اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)27%

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64580 / تحميل: 8294
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٥-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أعلام الهداية

الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام

قم المقدسة

١

اسم الكتاب: أعلام الهداية (ج٩) الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام .

المؤلف: لجنة التأليف.

الموضوع:كلام وتاريخ.

الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام .

الطبعة الأولى: ١٤٢٢ هـ ق.

الطبعة الثانية: ١٤٢٥ هـ ق.

الطبعة الثالثة: ١٤٢٧ هـ ق.

المطبعة: ليلى.

الكمية: ٥٠٠٠.

isbn: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٥-٦

حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام

www.ahl-ul-bayt-org

٢

أهل البيت في القرآن الكريم

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )

الأحزاب: ٣٣ / ٣٣

أهل البيت في الُسنّة النبويّة

(إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً)

(الصحاح والمسانيد)

٣

المقدمة

الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى آله الميامين النجباء.

لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى.

قال تعالى:

( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) (الأنعام (٦): ٧١).

( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة (٢): ٢١٣).

( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (الأحزاب (٣٣): ٤).

( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران (٣): ١٠١).

( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (يونس (١٠): ٣٥).

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (سبأ (٣٤): ٦).

( ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله ) (القصص (٢٨):٥٠).

فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم.

٤

وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: ( وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ ) (الذاريات (٥١): ٥٦). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال.

وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه

الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته.

ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.

وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (الرعد (١٣): ٧).

٥

ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:

١ ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (الأنعام (٦): ١٢٤) و( اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (آل عمران (٣): ١٧٩).

٢ ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة (٢): ٢١٣).

٣ ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى: ( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (الجمعة(٦٢): ٢) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (الأحزاب(٣٣): ٢١).

٤ ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة.

٦

٥ ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وثباتاً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها.

وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.

وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:

١ ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.

٢ ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

٣ ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.

٧

٤ ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.

٥ ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:

أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر.

ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.

ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:(إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) .

وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده.

٨

إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ الأئمة المعصومونعليهم‌السلام يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.

وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلَّاء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

إنّ دراستنا لحركة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.

ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام موسى بن جعفر، التاسع من أعلام الهداية الذي جسّد الكمالات النبوية في العلم والهداية والعمل والتربية وتوسعت بجهوده العلمية الجبارة مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام واتضحت معالمها وأينعث ثمارها ولا زلنا نتفيّأ ظلالها حتى عصرنا هذا.

٩

ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النور، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم (حفظه الله تعالى).

ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير.

المجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام

قم المقدسة

١٠

الباب الأول: وفيه فصول:

الفصل الأول: الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام في سطور.

الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الأول: الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام في سطور

الإمام موسى بن جعفر المعروف بـ (الكاظم الغيظ) سابع أئمة المسلمين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحد أعلام الهداية الربّانية في دنيا الإسلام وشمس من شموس المعرفة في دنيا البشرية التي لا زالت تشع نوراً وبهاءً في هذا الوجود. إنه من العترة الطاهرة الذين قرنهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحكم التنزيل وجعلهم قدوة لأولي الألباب وسفناً للنجاة وأمناً للعباد وأركاناً للبلاد. إنه من شجرة النبوة الباسقة والدوحة العلوية اليانعة ومحطّ علم الرسول وباب من أبواب الوحي والإيمان ومعدن من معادن علم الله.

ولد الإمام موسى بن جعفر في نهاية العهد الأموي سنة (١٢٨ هـ) وعاصر أيّام انهيار هذا البيت الذي عاث باسم الخلافة النبويّة في أرض الإسلام فساداً. وعاصر أيضاً بدايات نشوء الحكم العبّاسي الذي استولى على مركز القيادة في العالم الإسلامي تحت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعاش في ظلّ أبيه الصادقعليه‌السلام عقدين من عمره المبارك وتفيّأ بظلال علوم والده الكريم ومدرسته الربّانية التي استقطبت بأشعتها النافذة العالم الإسلامي بل الإنساني أجمع.

فعاصر حكم السفّاح ثم حكم المنصور الذي اغتال أباه في الخامس والعشرين من شوال سنة (١٤٨ هـ) وتصدّى لمنصب الإمامة بعد أبيه الصادقعليه‌السلام في ظروف حرجة كان يخشى فيها على حياته.

١١

وقد أحكم الإمام الصادقعليه‌السلام التدبير للحفاظ على ولده موسى ليضمن استمرار حركة الرسالة الإلهية في أقسى الظروف السياسية حتى أينعت ثمار هذه الشجرة الباسقة خلال ثلاثة عقود من عمره العامر بالهدى، وتنفّس هواء الحرية بشكل نسبي في أيّام المهدي العبّاسي وما يقرب من عقد في أيام حكم الرشيد.

لقد عاش الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ثلاثة عقود من عمره المبارك والحكم العبّاسي لمّا يستفحل ، ولكنه قد عانى من الضغوط في عقده الأخير ضغوطاً قلّما عاناها أحد من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من الأمويين وممن سبق الرشيد من العباسيين من حيث السجن المستمرّ والاغتيالات المتتالية حتى القتل في سبيل الله على يدي عملاء السلطة الحاكمة باسم الله ورسوله. وقد روي أنّ الرشيد خاطب الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتذراً منه في اعتقال سبطه موسى بن جعفرعليه‌السلام . زاعماً أنّ وجوده بين ظهراني الأمة سبب للفرقة... وهكذا تحكم القبضة على رقاب المسلمين بل وأئمة المسلمين.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

لقد سار الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام على منهاج جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآبائه المعصومين علي أمير المؤمنين والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر... في الاهتمام بشؤون الرسالة الإلهية وصيانتها من الضياع والتحريف، والجدّ في صيانة الأمة من الانهيار والاضمحلال ومقارعة الظالمين وتأييد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر للصدّ من تمادي الحكام في الظلم والاستبداد.

وقد كانت مدرسته العلمية الزاخرة بالعلماء وطلاّب المعرفة تشكّل تحدّياً إسلامياً حضاريّاً وتقف أمام تراث كل الحضارات الوافدة وتربي الفطاحل من العلماء والمجتهدين وتبلور المنهج المعرفي للعلوم الإسلامية والإنسانية معاً.

كما كانت نشاطاته التربوية والتنظيمية تكشف عن عنايته الفائقة بالجماعة الصالحة وتخطيطه لمستقبل الأمةً الإسلامية الزاهر والزاخر بالطليعة الواعية التي حفظت لنا تراث ذلك العصر الذهبي العامر بمعارف أهل البيتعليهم‌السلام وعلوم مدرستهم التي فاقت كل المدارس العلمية في ذلك العصر وأخذت تزهر وتزدهر يوماً بعد يوم حتى عصرنا هذا.

لقد اشتهر الإمام موسى بالكاظم الغيظ لشدّة حلمه وبالعابد والتقي وباب الحوائج إلى الله، ولم يستسلم لضغوط الحكّام العباسيين ولألوان تعسفهم من أجل تحجيم نشاطه

١٢

الربّاني الذي كانت تفرضه عليه ظروف المرحلة صيانة للرسالة والدولة الإسلامية من الانهيار وتحقيقاً لهويّة الأمة ومحافظة على الجماعة الصالحة من التحديات المستمرّة والمتزايدة يوماً بعد يوم.

لقد بقي هذا الإمام العظيم ثابتاً مقاوماً على خط الرسالة والعقيدة لا تأخذه في الله لومة لائم حتى قضى نحبه مسموماً شهيداً محتسباً حياته مضحّياً بكل ما يملك في سبيل الله وإعلاءً لكلمة الله ودين جدّه المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخامس والعشرين من رجب سنة (١٨٣) أو (١٨٤ هـ).

فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد في سبيل الله ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

الفصل الثّاني: انطباعات عن شخصية الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام

أجمع المسلمون ـ على اختلاف نحلهم ومذاهبهم ـ على أفضلية أئمّة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وأعلميّتهم ، وسموّ مقامهم ، ورفعة منزلتهم، وقدسيّة ذواتهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى تنافسوا في الكتابة عنهم، وذكر أحاديث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، وبيان سيرهم، وأخلاقهم، وذكر ما ورد من حكمهم وتعاليمهم.

ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن الكريم ـ كما ورد في حديث الثقلين ـ ووصفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى، ومثّلهم بباب حطّة الذي من دخله كان آمناً. إلى كثير من أحاديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان فضلهم، والتنويه بعظمة مقامهم.

ونقدّم في هذا الفصل بعض الانطباعات ممّن عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام عنه وممّن تلا عصره:

١ ـ قال عنه الإمام الصادقعليه‌السلام :(فيه علم الحكم، والفهم والسخاء والمعرفة فيما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله عَزَّ وجَلَّ) (١) .

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٢ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام .

١٣

٢ ـ قال هارون الرشيد لإبنه المأمون وقد سأله عنه: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده(١) .

وقال له أيضاً: يا بنيّ هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا(٢) .

٣ ـ قال المأمون العباسي في وصفه: قد أنهكته العبادة، كأنه شنّ بال، قد كلم السجود وجهه وأنفه(٣) .

٤ ـ كتب عيسى بن جعفر للرشيد : لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليَّ من يتسلّمه مني وإلاّ خليت سبيله، فإني متحرّج من حبسه(٤) .

٥ ـ قال أبو علي الخلال ـ شيخ الحنابلة ـ: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به، إلاّ وسهّل الله تعالى لي ما أحبّ(٥) .

٦ ـ قال أبو حاتم: ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين(٦) .

٧ ـ قال الخطيب البغدادي: كان سخيّاً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنّه يؤذيه، فيبعث إليه بصُرّة فيها ألف دينار، وكان يصرّ الصرر: ثلاثمئة دينار، وأربعمئة دينار، ومئتي دينار ثم يقسّمها بالمدينة، وكان مثل صرر

ــــــــــــ

(١) أئمتنا: ٢ / ٦٥ عن أعيان الشيعة.

(٢) أمالي الشيخ الصدوق: ٣٠٧ والمناقب: ٤ / ٣١٠.

(٣) الأنوار البهية: ١٩٣ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١/٨٨ ح ١١ ب ٧.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب: ٤ / ٣٥٢.

(٥) تاريخ بغداد: ١ / ١٢٠.

(٦) تهذيب التهذيب: ١٠ / ٢٤٠.

١٤

موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى(١) .

٨ ـ قال ابن الصبّاغ المالكي: وأمّا مناقبه وكراماته الظاهرة، وفضائله وصفاته الباهرة، تشهد له بأنّه افترع قبّة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها، وذلّلت له كواهل السيادة وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها فاصطفاها ...(٢) .

٩ ـ قال سبط ابن الجوزي: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، ويلقّب بالكاظم والمأمون والطيّب والسيّد، وكنيته أبو الحسن، ويدعى بالعبد الصالح لعبادته، واجتهاده وقيامه بالليل(٣) .

١٠ ـ قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد الجادّ في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي (كاظماً). كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّى بـ (العبد الصالح) ويعرف في العراق بـ (باب الحوائج إلى الله) لنجح مطالب المتوسّلين إلى الله تعالى به. كراماته تحار منها العقول، وتقضي بان له عند الله قدم صدق لا تزال ولا تزول(٤) .

١١ ـ قال أحمد بن يوسف الدمشقي القرماني: هو الإمام الكبير القدر،

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ١٣ / ٢٧ ومقاتل الطالبيين: ٤٩٩.

(٢) الفصول المهمة: ٢١٧ وكشف الغمة: ٣/٤٦.

(٣) تذكرة الخواص: ٣١٢.

(٤) مطالب السؤول: ٨٣.

١٥

الأوحد، الحجّة، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً،المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين (كاظماً) ، وهو المعروف عند أهل العراق بـ (باب الحوائج) لأنه ما خاب المتوسّل به في قضاء حاجة قط... له كرامات ظاهرة، ومناقب باهرة، افترع قمة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها(١) .

١٢ ـ قال محمد بن أحمد الذهبي: كان موسى من أجود الحكماء، ومن عباد الله الأتقياء، وله مشهد معروف ببغداد ، مات سنة ثلاث وثمانين وله خمس وخمسون سنة(٢) .

١٣ ـ قال ابن الساعي : الإمام الكاظم : فهو صاحب الشأن العظيم، والفخر الجسيم، كثير التهجّد، الجادّ في الاجتهاد، المشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادات، المواظب على الطاعات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً(٣) .

١٤ ـ قال عبد المؤمن الشبلنجي: كان موسى الكاظم رضي الله عنه أعبد أهل زمانه، وأعلمهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة فيحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم ليلاً، وكذلك النفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلاّ بعد موته. وكان كثيراً ما يدعو:(اللّهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب) (٤) .

١٥ ـ قال عبد الوهاب الشعراني: أحد الأئمة الاثني عشر، وهو ابن جعفر

ــــــــــــ

(١) اخبار الدول: ١١٢.

(٢) ميزان الاعتدال: ٣ / ٢٠٩.

(٣) مختصر تاريخ الخلفاء: ٣٩.

(٤) نور الأبصار: ٢١٨.

١٦

ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، كان يكنّى بـ (العبد الصالح) لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه الليل، وكان إذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه بمال(١) .

١٦ ـ قال عبد الله الشبراوي الشافعي: كان من العظماء الأسخياء، وكان والده جعفر يحبّه حبّاً شديداً، قيل له: ما بلغ من حبّك لموسى؟ قال:وددت أن ليس لي ولد غيره، لئلاّ يشرك في حبّي أحد .

ثم تحدث عن الإمامعليه‌السلام ونقل بعض كلامه(٢) .

١٧ ـ قال محمد خواجه البخاري: ومن أئمة أهل البيت : أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، كان رضي الله عنه صالحاً، عابداً، جواداً، حليماً، كبير القدر، كثير العلم، كان يدعى بـ (العبد الصالح) وفي كل يوم يسجد لله سجدة طويلة بعد ارتفاع الشمس إلى الزوال. وبعث إلى رجل يؤذيه صرّة فيها ألف دينار. طلبه المهدي بن المنصور من المدينة إلى بغداد فحبسه، فرأى المهدي في النوم علياً كرّم الله وجهه يقول: يا مهدي( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) فأطلقه..(٣) .

١٨ ـ قال محمد أمين السويدي: هو الإمام الكبير القدر، الكثير الخير،كان يقوم ليله، ويصوم نهاره، وسمّي (كاظماً) لفرط تجاوزه عن المعتدين... له كرامات ظاهرة، ومناقب لا يسع مثل هذا الموضع ذكرها(٤) .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٦/١٦٤، وتذكرة الخواص: ٣٤٨.

(٢) الأتحاف بحب الأشراف: ٥٤.

(٣) ينابيع المودة: ٤٥٩.

(٤) سبائك الذهب: ٧٣.

١٧

١٩ ـ قال محمود بن وهيب القراغولي البغدادي الحنفي: هو موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكنيته أبو الحسن، وألقابه أربعة: الكاظم، والصابر، والصالح، والأمين، الأول هو الأشهر، وصفته معتدل القامة أسمر، وهو الوارث لأبيه (رضي الله عنهما) علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً ، سمي بـ (الكاظم) لكظمه الغيظ، وكثرة تجاوزه وحلمه. وكان معروفاً عند أهل العراق بـ (باب قضاء الحوائج عند الله) وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم ، وأسخاهم(١) .

٢٠ ـ قال محمد أمين غالب الطويل : وكان العلويون يقتدون بالرجل العظيم، الإمام موسى الكاظم، والمشهور بالتقوى، وكثرة العبادة، حتى سماه المسلمون (العبد الصالح) وكان يلقب أيضاً بـ (الرجل الصالح) تشبيها له بصاحب موسى بن عمران، المذكور في القرآن، وكان الإمام الكاظم كريماً وسخياً(٢) .

ــــــــــــ

(١) جوهرة الكلام: ١٣٩.

(٢) تاريخ العلويين: ١٥٨.

١٨

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الكاظمعليه‌السلام

١ ـ وفور علمه:

لقد شهد للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام بوفور علمه أبوه الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام إذ قال عنه:(إنّ ابني هذا لو سألته عمّا بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم) .

وقال أيضاً:(وعنده علم الحكمة، والفهم، والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم) .

ويكفي لمعرفة وفور علومه رواية العلماء عنه جميع الفنون من علوم الدين وغيرها مما ملأوا به الكتب، وألّفوا المؤلّفات الكثيرة، حتى عرف بين الرواة بالعالم.

وقال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه(١) .

٢ـ عبادته وتقواه:

نشأ الإمام موسىعليه‌السلام في بيت القداسة والتقوى، وترعرع في معهد العبادة والطاعة، بالإضافة إلى أنه قد ورث من آبائه حب الله والإيمان به والإخلاص له فقد قدموا نفوسهم قرابين في سبيله ، وبذلوا جميع إمكانياتهم في نشر دينه والقضاء على كلمة الشرك والضلال فأهل البيت أساس التقوى ومعدن الإيمان والعقيدة، فلولاهم ما عبد الله عابد ولا وحّده موحّد. وما تحقّقت فريضة، ولا أقيمت سنة ، ولا ساغت في الإسلام شريعة.

ــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢/٢٢٥.

١٩

لقد رأى الإمامعليه‌السلام جميع صور التقوى ماثلة في بيته، فصارت من مقوّمات ذاته ومن عناصر شخصيته، وحدّث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه(١) حتى لقّب بالعبد الصالح، وبزين المجتهدين إذ لم تر عين إنسان نظيراً له قط في الطاعة والعبادة. ونعرض أنموذجاً من مظاهر طاعته وعبادته:

أ ـ صلاته: إنّ أجمل الساعات وأثمنها عند الإمامعليه‌السلام هي الساعات التي يخلو بها مع الله عزّ اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره وعواطفه وقد ورد : أنه إذا وقف بين يدي الله تعالى مصلّياً أو مناجياً أو داعياً أرسل ما في عينيه من دموع، وخفق قلبه، واضطرب موجدة وخوفاً منه، وقد شغل أغلب أوقاته في الصلاة (فكان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس(٢) ، من مظاهر طاعته أنه دخل مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أول الليل فسجد سجدة واحدة وهو يقول بنبرات تقطر إخلاصاً وخوفا منه:

ــــــــــــ

(١) جوهرة الكلام: ١٣٩.

(٢) الإرشاد: ٢/٢٣١ وعنه في كشف الغمة: ٣/١٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قالعليه‌السلام : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر).

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات(1) .

موقف والي الكوفة:

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه:

(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)(2) .

____________________

(1) اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 267.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(1) .

أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم:

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيتعليهم‌السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيتعليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)(2) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي - ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(3) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42، وأنساب الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.

(2) الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.

(3) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون(1) :

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسينعليه‌السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد(2) ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

____________________

(1) السيرجون غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها.

لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ ابن كثير: 8 / 107 ).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاًعليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ).

(2) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية: 8 / 152.

١٦٣

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه:

(أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)(1) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(2) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسينعليه‌السلام و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسينعليه‌السلام .

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول الله قدمت خير مقدم(3) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء: 3 / 201.

(2) إعلام الورى: 1 / 437.

(3) الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...(1) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة:

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(2) .

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال: (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت

____________________

(1) الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198، وتهذيب التهذيب: 2 / 302.

(2) مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء)(1) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(2) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد:

لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.

(2) مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.

ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(1) .

الغدر بمسلم بن عقيل:

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(2) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسينعليه‌السلام وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

____________________

(1) الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.

(2) إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه(1) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(2) .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(3) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الورى: 1 / 441.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.

(3) جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(1) .

____________________

(1) يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442، والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.

١٦٩

البحث الخامس: حركة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير مع ركب الحسينعليه‌السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكانعليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(1) .

لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

1 - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 67.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 - إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.

3 - لم يكن أمام الحسينعليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام عليعليه‌السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.

5 - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمامعليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختيارهعليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 - لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسينعليه‌السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمامعليه‌السلام عند وداعه مكة:

صدرت عن الإمام الحسينعليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبتهعليه‌السلام على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه‌السلام : (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)(1) .

2 - كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسينعليه‌السلام : (أنظر فيما قلت).

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى،

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 4 / 39.

١٧٣

وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمامعليه‌السلام : (بلى ولكنّي أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا)(1) .

ولم يكن اصطحاب الحسينعليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسينعليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسينعليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللهعليهم‌السلام لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا،

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)(1) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيتعليهم‌السلام .

خلاصة الثورة في رسالة:

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة:

(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام)(2) .

ولمّا وردت رسالة الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

____________________

(1) إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.

(2) مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة: 77.

(3) راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمامعليه‌السلام :

ولم يبعُد الإمامعليه‌السلام كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمامعليه‌السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

في التنعيم:

ومضى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(2) صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(3) .

في الصفاح:

وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(4) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 68.

(2) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.

(3) الإرشاد: 2 / 68.

(4) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.

١٧٦

والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(1) .

ثمّ واصل الإمامعليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.

كتاب الإمامعليه‌السلام لأهل الكوفة:

ولمّا وافى الإمام الحسينعليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكنعليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة مخرج الحسينعليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2) .

وقد بعثعليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الأمويين:

سرى نبأ مسير الإمامعليه‌السلام نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسينعليه‌السلام والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمامعليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله:

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله

____________________

(1) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(2) الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 / 369.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(1) .

وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه.

مع زهير بن القين:

وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقامعليه‌السلام فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمامعليه‌السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسينعليه‌السلام ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم - والله - مازال في القوم مع الحسينعليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمامعليه‌السلام :

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسينعليه‌السلام المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسينعليه‌السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمامعليه‌السلام في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار الطوال: 246.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202