تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد13%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78838 / تحميل: 11030
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وهؤلاء الثلاثة - عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت - كانوا هم العمدة في كتابة الوحي، وكانوا حضوره (صلّى الله عليه وآله) في جميع أيّامه أو يتناوَبون.

أمّا غيرهم ممّن عدُّوهم في كُتّاب الوحي، فلم يكونوا بتلك المرتبة.

قال ابن الأثير: وكان من المواظبين على كتابة الرسائل: عبد الله بن الأرقم الزهري.

وكان الكاتب لعهود رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا عاهدَ، وصُلحه إذا صالح: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .

قال: وممّن كتب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): الخلفاء الثلاثة، والزبير بن العوّام، وخالد، وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمّد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم - أو جهيم - بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وهكذا ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب (١) .

والظاهر أنّ هؤلاء كانوا أهل قراءة وكتابة في العرب آنذاك، فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستخدمهم أحياناً لكتاباته إذا لم يحضر كُتّابه الرسميّون.

وقد عدّ أبو عبد الله الزنجاني أكثر من أربعين شخصاً كانوا يكتبون لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٢) ، والظاهر أنّهم من هذا القبيل.

قال ابن الأثير: وأوّل مَن كتب له (صلّى الله عليه وآله) من قريش: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثمّ ارتدّ ورجع إلى مكّة، فنزل فيه: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) (٣) .

____________________

(١) أُسد الغابة لأبن الأثير: ج١، ص٥٠ / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج١، ص٥٠.

(٢) تاريخ القرآن للزنجاني: ص٢٠ - ٢١.

(٣) أُسد الغابة: ج١، ص٥٠ / والآية ٩٣ من سورة الأنعام.

١٢١

يقال: إنّه (صلّى الله عليه وآله) أمْلى عليه ذات يوم: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ - إلى قوله - ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) فجرى على لسان عبد الله بن سعد: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (١) فأمْلاه النبي (صلّى الله عليه وآله) كذلك، وقال: هكذا أُنزل، فارتدّ عدوّ الله وشكّ في الأمر، زاعماً أنّه ينزل عليه الوحي كما ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهدرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دمه.

فلمّا كان يوم الفتح جاء به عثمان - وهو أخوه من الرضاعة - مستعفياً له، فسكت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأعاد عليه فسكت، لعلّه مَن ينتدب فيقتله، حتّى أعفاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعثمان، فلمّا مضَيا قال لأصحابه: (ألم أقُل مَن رآه فليقتله؟ فقال عبّاد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تشير إليّ فأقتله، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): الأنبياء لا يقتلون بالإشارة)، وهكذا في الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (نزلت في ابن أبي سرح) (٢) .

كان الكتَبة على عهده (صلّى الله عليه وآله) يكتبون ما نزل من القرآن على ما تيسّر لهم الكتابة عليه، من: العُسُب (٣) ، واللِّخاف (٤) ، والرقاع (٥) ، وقطع الأديم (٦) ، وعظام الأكتاف والأضلاع، وأحيانا القراطيس المهيّأة لهم ذلك العهد.

ثمّ يوضع المكتوب - أيّاً كان - في بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهكذا انقضى العهد النبويّ السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط، بيد أنّه لم يُكتب تماماً في صُحف ولا رُتّب في مصاحف، بل كُتب منثوراً على الرقاع وقِطَع الأديم والقراطيس، ممّا ذكرنا.

____________________

(١) المؤمنون: ١٢ - ١٤.

(٢) راجع مجمع البيان: ج٤، ص٣٣٥ الطبعة الإسلامية.

(٣) العُسُب - بضمّتين -: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشفون الخوص و يكتبون في الطرف العريض.

(٤) اللِخاف - بكسر اللام -: جمع لَخفة - بفتح اللام وسكون الخاء - وهي الحجارة الرقيقة، أو هي صفائح الحجارة.

(٥) الرقاع: جمع رقعة، تكون من جِلد، أو ورق، أو كاغد.

(٦) الأديم: الجِلْد.

١٢٢

قال زيد بن ثابت: كنّا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأُلِّف القرآن من الرقاع (١) ، أي نجمعه في مكان أو في وعاء، وهكذا الصحابة قد يستنسخ بعضهم سورة أو سوَراً من القرآن، ويجعلها في وعاء كان يسمّى الصُحف ويعلّقه في بيته.. كلّ ذلك من غير مراعاة ترتيب بين السوَر كما هو الآن (٢) .

نعم، كان التأليف آنذاك - أيّام حياته (صلّى الله عليه وآله) - عبارة عن ترتيب الآيات ضمن السوَر، إمّا حسب النزول - كما هو الأغلب - أو حسب إرشاد النبي (صلّى الله عليه وآله) بتوقيف من جبرائيل، كان يقول: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا).

أمّا الصحابة يومذاك، فكانوا يستنسخون القرآن حسبما تيسّر لهم في قرطاس، أو كِنْف، أو عَظْم، أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو حسبما يريدونه، وكان الأكثر يعتمدون على حِفْظهم، فلا يُكتب جرياً على عادة العرب في حفظ آثارها وأشعارها وخُطَبها ونحو ذلك (٣) .

قال سيّدنا الطباطبائي (رحمه الله): لم يكن القرآن مؤلّفاً في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن منه سوى سِوَر وآيات متفرّقة في أيدي الناس (٤) .

* * *

____________________

(١) مناهل العرفان للزرقاني: ج١، ص٢٤٧.

(٢) راجع التمهيد: ج١، ص٢٨٨.

(٣) راجع المناهل: ج١، ص٢٤٧ و٢٤٨.

(٤) تفسير الميزان: ج٣، ص٧٨ و٧٩.

١٢٣

١٢٤

تاريخ القرآن

١ - تأليف القرآن.

٢ - توحيد المصاحف.

١٢٥

١٢٦

١ - تأليف القرآن

- نظْمُ كلماته ضمن الآيات.

- تأليف آياته ضمن السوَر.

- ترتيب سوَره بين الدفّتين.

- تمحيص الرأي المعارض.

- جمْع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

- وصف مصحف عليّ (عليه السلام) وأمَده.

- جمع زيد بن ثابت.

- منهج زيد في جمع القرآن.

- شكوك واعتراضات.

- مصاحف أخرى للصحابة، أمَدُها ووصفها.

- وصف مصحف ابن مسعود.

- وصف مصحف أُبيّ بن كعب.

١٢٧

تأليفُ القرآن

تأليف القرآن في شكله الحاضر - في نظْم آياته وترتيب سوَره، وكذلك في تشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء ومقاطع - لم يكن وليدَ عاملٍ واحد، ولم يكتمل في فترة الوحي الأُولى، فقد مرّت عليه أدوار وأطوار، ابتدأت بالعهد الرسالي، وانتهت بدَور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثمَّ إلى عهد الخليل بن أحمد النحويّ الذي أكمل تشكيله بالوضع الموجود.

وهو بحث أشبه بمعالجة قضية تاريخية مذيَّلة عن أحوال وأوضاع مرَّت على هذا الكتاب السماويّ الخالد، غير أنَّ مهمَّتنا الآن هي: العناية بدراسة القرآن من زاوية جمْعه وتأليفه مصحفاً بين دفَّتين، والبحث عن الفترة التي حصل فيها هذا الجمْع والتأليف، وعن العوامل التي لعِبَت هذا الدَور الخطير، ومن ثمَّ سنفصِّل الكلام عن القرآن في عهده الأوَّل الذي لم يتجاوز نصف قرن، ثمَّ نوجز الكلام في أحوال مرّت عليه في أدوار متأخِّرة، والبحث الحاضر يكتمل في ثلاث مراحل أساسية:

أوّلاً: نظْم كلمات القرآن بصورة جُمَل و تراكيب كلامية ضمن الآيات.

ثانياً: تأليف الآيات ضمن السوَر قصيرة أمْ طويلة.

١٢٨

ثالثاً: ترتيب السوَر بين دفَّتين على صورة مصحَف كامل.

ونحن إذ نسير على هذا المنهج لا نتغافل صعوبة المسلك الذي نسلكه بهذا الصدد، إنَّه بحث ذو جوانب خطيرة عن كتاب سماويّ احتفظ على أصالته في ذمّة الخلود، وكفَّل سعادةً عُليا للبشريّة كافَّة إذا ما سارت على ضوء برامجه الحكيمة، وتمسَّكت بعُرى حبْلِه الوثيق، ومن ثمَّ فإنَّ الزلَّة في سبيل الوصول إلى حقائقه ومعارفه خطيرة ومخطرة في نفس الوقت، ونسأله تعالى أن يمدَّنا بتوفيقه ويهدينا إلى طريق الحقِّ والصواب، إنَّه قريبٌ مجيب.

نَظْمُ كلماته:

لا شكَّ أنَّ العامل في نظْم كلمات القرآن وصياغتها جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة هو: الوحي السماويّ المعجز، لم يتدخَّل فيه أيّ يد بشرية إطلاقاً، كما ولم يحدث في هذا النظْم الكلِمي أيّ تغيير أو تحريف عِبر العصور: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) إذ في ذلك يتجسَّد سرّ ذلك الإعجاز الخالد، الذي لا يزال يتحدّى به القرآن الكريم، ولمزيد التوضيح نعرض ما يلي:

أوّلاً: إسناد الكلام إلى متكلِّم خاصّ، يستدعي أن يكون هو العامل في تنظيم كلماته وتنسيق أسلوبه التعبيري الخاصّ، أمّا إذا كان هو مُنْتقِياً كلمات مفردة، وجاء آخَر فنظّمها في أسلوب كلاميّ خاصّ، فإنَّ هذا الكلام ينسب إلى الثاني لا الأوَّل.

وهكذا القرآن المجيد هو كلام الله العزيز الحميد، فلابدَّ أن يكون الوحي هو العامل الوحيد في تنظيم كلماته جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة، أمّا نفس الكلمات - من غير اعتبار التركيب والتأليف - فكان العرب يتداولونها ليل نهار، إنَّما الإعجاز في نَظْمها جاء مِن قِبل وحي السماء.

____________________

(١) الحجر: ٩.

١٢٩

ثانياً: كان القِسط الأوفر من إعجاز القرآن كامناً وراء هذا النَظْم البديع وفي أسلوبه هذا التعبيريّ الرائع، من تناسب نغميّ مرِن، وتناسق شِعريّ عجيب، وقد تحدّى القرآن فُصحاء العرب وأرباب البيان - بصورة عامَّة - لو يأتوا بمِثل هذا القرآن، و ( لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (١) ، فلو جوَّزنا - محالاً - إمكان تدخّل يد بشرية في نظْم القرآن كان بمعنى إبطال ذاك التحدّي الصارخ.

ومن ثمَّ كان ما يُنسَب إلى ابن مسعود: جواز تبديل العِهْن بالصوف في الآية الكريمة (٢) ، أو قراءة أبي بكر: (وجاءت سَكْرة الحقّ بالموت) (٣) مكذوباً، أو هو اعتبارٌ شخصيٌّ لا يتّسم بالقرآنية في شيء.

ثالثاً: اتّفاق كلمة الأُمّة في جميع أدوار التاريخ: على أنَّ النظْم الموجود والأسلوب القائم في جُمَل وتراكيب الآيات الكريمة، هو من صُنع الوحي السماويّ لا غيره، الأمر الذي التزمت به جميع الطوائف الإسلامية على مختلف نزعاتهم وآرائهم في سائر المواضيع، ومن ثمَّ لم يتردَّد أحد من علماء الأدب والبيان في آية قرآنية جاءت مخالفة لقواعد رَسموها، في أخْذ الآية حجَّة قاطعة على تلك القاعدة وتأويلها إلى ما يلتئم وتركيب الآية، وذلك عِلماً منهم بأنَّ النظْم الموجود في الآية وحي لا يتسرَّب إليه خطأ البتَّة، وإنَّما الخطأ في فهْمِهم هُم، وفيما استنبطوه من قواعد مرسومة.

مثال ذلك قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) (٤) فزعموا أنَّ الحال لا تتقدَّم على صاحبها المجرور بحرف، والآية جاءت مخالفة لهذه القاعدة، ومن ثمَّ وقع بينهم جدل عريض، ودار بينهم كلام في صحّة تلك القاعدة وسُقْمها (٥) .

____________________

(١) الإسراء: ٨٨.

(٢) القارعة: ٥ / راجع تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص١٩.

(٣) ق: ١٩ / راجع تفسير الطبري: ج٢٦، ص١٠٠، وأصل الآية ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) .

(٤) سبأ: ٢٨.

(٥) راجع شرح التوضيح لخالد الأزهري، والكشّاف للزمخشري.

١٣٠

ولجَأ ابن مالك أخيراً إلى نبذ القاعدة بحجَّة أنَّها مخالفة للآية، قال:

وسَبقُ حالٍ ما بحرف جرٍّ قد

أبَوا ولا أمنعه فقد ورَد

تأليف الآيات:

وأمّا تأليف الآيات ضمن كلِّ سورة - على الترتيب الموجود - فهذا قد تحقَّق في الأكثر الساحق وفْق ترتيب نزولها، كانت السورة تبتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فتُسجَّل الآيات التي تنزل بعدها من نفس هذه السورة، واحدة تلو الأُخرى تدريجيّاً حسب النزول، حتَّى تنزل بسْملة أُخرى، فيُعرَف أنَّ السورة قد انتهت وابتدأت سورة أُخرى.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان يُعرَف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداءً لأخرى) (١) .

قال ابن عباس: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يعرِف فصْل سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم، فيعرف أنَّ السورة قد خُتمت وابتدأت سورة أُخرى (٢) .

كان كتَبة الوحي يعرفون بوجوب تسجيل الآيات ضمن السورة التي نزلت بسْمَلَتُها، حسب ترتيب نزولها واحدة تلو الأُخرى كما تنزل، من غير حاجة إلى تصريح خاصّ بشأن كلِّ آيةٍ آية.

هكذا ترتَّبت آيات السوَر وفْق ترتيب نزولها، على عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وهذا ما نسمّيه بـ (الترتيب الطبيعي) ، وهو العامل الأوَّل الأساسي للترتيب الموجود بين الآيات في الأكثرية الغالبة.

والمعروف أنَّ مُصحف عليّ (عليه السلام) وُضِع على دِقَّة كاملة من هذا الترتيب

____________________

(١) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٩.

(٢) المستدرك للحاكم: كتاب الصلاة، ج١، ص٢٣١. تاريخ اليعقوبي: ج٢، ص٢٧، طبع الحيدري.

١٣١

الطبيعي للنزول، الأمر الذي تخلَّفت عنه مصاحف سائر الصحابة، على ما سنشير.

* * *

وهناك عامل آخر عمل في نظْم قِسم من الآيات على خلاف ترتيب نزولها، وذلك بنصٍّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتعيينه الخاصّ، كان يأمر - أحياناً - بثبْت آية في موضعٍ خاصّ من سورة سابقة كانت قد خُتمت من قبْل، ولا شكَّ أنَّه (صلّى الله عليه وآله) كان يرى المناسبة القريبة بين هذه الآية النازلة والآيات التي سبَقَ نزولها، فيأمر بثبْتها معها بإذن الله تعالى.

وهذا جانب استثنائي للخروج عن ترتيب النزول، كان بحاجة إلى تصريح خاصّ: روى أحمد في مسنده عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ شخَصَ ببصرِه ثمَّ صوَّبه، ثمَّ قال: (أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ) ) (١) فجُعلت في سورة النَحْل بين آيات الاستشهاد وآيات العهد (٢) .

وروي أنَّ آخِر آية نزلت قولُهُ تعالى: ( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللّهِ ) (٣) فأشار جبرائيل أن توضع بين آيتَي الرِبا والدَين من سورة البقرة (٤) .

وعن ابن عبّاس والسدّي: أنَّها آخِر ما نزلت من القرآن، قال جبرائيل: (ضعْها في رأس الثمانين والمئتين) (٥).

وعن ابن عبّاس أيضاً قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السوَر ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض مَن كان يكتب

____________________

(١) النحل: ٩٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج١، ص٦٢.

(٣) البقرة: ٢٨١.

(٤) الإتقان: ج١، ص٦٢.

(٥) مجمع البيان للطبرسي: ج٢، ص٣٩٤.

١٣٢

فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) (١) .

هذا ممّا لا خلاف فيه، كما صرَّح بذلك أبو جعفر بن الزبير (٢) .

ترتيب السِوَر:

وأمّا جمْع السوَر هو ترتيبها بصورة مصحف مؤلَّف بين دفَّتين، فهذا قد حصل بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله).

انقضى العهد النبوي والقرآن منثور على العُسُب، واللِخاف، والرقاع، وقِطَع الأديم (٣) ، وعِظام الأكتاف والأضلاع، وبعض الحرير والقراطيس، وفي صدور الرجال.

كانت السِوَر مكتملة على عهده (صلّى الله عليه وآله) مرتَّبة آياتها وأسماؤها، غير أنَّ جمعها بين دفَّتين لم يكن حصل بعد؛ نظراً لترقّب نزول قرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصحّ تأليف السوَر مصحفاً، إلاّ بعد الاكتمال وانقطاع الوحي، الأمر الذي لم يكن يتحقّق إلاّ بانقضاء عهد النبوَّة واكتمال الوحي.

قال جلال الدين السيوطي: كان القرآن كُتب كلّه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتَّب السوَر (٤) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه) (٥) .

وأوَّل مَن قام بجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه هو:

____________________

(١) أخرجه الترمذي بطريقٍ حسَن والحاكم بطريقٍ صحيح. (راجع البرهان للزركشي: ج١، ص ٢٤١. وتاريخ اليعقوبي: ج٢، ص٣٦، طبع الحيدري).

(٢) الإتقان: ج١، ص٦٠.

(٣) العسيب: جريدة النخل إذا كشط خُوصها، واللخف: حجارة بيض رقاق، والأديم: الجِلد المدبوغ، وهكذا ذهب السيد الطباطبائي إلى أنّه لم يُجمع القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله). (راجع الميزان: ج٣، ص٧٨).

(٤) الإتقان: ج١، ص٥٧. مناهل العرفان للزرقاني: ج١، ص٢٤٠.

(٥) بحار الأنوار: ج٩٢، ص٤٨.

١٣٣

الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثمَّ قام بجمْعه زيد بن ثابت بأمرٍ من أبي بكر، كما قام بجمْعه كلّ من: ابن مسعود، وأُبَي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، حتّى انتهى الأمر إلى دَور عثمان، فقام بتوحيد المصاحف وإرسال نُسَخ موحَّدة إلى أطراف البلاد، وحملَ الناس على قراءتها وترْك ما سواها - على ما سنذكر -.

كان جمعُ عليّ (عليه السلام) وفْق ترتيب النزول: المكّي مقدَّم على المدَني، والمنسوخ مقدَّم على الناسخ، مع الإشارة إلى مواقع نزولها ومناسبات النزول.

قال الكلبي: لمّا توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قعد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في بيته، فجمَعه على ترتيب نزوله، ولو وُجِد مصحفُه لكان فيه عِلمٌ كبير (١) .

وقال عكرمة: لو اجتمعت الإنْس والجِنّ على أن يؤلّفوه كتأليف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ما استطاعوا (٢) .

وأمّا جمْع غيره من الصحابة فكان على ترتيبٍ آخر: قدَّموا السوَر الطِوال على القِصار، فقد أثبتوا السبْع الطوال : (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، يونس) قبل المئين : (الأنفال، براءة، النحل، هود، يوسف، الكهف، الإسراء، الأنبياء، طه، المؤمنون، الشعراء، الصافّات)، ثمَّ المثاني : (هي التي تقلّ آياتها عن مئة، وهي عشرون سورة تقريباً)، ثمَّ الحواميم : (السور التي افتُتحت بـ حم)، ثمَّ ا لمفصَّلات : (ذوات الآيات القِصار) لكثرة فواصلها، وهي السوَر الأخيرة في القرآن.

وهذا يقرب نوعاً ما من الترتيب الموجود الآن - على ما سيأتي -.

نعم، لم يكن جمْع زيد مرتّباً ولا منتظماً كمُصحف، وإنَّما كان الاهتمام في ذلك الوقت على جمع القرآن عن الضياع، وضبط آياته وسوَره حذراً عن التلف بموت حامِليه، فدوّنت في صُحف وجُعلت في إضبارة، وأُودعت عند أبي بكر

____________________

(١) التسهيل لعلوم التنزيل: ج١، ص٤.

(٢) الإتقان: ج١، ص٥٧.

١٣٤

مدَّة حياته، ثمَّ عند عُمَر بن الخطّاب حتّى توفّاه الله، فصارت عند ابنته حفْصة، وهي النُسخة التي أخذَها عثمان لمقابلة المصاحف عليها، ثمَّ ردّها عليها، وكانت عندها إلى أن ماتت، فاستلَبها مروان من ورَثَتها حينما كان والياً على المدينة من قِبل معاوية، فأمَر بها فشُقَّت، وسنذكر كلَّ ذلك بتفصيل.

تمحيص الرأي المعارض:

ما قدَّمنا هو المعروف عن رواة الآثار، وعند الباحثين عن شؤون القرآن، منذ الصدر الأوَّل فإلى يومنا هذا، ويوشك أن يتَّفق عليه كلمة أرباب السِيَر والتواريخ، ولكن مع ذلك نجد مَن ينكر ذاك التفصيل في جمع القرآن، ويرى أنَّ القرآن بنَظْمه القائم وترتيبه الحاضر، كان قد حصل في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من علماء السلَف: كالقاضي، وابن الأنباري، والكرماني، والطيّبي (١) ، ووافَقهم عَلَم الهدى السيّد المرتضى (قدّس سرّه)، قال: كان القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك: بأنَّ القرآن كان يُدَرَّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عُيّن جماعة من الصحابة في حفظِهم له، وأنّه كان يُعرَض على النبي (صلّى الله عليه وآله) ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي - (صلّى الله عليه وآله) - عدَّة ختْمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث (٢) .

لكن حِفظ القرآن: هو بمعنى حِفظ جميع سوَره التي اكتملت آياتها، سواء أكان بين السوَر ترتيب أمْ لا، وهكذا ختمُ القرآن: هو بمعنى قراءة جميع سوَره من غير لحاظ ترتيب خاصّ بينها، أو الحِفظ كان بمعنى الاحتفاظ على جميع القرآن

____________________

(١) الإتقان: ج١، ص٦٢.

(٢) مجمع البيان: ج١، ص١٥.

١٣٥

النازل لحدّ ذاك، والتحفّظ عليه دون الضياع والتفرقة، الأمر الذي لا يدلّ على وجود ترتيب خاصّ كان بين سوَره كما هو الآن.

هذا، وقد ذهب إلى ترجيح هذا الرأي أيضاً سيدّنا الأستاذ الإمام الخوئي (رحمه الله) نظراً إلى الأمور التالية:

أوّلاً: أحاديث جمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسها متناقضة، تتضارب مع بعضها البعض، ففي بعضها تحديد زمن الجمع بعهد أبي بكر، وفي آخر بعهد عمَر، وفي ثالث بعهد عثمان، كما أنَّ البعض ينصّ على أنَّ أوّل مَن جمَع القرآن هو زيد بن ثابت، وآخر ينصّ على أنَّه أبو بكر، وفي ثالث أنَّه عمَر، إلى أمثال ذلك من تناقضات ظاهرة.

ثانياً: معارضتها بأحاديث دلَّت على أنَّ القرآن كان قد جُمع على عهده (صلّى الله عليه وآله)، منها حديث الشعبي، قال: جَمَع القرآن على عهده ستَّة: أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد. وفي حديث أنَس أنَّهم أربعة: أُبَي، ومعاذ، وزيد، وأبو زيد، وأمثال ذلك.

ثالثاً: منافاتها مع آيات التحدّي، التي هي دالَّة على اكتمال سوَر القرآن وتمايز بعضها عن بعض، ومتنافية أيضاً مع إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في لسانه (صلّى الله عليه وآله)، الظاهر في كونه مؤلَّفاً كتاباً مجموعاً بين دفَّتين.

رابعاً: مخالفة ذلك مع حُكم العقل بوجوب اهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بجمْعه وضبطه عن الضياع والإهمال.

خامساً: مخالفته مع إجماع المسلمين، حيث يَعتبرون النصَّ القرآني متواتراً عن النبيّ نفسه، في حين أنَّ بعض هذه الروايات تشير إلى اكتفاء الجامِعين بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشهادة رجُلين أو رجُل واحد!.

سادساً: استلزام ذلك تحريفاً في نصوص الكتاب العزيز، حيث طبيعة الجمْع المتأخّر تستدعي وقوع نقص أو زيادة في القرآن، وهذا مخالف لضرورة

١٣٦

الدِين (١) .

وزاد بعضهم: أنَّ في المناسبة الموجودة بين كلِّ سورة مع سابقتها ولاحِقتها، لدليلاً على أنَّ نظْمها وترتيبها كان بأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ لا يَعرِف المناسبة بهذا الشكل المبدع البالغ حدَّ الإعجاز غيرُه (صلّى الله عليه وآله).

* * *

لكن يجب أن يُعلَم: أنَّ قضيَّة جمْع القرآن حدَثٌ من أحداث التاريخ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدل فيها، وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخية المستندة من غير أن يكون مجال لتجوال الفِكر فيها على أيَّة حال!.

وقد سبَق اتّفاق كلمة المؤرِّخين، ونصوص أرباب السِيَر وأخبار الأمم، ووافَقهم أصحاب الحديث طرّاً، على أنَّ ترتيب السوَر شيء حصل بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن بالترتيب الذي نزلتْ عليه السوَر.

وبعد، فلا نرى أيَّ مناقضة بين روايات جمْع القرآن، إذ لا شكَّ أنَّ عمَر هو الذي أشار على أبي بكر بجمْع القرآن، وهذا الأخير أمَر زيداً أن يتصدّى القضية من قِبَلِه، فيصحّ إسناد الجمْع الأوَّل إلى كلٍّ من الثَلاثة بهذا الاعتبار.

نعم، نسبة الجمْع إلى عثمان كانت باعتبار توحيده للمصاحف ونَسْخها في صورة موحَّدة، وأمّا نسبة توحيد المصاحف إلى عُمَر فهو من اشتباه الراوي قطعاً؛ لأنَّ الذي فعَل ذلك هو عثمان بإجماع المؤرِّخين.

وحديث ستَّة أو أربعة جمعوا القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) فمعناه: الحِفظ عن ظَهْر القلب، حفظوا جميع الآيات النازلة لحدّ ذاك الوقت، أمّا الدلالة على وجود نَظْم كان بين سوَره فلا.

وأمّا حديث التحدّي فكان بنفس الآيات والسوَر، وكلُّ آية أو سورة قرآن، ولم يكن التحدّي يوماً ما بالترتيب القائم بين السوَر؛ كي يتوجَّه الاستدلال المذكور! ز

____________________

(١) راجع البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي: ص٢٥٧ - ٢٧٨.

١٣٧

على أنَّ التحدّي وقَع في سوَر مكّية (١) أيضاً، ولم يُجمَع القرآن قبل الهجرة قطعاً.

واهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن القرآن، شيء لا ينكَر، ومن ثمَّ كان حريصاً على ثبْت الآيات ضمن سوَرها فور نزولها، وقد حصل النَظْم بين آيات كلِّ سورة في حياته (صلّى الله عليه وآله).

أمّا الجمْع بين السوَر وترتيبها كمصحف موحَّد فلم يحصل حينذاك؛ نظراً لترقّب نزول قرآن عليه، فما لم ينقطع الوحي لا يصحّ جمع القرآن بين دفَّتين ككتاب، ومن ثمَّ لمّا أيقن بانقطاع الوحي بوفاته (صلّى الله عليه وآله) أوصى إلى عليّ (عليه السلام) بجمْعه.

ومعنى تواتر النصّ القرآني هو: القطع بكونه وحْياً، الأمر الذي يحصل من كلّ مستند وثيق، وليس التواتر - هنا - بمعناه المصطلح عند الأصوليين.

وأمّا استلزام تأخّر الجمْع تحريفاً في كتاب الله، فهو احتمال مجرَّد لا سنَد له، بعد معرفتنا بضبط الجامِعين وقُرب عهدهم بنزول الآيات، وشدَّة احتياطهم على الوحي، بما لا يدَع مجالاً لتسرّب احتمال زيادة أو نقصان.

وأخيراً، فإنّ قولة البعض الأخيرة فهي لا تعدو خيالاً فارغاً، إذ لا مناسبة ذاتية بين كلِّ سورة وسابقتها أو تالِيَتها، سوى ما زعَمه بعض المفسِّرين المتكلِّفين، وهو تمحّل باطل بعد إجماع الأمّة على أنَّ ترتيب السوَر كان على خلاف ترتيب النزول بلا شكّ.

إذاً لا يملك معارضونا دليلاً يُثنينا عن الذي عزَمْنا عليه من تفصيل حديث الجمْع، وإليك:

جمعُ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه (٢) هو

____________________

(١) في سورة يونس: ٣٨، وسورة هود: ١٣، وهما مكّيَّتان.

(٢) راجع تفسير القمّي: ص٧٤٥. وبحار الأنوار: ج٩٢، ص٤٨ و٥٢.

١٣٨

عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قعَد في بيته مشتغلاً بجمْع القرآن وترتيبه على ما نزل، مع شروح وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النزول ومواقع النزول بتفصيل حتّى أكمله على هذا النمط البديع.

قال ابن النديم - بسنَدٍ يذكره -: إنَّ عليّاً (عليه السلام) رأى من الناس طَيرة عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأقسَم أن لا يضع رداءه حتّى يجمَع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام (١) حتّى جمَع القرآن، فهو أوّل مُصحف جمع فيه القرآن من قلْبِه (٢) ، وكان هذا المصحف عند آل جعفر.

قال: ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني (رحمه الله) مصحفاً قد سقط منه أوراق، بخطّ عليّ بن أبي طالب، يتوارثه بنو حسَن (٣) .

وهكذا روى أحمد بن فارس عن السدّي، عن عبد خير، عن عليّ (عليه السلام) (٤) .

وروى محمَّد بن سيرين عن عكرمة، قال: لمّا كان بدْء خلافة أبي بكر، قعَد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن، قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أُنزل الأوَّل فالأوَّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

قال ابن سيرين: تطلَّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه (٥) .

قال ابن جزي الكلبي: كان القرآن على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مفرَّقاً في

____________________

(١) ولعلّه سهو من الراوي؛ لأنّ الصحيح أنّه (عليه السلام) أكمل جمع القرآن لمدّة ستة أشهر، كان لا يرتدي خلالها إلاّ للصلاة (راجع المناقب: ج٢، ص٤٠).

(٢) قال ابن عبّاس: فجمع الله القرآن في قلْب عليّ، وجمعه عليّ بعد موت رسول الله (صلّى الله عليهما وآلهما) بستّة أشهر (نفس المصدر السابق).

(٣) الفهرست: ص٤٧ - ٤٨.

(٤) في كتابة (الصاحبي): ص١٦٩. هامش تأويل مشكل القرآن: ص٢٧٥ الطبعة الثانية.

(٥) الإتقان: ج١، ص٥٧. وراجع الطبقات: ج٢، ق٢، ص١٠١. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج٢، ص٢٥٣.

١٣٩

الصحُف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي جَمَعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله، ولو وجِد مصحفه لكان فيه عِلم كبير، ولكنَّه لم يوجد (١) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (ما من أحد من الناس يقول إنَّه جَمع القرآن كلَّه كما أنزلَ الله إلاّ كذّاب، وما جمَعه وما حَفظه كما أنزل الله إلاّ عليّ بن أبي طالب) (٢) .

قال الشيخ المفيد - في المسائل السروية -: وقد جمَع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن المُنزَل من أوَّله إلى آخِره، وألَّفه بحسَب ما وجب تأليفه، فقدَّم المكّي على المدَني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلَّ شيء منه في حقّه (٣) .

وقال العلاّمة البلاغي: من المعلوم عند الشيعة أنَّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - لم يرتدِ برداء إلاّ للصلاة حتّى جمَع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسِخه.

وأخرج ابن سعد، وابن عبد البرّ في الاستيعاب عن محمَّد بن سيرين، قال: نُبِّئت أنَّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر، فقال: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: (آليت بيميني أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن)، قال: فزعموا أنَّه كتبه على تنزيله. قال محمّد: فلو أصبتُ ذلك الكتاب كان فيه عِلم (٤) .

قال ابن حجر: وقد ورد أنَّ عليّاً جمَع القرآن على ترتيب النزول عقِب موت النبي (صلّى الله عليه وآله). أخرجه ابن أبي داود (٥) .

قال ابن شهرآشوب: ومن عجَب أمرِه في هذا الباب، أنَّه لا شيء من العلوم إلاّ وأهلُه يجعلون عليّاً قُدوة، فصار قوله قِبلةً في الشريعة، فمنه سُمع القرآن.

ذكَر الشيرازي في نزول القرآن عن ابن عبّاس قال: ضمِنَ الله محمَّداً أن يجمَع القرآن

____________________

(١) التسهيل لعلوم التنزيل: ج١، ص٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٩٢، ص٨٨.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) آلاء الرحمان: ج١، ص١٨ بالهامش. وراجع الطبقات: ج٢، ق٢، ص١٠١. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج٢، ص٢٥٣.

(٥) الإتقان: ج١، ص٧١ - ٧٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ 18 والـ 23، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ 17، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (1).

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459