهل الخضراء، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [زوج معاوية] من خوخة(٣) لها، فقالت : سرّك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن عليّ، فقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم بكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(٤) .

والنصوص على اغتيال معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام بالسمّ متضافرة كأوضح قضية في التاريخ(٥) .

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ .

(٢) المسعودي ، بهامش ابن الأثير : ٦ / ٥٥ .

(٣) هي الكوة التي تؤدي الضوء إلى البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير .

(٤) صلح الإمام الحسن : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ .

(٥) راجع طبقات ابن سعد ومقاتل الطالبيين ومستدرك الحاكم وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٧ ، وتذكرة الخواص : ٢٢٢ ، والاستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، وكلّها مصادر غير إمامية .

١٧٠

وصاياه الأخيرة :

أ ـ وصيّته لجنادة :

دخل جنادة بن أبي أُميّة ـ الصحابيّ الجليل ـ على الإمام عائداً له ، فالتفت إلى الإمام قائلاً : عظني يا بن رسول الله .

فأجابعليه‌السلام طلبته وهو في أشدّ الأحوال حراجةً ، وأقساها ألماً ومحنةً ، فأتحفه بهذه الكلمات الذهبية التي هي أغلى وأثمن من الجوهر وقد كشفت عن أسرار إمامته ، قائلاً :

" يا جنادة! استعد لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الّذي أنت فيه ، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك ، واعلم أنّ الدنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك ، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العقاب فالعقاب يسير ، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً ، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عَزَّ وجَلَّ ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك وإن قُلتَ صَدَّق قولك ، وإن صُلتَ شَدَّ صولَتَك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألت أعطاك ، وإن سكت عنه إبتدأك ، وإن نزلت بك إحدى الملمّات واساك من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ،

١٧١

ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك "(١) .

ويشتدّ الوجع بالإمامعليه‌السلام ويسعر عليه الألم فيجزع ، فيلتفت إليه بعض عوّاده قائلاً له: يا بن رسول الله ، لِمَ هذا الجزع ؟ أليس الجدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأب علي والأم فاطمة ، وأنت سيّد شباب أهل الجنة ؟! .

فأجابه بصوت خافت: "أبكي لخصلتين : هول المطلع ، وفراق الأحبّة"(٢) .

ب ـ وصيّته للإمام الحسينعليه‌السلام :

ولمّا ازداد ألمه وثقل حاله استدعى أخاه سيّد الشهداء فأوصاه بوصيّته وعهد إليه بعهده ، وهذا نصّه :

"هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأنّه يعبده حقّ عبادته ، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً ، وأنّه أولى من عبده ، وأحقّ من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّي أحقّ به وببيته ، فإن أبوا عليك فأُنشدك الله وبالقرابة التي قرّب الله منك والرحم الماسّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا"(٣) .

ج ـ وصيّته لمحمد بن الحنفية :

وأمر الإمامعليه‌السلام قنبراً أن يحضر أخاه محمد بن الحنفية ، فمضى إليه مسرعاً فلمّا رآه محمد ذُعر فقال : هل حدث إلاّ خير ؟ ، فأجابه بصوت خافت : " أجب أبا محمد " .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٥ .

(٢) أمالي الصدوق : ١٣٣ .

(٣) أعيان الشيعة : ٤ / ٧٩ .

١٧٢

فذهل محمّد واندهش وخرج يعدو حتى أنّه لم يسوِّ شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفرّ الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفتعليه‌السلام له :

"إجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء. كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى; فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ الله عَزَّ وجَلَّ جعل ولد إبراهيم أئمة، وفضّل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبوراً؟ وقد علمت بما استأثر الله به محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا محمد بن علي إنّي لا أخاف عليك الحسد، وإنمّا وصف الله به الكافرين ، فقال تعالى:( كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً. يا محمد بن علي! ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك ؟" .

قال محمد: بلى، فأجابه الإمامعليه‌السلام : " سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً. يا محمد بن علي! لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك. يا محمد بن علي! أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند الله في الكتاب الماضي وراثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابها في وراثة أبيه وأمه ؟ علم الله أنّكم خير خلقه فاصطفى منكم محمداً ، واختار محمد علياً ، واختارني عليّ للإمامة، واخترت أنا الحسين".

فانبرى إليه محمّد مظهراً له الطاعة والانقياد(١) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٨٧ ـ ٤٨٩ .

١٧٣

إلى الرفيق الأعلى :

وثقل حال الإمامعليه‌السلام واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً :

"أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء" .

فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً :

" اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي " .

ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إيّاه فقال :

" لقد حاقت شربته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال "(١) .

وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى ، وسمت إلى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً .

لقد مات حليم المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول وقرّة عينه ، فأظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه(٢) .

__________

(١) تذكرة الخواص : ٢٣ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٦ ، وحلية الأولياء : ٢ / ٣٨ ، وصفوة الصفوة : ١ / ٣٢٠.

(٢) اختلف المؤرّخون في السنة التي توفّي فيها الإمام فقيل : سنة ٤٩ هـ ، ذهب إلى ذلك ابن الأثير وابن حجر في تهذيب التهذيب ، وقيل : سنة ٥١ هـ ، ذهب إلى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، وقيل غير ذلك ، وأمّا الشهر الذي استشهد فيه فقد اختلف فيه أيضاً ، فقيل : في ربيع الأول لخمس بقين منه ، وقيل: في صفر لليلتين بقيتا منه ، وقيل: يوم العاشر من المحرم يوم الأحد سنة ٤٥ من الهجرة كما في المسامرات ( ص٢٦ ) ، وثمّة قول آخر: إنّه استشهدعليه‌السلام في السابع من صفر .

١٧٤

وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع أبو هريرة وهو باكي العين مذهول اللبّ إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي بأعلى صوته : "يا أيّها الناس! مات اليوم حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابكوا"(١) .

وصدعت كلماته القلوب ، وتركت الأسى يحزّ في النفوس ، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة .

تجهيز الإمام وتشييعه :

وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه ، وقد أعانه على ذلك عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن جعفر وعلي بن عبد الله بن عباس وأخواه محمد بن الحنفية وأبو الفضل العباس، فغسّله وكفّنه وحنّطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، وبعد الفراغ من تجهيزه; أمرعليه‌السلام بحمل الجثمان المقدّس إلى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه(٢) .

وكان تشييع الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد نظيره عاصمة الرسول ، فقد بعث الهاشميّون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم(٣) وقد حدّث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال :

__________

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٣٠١ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٧ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٨٠ .

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٨ / ٢٢٨ .

١٧٥

" شهدت الحسن يوم مات ، ودفن في البقيع ، ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان "(١) . وقد بلغ من ضخامة التشييع أنّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس.

دفن الإمامعليه‌السلام وفتنة عائشة :

ولم يشكَّ مروان ومن معه من بني أمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسينعليه‌السلام إلى قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجدّد به عهداً; أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، أَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.

وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثم نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّهعليه‌السلام كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.

ثم أقبل على عائشة وقال لها: وا سوأتاه! يوماً على

__________

(١) الإصابة : ١ / ٣٣٠ .

١٧٦

بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفِئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين والله منتصر لأهل البيت ولو بعد حين .

وقال الحسينعليه‌السلام :"والله لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا" .

ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها)(١) .

ووقف الإمام الحسينعليه‌السلام على حافة القبر ، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً :" رحمك الله يا أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى رَوْح ورَيْحان ، وجنّة ونعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسى عنه " (٢) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٤٩٩ عن كفاية الطالب: ٢٦٨ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٥٠٠ .

١٧٧

الفصل الثالث: تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام

١ ـ نظرة عامة في تراث الإمام المجتبىعليه‌السلام :

الإمام المجتبىعليه‌السلام كأبيه المرتضى وجدّه المصطفى قائد مبدئي تتلخّص مهمّاته القيادية في كلمة موجزة ذات معنىً واسع وأبعاد شتى هي : "الهداية بأمر الله تعالى" انطلاقاً من قوله تعالى :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (١) .

والهداية بأمر الله سبحانه تتجلّى في تبيان الشريعة وتقديم تفاصيل الأحكام العامة أو المطلقة التي نصّ عليها القرآن الكريم والرسول العظيم، كما تتجلّى في تفسير القرآن الحكيم وإيضاح مقاصد الرسول الكريم .

وتتجلّى الهداية في تطبيق أحكام الله تعالى على الأُمة المسلمة وصيانة الشريعة والنصوص الإلهية من أيّ تحريف أو تحوير يتصدّى له الضالّون المضلّون .

والثورة التي فجّرها الإسلام العظيم هي ثورة ثقافية قبل أن تكون ثورة اجتماعية أو اقتصادية، فلا غرو أن تجد الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يفرّغون أنفسهم لتربية الأُمة وتثقيفها على مفاهيم الرسالة وقيمها، وهم

__________

(١) الأنبياء (٢١) : ٧٣ .

١٧٨

يرون أنّ مهمّتهم الأُولى هي التربية والتثقيف انطلاقاً من النصّ القرآني الصريح في بيان أهداف الرسالة والرسول الذي يرى الإمام نفسه استمراراً له وقيّماً على ما أثمرته جهود الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من "رسالة" و "أُمة" و "دولة"، قال تعالى مفصِّلاً لأهداف الرسالة ومهمّات الرسول :( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

ولئن غضّ الإمام المجتبى الطرف عن الخلافة لأسباب دينية ومبدئية; فهو لم يترك الساحة ومواريث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتنهب بأيدي الجاهلييّن، بل نجده قد تصدّى لتربية القاعدة التي على أساسها تقوم الدولة وعليها تطبّق أحكام الشريعة.

وقد خلّف الإمام المجتبى تراثاً فكرياً وعلمياً ثرّاً من خلال ما قدّمه من نصوص للأُمة الإسلامية على شكل خطب أو وصايا أو احتجاجات أو رسائل أو أحاديث وصلتنا في فروع المعرفة المختلفة، ممّا يكشف عن تنوّع اهتمامات الإمام الحسن وسعة علمه وإحاطته بمتطلّبات المرحلة التي كانت تعيشها الأُمة المسلمة في عصره المحفوف بالفتن والدواهي التي قلّ فيها من كان يعي طبيعة المرحلة ومتطلباتها إلاّ أن يكون محفوفاً برعاية الله وتسديده.

ونستعرض صوراً من اهتمامات الإمام العلمية، ونلتقط شيئاً من المفاهيم والقيم المُثلى التي ظهرت على لسانه وعبّر عنها ببليغ بيانه، أو تجلّت في تربيته لتلامذته وأصحابه .

__________

(١) الجمعة (٦٢) : ٢ .

١٧٩

٢ ـ في رحاب العلم والعقل :

أ ـ قالعليه‌السلام في الحثّ على طلب العلم وكيفية طلبه وأُسلوب تنميته :

١ ـ "تعلّموا العلم، فإنّكم صغار في القوم، وكبارهم غداً، ومن لم يحفظ منكم فليكتب"(١) .

٢ ـ "حُسن السؤال نصف العلم"(٢) .

٣ ـ "علّم الناس، وتعلَّم عِلمَ غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلمتَ ما لمَ تَعلم"(٣) .

٤ ـ "قَطعَ العلم عُذر المتعلّمين" .

٥ ـ "اليقين معاذ السلامة" .

٦ ـ "أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكّر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمه"(٤) .

ب ـ إنّ العقل أساس العلم، ومن هنا فقد عرّف العقل من خلال لوازمه وآثاره العلمية ومدى أهميته ودوره في كمال الإنسان بقوله :

١ ـ "العقل حفظ القلب كلّ ما استرعيته"(٥) .

٢ ـ "لا أدب لمن لا عقل له، ولا مودّة لمن لا همّة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك سعادة الدارين، ومن حرم العقل حرمهما جميعاً" .

٣ ـ "لا يغشّ العقل من استنصحه" .

__________

(١) عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ١٤٢ .

(٢) نور الأبصار : ١١٠ .

(٣) الأئمة الاثنا عشر : ٣٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٤٣، ٣٤٦ .

(٥) حياة الإمام الحسن : ١ / ٣٥٧ .

١٨٠

هذا هو التلوّن والتزلزل، وعدم سكون الريح.

تلوّنٌ فظيع يجرّ إلى الكفر والارتداد، لأنّه إنكارٌ للحقّ بعد معرفته، وبغيٌ على الإمام بعد معرفة لزوم مودّته.

وقد رُوي أنّه سأله الأصبغ بن بناتة في محضر معاوية فقال له: ـ

يا صاحب رسول الله، إنّي احلفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحقّ حبيبه محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله إلّا أخبرتني:

أشهدتَ غديرَ خمّ؟

قال أبو هريرة: بلى شهدته.

فقال الأصبغ: فما سمعته يقول في عليّ عليه السلام؟

قال أبو هريرة: سمعته يقول: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللَّهُمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مِن نصره، واخذُل من خذله.

فقال له الأصبغ: فأنت إذاً واليت عدوّه، وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة الصعداء، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون (1) .

ومن عجيب التلوّن والتزلزل وعدم الثبات تزلزل الزبير بن العوّام ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام، لذي هو عبرة لمن اعتبر ودرسٌ لمن تدبّر.

حيث إنّه بعد سابقة إيمانه، وخدمته، وولائه لعليّ عليه السلام، أصبح محارباً له وباغياً عليه، ومؤجّجاً لفتنة الجمل والعمل الأرذل (2) .

فالصحيح الحقّ، والخُلق الأليق، أن يكون إيمان المرء ثابتاً مستقرّاً، ويكون في حياته ساكناً، غير متزلزل.

__________________

(1) لاحظ السفينة / ج 8 / ص 672، وتلاحظ لمزيد معرفة حاله ووضاعته كتب الرجال.

(2) راجع سفينة البحار / ج 3 / ص 444.

١٨١

والمطلوب هو الإيمان المستقرّ الذي أشار إليه قوله عزّ اسمه: ـ

( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (1) .

ويتحقّق ذلك في الإنسان بعون الله تعالى، وببركة أهل البيت عليهم السلام بملازمتهم وعدم مفارقتهم.

ففي حديث الإمام الرضا عليه السلام: ـ «مَن لزَمناه لزمناه، ومَن فارقنا فارقناه» (2) .

والمؤمن الحقيقي ثابت القدم في إيمانه، ومتصلّبٌ في عقيدته.

قال عزّ اسمه: ـ ( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ ) (3) .

وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: ـ (المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يُستقلّ منه، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء) (4) .

__________________

(1) سورة الأنعام: الآية 98.

(2) وسائل الشيعة / ج 18 / ص 92 / باب 10 / ح 13.

(3) سورة إبراهيم: الآية 27.

(4) اُصول الكافي / ج 2 / ص 189.

١٨٢

(11)

وطيب المخالقة

المخالقة: مفاعلة من الخُلق بضمّتين، يعني: المعاشرة.

يُقال: خالَقَ القوم أي عاشرهم بخلق حَسَن.

فتكون المخالقة هنا بمعنى المعاشرة مع الناس.

والطيب: هو الحسن الذاتي، ويُطلق على ما هو طيّبٌ واقعاً وذاتاً، لذلك يطلق على العطور بأنّها طيب، ولا يقال للشيء المعطّر بأنّها طيب، بل يقال: إنّه مطيّب.

وفيها نحن فيه المعاشرة مع الناس قد تكون بسجيّة طيّبة، وقد تكون بسجيّة غير طيّبة.

وفي هذا الدّعاء الشريف عبّر الإمام عليه السلام بطيب المخالقة، ولم يقل حسن المخالقة، إشارة إلى طلب السجيّة الطيّبة الذاتيّة الواقعيّة، والعلاقة الودّية الحقيقيّة، فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين.

دون العلاقة الحسنة الظاهريّة، التي قد تكون مراوغة وحيلة إذا لم تطابق قلب الإنسان وباطنه..

فإنّك ترى أنّه قد يعاشر أحدٌ مع شخصٍ، فيُحسن في معاشرته ويضاحكه

١٨٣

ويمازحه ويلاطفه بلسانه، مراوغةً مصانعةً، لا حقيقة، وهذه مخالقة غير طيّبة، بل غير حسنة كما هو المنقول عن شريح القاضي الذي ضُرب به المثل في مراوغاته ومصانعاته فقيل:

(شريح أدهى من الثعلب).

في قضيّةٍ ينقلها الشعبي، وجاء ذكره في كتاب الدميري (1) .

فالطيب من المخالقة هي التي تكون حقيقيّة واقعيّة، ويستمرّ عليها حتّى تصير سجيّة ذاتيّة، وهي المطلوبة في الدعاء الشريف.

والاُسوة والقدوة في المخالقة والمعاشرة الطيّبة مع الناس هم أهل البيت عليهم السلام الذين طابت معاشراتهم مع الناس في جيميع أدوار حياتهم، في حكومتهم وغير حكومتهم، مع أصحابهم وغير أصحابهم، مع أوليائهم وأعدائهم، حتّى مع خدّامهم.

كانت معاشراتهم معهم طيّبة حقيقيّة، وصافية صفو الماء الزلال، وصادقةً صدق الحقّ الأبلج، كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم الغرّاء، وحياتهم المباركة.

ومن أمثلة ذلك: ـ

1 ـ أمير المؤمنين عليه السلام... ذهب إلى السوق، واشترى ثوبين، أحدهما بدرهمين، والآخر بثلاث دراهم.

فأعطى الثوب ذا الثلاث دراهم لخادمه قنبر المعاشر معه، ولبس هو عليه السلام الثوب ذا الدرهمين.

2 ـ الإمام الحسين عليه السلام.. وهب بستانه لغلامه صافي، حتّى أنّه استأذن منه لدخوله هو إلى البستان.

وهبه له لكونه غلاماً شكوراً، ومُنفقاً من طعامه على كلب البُستان، فأحسن الإمام في عشرته.

__________________

(1) حياة الحيوان / ج 1 / ص 173.

١٨٤

3 ـ الإمام الصادق عليه السلام.. أبطأ عليه خادمه ونام ويم ينجز ما طلبه الإمام منه، فسار الإمام عليه السلام في طلبه فوجده نائماً، فجلس عند رأس الخادم، يروّح له بيده حتّى لا يصيبه الحرّ.

وفي برهةٍ من الزمان كان الإمام الصادق عليه السلام مبعّداً إلى الحيرة (1) من قبل المنصور الدوانيقي الذي عادى الإمام عليه السلام، محاربةً لعلمه الإلهي، ومعارضةً لحقّه الشرعي، وإغلاقاً لباب أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا الأصحاب الحقيقيّين لخلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وحين وجود الإمام الصادق عليه السلام في الحيرة كان معه خادمه المعلّى بن خنيس، وفي ليلة من تلك الليالي التي كانت من ليالي الصيف، أمر الإمام عليه السلام أن يُفرش له فراشه في الصحراء، ليكون نومه وعبادته هناك.

وأمرَ أن يُؤتى بسراجٍ ومركبٍ له وللمعلّى بن خنيس.

فجيء بسراجٍ وبغلةٍ وحمار..

فركب هو عليه السلام الحمار، وأمر المعلّى أن يركب البغل الذي هو أحسن من الحمار، فذهبوا إلى الصحراء، ثمّ ذهبوا من هناك إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، فتلاحظ طيب عشرته مع خادمه حيث فضّله على نفسه في المركب إيثاراً.

4 ـ الإمام الرضا عليه السلام.. كان يجلس على مائدة الطعام مع غلمانه وخَدَمه، وهو سلطان الدِّين والدّنيا والآخرة.

حتّى في حال مسموميّته وتألّمه لم يترك ذلك، بل كان يعاشرهم بأطيب المخالقة، وأفضل معاشرة.

__________________

(1) الحيرة: كانت بلدة على بُعد 5 كيلومترات من جنوب الكوفة كما في المنجد / ص 170.

١٨٥

وهكذا سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين هم أشرف خلق الله تعالى، ترى أنّهم كانوا يحسنون المعاشرة الطيّبة مع جميع طبقات الخلق، ويأمرون بحسن المعاشرة، وطلاقة الوجه مع المعاشرين.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

يا بني عبد المطّلب، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فألقوهم بطلاقة الوجه، وحُسن البُشر (1) .

وفي حديثٍ آخر: ـ

صنائع المعروف، وحُسن البُشر، يكسبان المحبّة، ويُدخلان الجنّة.. والبخل وعبوس الوجه يبعّدان من الله، ويُدخلان النار (2) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: ـ

عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس... (3) .

وفي حديث أبي الربيع الشامي قال: ـ

دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق.

فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله عليه السلام وكان متّكئاً ثمّ قال: يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صَحِبَه، ومخالقة مَن خالقَه، ومرافقة مَن رافقَهُ، ومجاورة مَن جاورَهُ، وممالحة مَن مالحهُ.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 84.

(2) اُصول الكافي / ج 2 / ص 85.

(3) اُصول الكافي / ج 2 / ص 464.

١٨٦

يا شيعة آل محمّد، اتّقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله (1) .

فطيب المخالقة، وحسن المعاشرة مع الناس، من الصفات الكريمة، والخصال المباركة التي تجعلنا من شيعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

إذ هي من حلية الصالحين، وزينة الأتقياء..

والمتّقون الصالحون هم شيعة أهل البيت عليهم السلام.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 465.

١٨٧

١٨٨

(12)

والسَّبقِ إلى الفضيلة

السَبْق بسكون الباء هو: التقدّم...

يُقال: سَبَق إلى الشيء سبْقاً يعني: تقدّم إليه وخلَّفَ غيره.

والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة.

ومعنى الفضيلة هي الدرجة الرفيعة والمقام الرفيع.

وكذلك ما يوجب تلك الدرجة والمقام، كالإحسان إلى الخلق، وإعانة الضعيف، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، والانتصار للمظلوم، وإطعام الطعام، ونشر العلم، وجهاد العدوّ، والمجاهدة مع النفس، وإتيان اُمور الخير، كلّ ذلك من موجبات الفضيلة.

والمطلوب في هذه الفقرة من الدعاء الشريف هو ما يكون من حلية الصالحين وزينة المتّقين، وهو استباقهم وحيازتهم قصب السبق في درك الفضائل، والأعمال الخيريّة التي توجب الفضيلة والدرجة الرفيعة.

والتسابق إلى مفاضل الأعمال، وصنائع الخيرات فضلٌ محبوب ومرغوب رُغّب فيه شرعاً وعقلاً، وكتاباً وسنّةً.

١٨٩

قال تعالى: ـ

( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ـ

( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (2) .

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

(مَن فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يُغلق) (3) .

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: ـ

(إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟

قال: فيقوم عُنقُ من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصِلُ مَن قطَعَنا، ونُعطي مَن حَرَمنا، ونعفو عمّن ظَلَمنا.

فيُقال لهم: صدقتم، اُدخلوا الجنّة) (4) .

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام لعمّار: ـ

(يا عمّار، أنت ربُّ مالٍ كثير؟

قال: نعم، جُعلتُ فداك.

قال عليه السلام: ـ فتؤدّي ما افترض الله عليك من الزكاة؟

قال: ـ نعم.

__________________

(1) سورة المائدة: الآية 48.

(2) سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.

(3) ميزان الحكمة / ج 7 / ص 444.

(4) مستدرك السفينة / ج 8 / ص 233.

١٩٠

قال عليه السلام: ـ فتصِل قرابتك؟

قال: ـ نعم.

قال عليه السلام: ـ فتصِل إخوانَك؟

قال: ـ نعم.

فقال عليه السلام: ـ يا عمّار، إنّ الماي يَفنى، والبدن يَبلى، والعمل يبقى، والديّان حيٌّ لا يموت.

يا عمّار: إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، وما أخّرتَ فلن يلحقَك) (1) .

وفي حديثه الآخر: ـ

(أيّما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) .

والمثلُ الأعلى، والقدوة الأسمى في السّبق إلى الفضائل هم أهل البيت عليهم السلام، وفيهم نزل قوله تعالى: ـ ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) » (3) .

فهم عليهم السلام سبقوا الناس في جميع الفضائل منذ أوّل خلقهم في عالم الذرّ، إلى آخر حياتهم في عالم الدُّنيا...

وهم السابقون إلى الله تعالى في الدُّنيا والآخرة..

سبقوا إلى الجواب ببلى، عند سؤاله تعالى: في الذرّ.

وسبقوا إلى الخيرات في الدُّنيا.

وسبقوا إلى الجنّة في الآخرة.

ومَن غير عليّ عليه السلام كان سبّاقاً إلى الفضائل؟!

__________________

(1) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 7.

(2) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 8.

(3) تفسير الصافي / ج 5 / ص 120، وإحقاق الحقّ / ج 3 / ص 114.

١٩١

أليس كان هو السابق إلى الإسلام، وكان إسلامه عن فطرة، وإسلام الناس عن كفر (1) ؟

ألم يكن هو السابق إلى تفدية نفسه المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت بين أربعمائة سيف من المشركين؟

وهل غيره سبق إلى الجهاد في سبيل الله، والجُهد في طاعة الله، والاجتهاد في عبادة الله؟

ولقد أجاد كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام في نثره وفي شعره.

قال في النثر الذي وصف به عليّاً وذكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(صنوه الذي واخاه، وأجابه حين دعاه، وصدّقه قبل الناس ولبّاه، وساعده وواساه، وشيّد الدِّين وبناه، وهَزَم الشرك وأخزاه، وبنفسه على الفراش فداه، ومانَع عنه وحماه، وأرغَمَ من عانده وقلاه، وغسله وواراه، وأدّى دَينه وقضاه، وقام بجميع ما أوصاه، ذاك أمير المؤمنين لا سواه) (2) .

وقال في شعره في غديريّته المعروفة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام، أنشدها كمحاورةٍ سُئل فيها فأجاب في 25 بيتاً: ـ

قالت: فَمَنْ صاحبُ الدِّين الحنيف أجِب؟

فقلتُ: أحمدُ خيرُ السّادةِ الرُّسلِ

قالت: فَمَنْ بعدَه تُصفي الولاءُ له؟

قلت: الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت: فَمَنْ باتَ مِن فَوق الفراشِ فَدى؟

فقلت: أثيبُ خلقِ اللهِ في الوَهَلِ

__________________

(1) سُئل بعض العلماء: متى أسلم عليّ عليه السلام؟

فأجاب: ومتى كفر؟ حتّى يكون أسلم، إنّه جدّد الإسلام.

فهو عليه السلام وُلد على الإيمان وفطرة الإسلام ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدّده في البعثة.

(2) الكنى والألقاب / ج 2 / ص 368.

١٩٢

قالت: فَمَنْ ذا الذي آخاهُ عن مِقةٍ؟

فقلت: من حاز ردَّ الشمس في الطفلِ

قالت: فَمَنْ زُوَّج الزّهراء فاطمة؟

فقلت: أفضلُ مَن حافٍ ومُنتعلِ

قالت: فَمَنْ والدُ السبطين إذ فَرَعا؟

فقلت: سابقُ أهلِ السَبق في مَهَلِ

قالت: فَمَنْ فاز في بَدرٍ بمعجزها؟

فقلت: أضربَ خلقِ الله في القُللِ

قالت: فَمَنْ أسَدُ الأحزاب يفرسها؟

فقلت: قاتلُ عمروِ الضيغمِ البطلِ

قالت: فيومُ حُنين مَن فَرا وبَرا

فقلت: حاصدُ أهلِ الشِّركِ في عجلِ

قالت: فَمَنْ ذا دُعي للطّير يأكله؟

فقلت: أقربُ مَرضيٍّ ومُنتحِلِ

قالت: فَمَنْ تِلْوُه يومَ الكساء أجِب؟

فقلت: أفضلُ مَكسوٍ ومُشتمِلِ

قالت: فَمَنْ سادَ في يوم «الغدير» أَبِنْ؟

فقلت:: مَن كان للإسلام خيرُ وليّ

قالت: فَمفي مَن أتى في هل أتى شَرَفٌ؟

فقلتُ: أبذلُ أهلِ الأرض للنُفَلِ

قالت: فمَنْ راكعٌ زكّى بخاتمه؟

فقلت: أطعنهم مُذ كان بالاُسُلِ

قالت: فمَنْ ذا قسيمُ النار يُسهُمها؟

فقلت: مَن رأيُه أذكى من الشُّعلِ

قالت: فمَنْ باهَلَ الطّهرُ النبيُّ به؟

فقلت: تاليه في حِلٍّ ومُرتحِلِ

قالت: فمَنْ شِبْهُ هارونٍ لنعرِفُه؟

فقلت: مَن لم يُحِلْ يوماً ولم يزلِ

قالت: فمَنْ ذا غدا بابَ المدينة قُل؟

فقلت: مِن سألوهُ وهو لم يَسلِ

قالت: فمَنْ قاتَلَ الأقوامَ إذ نكثوا؟

فقلت: تفسيرُه في وقعةِ الجملِ

قالت: فمَنْ حارَبَ الأرجاسَ إذ قَسَطوا؟

فقلت: صفّين تُبدي صفحةَ العملِ

قالت: فمَنْ قارَعَ الأنْجاسَ إذ مَرَقوا؟

فقلت: معناه يومَ النّهروان جَلي

قالت: فمَنْ صاحبَ الحوضِ الشريف غداً؟

فقلت: مَن بيتُهُ في أشرف الحُللِ

قالت: فمَن ذا لواءَ الحمدِ يحملُه؟

فقلت: مَن لم يكن في الرّوع بالوَجِلِ

قالت: أكلُّ الذي قد قلتَ في رجلٍ؟

فقلت: كلُّ الذي قد قلتُ في رجلِ

قالت: فمَنْ هو هذا الفردُ سِمْهُ لنا؟

فقلتُ: ذاكَ أميرُ المؤمنينَ عليّ (1)

__________________

(1) الغدير / ج 4 / ص 40.

١٩٣

وهذه الدراسة تعطينا أنّ السبق إلى الفضيلة من مفاخر صفات الصالحين وسجايا المتّقين، المحبوبة عند ربّ العالمين، والشرع المبين، ومن موجبات عظيم الأجر والثواب في يوم الدِّين..

كلّ هذا مضافاً إلى نتائجه الحسنة في نفس هذه الحياة الدُّنيا، فإنّ السبق إلى الفضائل من صنائع المعروف التي تدفع مصارع السوء، وتحفظ الإنسان من البلايا العظيمة كما هو المجرّب المحسوس في قضايا المحسنين.

من ذلك ما حدّث بعض السادة الأجلّاء الثقات ما مضمونه: ـ

أنّه كان في بعض البلاد المقدّسة شخصٌ مؤمنٌ صالح، وكان رجلاً تاجراً متمكِّناً ثريّاً، يحبّ الخير، ويصنع الخير لمن يعرفه ومَن لا يعرفه، خصوصاً الزائرين.

رأى في بعض الأيّام أحد زوّار ذلك البلد المقدّس لم يحصّل على فندقٍ أو محلّ مسكنٍ يسكنه في مدّة زيارتهم هو وعائلته.

وكانت تلك الزيارة أوّل زيارتهم لذلك البلد المقدّس الذي لم يعرف فيه أحداً ولم يتعرّف على أحد.

وكانوا قد جلسوا على رصيفٍ في الطريق ينتظرون الحصول على غرفةٍ فارغة.

فصادفهم هذا التاجر المؤمن، وسألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟

قالوا: ننتظر الحصول على مكانٍ نستأجره ونسكنه.

فقال لهم: ـ لي بيتٌ واسع، ومكانٌ مناسب، ودارٌ مفروشة مع وجبات الطعام.

ففرحوا وأجابوا بالقبول، بعنوان أن يسكنوا في بيته، ثمّ يعطون له الاُجرة التي تدفع إلى الفنادق للسكن والطعام، ظنّاً منهم أنّ بيته معدّ لإيجار الزائرين.

فذهب بهم ذلك التاجر إلى بيته، وأكرمهم غاية الإكرام، وبقوا عنده عشرة أيّام، يخدمهم فيها بالإطعام والإكرام، بغاية الحفاوة والاحترام.

وحينما أرادوا الانصراف والرجوع إلى وطنهم حضّروا له النقود، لدفع ثمن

١٩٤

الإيجار والوجبات الغذائيّة، لكنّه لم يقبل منهم أيّ مال، وأدنى نقود.

وبالرغم من أنّهم أصرّوا عليه كثيراً بالقبول، لم يستجب لهم ذلك، وأجابهم بأنّي آخذ ثمن الإيجار والخدمة من الإمام عليه السلام بأكثر ممّا آخذه منكم، فليطيب خاطركم بذلك.

فتشكّروا منه، وودّعوه راجعين إلى بلدهم.

ومضت على ذلك الأيّام والسنين، ثمّ إنّ ذلك التاجر حدثت له مشكلة سياسيّة أدّت إلى أن يُسجن، ويحتمل عليه الإعدام..

واُجريت عليه لقاءات مع المسؤولين، وسؤال وجواب، ورتّبت له ملفّات شدّدت عليه الأمر.

وفي آخر الأمر جاء عنده في السجن أحد المسؤولين الكبار الذي كانت له درجة عسكريّة رفيعة، وبيده ملفّةٌ كبيرة تخصّني.

فنظر إليَّ مليّاً، ثمّ سألتي ألست أنت الحاجّ فلان، من أهل مدينة كذا، وتسكن دار كذا، في محلّة كذا؟

وأنا في كلّ المسائل اُجيبه بنعم، وتخيّلت أنّه يعرف هذه الخصوصيّات من الأسئلة التي طُرحت عليَّ سابقاً..

لكنّه قال لي: ـ أتعرفني؟

قلتُ في دهشةٍ: لا مع الأسف.

فرفع قُبّعته العسكريّة، وقال: هل عرفتني الآن؟

قلت: ملامحكم مأنوسة عندي، مَن أنتم؟

قال: أنا ذلك الشخص الذي نزلتُ مع عائلتي عندك في سنة كذا، وبقيتُ في بيتك عشرة أيّام، استضفتني فيها بكلّ كرامة.

ثمّ قال: هذه ملفّة إضبارتك التي تنتهي بإعدامك، لكن أنا اُمزّقها، واُسقط

١٩٥

حكم الإعدام قِبال ذلك العطف والإكرام، فمزّقها أمامي وحكم بتسريحي.

فنجوت من الإعدام والسجن بفضل السبق إلى ذلك العمل الخيري الذي عملته أنا محبّةً للإمام عليه السلام وزائريه.

١٩٦

(13)

وإيثار التفضّل

الإيثار: هو التقديم والاختيار على النفس.

قال تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) أي يقدّمون عليها.

ويُقال: آثرتُ ذلك أي اخترته، وفضّلته، وقدّمته.

والتفضّل: هو الابتداء بالإحسان.

فإنّ صنع المعروف والفعل الحَسَن قد يكون جزاءً وهو الإحسان..

وقد يكون تطوّلاً وابتداءً به وهو التفضّل، ومنه المواساة.

فالتفضّل هو الابتداء بالإحسان، وابتداء المعروف.

ومن حلية الصالحين وزينة المتّقين أنّهم يقدّمون غيرَهم على أنفسهم ويبتدئون بالفضل والإحسان.

وهو مرغوبٌ وممدوح كتاباً وسنّةً.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: ـ

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

__________________

(1) سورة الحشر: الآية 9.

١٩٧

وقد أجمع الفريقان في أحاديثهم أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته سلام الله عليهم (1) .

ففي حديث شيخ الطائفة الطوسي مسنداً أنّه جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فشكا إليه الجوع.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيوت أزواجه..

فقُلن: ما عندنا إلّا الماء.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من لهذا الرجل الليلة؟

فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، وأتى فاطمة عليها السلام وقال لها: ـ

هل عندك يا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وآله شيء؟

فقالت: ما عندنا إلّا قوت العشيّة، لكنّا نُؤثِر ضيفنا.

فقال: يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، واطفئي المصباح.

فلمّا أصبح عليّ عليه السلام غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

وأمّا السنّة، فيستفاد فضل الإيثار والمواساة في أحاديث بابه مثل: ـ

1 ـ حديث المفضّل قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجلٌ: في كم تجب الزكاة من المال؟

فقال له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟

فقال: اُريدهما جميعاً.

فقال: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون درهماً.

__________________

(1) كنز الدقائق / ج 13 / ص 175، وإحقاق الحقّ / ج 9 / ص 144.

(2) أمالي شيخ الطائفة / ص 188.

١٩٨

وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك (1) .

2 ـ حديث السعداني عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: ـ

( فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

قال عليه السلام: ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ قال الله عزّوجلّ: ـ

لقد حقّت كرامتي ـ أو مودّتي ـ لمن يراقبني، ويتحابّ بجلالي..

إنّ وجوههم يوم القيامة من نور، على منابر من نور، عليهم ثيابٌ خُضر.

قيل: مّن هم يا رسول الله؟

قال: قومٌ ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، ولكنّهم تحابّوا بجلال الله، ويدخلون الجنّة بغير حساب، نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته (3) .

3 ـ حديث الطبرسي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: ـ

اُتيَ رسول الله صلى الله عليه وآله بأسيرين ـ يهوديّين مستحقّين للقتل ـ فأمر النبيّ بضرب عنقهما، فضُرب عنق واحدٍ منهما، ثمّ قُصد الآخر.

فنزَلَ جبرئيل فقال: ـ يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤوك السلام، ويقول: ـ لا تقتله، فإنّه حسن الخلق سخيُّ قومه.

فقال اليهودي تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم.

قال: والله ما ملكتُ درهماً مع أخ لي قطّ، ولا قطبتُ وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّد رسول الله.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 24.

(2) سورة غافر: الآية 40.

(3) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 25.

١٩٩

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ممّن جرّه حسنُ خلقه وسخاؤه إلى جنّات نعيم (1) .

وعليه فالإيثار والمواساة فضيلة ممدوحة، وخليقة طيّبة، بدليل الكتاب والسنّة.

وأهل البيت عليهم السلام هم القدوة في إيثار التفضّل، والابتداء بالفضل والإحسان إلى الغير.

وقد آثروا على أنفسهم ثلاثة أيّام في سبيل الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً، لا يريدون بذلك منهم جزاءً ولا شكوراً، إلّا رضا الله تعالى، فخصّهم الله بسورة الدهر، كما تلاحظه في جميع تفاسير الفريقين.

ودراسة موجزة في إنفاقاتهم تعطيك صورة واضحة عن أنّهم كانوا قمّة الخلق في الإيثار والمواساة.

من ذلك ما تقرأه في باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام (2) .

كإيثاره بالتصدّق بجميع أمواله، ووقف عيون ماءه، وتخصيص حوائطه وبساتينه للفقراء والمساكين، ولم يدّخر لنفسه ديناراً ولا درهماً، ولا حطاماً من حطام الدُّنيا.

قال أبو الطفيل: رأيت عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل ويلعقهم ذلك، حتّى قال بعض أصحابه: لوددتُ أنّي كنتُ يتيماً.

في حين لم يشبع هو من خبز الشعير، ولم يأكل خبز البُرّ، وكان إدامُه الملح فقط، وربما ائتدم باللبن الحامض كما في حديث سويد بن غفلة.

وكان يقول: ـ (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ) (3) .

__________________

(1) مشكاة الأنوار / ص 231.

(2) لاحظ بحار الأنوار / ج 41 / ص 24 / باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام.

(3) نهج البلاغة / الكتاب 45.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206