اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)23%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113292 / تحميل: 8989
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فتدرع المدرعة على بدنه، ووضع البرنس على رأسه، ثم أتى بيت المقدس، فأقبل يعبدالله عزّوجلّ مع الاحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه، فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه فبكى، فأوحى الله عزّوجلّ إليه: يا يحيى، أتبكي مما قد نحل من جسمك! وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج(١) ، فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه، وبدا للناظرين أضراسه، فبلغ ذلك أمه، فدخلت عليه، وأقبل زكريا واجتمع الاحبار والرهبان، فأخبروه بذهاب لحم خديه، فقال: ما شعرت بذلك.

فقال زكريا: يا بني، ما يدعوك إلى هذا؟ إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر بك عيني. قال: أنت أمرتني بذلك يا أبه، قال: ومتى ذلك يا بني؟ قال: ألست القائل: إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلا البكاءون من خشية الله؟ قال: بلى، فجد واجتهد وشأنك غير شأني.

فقام يحيى، فنفض مدرعته، فأخذته أمه، فقالت: أتأذن لي - يا بني - أن أتخذ لك قطعتي لبود(٢) تواريان أضراسك، وتنشفان دموعك؟ فقال لها: شأنك. فاتخذت له قطعتي لبود تواريان أضراسه، وتنشفان دموعه، فبكى حتى ابتلتا من دموع عينيه، فحسر عن ذراعيه، ثم اخذهما فعصرهما، فتحدرت الدموع من بين أصابعه، فنظر زكريا إلى ابنه وإلى دموع عينيه، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن هذا ابني، وهذه دموع عينيه، وأنت أرحم الراحمين.

وكان زكريا عليه السلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا، فإن رأى يحيى عليه السلام لم يذكر جنة ولا نارا، فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل، وأقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة، فجلس في غمار الناس(٣) ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم

______________

(١) في نسخة: المسوح.

(٢) اللبود: جمع لبد، وهو كل شعر أو صوف متلبد، سمي به للصوق بعضه ببعض.

(٣) غمار الناس: جمعهم المزدحم المتكاثف.

٨١

ير يحيى، فأنشأ يقول: حدثني حبيبي جبرئيل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى: أن في جهنم جبلا يقال له السكران، في أصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان، يغضب لغضب الرحمن تبارك وتعالى، في ذلك الوادي جب قامته مائة عام، في ذلك الجب توابيت من نار، في تلك التوابيت صناديق من نار، وثياب من نار، وسلاسل من نار، وأغلال من نار، فرفع يحيى عليه السلام رأسه فقال: واغفلتاه من السكران، ثم أقبل هائما على وجهه، فقام زكريا عليه السلام من مجلسه فدخل على ام يحيى، فقال لها: يا ام يحيى، قومي فاطلبي يحيى، فإني قد تخوفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت.

فقامت فخرجت في طلبه حتى مرت بفتيان من بني إسرائيل، فقالوا لها: يا ام يحيى، أين تريدين؟ قالت: أريد أن أطلب ولدي يحيى، ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه، فمضت ام يحيى والفتية معها حتى مرت براعي غنم، فقالت له: يا راعي، هل رأيت شابا من صفته كذا وكذا؟ فقال لها: لعلك تطلبين يحيى بن زكريا؟ قالت: نعم، ذاك ولدي، ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه، فقال: إني تركته الساعة على عقبة ثنية كذا وكذا، ناقعا قدميه في الماء رافعا بصره إلى السماء، يقول: وعزتك مولاي، لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر إلى منزلتي منك.

وأقبلت أمه، فلما رأته ام يحيى دنت منه، فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها، وهي تناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل، فانطلق معها حتى أتى المنزل، فقالت له ام يحيى: هل لك أن تخلع مدرعة الشعر وتلبس مدرعة الصوف، فإنه ألين؟ ففعل، وطبخ له عدس، فأكل واستوفى ونام، فذهب به النوم فلم يقم لصلاته، فنودي في منامه: يا يحيى بن زكريا، أردت دارا خيرا من داري وجوارا خيرا من جواري! فاستيقظ فقام فقال: يا رب اقلني عثرتي، إلهي فو عزتك لا استظل بظل سوى بيت المقدس. وقال لامه: ناوليني مدرعة الشعر، فقد علمت أنكما ستورداني المهالك. فتقدمت امه فدفعت إليه المدرعة وتعلقت به فقال لها زكريا: يا ام يحيى، دعيه فإن ولدي قد كشف له عن قناع قلبه، ولن ينتفع بالعيش.

فقام يحيى فلبس مدرعته، ووضع البرنس على رأسه، ثم أتى بيت المقدس،

٨٢

فجعل يعبدالله عزّوجلّ مع الاحبار، حتى كان من أمره ما كان(١) .

٤٩/٤ - حدّثنا محمّد بن عليّ رحمه الله، قال: حدّثنا عمي محمّد بن أبي القاسم، عن محمّد بن عليّ الكوفي، عن محمّد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن ثابت بن أبي صفية، عن سعيد بن جبير، عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: معاشر الناس، من أحسن من الله قيلا، وأصدق من الله حديثا؟ معاشر الناس، إن ربكم جل جلاله أمرني أن اقيم لكم عليا علما وإماما وخليفة ووصيا، وأن أتخذه أخا ووزيرا.

معاشر الناس، إن عليا باب الهدى بعدي، والداعي إلى ربي، وهو صالح المؤمنين( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) .

معاشر الناس إن عليا مني، ولده ولدي، وهو زوج حبيبتي، أمره أمري، ونهيه نهيي.

معاشر الناس، عليكم بطاعته واجتناب معصيته، فإن طاعته طاعتي ومعصيته معصيتي.

معاشر الناس، إن عليا صديق هذه الامة وفاروقها ومحدثها، إنه هارونها ويوشعها وآصفها وشمعونها، إنه باب حطتها، وسفينة نجاتها، وإنه طالوتها وذو قرنيها.

معاشر الناس، إنه محنة الورى، والحجة العظمى، والآية الكبرى، وإمام أهل الدنيا، والعروة الوثقى.

معاشر الناس، إن عليا مع الحق، والحق معه، وعلى لسانه.

معاشر الناس، إن عليا قسيم النار، لا يدخل النار ولي له، ولا ينجو منها عدو له، إنه قسيم الجنة، لا يدخلها عدو له، ولا يزحزح عنها ولي له.

معاشر أصحابي، قد نصحت لكم، وبلغتكم رسالة ربي، ولكن لا تحبون الناصحين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم(٣) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين

______________

(١) تنبيه الخواطر ٢: ١٥٨، بحار الانوار ١٤: ١٦٥/٤.

(٢) فصلت ٤١: ٣٣.

(٣) بشارة المصطفى: ١٥٣، بحار الانوار ٣٨: ٩٣/٧.

٨٣

[ ٩ ]

المجلس التاسع

وهو يوم الجمعة

السابع عشر من شعبان سنة سبع وستين وثلاثمائة

٥٠/١ - حدّثنا الشيخ الفقيه أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رحمه الله، قال: حدّثنا الحسن بن عبدالله بن سعيد، قال: حدّثنا عبد العزيز ابن يحيى، قال: حدّثنا محمّد بن سهل، قال: حدّثنا عبدالله بن محمّد البلوي، قال: حدثني إبراهيم بن عبيد الله، عن أبيه، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: سادة الناس في الدنيا الاسخياء، وفي الآخرة الاتقياء(١) .

٥١/٢ - حدّثنا محمّد بن الحسن رحمه الله، قال: حدّثنا عبدالله بن جعفر الحميري، قال: حدّثنا هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عزّوجلّ عليه: الاجلال له في عينه، والود له في صدره، والمواساة له في ماله، وأن يحرم غيبته، وأن

______________

(١) صحيفة الامام الرضا عليه السلام: ٢٦١/١٩٩، تحف العقول: ٢١٢، روضة الواعظين: ٣٨٤، بحار الانوار ٧١: ٣٥٠/١.

٨٤

يعوده في مرضه، وأن يشيع جنازته، وأن لا يقول فيه بعد موته إلا خيرا(١) .

٥٢/٣ - حدّثنا الحسين(٢) بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن سنان، قال: حدّثنا أبوالجارود زياد بن المنذر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولاية عليّ بن أبي طالب ولاية الله، وحبه عبادة الله، واتباعه فريضة الله، وأوليائه أولياء الله، وأعداؤه أعداء الله، وحربه حرب الله، وسلمه سلم الله عزّوجلّ(٣) .

٥٣/٤ - حدّثنا عليّ بن أحمد الدقاق رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن هارون الصوفي، عن عبيد الله بن موسى الروياني، عن عبد العظيم بن عبد الحسني، عن سليمان بن جعفر الجعفري، قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن سيد العابدين عليّ بن الحسين، عن سيد الشهداء الحسين بن عليّ ابن أبي طالب عليهم السلام، قال: مر أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه، ثم قال: إنك تملي على حافظيك كتابا إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك(٤) .

٥٤/٥ - حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار، قال: حدّثنا أبي، عن أحمد ابن محمّد بن عيسى، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيد الله بن عبدالله الدهقان، عن عروة بن أخي شعيب العقرقوقي، عن شعيب، عن أبي بصير، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام يحدث عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوما لاصحابه: أيكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان (رحمة الله عليه): أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فأيكم يحيي الليل؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله. قال: فأيكم يختم القرآن في كل يوم؟ فقال سلمان: أنا

______________

(١) الخصال: ٣٥١/٢٧، من لا يحضره الفقيه ٤: ٢٨٤/٨٤٦، بحار الانوار ٧٤: ٢٢٢/٣.

(٢) في نسخة: الحسن.

(٣) بحار الانوار ٤٠: ٤/٥.

(٤) بحار الانوار ٧١: ٢٧٦/٤.

٨٥

يا رسول الله. فغضب بعض أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن سلمان رجل من الفرس، يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش، قلت: أيكم يصوم الدهر؟ فقال: أنا، وهو أكثر أيامه يأكل. وقلت: أيكم يحيي الليل؟ فقال: أنا، وهو أكثر ليله نائم. وقلت: أيكم يختم القرآن في كل يوم؟ فقال: أنا، وهو أكثر نهاره صامت.

فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: مه يا فلان، أنى لك بمثل لقمان الحكيم، سله فإنه ينبئك. فقال الرجل لسلمان: يا أبا عبدالله، أليس زعمت أنك تصوم الدهر؟ فقال: نعم. فقال: رأيتك في أكثر نهارك تأكل! فقال: ليس حيث تذهب، إني أصوم الثلاثة في الشهر، وقال الله عزّوجلّ:( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) (١) وأصل شعبان بشهر رمضان، فذلك صوم الدهر، فقال: أليس زعمت أنك تحيي الليل؟ فقال: نعم. فقال: أنت أكثر ليلك نائم! فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من بات على طهر فكأنما أحيا الليل كله، فأنا أبيت على طهر. فقال: أليس زعمت أنك تختم القرآن في كل يوم؟ قال: نعم، قال: فأنت أكثر أيامك صامت! فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن، مثلك في أمتي مثل سورة التوحيد( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) (٢) فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثا فقد ختم القرآن، فمن أحبك بلسانه فقد كمل له ثلث الايمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الايمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الايمان، والذي بعثني بالحق يا علي، لو أحبك أهل الارض كمحبة أهل السماء لك لما عذب أحد بالنار، وأنا أقرأ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) في كل يوم ثلاثا مرات. فقام وكأنه قد ألقم حجرا(٣) .

______________

(١) الانعام ٦: ١٦٠.

(٢) الاخلاص ١١٢: ١.

(٣) فضائل الاشهر الثلاثة: ٤٩/٢٥، معاني الاخبار: ٢٣٤/١، بحار الانوار ٢٢: ٣١٧/٢، و ٧٦: ١٨١/١.

٨٦

٥٥/٦ - حدّثنا جعفر بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن عبدالله بن المغيرة الكوفي، قال: حدّثنا جدي الحسن بن علي، عن جده عبدالله بن المغيرة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضا، كتبوا بثلاث ليس معهن رابعة، من كانت الآخرة همه كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عزّوجلّ أصلح الله له فيما بينه وبين الناس(١) .

٥٦/٧ - حدّثنا محمّد بن عليّ رحمه الله، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن محمّد ابن عيسى، عن منصور، عن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الاجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها، فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له(٢) .

٥٧/٨ - حدّثنا الحسين بن إبراهيم بن ناتانه رحمه الله، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن جعفر بن سلمة الاهوازي، عن إبراهيم بن محمّد، قال: حدّثنا أبوالحسين عليّ بن المعلى الاسدي، قال أنبئت عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام أنه قال: إن لله بقاعا تسمى المنتقمة، فإذا أعطى الله عبدا مالا لم يخرج حق الله عزّوجلّ منه، سلط الله عليه بقعة من تلك البقاع، فأتلف ذلك المال فيها، ثم مات وتركها(٣) .

٥٨/٩ - حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدّثنا عبدالله بن جعفر الحميري، وسعد بن عبدالله، عن عمران بن موسى، عن الحسن بن عليّ بن

______________

(١) الخصال: ١٢٩/١٣٣، ثواب الاعمال: ١٨١، بحار الانوار ٧١: ١٨١/٣٦.

(٢) تحف العقول: ٣٦٣، بحار الانوار ١٠٤: ٩٩/٨٠.

(٣) معاني الاخبار: ٢٣٥/١، من لا يحضره الفقيه ٤: ٢٩٩/٩٠٤، بحار الانوار ٩٦: ١١/١٤.

٨٧

النعمان، عن محمّد بن فضيل، عن غزوان الضبي، قال: أخبرني عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، قال: أنا حجة الله، وأنا خليفة الله، وأنا صراط الله، وأنا باب الله، وأنا خازن علم الله، وأنا المؤتمن على سر الله، وأنا إمام البرية بعد خير الخليقة محمّد نبي الرحمة صلّى الله عليه وآله وسلّم(١) .

٥٩/١٠ - حدّثنا عليّ بن أحمد بن عبدالله بن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، قال: حدّثنا أبي، عن جده أحمد بن أبي عبدالله، قال: حدثني سليمان بن مقبل المديني، قال: حدثني موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في مسجد قبا وعنده نفر من أصحابه، فلما بصر بي تهلل وجهه وتبسم حتى نظرت إلى بياض أسنانه تبرق، ثم قال: إلي يا علي، إلي يا علي، فما زال يدنيني حتى ألصق فخذي بفخذه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: معاشر أصحابي، أقبلت إليكم الرحمة بإقبال علي أخي إليكم.

معاشر أصحابي، إن عليا مني وأنا من علي، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي ووصيي، وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، من أطاعه أطاعني، ومن وافقه وافقني، ومن خالفه خالفني(٢) .

٦٠/١١ - حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسرور رحمه الله، قال: حدّثنا الحسين بن محمّد بن عامر، عن عمه عبدالله بن عامر، قال: حدّثنا أبوأحمد محمّد بن زياد الازدي، عن أبان بن عثمان، قال: حدّثنا أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويدخل

______________

(١) بحار الانوار ٣٩: ٣٣٥/١.

(٢) بحار الانوار ٤٠: ٤/٦.

٨٨

جنة عدن منزلي، ويمسك قضيبا غرسه ربي عزّوجلّ، ثم قال له: كن فيكون(١) ، فليتول عليّ بن أبي طالب، وليأتم بالاوصياء من ولده، فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، إلى الله أشكو أعداءهم من امتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وايم الله ليقتلن بعدي ابني الحسين، لا أنالهم الله شفاعتي(٢) .

و صلّى الله على رسوله محمّد وآله

______________

(١) في نسخة فكان.

(٢) بحار الانوار ٤٤: ٢٥٧/٦.

٨٩

[ ١٠ ]

المجلس العاشر

وهو يوم الثلاثاء

لعشر بقين من شعبان سنة سبع وستين وثلاثمائة

٦١/١ - حدّثنا الشيخ الفقيه أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رحمه الله، قال: حدّثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن داود بن النعمان، عن سيف التمار، عن أبي بصير، قال: قال الصادق أبوعبدالله جعفر بن محمّد عليهما السلام: إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عزّوجلّ إلى ملكيه: إني قد عمرت عبدي عمرا، فغلظا وشددا وتحفظا، واكتبا عليه قليل عمله وكثيره، وصغيره وكبيره(١) .

٦٢/٢ - وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ) (٢) فقال: توبيخ لابن ثماني عشرة سنة(٣) .

٦٣/٣ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

______________

(١) الكافي ٨: ١٠٨/٨٤، الخصال: ٥٤٥/٢٤، بحار الانوار ٧٣: ٣٨٨/٥.

(٢) فاطر ٣٥: ٣٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١: ١١٨/٥٦١.

٩٠

محمّد بن الحسن الصفار، عن سلمة بن الخطاب، عن عليّ بن الحسن، عن أحمد بن محمّد المؤدب، عن عاصم بن حميد، عن خالد القلانسي، قال: قال الصادق جعفر ابن محمّد عليهما السلام: يؤتى بشيخ يوم القيامة فيدفع إليه كتابه، ظاهره مما يلي الناس، لا يرى إلا مساوئ، فيطول ذلك عليه، فيقول: يا رب، أتأمر بي إلى النار! فيقول الجبار جل جلاله: يا شيخ، إني أستحيي أن أعذبك وقد كنت تصلي في دار الدنيا، اذهبوا بعبدي إلى الجنة(١) .

٦٤/٤ - حدّثنا محمّد بن علي، قال: حدّثنا عليّ بن محمّد بن أبي القاسم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمر العدني بمكة، عن أبي العباس بن حمزة، عن أحمد بن سوار، عن عبيد(٢) الله بن عاصم، عن سلمة، بن وردان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه عزّوجلّ: جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لاسكننك الجنة معه ولا ابالي(٣) .

٦٥/٥ - حدّثنا محمّد بن أحمد السناني المكتب، قال: حدّثنا محمّد بن هارون الصوفي، قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى الحبال الطبري، قال: حدّثنا محمّد بن الحسين الخشاب، قال: حدّثنا محمّد بن محصن، عن يونس بن ظبيان، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: إن الناس يعبدون الله عزّوجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا(٤) من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني أعبده حبا له عزّوجلّ فتلك

______________

(١) الخصال: ٥٤٦/٢٦، بحار الانوار ٨٢: ٢٠٤/٤.

(٢) في نسخة: عبد.

(٣) بحار الانوار ١: ١٩٨/١.

(٤) في نسخة: فرقا.

٩١

عبادة الكرام، وهو الامن، لقوله عزّوجلّ:( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (١) ، ولقوله عزّوجلّ:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٢) فمن أحب الله أحبه الله، ومن أحبه الله عزّوجلّ كان من الآمنين(٣) .

٦٦/٦ - حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدّثنا عبدالله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن ابن ابي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن عبدالله بن وهب، عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، قال: حسب المؤمن من الله نصرة أن يرى عدوه يعمل بمعاصي الله عزّوجلّ(٤) .

٦٧/٧ - حدّثنا الحسين بن إبراهيم المؤدب، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبدالله الكوفي، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمّد بن بشار، عن عبيد الله بن عبدالله الدهقان، عن درست بن أبي منصور الواسطي، عن عبد الحميد بن أبي العلاء، عن ثابت بن دينار، عن سعد بن طريف الخفاف، عن الاصبغ بن نباتة، قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: أنا خليفة رسول الله ووزيره ووارثه، أنا أخو رسول الله ووصيه وحبيبه، أنا صفي رسول الله وصاحبه، أنا ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأبو ولده، أنا سيد الوصيين ووصي سيد النبيين، أنا الحجة العظمى والآية الكبرى والمثل الاعلى وباب النبي المصطفى، أنا العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وأمين الله تعالى ذكره على أهل الدنيا(٥) .

٦٨/٨ - حدّثنا أحمد بن هارون رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن عبدالله، عن أبيه عبدالله بن جعفر بن جامع، عن أحمد بن محمّد البرقي، عن هارون بن الجهم، عن

______________

(١) النمل ٢٧: ٨٩.

(٢) آل عمران ٣: ٣١.

(٣) الخصال: ١٨٨/٢٥٩، علل الشرائع: ١٢/٨، بحار الانوار ٧٠: ١٧/٩، و: ٢٠٤/١٣.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٤: ٢٨٤/٨٤٧، الخصال: ٢٧/٩٦، بحار الانوار ٧١: ٤١٤/٣٣، ويأتي في المجلس (٥٨) الحديث (١٣).

(٥) بحار الانوار ٣٩: ٣٣٥/٢.

٩٢

الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة(١) .

٦٩/٩ - حدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدّثنا أبي، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن العباس بن معروف، عن محمّد بن يحيى الخزاز، عن طلحة بن زيد، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتاني جبريل من قبل ربي جل جلاله، فقال: يا محمّد، إن الله عزّوجلّ يقرئك السلام ويقول: بشر أخاك عليا بأني لا اعذب من تولاه، ولا أرحم من عاداه(٢) .

٧٠/١٠ - حدّثنا محمّد بن أحمد الاسدي البردعي، قال: حدثتنا رقية بنت إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيها، عن آبائه عليهم السلام: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت(٣) .

٧١/١١ - حدّثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثني أحمد(٤) بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدّثنا بكر بن عبدالله، قال: حدّثنا تميم بن بهلول، قال: حدّثنا عبدالله بن صالح بن أبي سلمة النصيبيني، قال: حدّثنا أبوعوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، قالت: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأقبل عليّ بن أبي طالب، فقال: هذا سيد العرب، فقلت: يا رسول الله، ألست سيد العرب؟ قال: أنا

______________

(١) بحار الانوار ٧٥: ٢٥٣/٣٢.

(٢) بحار الانوار ٣٩: ٢٩٧/١٠٠.

(٣) الخصال: ٢٥٣/١٢٥، تحف العقول: ٥٦، بحار الانوار ٧: ٢٥٨/١.

(٤) زاد في النسخ: بن محمّد، والصواب ما أثبتناه، انظر: معجم رجال الحديث ٢: ٣٦٣، الجامع في الرجال: ١٩٦، وللسند نظائر في مصنفات الشيخ الصدوق، منها: الخصال: ٣٦١/٥١، و ٣٦٢/٥٢، و ٤٠٧/٦، و ٤٧٨/٤٦، التوحيد: ١٧٨/١١، و ١٩٤/٨، و ٢٧٧/٣.

٩٣

سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، فقلت: وما السيد؟ قال: من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي(١) .

٧٢/١٢ - حدّثنا عليّ بن أحمد بن موسى الدقاق، قال: حدّثنا عليّ بن الحسين القاضي العلوي العباسي، قال: حدثني الحسن بن عليّ الناصر (قدس الله روحه)، قال: حدثني أحمد بن رشيد(٢) ، عن عمه أبي معمر سعيد بن خثيم، عن أخيه معمر، قال: كنت جالسا عند الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، فجاء زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام فأخذ بعضادتي الباب، فقال له الصادق عليه السلام: يا عم، أعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكناسة. فقالت له أم زيد: والله ما يحملك على هذا القول غير الحسد لابني. فقال عليه السلام: يا ليته حسد، يا ليته حسد، ثلاثا. ثم قال: حدثني أبي، عن جدي عليهما السلام: أنه يخرج من ولده رجل يقال له زيد، يقتل بالكوفة، ويصلب بالكناسة، يخرج من قبره نبشا، تفتح لروحه أبواب السماء، يبتهج به أهل السماوات، تجعل روحه في حوصلة طير أخضر يسرح في الجنة حيث يشاء(٣) .

٧٣/١٣ - حدّثنا الحسن بن عبدالله بن سعيد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدّثنا الاشعث بن محمّد الضبي، قال: حدثني شعيب بن عمر، عن أبيه، عن جابر الجعفي، قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام وعنده زيد أخوه عليه السلام، فدخل عليه معروف بن خربوذ المكي، فقال أبوجعفر عليه السلام: يا معروف، أنشدني من طرائف ما عندك، فأنشده:

لعمرك ما إن أبومالك

بوان ولا بضعيف قواه

ولا بألد(٤) لدى قوله

يعادي الحكيم إذا ما نهاه

______________

(١) معاني الاخبار: ١٠٣/١، ٢، بحار الانوار ٣٨: ٩٣/٨.

(٢) في نسخة: رشد.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ٢٥٠/٤، بحار الانوار ٤٦: ١٦٨/١٢.

(٤) الالد: الخصيم المعاند الذي لا يميل إلى الحق.

٩٤

ولكنه سيد بارع

كريم الطبائع حلو نثاه(١)

إذا سدته سدت مطواعة

ومهما وكلت إليه كفاه

قال: فوضع محمّد بن عليّ عليهما السلام يده على كتفي زيد وقال: هذه صفتك يا أبا الحسين(٢) .

وصلّى الله على ومحمّد وآله

______________

(١) النثا: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيئ.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ٢٥١/٥، بحار الانوار ٤٦: ١٦٨/١٤.

٩٥

[ ١١ ]

المجلس الحادي عشر

وهو يوم الجمعة

لست بقين من شعبان سنة سبع وستين وثلاثمائة

٧٤/١ - حدّثنا الشيخ الفقيه أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رحمه الله، قال: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي الورد، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر رمضان، فرض الله صيامه وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله، ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، وهو شهر الصبر، وإن الصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزيد الله فيه في رزق المؤمن، ومن فطر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند الله عزّوجلّ عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له: يا رسول الله، ليس كلنا يقدر على أن يفطر صائما. فقال: إن الله تبارك

٩٦

وتعالى كريم، يعطي هذا الثواب منكم من لم يقدر إلا على مذقة(١) من لبن يفطر بها صائما، أو شربه من ماء عذب، أو تميرات لا يقدر على أكثر من ذلك، ومن خفف فيه عن مملوكه خفف الله عنه حسابه، وهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره إجابة والعتق من النار، ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال: خصلتين ترضون الله بهما، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أما اللتان ترضون الله بهما: فشهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألون الله حوائجكم والجنة، وتسألون الله فيه العافية وتتعوذون به من النار(٢) .

٧٥/٢ - حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبدالله الكوفي، عن إسحاق بن محمّد، عن حمزة بن محمّد، قال: كتبت إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام: لم فرض الله عزّوجلّ الصوم؟ فورد في الجواب: ليجد الغني مس الجوع فيمن على الفقير(٣) .

٧٦/٣ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد الهمداني، قال: أخبرنا أحمد بن صالح بن سعد التميمي، قال: حدّثنا موسى ابن داود، قال: حدّثنا الوليد بن هشام، قال: حدّثنا هشام بن حسان، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي، قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم باكيا، فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله، إن بالباب شابا طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أدخل علي الشاب يا معاذ. فأدخله عليه، فسلم فرد

______________

(١) المذقة: الطائفة من اللبن الممزوج بالماء.

(٢) فضائل الاشهر الثلاثة: ٧١/٥١، من لا يحضره الفقيه ٢: ٥٨/٢٥٤، الخصال: ٢٥٩/١٣٥، ثواب الاعمال: ٦٦، التهذيب ٣: ٥٧/١٩٨، و ٤: ١٥٢/٤٢٣، بحار الانوار ٩٦: ٣٥٩/٢٦.

(٣) الكافي ٤: ١٨١/٦، من لا يحضره الفقيه ٢: ٤٣/١٩٤، بحار الانوار ٩٦: ٣٦٩/٥٠.

٩٧

عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عزّوجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم، ولا أراني إلا سيأخذني بها، ولا يغفر لي أبداً.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل أشركت بالله شيئا؟ قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئا. قال: أقتلت النفس التي حرم الله؟ قال: لا، فقال: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الارضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. قال: فإنها أعظم من الارضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات السبع ونجومها ومثل العرش والكرسي. قال: فإنها أعظم من ذلك.

قال: فنظر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب، ذنوبك أعظم أم ربك. فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي! ما شئ أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم. فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم! قال الشاب: لا والله، يا رسول الله، ثم سكت الشاب.

فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك. قال: بلى، أخبرك أني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الاموات وأنزع الاكفان، فماتت جارية من بعض بنات الانصار، فلما حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجن عليها الليل، أتيت قبرها فنبشتها، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة على شفير قبرها، ومضيت منصرفا، فأتاني الشيطان، فأقبل يزينها لي ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب، ويل لك من ديان يوم الدين، يوم يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني، وتركتني

٩٨

أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار، فما أظن أني أشم ريح الجنة أبدا، فما ترى لي يا رسول الله؟

فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: تنح عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار، فما أقربك من النار! ثم لم يزل صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول ويشير إليه، حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة، فتزود منها، ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها، ولبس مسحا(١) ، وغل يديه جميعا إلى عنقه، ونادى: يا رب، هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا رب أنت الذي تعرفني، وزل مني ما تعلم. يا سيدي يا رب، إني أصبحت من النادمين، وأتيت نبيك تائبا، فطردني وزادني خوفا، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك.

فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلما تمت له أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي، فعجل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلصني من فضيحة يوم القيامة، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم:( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) يعني الزنا( أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا ونبش القبور وأخذ الاكفان( ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) يقول: خافوا الله فعجلوا التوبة( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ ) يقول عزّوجلّ: أتاك عبدي يا محمّد تائبا فطردته، فأين يذهب، وإلى من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنبا غيري؟ ثم قال عزّوجلّ:( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الاكفان( أُولَـٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ

______________

(١) المسح: كساء من شعر.

٩٩

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (١) .

فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، خرج هو يتلوها ويتبسم، فقال لاصحابه: من يدلني على ذلك الشاب التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنه في موضع كذا وكذا.

فمضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشاب، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسود وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء وهو يقول: سيدي، قد أحسنت خلقي، وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي، أفي النار تحرقني؟ أو في جوارك تسكنني؟ اللهم إنك قد أكثرت الاحسان إلي، وأنعمت علي، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنة تزفني، أم إلى النار تسوقني؟ اللهم إن خطيئتي أعظم من السماوات والارض، ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر لي خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفت فوقه الطير، وهم يبكون لبكائه، فدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول، أبشر فإنك عتيق الله من النار. ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لاصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّوجلّ فيه وبشره بالجنة(٢) .

٧٧/٤ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد الهمداني، قال حدّثنا أحمد بن صالح، عن حكيم بن عبد الرحمن، قال: حدثني مقاتل بن سليمان، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا علي، أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم، وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق من إبراهيم،

______________

(١) آل عمران ٣: ١٣٥، ١٣٦.

(٢) بحار الانوار ٦: ٢٣/٢٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

كما نجد الإمامعليه‌السلام يعطي ضابطة سلوكية تكشف بدورها عن مستوى التديّن وعمقه في النفس قائلاً :( إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ، ناسياً لذنبه فاعلموا أنّه قد مكر به ) (١) .

القدوة الحسنة

ومن الوسائل التي استخدمها الإمامعليه‌السلام في منهجه التغييري وبنائه للمجمتع الفاضل هو اهتمامه وتركيزه على النموذج الشيعي الذي يشكّل القدوة الحسنة في سلوكه ليكون عنصراً مؤثراً ومحفّزاً للخير ومشجّعاً لنمو الفضيلة في داخل المجتمع وقد بذل الإمامعليه‌السلام جهداً منقطع النظير في تربيته وإعداده للنموذج القدوة وقد سلّحه بمختلف العلوم وأحاطه بجملة من الوصايا والتوجيهات العلمية والأخلاقية .

واستطاع الإمام بطاقاته الإلهية أن يصنع عدداً كبيراً من هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد قادةً ومناراً تهوي إليهم القلوب لتنهل من علومهم ، وبقي اسمهم مخلّداً في التأريخ يتناقل المسلمون مآثرهم جيلاً بعد جيل .

ونقتصر فيما يلي على بعض التوجيهات بهذا الصدد :

١ ـ جاء عنهعليه‌السلام فيما يخص العبادة التي يتميّز بها الشيعي وعلاقته بالله أنه قال :( امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة ، كيف محافظتهم عليها ، وإلى أسرارنا كيف حفظهم لها عند عدوّنا ، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها ) (٢) .

٢ ـ عن محمد بن عجلان قال كنت مع أبي عبد اللهعليه‌السلام فدخل رجل

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٦٤ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٨٣ ، وبحار الأنوار : ٦٨ / ١٤٩ عن قرب الإسناد : ٥٢ .

١٤١

فسلّم ، فسأله ،( كيف من خلّفت من إخوانك ؟ ) فأحسن الثناء وزكى وأطرى ، فقال له :( كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم ؟ ) قال : قليلة قال :( كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟ ) فقال : إنّك تذكر أخلاقاً ما هي فيمَن عندنا قالعليه‌السلام :( فكيف يزعم هؤلاء أنّهم لنا شيعة ؟ ) (١) .

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام أهميّة القدوة الحسنة في المجتمع قال المفضّل : قال أبو عبد الله وأنا معه :( يا مفضّل ! كم أصحابك ؟ ) فقلت قليل فلمّا انصرفت إلى الكوفة ، أقبلت عليَّ الشيعة ، فمزّقوني كل ممزق ، يأكلون لحمي ، ويشتمون عرضي ، حتى أنّ بعضهم استقبلني فوثب في وجهي ، وبعضهم قعد لي في سكك الكوفة يريد ضربي ، ورموني بكلّ بهتان حتى بلغ ذلك أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فلمّا رجعت إليه في السنة الثانية ، كان أوّل مااستقبلني به بعد تسليمه عليّ أن قال :يا مفضّل : ما هذا الذّي بلغني أنّ هؤلاء يقولون لك وفيك ؟ قلت : وما عليّ من قولهم ، قال :( أجل بل ذلك عليهم ، أيغضبون ؟! بؤس لهم إنّك قلت إنّ أصحابك قليل ، لا والله ما هم لنا شيعة ، ولو كانوا لنا شيعة ما غضبوا من قولك وما اشمأزّوا منه لقد وصف الله شيعتنا بغير ما هم عليه ، وما شيعة جعفر إلاّ مَن كفَّ لسانه ، وعمل لخالقه ورجا سيّده ، وخاف الله حق خيفته ويحهم !! أفيهم مَن قد صار كالحنايا من كثرة الصلاة ، أو قد صار كالتائه من شدّة الخوف ، أو كالضرير من الخشوع أو كالضني (٢) من الصيام ، أوكالأخرس من طول صمت وسكوت ؟! أو هل فيهم مَن قد أدأب ليله من طول القيام ، وأدأب نهاره من الصيام ، أو منع نفسه لذّات الدنيا ونعيمها خوفاً من الله وشوقاً إلينا أهل البيت ؟! أنّى يكونون لنا شيعة وإنّهم ليخاصمون عدوّنا فينا حتّى يزيدوهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٦٨ / ١٦٨ ح٢٧ عن صفات الشيعة للصدوق : ١٦٦ .

(٢) ضنى ضناء : اشتدّ مرضه حتى نحل جسمه .

١٤٢

عداوةً ، وإنّهم ليهرّون هرير الكلب ويطمعون طمع الغراب أما إنّي لو لا أنّني أتخّوف عليهم أن أغريهم بك ، لأمرتك أن تدخل بيتك وتغلق بابك ثم لا تنظر إليهم ما بقيت ، ولكن إن جاؤوك فاقبل منهم ; فإنّ الله قد جعلهم حجّة على أنفسهم واحتجّ بهم على غيرهم .

لا تغرّنكم الدنيا وما ترون فيها من نعيمها وزهرتها وبهجتها وملكها فإنّها لا تصلح لكم ، فو الله ما صلحت لأهلها ) (١) .

ج : البناء الاجتماعي

رسم الإمام الصادقعليه‌السلام الخط العام للعلاقات الاجتماعية للجماعة الصالحة ، وبيّن نظامها ووضع الأسس والقواعد المبدئية لهذا النظام ورسّخها في نفوسهم ؛ ليتمكّن الفرد الصالح من العيش في المجتمع وفي الظروف الصعبة ، ويمتلك القدرة في مواجهة المخططات التي تسعى لتفتيت مثل البناء الذي يهدف له الإمام وهو النظام الاجتماعي الذي خطط له الإمام ، وأمدّه بعناصر البقاء والاستمرار ليمتدّ بجذوره في أوساط الأمة .

الانفتاح على الأُمّة

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام على محور مهمّ يمدّ الجماعة الصالحة بالقدرة والانتشار هو محور الانفتاح على الأمة وعدم الانغلاق على أنفسهم ، وقد حثّ الإمام شيعته على توسيع علاقاتهم مع الناس وشجّعهم على الإكثار من الأصحاب والأصدقاء فقد جاء عنهعليه‌السلام :( أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنّهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٣٨٣ ، عن تحف العقول : ٣٨٥ .

١٤٣

ينفعون في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فحوائج يقومون بها وأمّا في الآخرة فإنّ أهل جهنّم قالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم ) (١) .

وجاء عنه أيضاً :( استكثروا من الإخوان فإنّ لكل مؤمن دعوة مستجابة ) .

وقال :( استكثروا من الإخوان فأنّ لكل مؤمن شفاعة ) (٢) كما أكّد الإمامعليه‌السلام على مواصلة هذا الانفتاح وشدّه بآداب وأخلاق تدعو للتلاحم والتعاطف بين المؤمنين فقال :( التواصل بين الإخوان في الحضر التزاور والتواصل في السفر المكاتبة ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّ العبد ليخرج إلى أخيه في الله ليزوره فما يرجع حتى يغفر له ذنوبه وتقضى له حوائج الدنيا والآخرة (٤) ومن الآداب والأخلاق التي تصبّ في رافد التواصل الاجتماعي هو المصافحة التي حثّ الإمامعليه‌السلام عليها فقال :( تصافحوا فإنّها تذهب بالسخيمة ) (٥) .

وقال أيضا :( مصافحة المؤمن بألف حسنة ) (٦) .

وقالعليه‌السلام في التعانق :( إنّ المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة ، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلاّ وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا قيل لهما : مغفور لكما ، فاستأنفا ، فإذا أقبلا على المسألة قالت الملائكة بعضها لبعض تنحّوا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما ، قال إسحاق : فقلت : جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٥٨ ، بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٠ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٠٩ .

(٥) الكافي : ٢ / ١٨٣ ، وتحف العقول : ٣٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٣ .

(٦) مشكاة الأنوار : ٢٠٣ .

١٤٤

وقد قال الله عزّ وجل :( ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد ) ؟!(١) قال : فتنفّس أبو عبد الله الصعداءعليه‌السلام ثمّ بكى حتى أخضلت دموعه لحيته وقال :يا إسحاق : إنّ الله تبارك وتعالى إنّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما ، وإنّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما فإنّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر وأخفى ) (٢) .

تأكيد علاقة الأُخوّة :

كان الإمامعليه‌السلام يعمّق ويجذّر علاقة الأُخوّة في الله ، ويضع لها التوجيهات المناسبة التي تزيد في التلاحم والتفاهم ، فمنها ما قالهعليه‌السلام لخيثمة :( أبلغ موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح وأن يعود صحيحهم مريضهم وليعد غنيهم على فقيرهم ، وأن يشهد جنازة ميّتهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم وأن يتفاوضوا علم الدين فإنّ ذلك حياة لأمرنا رحم الله عبداً أحيى أمرنا ) (٣) .

وقالعليه‌السلام في المواساة بين المؤمنين :( تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم ) (٤) .

قال محمّد بن مسلم : أتاني رجل من أهل الجبل فدخلت معه على أبي عبد الله فقال له حين الوداع أوصني فقالعليه‌السلام :( أُوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم ، وأحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك ، وإن سألك فأعطه وإن كفّ عنك فأعرض عليه ، لا تملّه خيراً فإنّه لا يملّك وكن له عضداً فإنّه لك عضد ، وإن وجد عليك

ـــــــــــــــــ

(١) سورة ق (٥٠) : ١٨ .

(٢) الكافي : ٢ / ١٨٤ بحار الأنوار : ٧٦ / ٣٥ وسائل الشيعة : ٨ / ٥٦٣ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٠ .

(٤) الخصال : ٨ وبحار الأنوار ٧٤ / ٣٩١ .

١٤٥

فلا تفارقه حتى تحلّ سخيمته (١) وإن غاب فاحفظه في غيبته ، وإن شهد فاكنفه وأعضده ووازره ، وأكرمه ولاطِفه فإنّه منك وأنت منه ) (٢) .

وقالعليه‌السلام مبيّناً صفة الأُخوّة في الله قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ستّ خصال مَن كُنّ فيه كان بين يدي الله عزّ وجلّ وعن يمين الله . فقال له ابن يعفور : وما هنّ جُعلت فداك ؟ قال :يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعزّ أهله ، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله ويناصحه الولاية ( إلى أن قال )إذا كان منه بتلك المنزلة بثّه همّه ففرح لفرحه إن هو فرح ، وحزن لحزنه إن هو حزن وإن كان عنده ما يفرج عنه فرّج عنه إلاّ دعا له ) (٣) .

كما نجده يحذّر من بعض التصرّفات التي من شأنها أن تفسد العلاقة ، فقد قالعليه‌السلام لابن النعمان :( إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينه ولا تباهينّه ، ولا تشارنه ، ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك ، فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ) (٤) .

كما حذّرعليه‌السلام من المجاملة على حساب المبدأ والتعاطف مع الخصوم فقال :( مَن قعد إلى سابّ أولياء الله فقد عصى الله ومَن كظم غيضاً فيما لا يقدر على إمضائه كان معنا في السنام الأعلى ) (٥) .

وقال أيضاً :( مَن جالس لنا عائباً ، أو مدح لنا قالياً أو واصل لنا قاطعاً ، أو قطع لنا واصلاً ، أو والى لنا عدواً ، أو عادى لنا وليّاً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني

ـــــــــــــــــ

(١) السخيمة : الحقد والضغينة حتى تسل سخيمته والسل الانتزاع والإخراج في رفق .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٤٩ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨/٥٤٢ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٦ .

(٥) المصدر السابق .

١٤٦

والقرآن العظيم ) (١) .

وحذّر أيضاً من مرض الانقباض والشحناء مع الإخوان والمراء والخصومة فقالعليه‌السلام : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق ) (٢) .

موقف الإمامعليه‌السلام من الهجران والمقاطعة

وندّد الإمامعليه‌السلام بظاهرة المقاطعة بين المؤمنين قائلاً :( لا يفترق رجلان على الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استحق ذلك كلاهما فقال له معتّب : جعلني الله فداك ، هذا الظالم فما بال المظلوم ؟ قال :لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس ( يتغافل )له عن كلامه ، سمعت أبي يقول : إذا تنازع اثنان ، فعازّ أحدهما الآخر فليرجع المظلوم على صاحبه حتى يقول لصاحبه : أي أخي أنا الظالم ، حتى يقطع الهجران فيما بينه وبين صاحبه فإنّ الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم ) (٣) .

الخطّ التربوي للإمام الصادقعليه‌السلام

لم تكن علاقة الإمام الصادقعليه‌السلام مع جماعته وأصحابه من الناحية التربوية قائمة على أساس الوعظ والإرشاد العام من دون تشخيص لمستويات وواقع سامعيه فكرياً وروحياً وما يحتاجون إليه ، بل كانعليه‌السلام يستهدف البناء

ـــــــــــــــــ

(١) الأمالي للصدوق : ٥٥ وبحار الأنوار : ٢٧/٢٢ ، وسائل الشيعة : ١١/٥٠٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨/٤٠٦ ، باب كراهة الانقباض من الناس .

(٣) الكافي : ٢/٣٤٤ / ح١ وبحار الأنوار : ٧٥/١٨٤ ، وسائل الشيعة : ٨/٥٨٤ .

١٤٧

الخاص ، ويميّز بينهم ويزقّ لهم الفكرة التربوية التي تحرّكهم نحو الواقع ليكونوا على استعداد تام لتحمّل مسؤولية إصلاح الأمة فكان يزوّدهم بالأُسس والقواعد التربوية الميدانية التي تؤهلهم لتجاوز الضغوط النفسية والاقتصادية ويمتلكوا الأمل الإلهي في تحقيق أهدافهم .

ونشير إلى بعض ما رفد به الإمام أصحابه من توجيهات ضمن عدّة نقاط :

النقطة الأولى : في الدعوة والإصلاح

قالعليه‌السلام :( إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مَن كانت فيه ثلاث خصال : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى عادل فيما يأمر ، عادل فيما ينهى ، رفيق بما يأمر ، رفيق بما ينهى ) (١) .

واعتبر الإمامعليه‌السلام النقد البنّاء سبباً لسدّ الفراغ والضعف الذي يصيب الأفراد عادةً ، فقالعليه‌السلام :( أحبّ إخواني إليَّ مَن أهدى إليَّ عيوبي ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( إذا بلغك عن أخيك ما تكره ، فاطلب له العذر إلى سبعين عذراً فإنْ لم تجد له عذراً ، فقل لنفسك لعلّ له عذراً لا نعرفه ) (٣) .

النقطة الثانية : التعامل التربوي في مجال العلم والتعلّم

أكّد الإمام الصادقعليه‌السلام على الخطورة التي تترتّب على الرسالة العلمية إذا انفكت عن قاعدتها الأخلاقية وَوُظِّفَ العلم لأغراض دنيوية وما ينجم عنه من تشويه لهذه الرسالة المقدّسة وقد لعب هذا الفصل بين العلم وقاعدته

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٥٨ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٠ .

(٢) تحف العقول : ٣٦٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٩ .

(٣) إحقاق الحق : ١٢/٢٧٩ ، والمشروع الرويّ : ١/٣٥ .

١٤٨

الأخلاقية دوراً سلبياً حيث أنتج ظاهرة وعّاظ السلاطين التي وظّفت الدين لمصلحة السلطان ، من هنا حذّر الإمامعليه‌السلام من هذه الظاهرة ضمن تصنيفه لطلبة العلم قائلاً :( طلبة العلم ثلاثة فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء ، مؤذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع ، فدقّ الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه .

وصاحب الاستطالة والختل ، ذو خبّ وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره .

وصاحب الفقه والعقل ، ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلاً داعياً مشفقاً ، مقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه فشدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه ) (١) .

النقطة الثالثة : الضابطة التربوية للتصدّي والقيادة

وضع الإمامعليه‌السلام قاعدة أخلاقية عامة وضابطة يتعامل بها المؤمن ويطبّقها في كل ميادين الحياة ، وبها تنمو الفضيلة ، وتكون أيضاً سبباً للتنافس الصحيح والبنّاء والتفاضل المبدئي وبغياب هذه القاعدة واستبدالها بمقاييس مناقضة لها سوف يتقدّم المفضول على الفاضل وتضيع القيم وتهدر الطاقات ، قالعليه‌السلام :( مَن دعا الناس إلى نفسه ، وفيهم مَن هو أعلم منه ، فهو مبتدع ضالّ ) (٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ١/٤٩ ، وبحار الأنوار : ٨٣ / ١٩٥ .

(٢) تحف العقول : ٣٧٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٥٩ .

١٤٩

النقطة الرابعة : المحنة والقدرة على المقاومة

لقد عبّأ الإمام الصادقعليه‌السلام شيعته وعاهدهم في أكثر من مرّة قائلاً : إنّ الانتماء لخطّه سوف يترتّب عليه من الاضطهاد والابتلاء ما لا يطيقه أحد إلاّ مَن اختاره الله سبحانه ، كما أنّ التشيّع لا يستحقه إلاّ أولئك الذين لديهم الاستعداد للتضحية العالية وتحمّل البلاء وهذا أسلوب إلهي استخدمه الله مع أوليائه ، فعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام عندما ذكر عنده البلاء وما يخص به المؤمن قال :سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن أشد الناس بلاءاً في الدنيا ؟ فقال : ( النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فمَن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ومَن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه ) (١) .

وروى الحسين بن علوان عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال وعنده سدير :( إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( قد عجز مَن لم يعد لكل بلاءٍ صبراً ، ولكل نعمة شكراً ، ولكل عسر يُسراً ، اصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد أو في مال ، فإنّ الله إنّما يقبض عاريته وهبته وليبلو شكرك وصبرك ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّا لنصبر ، وإنّ شيعتنا لأصبر منّا ، قال الراوي فاستعظمت ذلك ، فقلت : كيف يكون شيعتكم أصبر منكم ؟! فقالعليه‌السلام :إنّا لنصبر على ما نعلم ، وأنتم تصبرون على ما لا تعلمون ) (٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٢/٩٠٦ .

(٢) المصدر السابق : ٢/٩٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٦١ ، وبحار الأنوار : ٦٧/٢١٦ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٧٤ .

١٥٠

الباب الرابع :

فيه فصول :

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي .

الفصل الثاني : حكومة المنصور واستشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثالث : من تراث الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام .

١٥١

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي

١ ـ المستجدّات السياسية

لقد تداعا النظام الأموي في هذه المرحلة التاريخية من حياته بعد أن فقد في نظر الأمة كلّ مبرّراته الحضارية ، عقائدية كانت أو سياسية ، ولم يبقَ في قبضته سوى منطق السيف الذي هو آخر مواطن القوّة التي كان يدير بها شؤون البلاد .

وحتى هذا المنطق لم يدم طويلاً أمام إرادة الأمة رغم صرامة آخر ملوك الأمويين (مروان) المعروف في حسمه .

لقد استحكمت قناعة الأمة وآمنت بضرورة التخلّص من الطغيان الأموي ، ولم يبق بعد شيءٌ بيد وعّاظ السلاطين ليرتشوا به ويدافعوا عن وجه الاستبداد الأموي الكالح فيوظّفوا القرآن والحديث لصالح مملكته ولزوم طاعة الأمة لحكّامها ؛ حيث تراكمت في ذهن الأمة وضميرها تلك المظالم التي ارتُكبت بحق ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدءاً بسمّ معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام وسبّه الإمام علي أخي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه وزوج ابنته وجعل السبّ سُنّةً ، ثم قتل الحسين بن علي ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وخيرة أصحابه

١٥٢

بأمر يزيد وعمّاله ، وأخذه البيعة من أهل المدينة في واقعة الحَرّة الأليمة على أنّهم عبيد له بعد أن أباحها لجيشه ثلاثة أيام .

وقول عبد الملك بن مروان :( مَن أوصاني بتقوى الله ضُربت عنقه ) (١) وقتل الطاغية هشام لزيد بن عليعليه‌السلام وصلبه وحرق جثمانه الشريف .

وفساد الولاة الأمويين بالإضافة إلى جبايتهم الضرائب الظالمة ، وشقّ صف وحدة الأمة الإسلامية وتمزيقها إلى طوائف بإشاعتهم للروح القبلية حيث فرّقوا بالعطاء واستعبدوا الشعوب غير العربية .

وهكذا ظهرت إلى سطح الساحة الفكرية والفقهية آراء لا ترى أية شرعية للنظام الأموي وعبّرت عن ذلك في وسط الأمة وأصبح مدح العلويين أمراً تتناقله الناس رغم سلبية موقف السلطة منهم ، بعد أن كان الخوف يمنعهم من التعبير عن رأيهم .

وهكذا استعدت الأمة بفعل تراكم الظلم الأموي ؛ لأنّ تتقبّل أي بديل من شأنه أن ينقذها من الكابوس الأموي ، لعلّها تنعم بشيء من العدل والمساواة .

وهذا الجو قد شجّع على ظهور اتجاهات وادّعاءات سياسية تحرض الأمة وتدعوها إلى الانضمام تحت رايتها تحقيقاً لأطماعها في الخلافة ، كما تطلّعت الأمة للمنقذ باحثة عن أخباره بشغف وأخذت فكرة المهدي المنتظر تشقّ طريقها في أوساط الأمة المظلومة .

ومن جانب آخر اتّسع خط الإمامعليه‌السلام وامتدّ وكثرت أنصاره واستلهمت الأمة ثقافته حيث إنّه قد أثّر في عقلها وقراراتها ، ليس على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٩ .

١٥٣

المستوى الخاص الذي يحضى برعاية الإمام فحسب ، أو في دوائر محدودة ، بل أصبح له وجود في مختلف البلاد الإسلامية وتألّق الإمام الصادقعليه‌السلام ودخل صيته في كل بيت حتى أصبح مرجعاً روحياً تهوى إليه القلوب من كل مكان وتلوذ به لحل مشكلاتها الفكرية والعقائدية والسياسية .

ولم يكن هذا الامتداد منحصراً بين عموم الناس وسوادها بل كان الإمامعليه‌السلام مرجعاً لعلمائها وموئلاً لساستها ، فهذا سفيان الثوري يقول : دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام فقلت له : أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك قال :( وتحفظ يا سفيان ؟ قلت : أجل يا بن رسول الله قال :يا سفيان لا مروّة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملول ولا خلّة لمختال ولا سؤدد لسيّء الخلق ) (١) .

ودخل عليه مرة أخرى يطلب منه المزيد من التعاليم فقالعليه‌السلام :( يا سفيان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه ، إنّ على كل حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه ) (٢) وكانت لسفيان الثوري لقاءات أخرى مع الإمامعليه‌السلام ، بل كانت علاقته به علاقة التلميذ بأستاذه .

وكان من جملة العلماء الذين يدخلون على الإمام للاستفادة منه : حفص بن غياث وهو أحد أعلام عصره وأحد المحدثين في وقته فكان يطلب من الإمامعليه‌السلام أن يرشده ويوصيه فقال له الإمامعليه‌السلام :( إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا ، وما عليك أن لم يثن الناس عليك ـ إلى أن قال ـ :إن قدرت أن لا تخرج من بيتك

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٢٦١ .

(٢) أصول الكافي : ١/٦٩ ح١ وتاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨١ وعن الكافي في بحار الأنوار : ٢/١٦٥ والإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٢٢ .

١٥٤

فافعل فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ، ولا تكذب ولا تحسد ، ولا ترائي ، ولا تداهن ) .

وكان أبو حنيفة يغتنم الفرص ليحضر عند الإمام ويستمع منه ، وكان يقول بحق الإمامعليه‌السلام : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمدعليه‌السلام .

وكان مالك بن أنس ممّن يحضر عند الإمامعليه‌السلام ليتأدّب بآدابه ويهتدي بهديه فكان يقول : ما رأت عين ولا سمعت أُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً وقال : اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال إمّا مصلّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن ، وما رأيته قط يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ على طهارة ، ولا يتكلّم بما لا يعنيه ، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(١) .

وشهد المنصور بحقّه وهو ألدّ أعدائه قائلاً : إنّ جعفر بن محمد كان ممّن قال الله فيه( ثم أورَثْنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) وكان ممّن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات(٢) .

ولم يكن الإمام مرجعاً للعلماء والفقهاء والمحدّثين وقائداً للنهضة الفكرية والعلمية في زمانه فحسب ، بل كان مرجعاً للساسة والثوّار حيث كان الزعيم الحقيقي للخط العلوي الثائر ، حيث نجد زيداً الشهيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام يرجع إليه في قضية الثورة ، كما كان زيد يقول بحق الإمامعليه‌السلام في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه ، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) مالك بن أنس للخولي : ٩٤ ، وكتاب مالك ، محمد أبو زهرة : ٢٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨٣ وقد أخذ هذا عن الصادقعليه‌السلام نفسه ، كما عنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/١٤٢ .

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ٤/٢٩٩ .

١٥٥

ولم يكن الإمام جزءاً منفصلاً عن الثورة فقد كان يدعم الثورة بالمال والدعاء والتحريض والتوجيه كما مرّ في البحوث السابقة(١) ، أمّا العلويون من آل الحسن أمثال عبد الله بن الحسن وعمر الأشرف بن الإمام زين العابدين فهم كانوا يرجعون إليه ويستشيرونه في مسائل حياتهم ، ولم يتجاوزه أحد في الأعمال المسلّحة والنشاطات الثورية .

من هنا فإنّ القناعة السائدة آنذاك في أوساط الأمة هي أنّ البديل للحكم الأموي هو الخط الذي يتزعّمه الإمامعليه‌السلام وهذه الحقيقة لم يمكن تغافلها ، كما سوف يتضح أنّ أهم قادة الحركة العباسية ورؤساؤها والمدبّرون لها أو قادتها العسكريون كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم بأنّ الإمامعليه‌السلام هو الأولى من غيره ، وصاحب القوّة والقدرة والحنكة في إدارة الثورة وقيادتها ; وذلك لطاقاته الإلهية وثقله الشعبي ، ولهذا فاتحه بالمبايعة كخليفة كلاًّ من : أبي سلمة الخلاّل وأبي مسلم الخراساني ، وقد ألحّ عليه بعض أصحابه أيضاً مؤكّداً ضرورة إعلان الثورة .

والجدير بالانتباه أنّ الإمامعليه‌السلام لم يتبوّأ هذا الموقع المقدّس من القلوب بسبب المعادلات السياسية الآنية ، فإنّ الأحداث والظروف المختلفة هي التي كانت قد خلقت هذا الجوّ وأكّدت بأن يكون الإمامعليه‌السلام لا غيره في هذا الموقع ويصبح هو البديل اللائق سياسيّاً وفكريّاً والخليفة الشرعي للمسلمين بدل الحكم الأموي الظالم .

وإنّ العمل الدؤوب والمنهج الإصلاحي الذي خطّه الإمامعليه‌السلام ومَن سبقه من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وبناء الأجيال الطليعية أدّى إلى ارتفاع هذا

ـــــــــــــــــ

(١) راجع ص : ٧٩ ـ ٨٠ حول موقف الإمام الصادق من ثورة زيد .

١٥٦

الوعي عند الأمة وخلق منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة ممّا أدّى إلى أن تنعم الأمة بالثروة الفكرية التي خلفتها تلك الفترة الذهبية لنا .

وكان الإمامعليه‌السلام في هذا الظرف الحسّاس يراقب التحركات السلبية التي تحاول العبث بمسار الأمة والأخذ بها إلى مطبّات انحرافية جديدة ، من هنا أصدر جملة من التوجيهات لأصحابه والتزم الحياد إزاء العروض السياسية الكاذبة التي تقدّم بها بعض الثوّار ; وذلك لمعرفته بالدوافع والمطامع التي كانت تحرّكهم .

وكان من تلك الاتجاهات التي تحرّكت لإقناع الناس بضرورة الثورة على الأمويين بهدف الاستحواذ على الخلافة وتفويت الفرصة على منافسيهم الاتجاه العبّاسي .

٢ ـ الحركة العبّاسيّة ( النشأة والأساليب )

سبقت الإشارة إلى النواة الأولى التي دفعت ببني العبّاس إلى أن يطمعوا في الخلافة ويمنّوا أنفسهم بها .

وقد مرّ فيما ذكرنا(١) أنّ أبا هاشم كان من رجالات أهل البيت البارزين ، وكان هشام بن عبد الملك يحذرّه ; لوجود لياقات علمية وسياسية عنده تؤهّله للقيادة ، فحاول هشام اغتياله ولمّا أحس أبو هاشم بالمكيدة ضدّه احترز من ذلك فأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس بإدارة أتباعه في مقاومة الأمويين سنة ( ٩٩ هـ ) وكانت هذه الوصية هي بذرة الطمع التي حركت

ـــــــــــــــــ

(١) راجع البحث الذي مرّ تحت عنوان ( بداية الانفلات ) في الصفحة ٨٢ من هذا الكتاب .

١٥٧

محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ممّا جعلته يشعر بأنّه القائد والخليفة مستقبلاً .

وكانت الفرصة سانحة في ذلك الوقت بالتبليغ لشخصه ، لذا شرع في بثّ الدعاة إلى خراسان سرّاً لهذا الغرض واستمرّ بدعوته إلى أن مات سنة ( ١٢٥ هـ ) وترك من بعده أولاده ، وهم : إبراهيم الإمام ، والسفّاح ، والمنصور(١) ويبدو أنّ إبراهيم الإمام هو الذي كان يخطّط لقيام دولة عبّاسية ؛ لأنّه الأكثر دهاءً وحنكة وتخطيطاً من أخويه كما سيتضح ذلك .

نشط إبراهيم بالدعوة وأخذ يتحدّث بأهمّية الثورة وإنقاذ المنكوبين ، وشارك البسطاء من الناس آلامهم وأخذ يعطف على المظلومين ويلعن الظالمين وانتشر دعاة إبراهيم في بلاد خراسان وكان لهم الأثر الكبير هناك وكان منهم : زياد مولى همدان ، وحرب بن قيس ، وسليمان بن كثير ، ومالك بن الهيثم وغيرهم ، وقد تعرّض الدعاة العباسيون للقتل في سبيل دعوتهم ومثّل ببعضهم وحُبس البعض الآخر(٢) ، وكان في طليعة الدعاة نشاطاً وقوّة ودهاءً أبو مسلم الخراساني(٣) .

وتضمّن المنهج السياسي العبّاسي ـ لتضليل الأمة ـ عدّة أساليب كانت منسجمة مع الواقع ومقبولة عند الناس ; لذا لقيت الدعوة استجابة سريعة وانضم المحرومون والمضطهدون إليها .

ونشير إلى بعض هذه الأساليب فيما يلي :

ـــــــــــــــــ

(١) الآداب السلطانية : ١٢٧ .

(٢) تاريخ ابن الساعي : ٣ .

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٠ ـ ٣٤٤ .

١٥٨

الأُسلوب الأوّل :

حرّك العباسيون العواطف بقوّة وحاولوا إقناع الناس بأنّ الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيتعليهم‌السلام الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد وأريقت دماؤهم في سبيل الحق ، وركّز العباسيون بين صفوف دعاتهم بأنّ الهدف المركزي من دعوتهم هو رجوع الخلافة المغتصبة إلى أهلها ؛ ولهذا تفاعل الناس مع شعار ( الرضي من آل محمد ) ووجدوا في هذا الشعار ضالّتهم .

وكان يعتقد الدعاة أنّ هذه الدعوة تنبئ بظهور عهد جديد يضمن لهم حقوقهم كما عرفوه من عدالة عليعليه‌السلام وقد حقّق هذا الشعار نجاحاً باهراً ، خصوصاً في البلاد التي كانت قد لاقت البؤس والحرمان ، وكانت تترقّب ظهور الحق على يد أهل بيت النبوّة .

وكانت ثقافتهم السياسية التي يروّج لها دعاتهم بين الناس تأتي على شكل تساؤلات ، منها : ( هل فيكم أحد يشك أنّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً واصطفاه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ الله أنزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتظنّون خلفه عند غير عترته وأهل بيته ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ أهل البيت هم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله الذي علمه الله ؟ فيقال : لا ...(١) .

بهذه الإثارات العامّة التي لا تعيّن المصداق وتكتفي بالإيحاء وتتّكئ

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل لابن الأثير : ٥/٣٦٢ .

١٥٩

على الغموض حصلوا على مكاسب جماهيرية هائلة حتى من غير المسلمين وكان هذا الأسلوب يشكّل سرقة لجهود الأئمةعليهم‌السلام حيث يوظّفونها لمصالحهم في الأوساط غير الواعية لطبيعة الصراع .

الأُسلوب الثاني :

ومن الأساليب التي سلكها الدعاة العباسيون ونفذوا من خلالها إلى أوساط الأمة النبوءات الغيبية التي كانت تكشف عن أحداث المستقبل ، وكان لهذا الأسلوب الماكر الأثر الكبير في كسب البسطاء واندفاع المتحمّسين للدعوة وانضمامهم إليها اعتقاداً منهم بصحّة ما يدعون إليه ، فمن تلك النبوءات الغيبية التي أشاعوها في ذلك الحين أنّ (ع) ابن (ع) سيقتل (م) ابن (م) ، ثمّ تأوّلوا أنّ المراد بالأوّل هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والثاني هو مروان بن محمد بن مروان ، كما ادّعوا ـ أيضاً حسب زعمهم ـ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبشّر بدولة هاشمية على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّه العباس : إنّها تكون في ولدك .

ومن تلك الدعايات التي كانت تريد إضفاء الشرعية على دعوتهم هو زعمهم بأنّ لديهم كتباً تؤكّد انتقال الخلافة إلى بني العباس لكن لا يجوز إخراجها وكشفها لكل الناس وإنّما يطّلع عليها النقباء من خواصّهم وهذا الأسلوب كان قد زاد الدعاة تقديساً لدعوتهم كما أنّها قد زادتهم اندفاعاً لها(١) .

الأُسلوب الثالث :

واستخدموا أسلوباً لم يكن مألوفاً من قبل وهو في غاية من الدهاء السياسي ، حيث استطاعوا بواسطته أن يكسبوا الجولة ويوظّفوا الجهود والقناعات المختلفة نحو هدف واحد وهو أنّهم كانوا يتشدّدون في إخفاء اسم الخليفة الذي يدعون إليه ، من هنا التزموا بكتمان أمره ووعدوا الناس بأنّ

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : ٢/٣٠٩ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241