تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد13%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78981 / تحميل: 11036
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

إلى مِثل عليّ (عليه السلام) في سلسلة إسناد ذهبيّ رفيع، وقد أتقَنه عاصم إتقاناً، فأودعه ربيبه وثِقته حفْصاً، الأمر الَّذي لا ينبغي الارتياب فيه لمجرَّد روايةٍ رَواها رجُل غير موثوق به إطلاقاً.

إذ كيف يخفى مثل هذا الأمر - في قراءة آية قرآنيّة - على سائر الصحابة الكِبار الأُمَناء، ويُبديه النبي (صلّى الله عليه وآله) لابن عمَر اختصاصاً به؟!.

وهل يُعقل أن يترك حفْص قراءةً ضمْن شيخه الثقة أنّها قراءة علي (عليه السلام) في جميع حروفها كاملة، أخذها عن شيخه السلمي في إخلاص وأمانة لمجرّد رواية لم تثبت صحَّتها؟!.

وإذ كنّا نعرف مبلغ تدقيق الكوفيّين - ولاسيَّما في عصر التابعين - ومدى ولائهم لآل البيت (عليهم السلام)، واتّهامهم لأمثال ابن عُمَر المتفكِّك الشخصية، نقطع بكذِب الإسناد المذكور، وأنّ حفصاً لم يخالف شيخه عاصماً في شيء من حروفه إطلاقاً، كما لم يخالف عاصم شيخه السلمي في شيء من قراءته؛ لأنّ السلمي لم يخالف عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام). هذا هو الصحيح عندنا.

فالصحيح: أنّ حفصاً لم يقرأ بالضمّ ولم يخالِف شيخه عاصماً إطلاقاً.

صلةُ الشيعة بالقرآن الوثيقة:

لم يبعثْنا على عقد هذا الفصل سوى أنّا وجدنا في كلمات بعض مَن تعوزُهم الحرّية في التفكير، ويفضَّلون تقليد أسلافهم في الحقْد على أُمَّة كبيرة من المسلمين لا ذنب لهم، سوى تمسّكهم بولاء آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ عمَلاً بوصيَّته (١)، وإجابةً لدعوة القرآن الكريم (٢) .

فقد وجَّهوا إلى الشيعة تُهَماً كثيرة إفكاً وزوراً هم منها بُراء، منها: نسْبة مصحف

____________________

(١) كما في حديث الثقلَين، وحديث السفينة وغيرهما.

(٢) كما في قوله تعالى: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) الشورى: ٢٣.

٣٢١

خاصٍّ إليهم أطلقوا عليه اسم (المصحف الشيعي) (١)، في حين أنَّ الشيعة أنفسهم لم يسمعوا بهكذا مصحف في جميع أدوار تاريخهم المجيد.

وقد واجه هذه النسبة بالإنكار الشديد جماعة من الباحثين المتأخّرين (٢) ، ومن أهمّهم: جولد تسيهر الّذي عالج علاقة الشيعة الخاصّة بالنصّ القرآني الرسمي الموجود بأيدينا (٣) .

واستيضاحاً لهذا الجانب - مدى صِلة الشيعة بالنصّ الموجود - نعرض ما يلي:

نحن إذا عرضنا تاريخ القرآن المجيد والأدوار التي مرّت عليه جيلاً بعد جيل، وجدنا أنّ هذا النصّ الموجود بهذا الوضع الراهن هو صنيع جهود الشيعة بالذات، وهم الذين سهروا على حِفْظه وضبْطه وإتقانه، وعملوا في تحسينه وتشكيله وتطويره من جميل إلى أجمل في عمل مستمرّ، فالحقيقة - إن كان هناك مصحف شيعي - تقضي بأن يُطلَق هذا الاسم على المصحف الموجود، نسبة إلى أئمَّة الشيعة وقرّائهم وحفّاظهم وفنّانيهم عِبر التاريخ، وإليك بإيجاز:

كان عليٌّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أوّل مَن أبدى فكرة جمْع القرآن بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مباشرة، وإن كان جمْعه هو رُفض، لكن فكرة الجمع أثّرت أثرها في نفس الوقت، ولم يكن الاختلاف بين الجمْعَين في ذات القرآن.

وكانت المصاحف الرئيسية الّتي جُمع فيها القرآن كلّه على ذلك العهد - قبل توحيدها - هي: ما جمعه عبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، والمقداد

____________________

(١) راجع القرآن وعلومه في مِصر للدكتور عبد الله خورشيد: ص٨١، فإنّه عالج ما بين الشيعة وهذه النسبة من صِلة، وفنّدها على أساسٍ تاريخي.

(٢) راجع تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي: ج٢، ص١٥ - ١٦، ومقدّمة حياة محمد لموير: ص ٣٥ - ٣٦، وتاريخ المساجد الأثرية لحسن عبد الوهاب: ص٩٢، وهامش فضائل القرآن لابن كثير بقلم رشيد رضا: ص٤٨، رقم ٢ و٣.

(٣) راجع مذاهب التفسير لجولد تسيهر: ص٢٩٣.

٣٢٢

ابن الأسود، ممّن عُرفوا بالوَلاء الخاصّ للبيت النبويّ الرفيع، ولم يكن سائر المصاحف بذلك الاعتبار، وكانت صحف أبي بكر غير منتظمة بين دفَّتين.

وأوّل مَن جاء بفكرة توحيد المصاحف على عهد عثمان هو: حذيفة بن اليمان في قصّة سلَفَت، وكان أُبَي بن كعب هو الذي تصدّى إملاء القرآن على لجْنة استنساخ المصاحف الموحَّدة، وكانوا يراجعونه فيما أشكل عليهم من ثبْت الكلمات.

وكان تشكيل المصحف وتنقيطه على يد أبي الأسود الدؤلي وتلميذيه: نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وأوّل مَن تنوّق في كتابة المصحف وتجويد خطِّه هو: خالد بن أبي الهياج صاحب علي (عليه السلام)، ثمَّ كان ضبط الحرَكات على الشكل الحاضر على يد الأستاذ الكبير خليل بن أحمد الفراهيدي، وكان هو أوّل مَن وضَع الهمْز والتشديد والرَوم والإشمام.

* * *

أمّا القراءات: فإنّ الشيعة هم الّذين درسوا أصولها وأحكموا قواعدها، وأبدعوا في فنونها وأطوارها في أمانة وإخلاص.

كان أربعة - إن لم نقل ستَّة - من القرّاء السبعة شيعة، فضلاً عن غيرهم من أئمةٍ قرّاءٍ كِبار: كابن مسعود، وأُبي بن كعب، وأبي الدرداء، والمقداد، وابن عبّاس، وأبي الأسود، وعلقمة، وابن السائب، والسلمي، وزرِّ بن حبيش، وسعيد بن جبير، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وعاصم بن أبي النجود، وحمران بن أعين، وأبان بن تغلب، والأعمش، وأبي عمرو بن العلاء، وحمزة، والكسائي، وابن عيّاش، وحفص بن سليمان، ونظرائهم من أئمَّة كبار، هم رؤوس في القراءة والإقراء في الأمصار والأعصار.

* * *

٣٢٣

أمّا القراءة الحاضرة - قراءة حفْص - فهي قراءة شيعيَّة خالصة، رواها حفْص وهو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) (١) عن شيخه عاصم، وهو من أعيان شيعة الكوفة الأعلام (٢) عن شيخه السلمي (٣) - وكان من خواصّ علي (عليه السلام) - عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الله عزَّ وجلّ.

* * *

____________________

(١) ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسي في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وقال: أُسند عنه. (راجع الرجال: ص ١٧٦).

(٢) ذكره مؤلّف نقض الفضائح شيخ ابن شهرآشوب وأبي الفتوح الرازي. (راجع التأسيس للصدر: ص٣٤٦، والمجالس للقاضي: ج١، ص٥٤٨).

(٣) ذكره ابن قتيبة في أصحاب علي (عليه السلام)، وممَّن حمَل عنه الفقه. (راجع المعارف: ص٢٣٠)، وعدّه البرقي في رجاله من خواص الإمام (عليه السلام) من مُضَر. (راجع التأسيس: ص٣٤٢).

٣٢٤

القراءاتُ بين الصحّة والشذوذ

- ضابط قبول القراءة.

- تحقيق الأركان الثلاثة.

- مناقشة هذه الأركان.

- اختيارنا في ضابط القبول.

- تواتر القرآن.

- مِلاك اختيار القراءة.

- القراءة المختارة.

- نصوص ضافية.

٣٢٥

القراءات بين الصحّة والشذوذ

ضابط قبول القراءة:

ذكَر أئمَّة الفنّ لقبول القراءة شروطاً ثلاثة:

١ - صحَّة السنَد.

٢ - موافقة الرسم.

٣ - استقامة وجهها في العربية.

وإذا فُقد أحد هذه الشروط تصبح القراءة شاذَّة، لا تصحّ القراءة بها، لا في صلاة ولا في غيرها، وتسقط عن اعتبارها قرآناً رأساً، سواء كانت من السبعة أمْ من غيرهم.

قال مكّي بن أبي طالب: إذا اجتمع في القراءة ثلاثة أشياء: قوَّة وجه العربية، وموافقة المصحف، واجتماع العامَّة عليه - والعامَّة هم: أهل المدينة، وأهل الكوفة - فذلك عندهم حجَّة قوية توجب الاختيار.

وربّما أُريد من العامَّة أهل الحرَمين: مكَّة، والمدينة، وربَّما جعلوا الاعتبار بما اتَّفق عليه نافع وعاصم، فقراءتهما أُولى القراءات وأصحّها سنداً وأفصحها في

٣٢٦

العربيَّة، ويتلوها في الفصاحة خاصَّة قراءة أبي عمرو والكسائي (١) .

وقال أبو شامة: كلّ قراءة ساعدها خطّ المصحف مع صحَّة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب، فهي قراءة صحيحة معتبرة، فإن اختلفت هذه الأركان الثلاثة أُطلق على تلك القراءة أنَّها شاذَّة وضعيفة، أشار إلى ذلك كلام الأئمَّة المتقدّمين، ونصَّ عليه الشيخ المقرئ أبو محمّد مكّي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد - هو كتاب (الإبانة) -.

وقد ذكره شيخنا أبو الحسن في كتابه (جمال القرّاء) (٢) قال: ولا يُلتزم فيه تواتر، بل تكفي الآحاد الصحيحة مع الاستفاضة (٣) ، وتقدَّم قوله: وهنالك - أي دون إثبات تواتر كلِّ فرد فرد من القراءات إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) - تُسكب العبرات، فإنَّها من ثمَّ لم تُنقل إلاّ أحاداً، إلاّ اليسير منها (٤) .

وقال الحافظ الضابط، إمام القرّاء المتأخِّرين، أبو الخير محمَّد بن محمَّد ابن الجزري: كلُّ قراءة وافقَت العربية - ولو بوجه - ووافَقت أحد المصاحف العثمانية - ولو احتمالاً - وصحّ سنَدها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردُّها ولا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزَل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمَّة السبعة، أمْ عن العشرة، أمْ عن غيرهم من الأئمَّة المقبولين، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة، أُطلق عليها ضعيفة أو شاذَّة أو باطلة، سواء أكانت عن السبعة، أمْ عمَّن هو أكبر منهم.

قال: هذا هو الصحيح عند أئمَّة التحقيق من السلَف والخلَف، صرَّح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونصَّ عليه في غير موضع الإمام أبو محمَّد مكّي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العبّاس أحمد بن عمّار المهدوي، وحقَّقه الحافظ أبو القاسم عبد الرحمان بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلَف الذي لا يُعرف عن أحد منهم خلافه (٥) .

____________________

(١) البرهان للزركشي: ج١، ص٣٢١.

(٢) المرشد الوجيز: ص١٧١ - ١٧٢.

(٣) نفس المصدر: ص١٧١.

(٤) نفس المصدر: ص١٧٨.

(٥) النشر في القراءات العشر: ج١، ص٩.

٣٢٧

هذه شروط ثلاثة عبَّروا عنها بالأركان إذا توفَّرت في قراءة، فهي صحيحة ومقبولة، وإذا اختلّ أحدها، فهي شاذَّة مردودة.

ورأيت التصريح بها في كلام أئمَّة الفنّ ممَّن يرجع إليهم في هذا الشأن، ومع ذلك فإنَّ بعض المؤلّفين غير الاختصاصيّين أخذ اعتبار التواتر بدل شرط صحَّة السند.

هكذا جاء في كلام الشيخ أبي قاسم النويري، قال: عدم اشتراط التواتر قول حادث، مخالف لإجماع الفقهاء والمحدِّثين.

وقد ردَّ عليه الإمام شهاب الدين القسطلاني بأنَّ: التواتر إذا ثبت لا يحتاج إلى الركنَين الآخَرين، من الرسم والعربية؛ لأنَّ ما ثبت متواتراً قُطع بكونه قرآناً، سواء وافق الرسم أمْ خالفه (١) .

قلت: ولعلّ مُشترط التواتر قد خلط عليه مسألة (تواتر القرآن) بمسألة (تواتر القراءات)، وقد تقدَّم أنّهما حقيقتان متغايرتان (٢) .

وهكذا جعل الأستاذ محمّد سالم محيسن - وهو مدرِّس بمعهد القراءات بالأزهر - شرط التواتر بدل صحَّة السند (٣)، مخالفاً في ذلك تصريحات الأئمَّة المحقّقين، ويُعذر أمثال هؤلاء بعدم الاضطلاع بأصول الفنِّ، ولم يدركوا أنَّ اشتراط التواتر في كلِّ فرد فرد من أحرف الخلاف يذهب بكثير من القراءات الثابتة عن السبعة وغيرهم. صرَّح بذلك الإمام القسطلاني (٤) .

تحقيق الأركان الثلاثة:

قال ابن الجزري: وقولنا - في الضابط - (ولو بوجه) نريد وجهاً من وجوه النحْو، سواء كان أفصح أمْ فصيحاً، مُجمَعاً عليه أمْ مختلفاً فيه اختلافاً لا يضرّ مثله

____________________

(١) لطائف الإشارة لفنون القراءة للقسطلاني: ج١، ص٦٩.

(٢) البرهان في علوم القرآن للزركشي: ج١، ص٣١٨، وراجع صفحة: ٢٧٤ من هذا الكتاب.

(٣) المهذّب في القراءات العشر: ج١، ص٢٧.

(٤) اللطائف: ج١، ص٧٠.

٣٢٨

إذا كانت القراءة ممّا شاع وذاع، وتلقّاه الأئمَّة بالإسناد الصحيح، إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحقِّقين في ركن موافقة العربية.

فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحْو أو كثير منهم ولم يُعتبر إنكارهم، بل أجمع الأئمّة المقتدى بهم من السلَف على قبولها؟ كإسكان ( بَارِئِكُمْ ) (١) و ( يَأْمُرُكُمْ ) (٢) ، ونحو: ( سَبَإٍ ) (٣) و ( يَا بُنَيَّ ) (٤) و ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) (٥) و ( نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) في الأنبياء (٦) ، والجمع بين الساكنين في تاءات البزّي، وإدغام أبي عمرو (٧) و ( اسْطَاعُوا ) (٨) لحمزة (٩) ، وإسكان ( فَنِعِمَّا ) (١٠) و ( يَهْدِي ) (١١) ، وإشباع الياء في (يرتعي) (١٢) و(يتّقي ويصبر) (١٣) و ( أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ ) (١٤) ، وضمّ ( لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ ) (١٥) ، ونصب ( كُنْ فَيَكُونُ ) (١٦) ، وخفْض ( وَالأَرْحَامَ ) (١٧) ، ونصب

____________________

(١) البقرة: ٥٤.

(٢) جاءت في سبع موارد من القرآن، وقد فصّلها في الجزء الثاني من النشر: ص١٢ - ١٣، وتقدَّم في فصل (قراءات شاذّة من السبعة) ص٢٦٦.

(٣) النمل: ٢٢، سبأ: ١٥.

(٤) جاءت في ستة موارد من القرآن.

(٥) فاطر: ٤٣.

(٦) آية: ٨، قرأ ابن عامر بنون واحدة وتشديد الجيم مبنيّاً للمفعول ونصب المؤمنين. (الكشف: ج ٢، ص١١٣).

(٧) تقدّم في ص ٢٦٦.

(٨) الكهف: ٩٧.

(٩) أيضاً تقدّم في ص ٢٦٧.

(١٠) البقرة: ٢٧١، النساء: ٥٨، قرأ أبو جعفر بإسكان العين، ووافقه اليزيدي والحسن. (إتحاف فضلاء البشر: ص١٦٥)، وبما أنَّ الميم مشدَّدة عند الكلّ فيجتمع ساكنان على غير حده.

(١١) يونس: ٣٥، قرأ أبو جعفر - أيضاً - بإسكان الهاء مع تشديد الدال، وبذلك يجتمع ساكنان على غير حده. (الإتحاف: ص٢٤٩).

(١٢) يوسف: ١٢.

(١٣) يوسف: ٩٠.

(١٤) إبراهيم: ٣٧، تقدّم في ص٢٦٨.

(١٥) قرأ أبو جعفر بضمّ التاء وصلاً (الإتحاف: ص١٣٤).

(١٦) جاءت في ثمانية موارد من القرآن، وقد تقدّم في ص ٢٦٨.

(١٧) النساء: ١، وقد تقدّم في ص ٢٦٨.

٣٢٩

( لِيَجْزِيَ قَوْماً ) (١) ، والفصل بين المضافَين في الأنعام (٢) ، وهمز (سأقيها) (٣) ، ووصل ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ ) (٤) ، وألف ( إِنْ هَذَانِ ) (٥) وتخفيف ( وَلاَ تَتَّبِعَانِّ ) (٦) ، وقراءة (ليكة) (٧) في الشعراء وص، وغير ذلك (٨) .

قلت: انظر إلى هذا التناقض في كلام هذا الرجُل المحقِّق المضطلع بأصول الفنّ، كيف يحابي بحقائق علميَّة هنا، ويعترف بها في موضعٍ آخَر؟ إذ كلّ ما ذكره هنا إنَّما هي قراءات شاذَّة، لا يجوِّز هو ولا غيره من الأئمَّة قراءتها في الصلاة، ومع ذلك فقد استشهد بها تدليلاً على تقديم ما صحَّ سنده عن القارئ، على قواعد اللغة المقرَّرة، وسنتعرَّض لذلك.

* * *

قال ابن الجزري: ونعني بموافقة أحد المصاحف: ما كان ثابتاً في بعضها دون بعض، كقراءة ابن عامر: (َقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً) (٩) بغير واو، و (بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (١٠) بزيادة الباء في الاسمين، ونحو ذلك، فإنَّ ذلك ثابت في المصحف الشامي (١١) .

____________________

(١) الجاثية: ١٤، وقد قرأ أبو جعفر مبنياً للمفعول ونصب (قوماً). (الإتحاف: ص٣٩٠).

(٢) الأنعام: ١٣٧، وقد تقدّم ذلك في ص ٢٦٨.

(٣) النمل: ٤٤، تقدّم ص ٢٦٨.

(٤) الصافّات: ١٢٣، وقد قرأ ا بن عامر بوصل همزة (إلياس) في حين أنَّ الكلمة أعجمية وهمزتها قطع. (الإتحاف: ص٣٧٠).

(٥) طه: ٦٣. (راجع تفسير الفخر: ج٢٢، ص٧٤).

(٦) يونس: ٨٩، قرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي. (القرطبي: ج٨، ٣٧٦)، وهذه محاولة لتوجيه القراءة، وإلاّ فظاهر السياق كون (لا) ناهية، وعليه فإن كانت النون نون رفع فيجب إسقاطها للجزم، وأمّا نون التأكيد الخفيفة فلا تَلحق الفعل المثنّى وجماعة النساء.

(٧) الشعراء: ١٧٦، ص: ١٣، تقدّم ذلك في ص ٢٦٨.

(٨) راجع النشر في القراءات العشر: ج١، ص١٠.

(٩) البقرة: ١١٦.

(١٠) آل عمران: ١٨٤.

(١١) وابن عامر شامي أيضاً، راجع ص ٢٢٢ من هذا الجزء.

٣٣٠

وكقراءة ابن كثير: ( جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ) (١) بزيادة (من)، فإنَّ ذلك ثابت في المصحف المكّي (٢).

وكذلك ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (٣) بحذف (هو) (٤) .

وكذا ( سَارِعُواْ ) (٥) بحذف الواو (٦) .

وكذا ( مِّنْهَا مُنقَلَباً ) (٧) بتثنية الضمير (٨) .

إلى غير ذلك من مواضع كثيرة في القرآن، اختلفت المصاحف فيها، فوردت القراءة عن أئمَّة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم، فلو لم يكن ذلك كذلك في شيء من المصاحف العثمانية؛ لكانت القراءة بذلك شاذَّة، لمخالفتها الرسم المجمع عليه.

قال: وقولنا بعد ذلك (ولو احتمالاً) نعني به ما يوافق الرسم ولو تقديراً، إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقاً وهو الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديراً وهو الموافقة احتمالاً، فإنَّه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعاً، نحو: (السموات)، و(الصلحت) (٩) ، و(الَّيل) (١٠) ، و(الصلوة)، و(الزكوة) (١١)، و(الربوا) (١٢) ، ونحو (لنظر كيف تعملون) (١٣) ، و(جايء) (١٤) في الموضعين (١٥) .

وقد توافِق بعض القراءات الرسم تحقيقاً، ويوافقه بعضها تقديراً، نحو: (مَلك يوم الدين) فإنَّه كُتب بغير ألف في جميع المصاحف، فقراءة الحذف تحتمله تحقيقاً، كما كُتب (مَلك الناس) وقراءة الألف محتملة تقديراً، كما كُتب (مالك

____________________

(١) التوبة: ١٠٠.                                        (٢) وابن كثير مكّي أيضاً، راجع ص٢٢٣.

(٣) الحديد: ٢٤.                                        (٤) في مصحف المدينة والشام، راجع ص ٢٢٤.

(٥) آل عمران: ١٣٣.                                   (٦) في مصحف المدينة والشام، راجع ص٢٢٢.

(٧) الكهف: ٣٦.                                       (٨) في مصحف المدينة والشام، راجع ص ٢٢٣.

(٩) فقد رُسمت بلا ألف، وقُرئت بألف.                 (١٠) فقد رُسمت بلام واحدة، وتقرأ بلامَين.

(١١) رُسمت بواو، وتقرأ بألف.                          (١٢) رُسمت بواو وألف، ولا تقرأ الواو.

(١٣) رُسمت بنون واحدة، وتقرأ بنونين ( لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) يونس: ١٤.

(١٤) رُسمت بألف بعد الجيم، والصحيح: ( وَجِيءَ ) ماضٍ مبني للمفعول.

(١٥) الزمر: ٦٩، الفجر: ٢٣.

٣٣١

الملك) فتكون الألف حُذفت اختصاراً.

وكذلك (النشأة) (١) حيث كُتبت بالألف وافَقت قراءة المدّ تحقيقاً، ووافقَت قراءة القصْر تقديراً، إذ يحتمل أن تكون الألف صورة الهمز على غير القياس، كما كتب ( مَوْئِلاً ) (٢) .

وقد توافِق اختلافات القراءات الرسم تحقيقاً، نحو: ( أَنصَارَ اللَّهِ ) (٣) ، و ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ) (٤) ، و ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٥) ، و ( يَعْمَلُونَ ) (٦)، و ( هَيْتَ لَكَ ) (٧) ، ونحو ذلك (٨).

* * *

قال: وقولنا: (وصحَّ سنَدها)، فإنّا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، وهكذا حتّى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمَّة هذا الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط، أو ممّا شذَّ بها بعضهم.

قال: وقد شرط بعض المتأخّرين (التواتر)، وأنّ ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا ممّا لا يخفى ما فيه، فإنّ التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين

____________________

(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمدّ والهمز بعد الألف: (النشآءة) - كالكآبة -، وقرأ الباقون بغير مدّ ولا ألف (النشأ) - كالرأفة -. (الكشف: ج٢، ص١٧٨).

(٢) الكهف: ٥٨، أي كما كُتبت الهمزة في صورة ياء.

(٣) آل عمران: ٥٢، الصف: ١٤. (راجع النشر: ج٢، ص٢٤٠).

(٤) آل عمران: ٣٩، قرأ حمزة والكسائي وخلف (فناديه الملائكة) بألف ممالة بعد الدال، وتكتب بصورة ياء، وقرأ الباقون (فنادته الملائكة) بتاء التأنيث، والخط يحتمل كلتا القراءتين. (النشر: ج٢، ص٢٣٩).

(٥) آل عمران: ٣١، يقرأ بالنون وبالياء.

(٦) البقرة: ٩٦، يقرأ بالياء وبالتاء.

(٧) يوسف: ٢٣، قرأ نافع وابن عامر (هيت) بكسر الهاء وفتح التاء وياء ساكنة في الوسط، وقرأ هشام بهمزة ساكنة في الوسط، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء من غير همز، وابن كثير بضمِّ التاء، كلّ ذلك يحتمله الخطّ العاري عن النقَط والتشكيل. (الكشف: ج٢، ص٨).

(٨) النشر في القراءات العشر: ج١، ص١١ - ١٢.

٣٣٢

الأخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرُف الخلاف متواتراً عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وجب قبوله، وقُطِع بكونه قرآناً، سواء وافَق الرسم أمْ خالفه.

وإذا اشترطنا التواتر في كلِّ حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرُف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمَّة السَبعة وغيرهم، ولقد كنت - قبل - أجنح إلى هذا القول، ثمَّ ظهر فساده، وموافقة أئمَّة السلَف والخلَف (١) .

* * *

هذا جُلّ ما ذكره القوم بشأن تحقيق الأركان الثلاثة لقبول القراءة ووصفها بالصّحة، وقد نقلنا كلام ابن الجزري بِطوله، فإنَّ تحقيقه كان هو الفصل الحاسم، المعروف بين أئمَّة الفنّ خلَفاً عن سلَف، ولم يزد على تحقيقه أحد فيما أعلم، وقد تلقَّته العلماء بالقبول عِبر العصور.

وإنَّ مناقشتنا التالية لهذه الأركان سوف تدور على بنود ذكَرها هذا الإمام المحقِّق، كمقياسٍ أساسيٍّ لملاحظتها وتحقيقها في ضوء الواقعية الراهنة، الَّتي ترفض المحاباة في مجال البحث والتمحيص.

مناقشة هذه الأركان:

تلك شروط ثلاثة: (السنَد، والرسم، والعربية) ذكرها السلَف وتبِعهم عليها الخلَف تقليدياً، من غير ما تحقيق عن واقع الأمر، وهل تصلح هذه الأركان حلاًّ لمشكلة (اختلاف القراءات)؟.

إنَّها مشكلة لا تنحلّ بهكذا مسائل شكلية لا واقع لها، إذا ما جاس الباحث خلال الديار، وقد لمَس الأئمَّة القدامى قصور هذه الأركان عن التعريف بصحيح القراءة، ومن ثمَّ أخذوا في تحريفها وتحويرها يمنةً ويسرة، ولكن من غير

____________________

(١) النشر: ج١، ص١٣.

٣٣٣

جدوى، فاستبدلوا من شرط (التواتر) - الذي كان رائجاً على ألسِنة غوغاء الناس - كفاية صحَّة الإسناد، ولكن إذا لم يوجد لبعض القرّاء إسناد فماذا؟.

وكذلك شرط (موافقة الرسم)، رسم أيِّ مصحف؟ أهو مصحف عثمان (الأُمّ)؟ فلم يكن بمعرض العامَّة، أمْ هي المصاحف الأُولى المبعوثة إلى الآفاق؟ فلم يُعَدّ لها وجود منذ عام ٧٤ هـ، حيث جمعَها الحجّاج بأمر عبد الملك بن مروان في مرسوم سلطانيّ عام، وقد حاول بعض الأئمَّة (الإمام مالك) العثور على نُسخة منها فلم يستطع.

ثمَّ إنَّ قيد (ولو احتمالاً) يذهب بأثر هذا الاشتراط رأساً.

وأمّا شرط (العربية) فقُيّد (ولو بوجه) أبطَل أثره نهائيّاً، إذ ما من قراءة شاذَّة إلاّ ولها وجه في العربية ولو بعيداً.

هذا إجمال مناقشتنا في هذه البنود التي اعتبروها شروطاً أساسية لمعرفة صحيح القراءة عن ضعيفها، وإليك التفصيل:

* * *

أمّا موافقة (الرسم) - وهو عمدة الشروط - فالمصحف الأُمّ مصحف عثمان المختصّ به، أو مصحف المدينة المودَع في مسجدها، فإنَّه لم يكن بمعرض العموم، فضلاً عن أنَّ المعتمَد في تصريح الجماعة هو مطلق المصاحف العثمانية الأُولى، لا خصوص المصحف الأُمّ.

قال الإمام شهاب الدين القسطلاني: وأمّا قول القائل: (ووافَق لفظه خطَّ المصحف، المصحف الإمام) ففيه نظر، من جهة تقييده بالإمام، وهو مصحف عثمان الذي أمسكه لنفسه؛ لأنَّ المعتمَد موافقة أحد المصاحف العثمانية، كما في النشر وغيره (١) .

____________________

(١) لطائف الإشارات لفنون القراءات: ج١، ص٦٨.

٣٣٤

ودليلاً على ذلك: أنَّهم اكتفوا بموافقة سائر المصاحف كمصحف الشام ومكَّة وغيرهما، فقد أجازوا قراءة ابن كثير - قارئ مكَّة -: (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من)؛ لأنّ مصحف مكَّة كان مشتملاً عليها (١) وإن كان مصحف المدينة خالياً عن ذلك ( تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ) (٢) .

وقرأ ابن عامر - قارئ الشام -: (ولدار الآخرة) بلام واحدة؛ لأنَّ مصحف الشام كان هكذا (٣) ، وقرأ الباقون بلامين ( وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ ) (٤) .

فلم يكن مقياس (موافقة المصحف) هو المصحف الإمام، بل جميع المصاحف العثمانية - الخمسة أو السبعة - المبعوثة إلى الآفاق.

ولكن كيف الحصول على موافقتها؟ ولم يَعُد لها وجود، قبل أن ينتهي القرن الأوَّل، إذ لم يمضِ على حياتها أقلّ من نصف قرن إلاّ وقد أكل عليها الزمان وشرب، ولم يبقَ لها أثر على صفة الوجود.

وذلك منذ أن تحوَّل الخطّ (خطّ المصحف بالخصوص) من حالته البدائية الأُولى إلى مراحل جديدة - أيّام ولاية الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على العراق، ابتداءً من سنة ٧٤هـ فما بعد - فقد أخذت المصاحف في تطوّر وتحسّن في خطِّها ونُقَطها وتشكيلها وسائر المحسّنات.

وقد بعث الحجّاج بمصاحف من الطراز الحديث إلى الآفاق، وأمر بجمْع سائر المصاحف، ومنها المصاحف العثمانية الأُولى، وحتّى أنَّ المصحف الإمام - وكان محتفظاً به في وعاء في المسجد النبوي (صلّى الله عليه وآله) - أخفاه آل عثمان ضنّاً به.

حكى أبو أحمد العسكري في كتاب (التصحيف) : أنَّ الناس غبروا يقرأون في مصحف عثمان بن عفّان نيّفاً وأربعين سنة، إلى أيّام عبد الملك بن مروان، ثمَّ كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجّاج بن يوسف إلى كُتّابه وسألهم أن

____________________

(١) الكشف: ج١، ص٥٠٥.

(٢) التوبة: ١٠٠، راجع ص٢٢٣ من الكتاب.

(٣) راجع ص ٢٢٢.

(٤) الأنعام: ٣٢، راجع الكشف: ج١، ص٤٢٩.

٣٣٥

يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات... (١) .

ويحدّثنا محرز بن ثابت - مولى سلمة بن عبد الملك - عن أبيه، قال: كنت في حرس الحجّاج بن يوسف، فكتب الحجّاج المصاحف (منقَّطة، ومشكَّلة، ومخمَّسة، ومعشَّرة) على يد نصر بن عاصم الليثي وصاحبه يحيى بن يعمر، تلميذَي أبي الأسود الدؤلي (٢) ، ثمَّ بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكرِه ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرِجوا مصحف عثمان ليُقرأ، فقالوا - ضنّاً به -: أُصيب المصحف يوم مقتل عثمان.

قال محرز: وبَلَغني أنَّ مصحف عثمان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان.

قال: فلمّا استخلف المهديّ العبّاسي بعث بمصحف إلى المدينة، فهو الذي يُقرأ فيه اليوم، وعزَل مصحف الحجّاج، فهو في الصندوق الذي دون المنبر.

قال ابن زبالة: حدَّثني مالك بن أنس - إمام المالكية - (٩٣هـ - ١٧٩هـ) قال: أرسلَ الحجّاج إلى أمّهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وهو أوَّل مَن أرسل بالمصاحف إلى القرى، وكان هذا المصحف في صندوق عن يمين الاسطوانة التي عُملَت علَماً لمقام النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان يُفتح في يوم الجمعة والخميس، ويُقرأ فيه إذا صلّيت الصبح، فبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجُعلت في صندوق، ونحّى عنها مصحف الحجّاج، فوضِعت عن يسار السارية، ووضِعت لها منابر كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجّاج في صندوقه، فجُعل عند الاسطوانة التي عن يمين المنبر (٣) .

قال ابن وهب: سألت مالكاً عن مصحف عثمان، فقال: ذَهَب (٤) .

____________________

(١) التصحيف: ص ١٣. (راجع ابن خلّكان - في ترجمة الحجّاج -: ج٢، ص٣٢).

(٢) معرفة القرّاء الكبار الذهبي: ج١، ص٥٨.

(٣) وفاء الوفاء للسمهودي: ج٢، ص٦٦٧ - ٦٦٨.

(٤) البرهان في علوم القرآن: ج١، ص٢٢٢.

٣٣٦

ويروي الشاطبي عن مالِك أنَّه قال: (إنَّ مصحف عثمان تغيَّب فلم نجد له خبراً بين الأشياخ) (١) . وفي كلامه هذا أنَّه حاول العثور عليه فلم يستطع، الأمر الَّذي يدلّ على انقطاع أثره من صفحة الوجود بالكلّية، وإلاّ فلو كان له وجود لمَا كان يختفي عن مِثل مالِك.

تلك حالة المصاحف العثمانية الأُولى لم يعُد لها أثر في الوجود، أمّا سائر المصاحف فلا تصلُح مقياساً لموافقتها أو مخالفتها؛ لأنَّ قيمة تلكمُ المصاحف الأُولى كانت باعتبار انتمائها إلى الصحابة الأوَّلين، أمّا غيرها فلم يثبت لها هذا الاعتبار.

ولعلَّك تقول: يحتمَل أنَّ تلكمُ المصاحف المتأخِّرة كُتبت على نفس كتابة المصاحف الأُولى حرفيّاً، قلت: هذا احتمال، ولا يمكننا أن نعتمد احتمالاً نحتمله ما لم نستوثق من تحقّقه واقعاً قطعيّاً، هذا فضلاً عن التصريح بأنّها كُتبت على أسلوبٍ حديث كان يختلف عن أسلوب المصاحف الأُولى بكثير، وإلاّ لم تعُد حاجة إلى جمْعها، فكانت تُنقَّط وتُشكَّل فحسب، أمّا إبعادها عن صفحة الوجود فلا سبب له سوى التغيير الجذري الحاصل فيما بعد.

نعم، أصل إملاء الخطّ في صورته البدائية بقيَ محفوظاً نسبياً، لم يمسّوه بيد إصلاح، حسب ما قدَّمنا (٢) وسجَّل جزئيّاته أرباب المصاحف: كابن الأنباري، وابن أبي داود وغيرهما، وكانوا هم حلقة الاتّصال بيننا وبين المصاحف الأُولى بعض الشيء، الأمر الَّذي لا نستطيع الاستيثاق بكلّيته تماماً.

وأخيراً، فإنَّ إضافة قيد (ولو احتمالاً) ذهبت بفائدة هذا الاشتراط، حيث أكثر القراءات الشاذّة بل والمرفوضة بالإجماع أيضاً، يمكن توفيقها مع ظاهر الرسم، حيث لا نُقَط ولا تشكيل ولا ألِفات، ولا غير ذلك من علائم فارقة حسبما تقدَّم.

____________________

(١) وفاء الوفاء: ج٢، ص٦٦٩.

(٢) راجع ص٢١٣.

٣٣٧

مثلاً قراءة ابن مقسم: (خلصوا نجباً) بالباء (١) يحتملها الخطّ، وكذا قراءة ابن محيصن ( فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء ) بفتح تاء المضارعة (٢) ، وقراءة أبي حنيفة ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ - بالرفع - مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء - بالنّصب) (٣) ، وقراءة الحسن (لا ريباً فيه) بالنصب والتنوين (٤) ، وقراءته (ظلمات) بسكون اللام حيثما وقع في القرآن (٥) وقراءته ( يَخْطَفُ ) بكسر الياء والخاء والطاء مع تشديدها (٦) ، وقراءته ( وَعَلَّمَ آدَمَ ) بالبناء للمجهول (٧)، وقراءة المطوعي (يسمعون كلم الله) بلا ألف وكسر اللام (٨)، وقراءة ابن السميقع (ننحّيك) بالحاء (٩) .

وقراءة الحسن: (أو تنسها) بتاء الخطاب (١٠) ، وقراءة ابن محيصن ( فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ ) بضمّ هاء الضمير (١١) ، وقراءة قتادة (فأقيلوا أنفسكن) بالياء (١٢) ، وقراءة ابن زيد ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) بضمِّ التاء (١٣) ، وقراءة الحسن (فرغ عن قلوبهم) بالراء المهملة والغين المعجمة (١٤)، كلّ ذلك يحتمله الخطّ العاري عن النُقَط والتشكيل.

____________________

(١) إعجاز القرآن للرافعي. قانون التفسير ص ١٧٠، والآية هكذا: ( خَلَصُواْ نَجِيّاً ) يوسف: ٨٠.

(٢) إتحاف فضلاء البشر: ص ٢٣١. تأويل مشكل القرآن: ص٦١، والآية ١٥٠ من سورة الأعراف.

(٣) تفسير القرطبي: ج١٤، ص٣٤٤، والآية ٢٨ من سورة فاطر.

(٤) القراءات الشاذّة لعبد الفتاح: ص٢٣، وجاءت في عشرة موارد من القرآن هكذا ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) .

(٥) المصدر السابق: ص٢٤، والكلمة جاءت في ثلاثة وعشرين مورداً من القرآن.

(٦) المصدر السابق: ص ٢٥، والآية ٢٠ من سورة البقرة.

(٧) المصدر السابق: ص ٢٦، والآية ٣١ من سورة البقرة.

(٨) المصدر السابق: وفي الآية هكذا: ( يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ) البقرة: ٧٥.

(٩) تفسير القرطبي: ج٨، ص٣٧٩، وجاءت في القرآن ( نُنَجِّيكَ ) يونس: ٩٢.

(١٠) القراءات الشاذّة: ص ٢٩، وجاءت في القرآن ( نُنسِهَا ) البقرة: ١٠٦.

(١١) المصدر السابق: ص ٣١، وجاء في أربع موارد من القرآن.

(١٢) تفسير القرطبي: ج٤، ص٢٥٢، وجاء في القرآن ( فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ) البقرة: ٥٤.

(١٣) المصدر السابق: والآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

(١٤) إتحاف فضلاء البشر: ص٣٦٠، والقراءة المأثورة: ( فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ) سبأ: ٢٣.

٣٣٨

وغير ذلك ممّا يطول، راجع كتُب القراءات الشاذَّة تجد غالبيَّة تلكُم القراءات يمكن توفيقها مع ظاهر الرسم الأوَّل، فأين (موافقة الرسم) من صلاحية كونها دليلاً على تعيين القراءة الصحيحة عن الشاذَّة؟!.

* * *

أمّا شرط (السنَد) لتكون القراءات بأسْرها متّصلة الإسناد إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، فهذا شيء لا نستطيع تعقّله، فضلاً عن إمكان إثباته.

أوّلاً: القرّاء مختلفون في القراءات، وكلّ قارئ له أسلوب خاصّ ومنهج يختصّ به دون مَن سواه، وله في كلِّ آية فنون من أنواع القراءة، بل في كلِّ كلمة يقرأها على أساليب يبتدعها كفنٍّ.

أفهل يصحّ أن ننسب كلَّ هذه القراءات المتنوّعة من كلِّ قارئ قارئ في جميع آي القرآن إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)؟!.

أفهل نستطيع أن ننسب مثل: تاءات البزّي (١) ، وإدغام أبي عمرو (٢) ، وإسكان حمزة (٣) ، ونبر الكسائي (٤) ، ومَدَّة ورش (٥) وغير ذلك من مبتدعات القرّاء المستنكَرة،

____________________

(١) هو صاحب قراءة ابن كثير من السبعة، توفّي ٢٥٠ هـ، كان يشدِّد التاء التي تكون في أوائل الأفعال المستقبلة حالة الوصل، نحو: ( وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ) البقرة: ٢٦٧، وهي لغة غريبة عن متعارف العرب إطلاقاً. (انظر التيسير: ص ٨٣، والنشر: ج٢، ص٢٣٢، والكشف: ج١، ص ٣١٤).

(٢) هو أحد السبعة، توفّي ١٥٤ هـ، كان يُدغم المِثلين إذا كان من كلمتين، سواء سكن ما قبله أو تحرّك، نحو: ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) البقرة: ١٨٥، وهو من الجمع بين ساكنين على غير حده. (انظر التيسير: ص٢٠).

(٣) في قوله تعالى: ( فَمَا اسْتَطَاعُوا ) الكهف: ٩٧، قرأها (فَمَا اسْطَاعُوا) بإدغام التاء في الطاء مع سكون السين. (انظر التيسير: ص ١٤٦، والنشر: ج٢، ص٣١٦).

(٤) كان ينبر بالحرف، أي يهمزه، وقريش لم تكن تهمز في كلامها، فلا تقول في (النبي): (النبئّ). (انظر النهاية: ج٥، ص٧) وقد تقدَّم ذلك.

(٥) هو صاحب قراءة نافع من السبعة، توفّي ١٩٧ هـ، كان هو وحمزة أطول القرّاء مَدّاً (راجع التيسير: ص٣٠، والإتحاف: ص٣٧).

٣٣٩

إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟.

قال ابن قتيبة: ولا يُجعل لحْن اللاحنين من القرّاء المتأخِّرين حجَّة على الكتاب، وقد كان الناس قديماً - على بداوتهم - يقرأون بلُغاتهم وفْق لهْجاتهم الفطريَّة.

ثمَّ خلَف قوم بعد قوم من أهل الأمصار المتحضّرين وأبناء العجَم (١) ، ليس لهم طبع اللغة (لم تكن اللغة من فِطْرتهم)، ولا علم التكلّف (لم يتقنوا علم العربية)، فهفَوا في كثير من الحروف (القراءات) وزلّوا وقرأوا بالشاذّ وأخلّوا.

منهم رجُل (حمزة) ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، لم أرَ أكثر تخليطاً وأشدّ اضطراباً منه (٢) ، نبذ في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المَدّ والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وقد شغف بقراءته العوام (٣) ، رأَوه عند قراءته مائل الشدْقَين، دارّ الوريدَين، راشح الجبينين، فتوهَّموا أنَّ ذلك لفضيلة وحذَق بها.

____________________

(١) يريد غالبيَّة القرّاء المعروفين، وهم من أبناء العجم، قال الداني: وليس في القرّاء السبعة من العرب غير ابن عامر وأبي عمرو، والباقون هُم مَوال. (التيسير: ص٦).

(٢) كان يستعمل في الحرف ما يدَعه في نظيره، ثمّ يؤصّل أصلاً ويخالف إلى غيره لغير ما علّة قرأ ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) فاطر: ٤٣، أسكنَ الهمز والياء في (السيئ) الأوّل، وأعرب الثاني. (تأويل المشكل: ص ٦٣)، وأصل إسكان جميع الياءات التي اختلف فيها القرّاء إلاّ ياء (محياي)، فإنّه فتحها وكسرَ ياء (بمصرخي) وليست بياء إضافة. (الكشف: ج١، ص٣٢٨).

وطعنَ كثير من النُحاة في هذه القراءة، قال الفرّاء: لعلّها من وَهم القرّاء، فإنّه قلّ مَن سلمَ منهم من الوهْم، ولعلّه ظنَّ أنَّ الباء في (بمصرخي) خافضة للّفظ كلِّه، والياء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويّين. (راجع البحر المحيط: ج٥، ص٤١٩).

(٣) لكن ظاهر الأئمّة قبول قراءاته إطلاقاً، فهذا مكّي أشبع كتابه بقراءات حمزة محتجّاً بها، وكذا غيره من أئمة القراءات الذين دوّنوا قراءات السبعة أو العشرة وغيرهم، قال الذهبي: قد انعقد الإجماع بآخره على تلقّي قراءة حمزة بالقبول والإنكار على مَن تكلّم فيها. (ميزان الاعتدال: ج١، ص٦٠٥).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459