اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133379 / تحميل: 10024
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

الأذان شعار اسلامي كبير :

إنّ لكل أمّة ـ في أي عصر أو زمان كانت ـ شعار خاص بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ، ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع.

فالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.

والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين ، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى ، فقد ذكر صاحب تفسير (المنار) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ، وينقل صاحب المنار ـ أيضا ـ أنّ بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي.

فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ، وينتهي ـ كذلك ـ بذكر الله!! فبدايته اسم «الله» وختامه اسم (الله) في جمل موزونةمتناغمة ، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء.

ولذلك أكّدت الرّوايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان ، فقد ورد

__________________

أشير إليها سابقا ـ صحة الاحتمالين ، لأنّ المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصّلاة معا ، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال الأوّل ، أي أن الضمير يعود على الصّلاة.

٦١

عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث معروف في هذا المجال ، أنّه قال : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة(1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة.

إنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ، ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ، ويعتبر رمزا من رموز بقاء الإسلام ، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين : ما دام اسم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع على المآذن ، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية(2) .

وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار الإسلامي العظيم ـ الذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصور ـ من إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ، نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.

ومن الطبيعي أنّ الأذان ـ لفحواه ومحتواه الجميل البديع ـ يحتاج أدائه إلى صوت مقبول ، لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.

نزول الأذان وحيا على النّبي :

وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي ، وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سأله أصحابه عن إيجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،

__________________

(1) الوسائل : ج 5 ، ص 376 ، باب 2 ، ح 21.

(2) صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

٦٢

استشار الصحابة ، فقدم كل منهم اقتراحا ، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو إشعال نار ، أو دق ناقوس ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصا يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصّلاة ، وعلمهما كيفية هذا الأذان ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك(1) .

إنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفيعة ، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام من أن الأذان نزل وحيا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحدثنا الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واضعا رأسه في حجر عليعليه‌السلام حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة ، فعلّمهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب ، فسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ثانية إن كان قد حفظ ذلك ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب أيضا ـ ثمّ طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليعليه‌السلام أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإقامة ، فاستدعى عليعليه‌السلام بلالا وعلمه الأذان والإقامة(2) .

وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي.

(2) الوسائل ، ج 4 ، ص 612.

٦٣

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(60) )

سبب النّزول

نقل عن عبد الله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد ، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله ، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته ، ثمّ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّا على هؤلاء الحاقدين.

٦٤

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين ، وهل أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد ، حيث تقول الآية :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) (1) .

وتشير هذه الآية ـ أيضا ـ إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر ، ونظرتهم الضيقة الآحادية الجانب التي دفعت بهم إلى الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم ، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّا.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة ، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه ، ما هو إلّا لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب ، ولذلك فهم ـ لانحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية :( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) .

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق ، تنقلب ـ أحيانا ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقا ، ويصبح العمل الصالح والإعتقاد النزيه شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد ، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا جديرا بالاستحسان والمديح ، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب ، وواضح أنّها

__________________

(1) إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شيء معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

٦٥

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع ، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل هؤلاء : هل أنّ الإيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض ، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء : إن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال ، حيث تقول :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ) (1) .

ولا شك أنّ الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود ، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب ، هي من باب الكناية ، كما ينتقد انسان فاسد إنسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا الفاسد : أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع ، فتبيّن أنّ أولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قرودا وخنازير ، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام ، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع ، لأنّهم ابتعدوا كثيرا عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب ، تقول الآية الكريمة :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

__________________

(1) إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى ، كما تطلقان ـ أيضا ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن ، وأحيانا تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

٦٦

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (1) .

وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان ، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية ، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟

وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف ، وبصورة مفصلة بإذن الله.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية :( سَواءِ السَّبِيلِ ) لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان ، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالاعتدال وتخلو من الانحراف ، ويجب الانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارة( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) عطف على جملة( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أهل الكتاب ، إمّا أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود ، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

٦٧

الآيات

( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) )

التّفسير

الآية الاولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة :( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإيمان ،

٦٨

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم ، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيرا من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية :( وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ كلمة «إثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا ، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين : أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط ، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين ، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية ، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص ، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين ، أوّلا لكل ذنب اقترفوه ، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة ، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب ، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

__________________

(1) لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة ، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضا ، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة ، في المجلد الأوّل.

٦٩

وأكل المال الحرام ، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وتدل عبارة( كانُوا يَعْمَلُونَ ) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة ، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق إصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول :( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله ، لكنّها قد أطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين ، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثارا حسنة في المجتمع ، لكنّها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها ، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة( قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة ، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول ، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء ، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إلى إصلاح أي مجتمع فاسد ، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع ، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية ، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

٧٠

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل إصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبح صمتهم هذا ، كما تقول الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله : بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه ، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله ، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك الأقوام(1) .

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام عليعليه‌السلام في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قولهعليه‌السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649.

٧١

ويلفت الانتباه هنا أيضا أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة ، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة ، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذما أكبر ، وذلك لأنّ سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا يكون ارتكابهم هذا ـ غالبا ـ بسبب جهلهم ، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير ، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

٧٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )

التّفسير

تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

٧٣

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية :( قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك(1) .

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله :( غُلَّتْ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649 ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 486.

٧٤

أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال :( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلىذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة :( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة( الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

٧٥

والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول :( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) وتؤكّد أيضا قائلة :( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

٧٦

أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم.

* * *

٧٧

الآيتان

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) )

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت :( وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

٧٨

ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) .

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة( ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

٧٩

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي( مِنْ فَوْقِهِمْ ) و( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

٨٠

٦ ـ خطاب الإمام الحسنعليه‌السلام :

نقل العلاّمة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) عن كتاب "العدد" روايةً أشارت إلى أنّ بعض أهل الكوفة اتّهموا الإمام الحسنعليه‌السلام بضعف الحجّة والعجز عن الخطابة، ولعلّ هذه الرواية متعلّقة بهذه الفترة(١) .

وعندما سمع أمير المؤمنينعليه‌السلام بتلك الاتهامات دعا ولده الإمام الحسنعليه‌السلام ليلقي في أهل الكوفة خطاباً، يفنّد فيه تلك المزاعم، وقد استجابعليه‌السلام لدعوة أبيهعليه‌السلام ، وألقى في حشود من الكوفيين خطاباً بليغاً، جاء فيه : "أيّها الناس! أعقلوا عن ربّكم، إنّ الله عَزَّ وجَلَّ اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرّيّةً بعضها من بعض والله سميع عليم، فنحن الذرّيّة من آدم والأسرة من نوح، والصفوة من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، وآل من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن فيكم كالسماء المرفوعة، والأرض المدحوّة، والشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة، لا شرقية ولا غربية، التي بورك زيتها، النبيّ أصلها، وعليّ فرعها، ونحن والله ثمرة تلك الشجرة، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، ومن تخلّف عنها فإلى النار هوى ..." .

وبعد أن انتهى الحسنعليه‌السلام من خطبته صعد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام المنبر وقال : "يا بن رسول الله! أثبَتَّ على القوم حجّتَك، وأوجبْتَ عليهم طاعتك، فويلٌ لمن خالفك"(٢) .

__________

(١) زندگانى إمام حسن مجتبى، للسيد هاشم رسولي : ١٣٨ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٣ / ٣٥٨ .

٨١

٧ ـ تهيّؤ الإمام عليعليه‌السلام لجهاد معاوية :

لمّا أخفقت جميع الوسائل التي سلكها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من أجل السلم بعد إصرار معاوية على محاربة السلطة الشرعية والإطاحة بالخلافة الإسلامية وإعادة المثل الجاهلية وزحفه بجيشه إلى صفين واحتلال الفرات، تهيّأعليه‌السلام للحرب وقد استدعى المهاجرين والأنصار الذين خفّوا لنجدته، فقال لهم : "إنّكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحقّ، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا فأشيروا علينا برأيكم" .

فانطلق عدد من كبار الشخصيات الإسلامية من أمثال: عمّار بن ياسر وسهل بن حنيف ومالك الأشتر وقيس بن سعد وعدي بن حاتم وهاشم بن عتبة، ليعربوا عن دعمهم لقرار الإمامعليه‌السلام في السير إلى العدوّ ومواجهته(١) .

وكان قد خطب الإمام الحسنعليه‌السلام خطاباً هامّاً وقتذاك قال فيه : "الحمد لله لا إله غيره، وحده لا شريك له، وأُثني عليه بما هو أهله، إنّ ممّا عظّم الله عليكم من حقّه وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره، ولا يؤدّى شكره، ولا يبلغه صفة ولا قول، ونحن إنّما غضبنا لله ولكم، فإنّه منّ علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولاً يصعد إلى الله فيه الرضا، وتنتشر فيه عارفة الصدق، يصدق الله فيه قولنا، ونستوجب فيه المزيد من ربّنا، قولاً يزيد ولا يبيد، فإنّه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلاّ اشتد أمرهم، واستحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتال عدوّكم معاوية وجنوده، فإنّه قد حضر، ولا تخاذلوا فإنّ الخذلان يقطع نياط القلب، وإنّ الإقدام على الأسنّة نجدة وعصمة لأنّه لم يمتنع(٢) قوم قطّ إلاّ رفع الله عنهم العلّة، وكفاهم جوائح(٣) الذلّة، وهداهم معالم الملّة.

__________

(١) زندگانى أمير المؤمنين : ٢ / ٥٢ ـ ٥٧ فقد نقل كلمات التأييد التي ألقيت آنذاك .

(٢) الامتناع : العزّة والقوة .

(٣) الجوائح : جمع، مفردها جائحة وهي الدواهي والشدائد .

٨٢

ثم أنشد:

والصلح تأخذ منه ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفساها جرع(١)

لقد حفل خطابه البليغ بالدعوة إلى الوحدة والتعاون لمحاربة الطغاة البغاة، واستجاب الناس لدعوته فاسرعوا لنصرة الحق والدفاع عن الدين الحنيف.

٨ ـ في معركة صفّين :

احتشد الجيشان في صفيّن، وبَذَلَ الإمام عليعليه‌السلام العديد من المساعي لتفادي وقوع الحرب مع معاوية، إلاّ أنّها لم تفلح، ممّا اضطرّ الإمام عليّاًعليه‌السلام لخوض غمار حرب استمرت عدة أشهر، وراح خلالها ـ ضحيةً لسلطوية معاوية ـ الآلاف من المسلمين والمؤمنين .

وكان للإمام الحسنعليه‌السلام دور بارز في حرب صفّين، فقد نقل المؤرّخون: أنّ الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام عندما نظّم صفوف جيشه جعل الميمنة بقيادة الإمام الحسنعليه‌السلام وأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل(٢) ، وفي هذه الأثناء أراد معاوية أن يجسّ نبض الإمام الحسنعليه‌السلام فبعث إليه عبيد الله بن عمر يمنّيه بالخلافة ويخدعه حتى يترك أباهعليه‌السلام فانطلق عبيد الله، فقال له : لي إليك حاجة .

فقال لهعليه‌السلام : نعم، ما تريد؟

فقال له عبيد الله : "إنّ أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنؤوه فهل

__________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٢٨٣ .

(٢) مناقب ابن شهرآشوب : ٣ / ١٦٨ .

٨٣

لك أن تخلفه ونولّيك هذا الأمر؟"(١) .

فأجابه الإمام الحسنعليه‌السلام بكلّ حزم : "كلا والله لا يكون ذلك"(٢) ، ثم أردف قائلاً : "لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك، أما إنّ الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق(٣) وترى نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً"(٤) .

ورجع عبيد الله إلى معاوية وهو خائب حسير قد أخفق في مهمته، وأخبره بحديث الإمامعليه‌السلام فقال معاوية : "إنّه ابن أبيه"(٥) .

وخرج عبيد الله في ذلك اليوم إلى ساحة الحرب يقاتل مع معاوية، فلقي حتفه سريعاً على يد رجل من قبيلة همدان، واجتاز الإمام الحسنعليه‌السلام في ساحة المعركة، فرأى رجلاً قد توسّد رجلاً قتيلاً وقد ركز رمحه في عينه وربط فرسه في رجله، فقال الإمامعليه‌السلام لمن حوله : اُنظروا من هذا؟ فأخبروه أن الرجل من همدان وأنّ القتيل عبيد الله بن عمر(٦) .

ومن الواضح أنّ هذا الحادث من كرامات الإمام الحسنعليه‌السلام حيث أخبر عن مصير عبيد الله قبل وقوعه، وأنبأه بنهايته الذليلة، وقد تحقّق ذلك بهذه السرعة .

٩ ـ أملكوا عنّي هذا الغلام :

لم تكن المواجهة في صفّين على وتيرة واحدة، فكانت تارةً على شكل

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ١ / ٤٩٢ .

(٢) المصدر السابق : ٤٩٢ ـ ٤٩٣ .

(٣) الخلوق : الطيب .

(٤) و(٥) و(٦) المصدر السابق : ١ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

٨٤

مناوشات بين الفريقين، وتارة أخرى كانت بصورة التحام كامل بين الجيشين، وأول مواجهة حيث اتّخذت شكل الالتحام العام رأى الإمام عليعليه‌السلام ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام يستعدّ ليحمل على صفوف أهل الشام، فقال لمن حوله : "أملكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني(١) فإنّني أنفس(٢) بهذين الغلامين ـ يعني الحسن والحسين ـ لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله"(٣) .

١٠ ـ الإمام الحسنعليه‌السلام والتحكيم :

بعد أن مضت عدّة أشهر على المواجهة بين جيش الإمام عليعليه‌السلام وجيش معاوية، وبعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بالجانبين، أوشك جيش الحقّ بقيادة أمير المؤمنينعليه‌السلام على تحقيق النصر ووضع حدٍّ لهذا النزف الذي أوجده معاوية في جسم الأمة الإسلامية، إلاّ أنّ عمرو بن العاص أنقذ جيش معاوية من الهزيمة المؤكدة، عندما دعا هذا الجيش إلى رفع المصاحف على الرماح والمطالبة بتحكيم القرآن بين الجانبين .

واضطرّ الإمام عليعليه‌السلام لقبول التحكيم بعد أن مارس جمع من المقاتلة ضغوطاً كبيرة عليه، فقد انطلت عليهم خدعة ابن العاص بسبب جهلهم، كما وظّف المنافقون والانتهازيون القضية لتدعيم ضغوط الجهلة على الإمام المظلومعليه‌السلام .

وبعد أن انخدع أبو موسى الأشعري ـ ممثّل العراقيّين ـ بحيلة عمرو بن العاص ـ ممثّل الشاميين ـ في قضيّة التحكيم; التفت الذين فرضوا التحكيم

__________

(١) يهدّني : أي يهلكني .

(٢) أنفس : أبخل .

(٣) حياة الإمام الحسن : ١ / ٤٩٧ .

٨٥

على الإمامعليه‌السلام إلى الخطأ الجسيم الذي وقعوا فيه، فتوجّهوا إلى الإمام عليعليه‌السلام يطلبون منه أن ينقض تعهداته التي أمضاها استجابة لضغوطهم، وأن يستأنف الحرب مع معاوية، وفوق ذلك كلّه اعتبروا أنّ الإمامعليه‌السلام أخطأ بقبوله التحكيم، فرفعوا شعار "لا حكم إلاّ لله"، الأمر الذي بات ينذر باضطراب آخر وفاجعة جديدة في أوساط جيش الإمام عليعليه‌السلام .

ومن هنا رأى الإمامعليه‌السلام ضرورة الحيلولة دون وقوع الفاجعة، وذلك بأن يدعو شخصاً يتمتّع بثقة الجميع واحترامهم ليلقي فيهم خطاباً يتضمّن إبطالاً لحكم أبي موسى الأشعري بالدليل والبرهان، ويبيّن لهم مشروعية القبول بأصل التحكيم، فاختار الإمامعليه‌السلام ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام فقال له :قم يا بنيّ، فَقُل في هذين الرجلين عبد الله بن قيس (يعني: أبو موسى الأشعري) وعمرو بن العاص ، فقام الإمام الحسن عليه‌السلام فاعتلى أعواد المنبر، وهو يقول : "أيّها الناس! قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنّما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب، ومن كان هكذا لم يسمّ حكماً ولكنّه محكوم عليه، وقد أخطأ عبد الله ابن قيس إذ جعلها لعبدالله بن عمر فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنّه خالف أباه إذ لم يرضه لها ولا جعله من أهل الشورى، وأخرى أنّه لم يستأمره في نفسه (١) ، وثالثها أنّه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس .

وأمّا الحكومة فقد حكّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سعد بن معاذ في بني قريضة فحكم بما يرضى الله به، ولا شك لو خالف لم يرضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم " (٢) .

لقد عرض الإمام الحسنعليه‌السلام في خطابه الرائع أهم النقاط الحسّاسة التي

__________

(١) وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٤ "أنه لم يستأمر الرجل في نفسه ولا علم ما عنده من رد أو قبول".

(٢) حياة الإمام الحسن : ١ / ٥٣٠ ـ ٥٣٢ .

٨٦

هي محور النزاع ومصدر الفتنة، فأبانعليه‌السلام أنّ المختار للتحكيم إنّما يتبع قوله، ويكون رأيه فيصلاً للخصومة فيما إذا حكم بالحقّ، ولم يخضع للنزعات والأهواء الفاسدة، وأبو موسى لم يكن في تحكيمه خاضعاً للحقّ، وإنّما اتّبع هواه فرشّح عبد الله بن عمر للخلافة، مع أنّ أباه كان لا يراه أهلاً لها، مضافاً إلى أنّ الشرط الأساسي في الانتخاب اجتماع المهاجرين والأنصار على اختياره ولم يحصل ذلك له، كما أعربعليه‌السلام في خطابه عن مشروعية التحكيم بالأمر الذي أنكرته الخوارج، مستدلاً عليه بتحكيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد بن معاذ في بني قريضة .

١١ ـ وصية الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى ابنه الحسنعليه‌السلام :

ووجّه الإمام لدى عودته من صفّين بمنطقة يقال لها: "حاضرين" وصيةً مهمّة إلى ابنه الحسنعليه‌السلام وقد تضمّنت دروساً بليغة :

"من الوالد الفان، المقرّ للزمان(١) ، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن(٢) عنها غداً، إلى المولود المؤمّل ما لا يُدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام(٣) ، ورهينة(٤) الأيام، ورميّة(٥) المصائب .

أمّا بعد: فإن فيما تبيّنت من إدبار الدنيا عنّي، وجموح الدهر(٦) عليّ، وإقبال الآخرة

__________

(١) المقر للزمان : المعترف له بالشدة .

(٢) الراحل .

(٣) غرض الأسقام : هدف الأمراض ترمي إليه سهامها .

(٤) الرهينة : المرهونة .

(٥) ما أصاب السهم .

(٦) جموح الدهر : استقصاؤه وتغلّبه .

٨٧

إليّ، ما يَزَعُني(١) عن ذكر مَن سواي، والاهتمام بما ورائي(٢) ، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي، فصدفني(٣) رأيي، وصرفني عن هواي، وصرّح لي محض أمري(٤) ، فأفضى بي إلى جِدّ لا يكون فيه لَعِب، وصِدق لا يشوبه كَذِب ووجدتُك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنَّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي مستظهراً به(٥) إن أنا بقيتُ لك أو فنيتُ .

فإني أوصيك بتقوى الله ـ أي بُني ـ ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به؟

أحي قلبك بالموعظة، وأمِته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء(٦) وبصّره فجائع الدنيا وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلك من الأوّلين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا، وأين حَلّوا ونزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصِلحْ مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تُكلّف .

وخُضِ الغمرات(٧) للحقّ حيث كان، وتفقّه في الدّين، وعوّد نفسك التصبّر على المكروه، ونِعْمَ الخُلُق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلّها إلى إلهك، فإنّك تلجئها إلى كهف(٨) حريز(٩) ، ومانع عزيز .

__________

(١) يزعني: يكفّني ويصدني.

(٢) ما ورائي: كناية عن أمر الآخرة.

(٣) صدفه: صرفه.

(٤)محض الأمر: خالصه.

(٥) مستظهراً به: مستعيناً به.

(٦) قرره بالفناء: اطلب منه بالإقرار بالفناء.

(٧) الغمرات : الشدائد .

(٨) الكهف : الملجأ .

(٩) حريز : الحافظ .

٨٨

فتفّهم يا بُنيّ وصيّتي، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة، وأنّ الخالق هو المميت، وأنّ المفني هو المعيد، وأنّ المبتلي هو المُعافي، وأنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء ممّا لا تعلم فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسوّاك، وليكن له تعبّدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك(١) .

واعلم يا بُني أنّ أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارضَ به رائداً، والى النجاة قائداً، فإنّي لم آلُك(٢) نصيحة فإنّك لن تبلغ في النظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك .

واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأَتَتْكَ رُسلُه، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل أوّلٌ قبل الأشياء بلا أوّليّة، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عَظُمَ عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صِغَر خَطَره(٣) وقلّة مقدرته وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربّه، في طلب طاعته، والخشية من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح .

... يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك .

واعلم أنّ الإعجاب(٤) ضد الصواب، وآفة الألباب(٥) ، فاسعَ في

__________

(١) شفقتك : خوفك .

(٢) لم آلك النصيحة : أي لم أقصّر في نصيحتك .

(٣) خطره : أي قدره .

(٤) استحسان ما يصدر عن النفس مطلقاً .

(٥) آفة : علّة .

٨٩

كدحك(١) ولا تكن خازناً لغيرك(٢) ، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك .

واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفّل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب(٣) رحمته، فلا يُقنّطك(٤) إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما أُخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صُرف عنك لما هو خيرٌ لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، ويُنفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له .

يا بُني! أكثِر من ذكر الموت، وذكر ما تهجُم عليه، وتُفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك(٥) وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك(٦) ، وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد(٧) أهل الدنيا إليها، وتكالبهم(٨) عليها، فقد نبأك الله عنها، ونَعَتْ(٩) هي لك عن نفسها، وتكشّفتْ لك عن مساويها، فإنّما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية(١٠) ،

__________

(١) الكدح : أشد السعي .

(٢) خازناً لغيرك : تجمع المال ليأخذه الوارثون بعدك .

(٣) شآبيب : جمع الشؤبوب ـ بالضم ـ وهو الدفعة من المطر، وما أشبه رحمة الله بالمطر ينزل على الأرض الموات فيحييها.

(٤) القنوط : اليأس .

(٥) الحِذر ـ بالكسر ـ: الاحتراز والاحتراس .

(٦) بهر ـ كمنع ـ : غلب، أي يغلبك على أمرك .

(٧) إخلاد أهل الدنيا : سكونهم إليها .

(٨) التكالب : التواثب .

(٩) نعاه : أخبر بموته والدنيا بحالها عن فنائها .

(١٠) ضارية : مولعة بالافتراس .

٩٠

يهرّ(١) بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها .

واعلم يقيناً أنّك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنّك في سبيل من كان قبلك، فخفّض(٢) في الطلب، وأجمل(٣) في المكتسب، فإنّه رُبَّ طلب قد جرّ إلى حَرَب(٤) فليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم وأكرم نفسك عن كل دنيّة(٥) وإن ساقتك إلى الرغائب(٦) ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً(٧) .

ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً، وما خيرُ خير لا يُنال إلاّ بشرّ ويسر(٨) لا يُنال إلاّ بعسر؟(٩) .

وإيّاك أن تُوجف(١٠) بك مطايا(١١) الطمع، فتوردك مناهل(١٢) الهلكة(١٣) ، وإن استطعت ألاّ يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنّك مدركٌ قَسْمَكَ، وآخذ سهمك، وإنّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خَلْقِه وإن كان كلّ منه .

ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك، ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا

__________

(١) يهرّ ـ بكسر الهاء ـ: يعوي وينبح وأصلها هرير الكلب وهو صوته دون حاجة من قلة صبره على البرد فقد شبه الإمام أهل الدنيا بالكلاب العاوية .

(٢) خفّض : أمر من خفّض ـ بالتشديد ـ: أي أرفق .

(٣) أجمل في كسبه : أي سعى سعياً جميلاً لا يحرص فيمنع الحق ولا يطمع فيتناول ما ليس بحق .

(٤) حَرَب ـ بالتحريك ـ: سلب المال .

(٥) الدنيّة : الشيء الحقير المبتذل .

(٦) الرغائب : جمع رغيبة، وهي ما يرغب في اقتنائه من مال وغيره .

(٧) عِوضاً : بدلاً .

(٨) اليُسر : السهولة، والمراد سعة العيش .

(٩) العُسر : الصعوبة، والمراد ضيق العيش .

(١٠) توجف: تسرع .

(١١) المطايا : جمع مطية، وهي ما يركب ويمتطى من الدواب ونحوها .

(١٢) المناهل : ما ترده الإبل ونحوها للشرب .

(١٣) الهلكة : الهلاك والموت .

٩١

يَكبُرنَّ عليك ظلم من ظلمك، فإنّه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

واعلم يا بُنيّ! أنّ الرزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإنّ أنت لم تأته أتاك ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى! إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك(١) وإن كنت جازعاً على ما تفلّت(٢) من يديك، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإنّ الأمور أشباه، ولا تكوننّ ممن لا تنفعه العِظَة إلاّ إذا بالغت في إيلامه، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب، والبهائم لا تتّعظ الاّ بالضرب .

استَودِعِ الله دينك ودُنياك، واسألهُ خير القضاء لكَ في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة، والسلام).

١٢ ـ النهروان ومؤامرة قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أدّى نفاق وتمرّد بعض الجهلاء والمتظاهرين بالتديّن إلى أن تتمرّد مجموعة كبيرة من جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام فترفض الانصياع لأوامره، بل ذهب هؤلاء المارقون إلى أبعد من ذلك عندما أصدروا حكماً بتكفير الإمامعليه‌السلام .

وبعد الجرائم التي ارتكبها المارقون في العراق; اتّخذوا "النهروان" قاعدة لتمرّدهم، فاضطرّ الإمامعليه‌السلام إلى التوجه نحوهم، وبعد أن تفاوض معهم وأتمّ الحجة عليهم; أعلن الحرب على من أصرّ منهم على انحرافه وعناده وكفره، فقضى عليهم كافة باستثناء أشخاص معدودين، وكان بين الأشخاص المعدودين الذين فرّوا في واقعة النهروان عبد الرحمن بن ملجم المرادي الذي

__________

(١) مثواك : مُقامك، من ثوى يثوي : أقام يقيم، والمراد هنا منزلتك من الكرامة .

(٢) تفلّت ـ بتشديد اللام ـ : أي تملّص من اليد فلم تحفظه .

٩٢

كان يختزن في قلبه حقداً أعمى على الإمام المظلوم، فخطّط سرّاً للتآمر على حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام وفي نهاية المطاف وبعد أن نسّق عمله مع عدد من الخوارج والمنافقين من أهل الكوفة; استطاع في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك في عام (٤٠) للهجرة أن يغتال الإمام عليّاًعليه‌السلام وهو في محراب العبادة وفي بيت الله ـ مسجد الكوفة ـ لينطلق في الآفاق نداؤه الخالد : "فزت وربِّ الكعبة".

١٣ ـ في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

لما عزم الإمام عليعليه‌السلام على الخروج من بيته ـ قبل أن تشرق أنوار الفجر ـ إلى مناجاة الله وعبادته في مسجد الكوفة صاحت في وجهه إوز كانت قد أُهدِيَتْ إلى الحسن، فتنبّأعليه‌السلام من صياحهنّ وقوع الحادث العظيم والرزء القاصم، قائلاً :"لا حول ولا قوّة إلا بالله، صوائح تتبعها نوائح" .

وأقبل الإمام على فتح الباب فعسر عليه فتحها وكانت من جذوع النخل فاقتلعها فانحلّ إزاره فشدّه وهو يقول :

أُشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

إذا حلّ بواديكا

واضطرب الإمام الحسنعليه‌السلام من خروج أبيه في هذا الوقت الباكر فقال له:"ما أخرجك في هذا الوقت؟" .

فأجابهعليه‌السلام :"رؤيا رأيتها في هذه الليلة أهالتني" .

فقال له الإمام الحسنعليه‌السلام :"خيراً رأيت، وخيراً يكون، قصّها عليّ" . فأجابه الإمام عليعليه‌السلام :"رأيت جبرئيل قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس، فتناول منه حجرين، ومضى بهما إلى الكعبة، فضرب أحدهما بالآخر فصارا كالرميم، فما بقي بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد شيء" .

فسألهعليه‌السلام :"ما تأويل هذه الرؤيا؟ ".

فقالعليه‌السلام :"إن صدقت رؤياي، فإن أباك مقتول، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة إلاّ دخله الهمّ والحزن من أجلي" .

٩٣

فالتاع الحسن وذهل وانبرى قائلاً بصوت خافت حزين النبرات :"متى يكون ذلك؟" .

قال الإمامعليه‌السلام :"إن الله تعالى يقول: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) (١) ولكن عهدهُ إليّ حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، يقتلني عبد الرحمن بن ملجم" .

فقال الإمام الحسنعليه‌السلام :"إذا علمت ذلك فاقتله" .

فقال الإمام عليعليه‌السلام :"لا يجوز القصاص قبل الجناية والجناية لم تحصل منه" .

وأقسم الإمام على ولده الحسن أن يرجع إلى فراشه، فلم يجد الحسن بدّاً من الامتثال(٢) .

١٤ ـ الإمام الحسنعليه‌السلام بجوار والدهعليه‌السلام الجريح :

وصل أمير المؤمنينعليه‌السلام مسجد الكوفة ووقعت تلك الفاجعة العظمى على يد أشقى الأشقياء، وسمع أهل الكوفة بالفاجعة، فهرعوا إلى المسجد وخفّ أبناء الإمامعليه‌السلام مسرعين، وكان الإمام الحسنعليه‌السلام في مقدمة الذين وصلوا المسجد فوجد أباهعليه‌السلام صريعاً في محرابه وقد تخضّب وجهه ولحيته بدمه، وجماعة حافّين به يعالجونه للصلاة، ولمّا وقع نظره على ولده

__________

(١) لقمان (٣١) : ٣٤ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ١ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨ .

٩٤

الحسنعليه‌السلام ; أمره أن يصلّي بالناس، وصلّى الإمام وهو جالس والدم ينزف منه.

ولمّا فرغ الحسنعليه‌السلام من صلاته; أخذ رأس أبيه فوضعه في حجره، وسأله :من فعل بك هذا؟ فأجابه قائلاً :عبد الرحمن بن ملجم ، فقال الإمام الحسنعليه‌السلام :من أيِّ طريق مضى؟ فقال الإمام عليّعليه‌السلام :لا يمض أحد في طلبه إنّه سيطلع عليكم من هذا الباب ، وأشار إلى باب كندة، وما هي إلاّ فترة قصيرة وإذا بالناس يدخلون ابن ملجم من الباب نفسها، وقد جيء به مكتوفاً مكشوف الرأس، فأوقف بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام فقال له :يا ملعون! قتلت أمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه حين آواك وقرّبك حتى تجازيه بهذا الجزاء؟

وفتح أمير المؤمنينعليه‌السلام عينيه وقال له بصوت خافت :"لقد جئت شيئاً إدّاً وأمراً عظيماً، ألم أشفق عليك وأقدمك على غيرك في العطاء؟ فلماذا تجازيني بهذا الجزاء؟" .

وقال لولده الحسنعليه‌السلام يوصيه ببرّه والإحسان إليه :"يا بني! أرفق بأسيرك وارحمه وأشفق عليه" .

فقال الإمام الحسنعليه‌السلام :"يا أبتاه، قتلك هذا اللعين وفجعنا بك، وأنت تأمرنا بالرفق به" .

فأجابه أمير المؤمنين :"يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة، أطعمه مما تأكل، واسقه مما تشرب، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تقتله، ولا تمثّل بالرجل فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن أنا عشت فأنا أعلم ما أفعل

٩٥

به، وأنا أولى بالعفو، فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً" (١) .

ونظر الحسن إلى أبيه وقد حرق الهمّ والجزع قلبه فقال له :" يا أبه ، من لنا بعدك ؟ إنّ مصابنا بك مثل مصابنا برسول الله " فضمّه الإمام وقال: مهدّئاً روعه :"يا بني! أسكن الله قلبك بالصبر، وعظّم أجرك، وأجر إخوتك بقدر مصابكم بي" .

وجمع الحسن لجنة من الأطباء لمعالجته وكان أبصرهم بالطبّ أثير بن عمرو السكوني(٢) فاستدعى برئة شاة حارة فتتبع عِرقاً منها فاستخرجه فأدخله في جرح الإمام ثم نفخ العِرق فاستخرجه فإذا هو مكلّل ببياض الدماغ، لأنّ الضربة قد وصلت إلى دماغه الشريف فارتبك أثير والتفت إلى الإمام ـ واليأس في صوته ـ قائلاً :" يا أمير المؤمنين! اعهد عهدك، فإنّك ميت " (٣) فالتفت الحسن إلى أبيه ودموعه تتبلور على وجهه، وشظايا قلبه يلفظها بنبرات صوته قائلاً :" أبه! كسرت ظهري، كيف أستطيع أن أراك بهذه الحالة ؟ " وبصر الإمام فرأى الأسى قد استوعب نفسه، فقال له برفق :" يا بني! لا غمّ على أبيك بعد هذا اليوم ولا جزع، اليوم ألقى جدّك محمد المصطفى، وجدّتك خديجة الكبرى، وأُمك الزهراء، وإنّ الحور العين ينتظرن أباك، ويترقّبن قدومه ساعةً بعد ساعة، فلا بأس عليك، يا بني لا تبك " .

__________

(١) جميع النصوص التي وردت تحت عنوان "بجوار والده عليه‌السلام الجريح" نقلت عن: زندگانى امام حسن مجتبى عليه‌السلام ١٥٣ ـ ١٥٤ .

(٢) أثير بن عمرو السكوني، كان أحد الأطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة، وكان صاحب كرسي، وله تنسب صحراء أثير .

(٣) الاستيعاب : ٢ / ٦٢ .

٩٦

وتسمّم دم الإمام، ومال وجهه الشريف إلى الصفرة، وكان في تلك الحالة هادئ النفس قرير العين لا يفتر عن ذكر الله وتسبيحه وهو ينظر إلى آفاق السماء، ويبتهل إلى الله بالدعاء قائلاً : "إلهي، أسألك مرافقة الأنبياء والأوصياء وأعلى درجات الجنة " .

وغشي عليه فذاب قلب الحسن وجعل يبكي مهما ساعدته الجفون، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الإمامعليه‌السلام فأفاق، فلما رآه قال له : مهدّئاً روعه:" يا بني! ما هذا البكاء ؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم، يا بني! لا تبك، فأنت تقتل بالسم، ويقتل أخوك الحسين بالسيف " .

١٥ ـ آخر وصايا أمير المؤمنينعليه‌السلام :

وأخذ الإمام يوصي أولاده بمكارم الأخلاق، ويضع بين أيديهم المثل الرفيعة، ويلقي عليهم الدروس القيّمة، وقد وجهعليه‌السلام نصائحه الرفيعة أولاً لولديه الحسن والحسين، وثانياً لبقية أولاده وعموم المسلمين قائلاً :

"أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما(١) ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا للحقّ واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، أوصيكما، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، الله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم(٢) ولا يضيعوا بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورثهم، والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به

__________

(١) المعنى : لا تطلبا الدنيا، وإن طلبتكما .

(٢) لا تغبوا أفواههم : أي لا تقطعوا صلتكم عنهم وصلوا أفواههم بالطعام دوماً .

٩٧

غيركم، والله الله في الصلاة فإنّها عمود دينكم، والله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا(١) ، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل(٢) وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولَّ عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم" .

ثم قالعليه‌السلام مخاطباً لآله وذويه :"يا بني عبد المطلب! لا ألفينكم (٣) تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قتل أمير المؤمنين قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور" (٤) .

وأخذعليه‌السلام يوصي ولده الحسن خاصة بمعالم الدين وإقامة شعائره قائلاً:" أوصيك، أي بني، بتقوى الله، وأقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلّها، وحسن الوضوء، فإنّه لا صلاة إلاّ بطهور، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل، والتفقّه في الدين، والتثبّت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش " (٥) .

وفي اليوم العشرين من شهر رمضان ازدحمت الجماهير من الناس على بيت الإمام طالبين الأذن لعيادته، فأذن لهم إذناً عاماً، فلمّا استقر بهم المجلس

__________

(١) لم تناظروا، مبني للمجهول : أي يتعجّل الانتقام منكم شرح نهج البلاغة ابن أبى الحديد : ١٧ / ١١.

(٢) التباذل : العطاء .

(٣) لا ألفينكم : أي لأجدنكم تخوضون دماء المسلمين بالسفك انتقاماً منهم بقتلي .

(٤) شرح نهج البلاغة محمد عبده : ٣ / ٨٥ .

(٥) تاريخ ابن الأثير : ٣ / ١٧٠ .

٩٨

التفت لهم قائلاً : " سلوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم " فأشفق الناس أن يسألوه، نظراً لما ألمّ به من شدّة الألم والجرح(١) .

١٦ ـ الإمام عليعليه‌السلام ينصّ على خلافة ابنه الحسنعليه‌السلام :

ولمّا علم أمير المؤمنين أنّه مفارق لهذه الدنيا وأنّ لقاءه بربّه لقريب; عهد بالخلافة والإمامة لولده الحسن، فأقامه من بعده لترجع إليه الأُمة في شؤونها كافة، ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك، فقد ذكر ثقة الإسلام الكليني أنّ أمير المؤمنين أوصى إلى الحسن، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتب والسلاح، وقال له: "يا بني! أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين" .

وروى أيضاً أنّه قال له : "يا بني! أنت وليّ الدم فإن عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة "(٢) .

١٧ ـ إلى الرفيق الأعلى :

ولمّا فرغ الإمام أمير المؤمنين من وصاياه أخذ يعاني آلام الموت وشدّته، وهو يتلو آي الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار، ولمّا دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به قوله تعالى :

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ١ / ٥٦٣ ـ ٥٦٦ .

(٢) أصول الكافي : ١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨ .

٩٩

( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) ثم فاضت روحه الزكية إلى جنّة المأوى وسمت إلى الرفيق الأعلى، وارتفع ذلك اللطف الإلهي إلى مصدره، فهو النور الذي خلقه الله ليبدّد به غياهب الظلمات .

لقد مادت أركان العدل وانطمست معالم الدين، ومات عون الضعفاء وكهف الغرباء وأبو الأيتام.

١٨ ـ تجهيزه ودفنه :

وأخذ الحسنعليه‌السلام في تجهيز أبيه، فغسَّل الجسد الطاهر وطيَّبه بالحنوط، وأدرجه في أكفانه، ولمّا حل الهزيع الأخير من الليل خرج ومعه حفنة من آله وأصحابه يحملون الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير فدفنه في النجف الأشرف حيث مقره الآن كعبة للوافدين ومقراً للمؤمنين والمتقين ومدرسة للمتعلمين، ورجع الإمام الحسن بعد أن وارى أباه إلى بيته وقد استولى عليه الأسى والذهول وأحاط به الحزن(١) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ١ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩ .

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206