تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد8%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78979 / تحميل: 11035
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

درهم ، فقبض الكندي المال وانحاز الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته ، فبلغ الحسن (ع) ذلك فتأثر وقام خطيبا وهو متذمر ومتألم أشد الألم من ذلك المجتمع الذي جرفته الخيانة ، وصار فريسة للباطل والضلال فقالعليه‌السلام :

« هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلا آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم ».

وبعثعليه‌السلام رجلا آخر من مراد في أربعة آلاف ، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتأكد عليه ، ولكنه أخبره انه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان الموثقة أنه لا يفعل ذلك ، فلم يطمئن منه الحسن وقال متنبئا : « إنه سيغدر ».

وسار حتى انتهى الى الأنبار ، فلما علم معاوية به أرسل إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسة آلاف ولعلها خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن وأخذ طريقه الى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود(1) .

وارتكب هذه الخيانة جمع غفير من الأشراف والوجوه. وقد أدّى ذلك الى زعزعة كيان الجيش واضطرابه ، وتفلل جميع وحداته.

4 ـ نهب أمتعة الامام :

وانحطت نفوس ذلك الجيش انحطاطا فظيعا ، واستولت على ضمائره

__________________

(1) البحار 10 / 110.

١٠١

سحب قاتمة لا بصيص فيها من نور الكرامة والشرف ، فارتكبوا كل جريمة وموبقة. ومن انحطاط نفوسهم ان بعضهم جعل ينهب بعضا ، ولم يكتفوا بذلك حتى عدوا الى أمتعة الإمام وأجهزته فنهبوها ، وأكبر الظن أن للخوارج ضلعا كبيرا في هذا الإجرام ، فانهم لا يرون حرمة للإمام ، ولا حرمة لأموال غيرهم ، فقد أباحت خططهم الملتوية أموال من لا يدين بفكرتهم ولا يخضع لدينهم ، وقد وقعت جريمة نهب الإمام فى موردين هما :

1 ـ حينما دس معاوية عيونه في جيش الإمام ليذيعون أن الزعيم قيس بن سعد قد قتل فانهم حينما سمعوا ذلك نهب بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن(1) وتنص بعض المصادر انهم نزعوا بساطا كان الإمام جالسا عليه واستلبوا منه رداءه(2) .

2 ـ لما أرسل معاوية المغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الرحمن بن الحكم الى الإمام ليفاوضونه في أمر الصلح ، فلما خرجوا من عنده أخذوا يبثون بين صفوف الجيش لإيقاع الفتنة فيه قائلين : « إن الله حقن الدماء بابن بنت رسول الله (ص) وقد أجابنا الى الصلح » ولما سمعوا بمقالتهم اضطربوا اضطرابا شديدا ووثبوا على الإمام فانتهبوا مضاربه وأمتعته(3) .

5 ـ تكفيره :

وخيم الجهل على قلوب ذلك الجيش المصاب بأخلاقه وعقيدته ، فراح يسرح في ميادين الشقاء والغواية متماديا في الإثم والضلال ، وبلغ

__________________

(1) الطبري 4 / 122 ، البداية والنهاية 8 / 14.

(2) البحار ، أعيان الشيعة ، تأريخ اليعقوبي.

(3) البحار ، شرح ابن أبي الحديد.

١٠٢

من طيشه وجهله أن بعضهم حكم بتكفير حفيد نبيهم ، فلقد انبرى له الجراح بن سنان الذي أراد قتله قائلا :

« أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!! ».

إن مجتمعا يرى هذا الاعتداء الصارخ على حفيد نبيهم ولا يقومون بنجدته لجدير بأن ينبذ ويترك لأنه لا ينفعه النصح ، ولا يثوب الى الحق والرشاد ، وأغلب الظن أن الذين حكموا بكفر الإمام كانوا من الخوارج إذ لا يصدر هذا الاعتداء إلا من هؤلاء الأشرار.

6 ـ اغتياله :

ولم تقف محنة الحسن وبلاؤه في جيشه الى هذا الحد فلقد عظم بلاؤه الى أكثر من ذلك فقد قدم المرتشون والخوارج على قتله ، وقد اغتيل (ع) ثلاث مرات وسلم منها وهي :

1 ـ انه كان يصلي فرماه شخص بسهم فلم يؤثر شيئا فيه.

2 ـ طعنه الجراح بن سنان في فخذه ، وتفصيل ذلك ما رواه الشيخ المفيدرحمه‌الله قال : « إن الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره ، فأمر (ع) أن ينادى ( بالصلاة جامعة ) فلما اجتمع الناس قامعليه‌السلام خطيبا فقال :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق وائتمنه على وحيه.

أما بعد : فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ، ولا غائلة وإن ما تكرهون فى الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفون أمري ،

١٠٣

ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ».

ونظر الناس بعضهم الى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد؟

واندفع بعضهم يقول :

« والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه!!! »

وما سمعوا بذلك إلا وهتفوا :

« كفر الرجل!!! »

وشدوا على فسطاطه فانتهبوه ، حتى أخذوا مصلاه من تحته ، وشدّ عليه الأثيم عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه من عاتقه ، فبقى الإمام جالسا متقلدا سيفه بغير رداء ، ودعا (ع) بفرسه فركبه ، وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته محافظين عليه ، وطلبعليه‌السلام أن تدعى له ربيعة وهمدان فدعيتا له ، فطافوا به ودفعوا الناس عنه ، وسار موكبه ولكن فيه خليطا من غير شيعته ، فلما انتهى (ع) الى مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته ، وبيده مغول(1) فقال له :

« الله أكبر ، اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ».

ثم طعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرّا جميعا الى الأرض ، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن يقال له عبد الله بن حنظل الطائي ، فانتزع المغول من يده فخضض به جوفه ، وأكب عليه شخص آخر يدعى بظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثم حمل الإمام (ع) جريحا على سرير الى المدائن في المقصورة البيضاء لمعالجة جرحه(2) .

__________________

(1) المغول : آلة تشبه السيف.

(2) الارشاد ص 170.

١٠٤

3 ـ طعنه بخنجر فى أثناء الصلاة(1) .

واتضحت للإمام (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة نوايا هؤلاء الأجلاف وانه سيبلغ بهم الاجرام والشر الى ما هو أعظم من ذلك وهو تسليمه الى معاوية أسيرا فتهدر بذلك كرامته أو يغتال ويضاع دمه الشريف من دون أن تستفيد الأمّة بتضحيته شيئا.

الموقف الرهيب :

وكان موقف الإمام الحسنعليه‌السلام من هذه الزعازع ، والفتن السود التي تدع الحليم حيرانا ، موقف الحازم اليقظ ، فقد كان من حنكته وحسن تدبيره ، وبراعة حزمه فى مثل الانقلاب الذي مني به جيشه أن جمع الزعماء والوجوه ، فأخذ يبين لهم النتائج المرة والأضرار الجسيمة التي تترتب على مسالمة معاوية قائلا :

« ويلكم ، والله إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي فى يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي ، وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ، ولكن كأني أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ».

ولم تنفع جميع المحاولات التي بذلها الإمام من أجل استقامتهم وصلاحهم فقد أخذ الموقف تزداد حراجته ، ويعظم بلاؤه ، وتشتد فيه الفتن والخطوب وقد وجد زعماء الجيش انشغال الإمام بمعالجة جرحه فرصة إلى الاتصال

__________________

(1) ينابيع المودة ص 292.

١٠٥

المفضوح بمعاوية ، والتزلف إليه بكل وسيلة ، وقد علم الإمام (ع) جميع ما صدر منهم من الخذلان والاتصال بالعدو.

حقا لقد كان موقف الإمام موقفا تمثلت فيه الحيرة والذهول ، ينظر الى معاوية فيرى حربه ضروريا يقضي به الدين ويلزم به الشرع وينظر الى الانقلاب والتفكك الذي أصيب به جيشه ، والى المؤمرات المفضوحة على اغتياله فينفض يده منهم وييأس من صلاحهم ، ومع ذلك أرادعليه‌السلام أن يمتحنهم ليرى موقفهم من الحرب لو اندلعت نارها ، فأمر (ع) بعض أصحابه أن ينادى في الناس ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الجمهور فقام فيهم خطيبا فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم فى مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، وأما الباقي فخاذل وثائر ».

وأعرب (ع) بهذا الخطاب البليغ عن بعض العوامل التي أدت الى تفككهم وانحلالهم ، وعرض عليهم بعد هذا دعوة معاوية في الصلح قائلا :

« ألا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ، ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه بظبات السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذناه بالرضا ».

وما انتهى (ع) من هذه الكلمات إلا وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الجمع وهي ذات مضمون واحد :

١٠٦

البقية ، البقية(1) .

ورأى (ع) بعد هذا الموقف أنه إن حارب معاوية حاربه بيد جذاء إذ لا ناصر له ولا معين ، ولم يكن هناك ركن شديد حتى يأوي إليه ، واستبانت له الخطط المفضوحة التي سلكها زعماء الجيش من تسليمه الى معاوية أسيرا أو اغتياله ، رأى بعد هذا كله ان الموقف يقضي بالسلم واستعجال الصلح.

وحدث يزيد بن وهب الجهني عن مدى استياء الامام وتذمره من أجلاف الكوفة وأوباشهم ، قال : دخلت عليه لما طعن فقلت له :

« يا ابن رسول الله ، ان الناس متحيرون ».

فاندفع الامام يقول بأسى بالغ وحزن عميق :

« والله أرى معاوية خيرا لي ، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمى وآمن به أهلي وشيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتى ، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن اسالمه وأنا عزيز أحب من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منّا والميت ».

وأعرب الإمام فى حديثه عن مدى ما لاقاه من الاعتداء الغادر على حياته وكرامته من هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم شيعة له ، وانه سيبلغ بهم التفسخ الى أقصى حد فسيقتلونه أو يسلمونه أسيرا الى معاوية فيقتله أو يمن عليه فيسجل له بذلك يدا على الإمام وتكون سبة وعارا على بني هاشم الى آخر الدهر.

__________________

(1) حماة الاسلام 1 / 123 ، المجتنى لابن دريد ص 36 ،

١٠٧

وأخذ (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة يجيل النظر ويقلب الرأي على وجوهه ، فى حرب معاوية وتصور المستقبل الملبد بالزعازع والاضطرابات التي تقرر المصير المخوف والنهاية المحتومة لدولته وحياته معا بل وعلى حياة الإسلام أيضا لأن القلة المؤمنة التي يحويها جيشه كانت بين ذرية النبي الأعظم (ص) وبين حملة الدين الإسلامى المقدس ، من بقايا الصحابة وتلامذة أمير المؤمنين (ع) وهؤلاء إن طحنتهم الحرب تفنى معنويات الإسلام ، ويقضى على كيانه وتحطم عروشه ، لأنهم هم القائمون بنشر طاقاته ، ومضافا الى ذلك ان الإسلام لا يستفيد بتضحيتهم شيثا لأن معاوية بمكره سوف يلبسهم لباس الاعتداء ، ويوصمهم بالخروج عن الطاعة والإخلال بالأمن العام والقضاء عليهم أمر ضروري حفظا لحياة المسلمين من القلق والاضطراب.

حقا لقد تمثلت الحيرة والذهول في ذلك الموقف الرهيب والخروج من مأزقه يحتاج الى فكر ثاقب والى مزيد من التضحية والإقدام ، رأى الامامعليه‌السلام أن المصلحة التامة تقضي أن يصالح معاوية ويعمل بعد ذلك على تحطيم عروش دولته ، ويعرب للناس عاره وعياره ، ويظهر لهم الصور الإجرامية التي تتمثل فيه! لقد سالم (ع) وكانت المسالمة أمرا ضروريا يلزم بها العقل ويوجبها الشرع المقدس ، وتقتضيها حراجة الموقف ، واضافة لهذه الأحداث سوف نقدم أسبابا أخرى توضح المقام وترفع أثر الشك وترد شبهات الناقدين

١٠٨

اسباب الصّلح

١٠٩
١١٠

تحوم حول صلح الامام الحسن (ع) مع خصمه معاوية كثير من الظنون والأقوال ، ويستفاد منها حكمان متباينان بكل ما للتباين من معنى والحق أن أحدهما خطأ وبعيد عن الصواب كما هو الشأن في كل حكمين متباينين :

« الأول » من هذين الحاكمين تبرير موقف الامام في صلحه وموفقيته فيه الى أبعد الحدود ، ويختلف مبنى التعليل فيه ، فطائفة من العلماء والبحاث عللته بأنه إمام والإمام معصوم من الخطأ ، فلا يفعل إلا ما هو الصالح العام لجميع الأمّة ، وسنذكر في أواخر هذا البحث الذاهبين الى هذا القول وتعليل آخر يكشف عن مناط القول الأول ، ويوضح مدركه وهو يستند الى العلل المادية التي اضطرت الامام الى الصلح كخذلان جيشه ، وفساد مجتمعه ، وخيانة الزعماء والمبرزين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل ،

« الثاني » من هذين الحاكمين تعود خلاصته الى ضعف ارادة الامام وعدم احاطته بشئون السياسة العامة وعجزه عن ادارة دفة الدولة ، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين ، فان نال الظفر فذاك وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين ، وهدف المصلحين ، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمت الى الواقع بصلة ولا تلتقي معه بطريق وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالامام ، وعدم الوقوف على اتجاه شعبه الذي اصيب بأخلاقه وعقيدته ، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع ، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :

1 ـ الصفدي :

قال الصفدي فى شرحه لهذا البيت من لامية العجم :

١١١

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وقد رضى بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم ، وأخلوا الدسوت من تصديرهم ، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :

« وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال لمعاوية : إن عليّ دينا فأوفوه عني وأنتم فى حل من الخلافة ، فأوفوا دينه وترك لهم الخلافة »(1) .

2 ـ الدكتور فيليب حتى :

قال الاستاذ فيليب حتى : « وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت أعني اعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي ، ولعلمهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته ، ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف ، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها »(2) .

3 ـ العلائلي :

قال الاستاذ العلائلي : « ولكنه ( يعني الحسن ) كان قديرا على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس ، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال « نابليون » الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب ، وزاد هو فى انهاكه بالحروب

__________________

(1) شرح لامية العجم 2 / 27 وقد خبط الصفدي خبط عشواء ، فان الامام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ بالله من هذا الافتراء.

(2) العرب ص 78.

١١٢

المتتالية المستمرة التي اخذ بها أوربا ، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس »(1) .

4 ـ المستشرق « روايت م رونلدس » :

قال هذا المستشرق : « فان الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح »(2) .

5 ـ لامنس :

قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامى شيئا : « وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة الى قتال أهل الشام ، وقلب هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة ، فلم يعد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية ، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق ، وانتهى بهم الأمر إلى اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الى اتفاق مع الأمويين ، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى ، ودخل كورة فى فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بيد انه اجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم

__________________

(1) الحلقة الثانية من حياة الحسين ص 283.

(2) عقيدة الشيعة تعريب ع م ص. وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام ، وقد شحن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين وقد تعرض الاستاذ السيد عبد الهادي المختار في مجلة البيان الزاهرة في عددها الخاص بسيد الشهداء من السنة الثانية عدد 35 ـ 39 إلى تزيفه وعرض أكاذيبه.

١١٣

يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة »(1)

وهؤلاء الناقدون لصلح الامام كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام ، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن

__________________

(1) دائرة المعارف الاسلامية ج 7 ص 400 وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الاسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث ( لامنس ) عن الشيعة وعن أئمتهم فانها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم ، والسبب في ذلك ان لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الاسلام والكيد له ، مضافا الى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المستشرقين زار ( طهران ) عاصمة إيران بعد أن تعلم اللغة الفارسية في مدارس الألسنة الشرقية وقد حاول أن يضع تأريخا عن حالة إيران الاجتماعية والأخلاقية كما يشاهدها فرأى حمالين وعلى رءوسهم أوانيا وأسبابا فاخرة ، وأمامهم الدفوف والمزامير فسأل عن ذلك فقال له بعض الحاضرين إنهم يحملون جهاز عروس ، ثم سأل عن اسم الزوج فقال له بعض الحاضرين ( ما ذا يهمك؟ ) ، وفي المساء رأى هذا المستشرق رجلا يضرب امرأة في الشارع فسأل بعض الحاضرين عن القصة فأخبره أن الضارب زوجها وقد تركته بغير حق ، ثم سأل عن أسم الزوج فقال له ( ما ذا يهمك؟ ) فظن المستشرق ان اسم الرجل ما ذا يهمك ، وإنه العريس الذي رأى جهازه صباحا ، فكتب هذا المستشرق في كتابه تاريخ ايران انه رأى في عاصمتها عريسا يقترن صباحا ويضرب عروسه في الشارع مساء وان اسمه ما ذا يهمك ، هذا حال المستشرقين في الأمور الظاهرة البديهية فكيف حالهم في النظريات الدقيقة الغامضة هذا إذا لم يعتمدوا على التحريف فكيف إذا اعتمدوا عليه ومن المؤسف ان شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في اطروحاتهم مع انها لا نصيب لها من الصحة والواقع.

١١٤

قولهم الدليل فى جميع أحواله ، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته إلى مسالمة خصمه ، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يمثل للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا الى الصواب وبعيدا عن الخطأ وبما أنا وقفنا بعض الوقوف أو أقله على بعض العلل والعوامل التي دعت الامام لمسالمة عدوه ، وهي تتلخص في أمور استنبطنا بعضها من الابحاث السالفة والبعض الآخر استنتجناه من دراسة نفسية معاوية وملاحظة أعماله ، ومن الوقوف على أضواء سيرة الامام الرفيعة ، ومعرفة سياسة أهل البيت (ع) التي لا تتذرع بالوسائل التي شجبها الاسلام في سبيل الوصول الى الحكم وقبل أن نعرض أسباب الصلح نود أن نبين انا قد نعيد نماذج بعض المواضيع السالفة لأجل الاستدلال على ما نذهب إليه فان في الاعادة ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، فان تفصيل هذا الموضوع والاحاطة به أهم من غيره ، ولعل نظر القراء إليه وهي كما يلي :

1 ـ تفلل الجيش :

إن أعظم ما تواجهه الدولة فى جميع مجالاتها مسبب ـ على الأكثر ـ من خبث الجند ، وشدة خلافه ، وعصيانه لقيادته العامة ، وقد مني الجيش العراقي آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يبتل به جيش معاوية فانه ظل محتفضا بالولاء لحكومته ولم يصب بمثل هذه الرجات والانتكاسات ، أما العلل التي أدت الى اضطراب الجيش العراقي وانشقاقه فهي :

أ ـ تضارب الحزبية فيه :

إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم

١١٥

القائم ، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها ، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به ، فان الدولة لا تلبث أن تلاقي النهاية المحتومة إن عاجلا أو آجلا ، وقد ابتلي الجيش العراقي في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها ، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها ، وهما :

الحزب الاموي :

وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوتات الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية ، والظفر بالمال والسلطان وهم كعمر بن سعد ، وقيس ابن الأشعث ، وعمرو بن حريث ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة ، وكانوا أهم عنصر مخيف فى الجيش ، فقد وعدوا معاوية باغتيال الامام أو بتسليمه له أسيرا كما قاموا بدورهم باعمال بالغة الخطورة وهي :

1 ـ إنهم سجلوا كل ظاهرة أو بادرة فى الجيش فارسلوها الى معاوية للاطلاع عليها.

2 ـ كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.

3 ـ قاموا بنشر الأراجيف والارهاب فى نفوس الجيش بقوة معاوية وضعف الحسن.

وأدت هذه الأعمال الى انهيار الجيش ، وزعزعة كيانه ، وضعف معنوياته في جميع المجالات.

١١٦

الحزب الحروري :

وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم ، ومحاربته بجميع الوسائل ، وقد انتشرت مبادئه في الجيش العراقي انتشارا هائلا لأن المبشرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابلياتهم بقوله : « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع »(1) ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثر يهم في النفوس بقوله : « إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كل من خالطهم »(2) وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به « لا حكم إلا لله » ولم يقصد بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن(3)

لقد قضت خطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتم إليهم وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عسر عليهم مقاومتهم. وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية لأنها قد وترتهم بأعلامهم ، وقضت على الكثيرين منهم فى واقعة النهروان ، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم ، كما اغتالوا الإمام الحسن (ع) وطعنوه في فخذه ، وحكموا بتكفيره ، وكانت كمية هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نصت بعض المصادر أن أكثرية الجيش

__________________

(1) اليراع : القصب.

(2) الطبري 6 / 109.

(3) السيادة العربية ص 69.

١١٧

كانت من الخوارج(1) .

وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش ، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء ، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة منه كان موقفها موقفا سلبيا في قضية الإمام الحسن (ع) لأنها لا تفقه الأهداف الأصيلة التي ينشدها الامام ، ولضيق تفكيرها ترى أن الامام كل من ارتقى دست الحكم من أي طريق كان فالحسن ومعاويه سيان ، وإن حارب الحسن معاوية على الدين ، وحارب معاوية الحسن على الدنيا.

ولم يعد بعد ذلك من يناصر الحكومة الهاشمية ، ويقف الى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحجر ابن عدي ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (ع) وهم الأقلية عددا كما قال الله تعالى « وقليل ما هم » وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها فانهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الامام أمير المؤمنين على قبول التحكيم ولما التجأ الامام الحسن الى الصلح.

ب ـ السأم من الحرب :

ان من طبيعة الكوفة التي جبلت عليها نفوس أهلها السأم والملل « ولا رأي لملول » ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته وهما :

__________________

(1) أعيان الشيعة 4 / 42.

١١٨

1 ـ الحروب المتتالية :

ومما سبب شيوع الملل والسأم فى نفوس الجيش العراقي الحروب المتتالية فان الدولة كانت تستعمله فى الفتوحات والدفاع عنها ، وزاد في ضعف أعصابه وانهياره حرب صفين والنهروان ، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويؤثرون السلم ويحبون العافية.

2 ـ اليأس من الغنائم :

ولم يربح الجيش العراقي في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال ، لأن الامام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار فيقسم غنائمهم على المسلمين ، وإنما أمر بارجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة(1) وقد علم الجيش أن الامام الحسن (ع) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه ، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية فاعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.

إن كراهية الجيش العراقي للحرب وإيثاره للعافية لم يكن ناشئا في « مسكن » وإنما كان عقيب رفع المصاحف وواقعة النهروان فقد خلد بجميع كتائبه إلى السلم ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب صورا من الاعتداءات الغادرة التي قامت بها قوات معاوية على الحدود العراقية وغزوهم لمدن العراق ، وترويعهم للآمنين ، وقتلهم الأبرياء ، وهم متخاذلون متقاعسون عن ردها لا تحركهم العواطف الدينية ولا يهزهم الشعور الانساني لدفع الضيم والذل عنهم ، يأمرهم الامام أمير المؤمنين بالجهاد فلا يطيعونه ، ويدعوهم إلى مناصرته فلم يستجيبوا له ، وقد ترك ذلك أسى مريرا وشجى مقيما في نفسه ، وقد اندفع فى كثير من خطبه إلى انتقاصهم وذمهم يقول (ع) :

__________________

(1) علي وبنوه ص 55.

١١٩

« لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ».

ويستمر في تقريعه ولومه لهم ، وإبداء تأثره على تخاذلهم ونكوصهم عن الحرب فيقول :

« وما أنتم بركن يمال بكم ، وأيم الله إني لأظن أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت قد انفرجتم من ابن أبي طالب انفراج الرأس ».

ويصف (ع) فى خطاب آخر عدم اندفاعهم للجهاد في سبيل الله ، ومدى محنته وبلائه فيهم فيقول :

« ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدء فمنهم الآتي كرها ، ومنهم المعتل كاذبا. ومنهم القاعد خاذلا ، واسأل الله أن يجعل منهم فرجا عاجلا والله لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة لا حببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا »(1) .

ويقول (ع) في خطاب آخر له :

« المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل(2) أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم! ما دواؤكم

__________________

(1) النهج محمد عبده 3 / 67.

(2) الأفوق من السهام : مكسور الفوق وهو موضع الوتر من السهم ، الناصل : العاري عن النصل أي : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

المُحكم والمُتشابه

حقيقةُ الإحكام والتشابُه:

الإحكام: هو الإتقان، يوصف به الكلام إذا كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني، مأخوذ من الحَكَم (بالفتح) بمعنى المنع والسدّ، ومنه حَكَمة اللجام (بفتحات): ما أحاط بحنَكَي الفرس، سُمّيت بذلك؛ لأنّها تمنعه من الجَرْيِ الشديد، قاله ابن فارس.

فإحكام الكلام: إتقانه تعبيراً وأداءً بالمقصود، وهذا كأكثر آيات التشريع والمواعظ والآداب.

والتشابه: مأخوذ من تشابه الوجوه، أي تماثُلَ بعضها مع البعض، بحيث يَحتمل وجوهاً من المعاني، ومن ثمّ كان خفاء في وجه المقصود، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) (١) .

قال الراغب: المحكَم ما لا تعرُض فيه شُبهة، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، والمتشابه ما لا يُنبئ ظاهره عن المراد.

هذا هو تعريف المتشابه بوجهٍ عام، ومن ثمَّ قد يتَّحد مع المبهم الَّذي يكشفه التفسير، في حين أنَّ المتشابه بحاجة إلى التأويل، كأكثر آيات الخلْق والتقدير والصفات والأفعال.

____________________

(١) البقرة: ٧٠.

٤٢١

وعليه: فالمتشابه - حسَب المصطلح القرآني -: هو اللفظ المحتمِل لوجوه من المعاني، وكان موضع رَيبٍ وشُبهة، ومن ثمَّ فهو كما يصلح للتأويل إلى وجه صحيح يصلُح للتأويل إلى وجهٍ فاسد؛ ولأجل هذا الاحتمال وقع مطمع أهل الزَيغ والفساد، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله إلى ما يتوافق وأهدافهم الضالَّة.

ما بين المتشابه والمبْهَم من نِسبة:

النسبة بين المتشابه والمبهم هو العموم المطلق؛ لأنّ كل متشابه مبهَم في معناه، وليس كلّ مبهَم متشابهاً، فقوله تعالى: ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ) (١) إنّها من المتشابهات، وقد عَلَتها طبقة من الإبهام أيضاً.

أمّا التشابه فمِن جهة نِسبة الإضلال إليه سُبحانه، وأمّا الإبهام فمِن جهة كيفية حصول ذلك الانشراح والضِيق، ولاسيّما وجه الشبَه في قوله: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ) ، كيف أنّ الضالّ يشبه مَن يحاول الصعود في أعماق السماء؟.

وسوف نشرح في مجاله الآتي هذه الموارد ونجيب على هذه الأمثلة إن شاء الله تعالى.

وقد لا تكون الآية المبهمة من المتشابهات، فهي إلى التفسير أحوَج منها إلى التأويل، كقوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء ) (٢) ، فالآية بأمسّ حاجة إلى تفسير يجيب على عِدة أسئلة يبعثها إبهام في ظاهر الآية.

أوّلاً: كيف تحقّق هذا التعليم الَّذي باهى الله به ملائكته؟.

ثانياً: ما هي الأسماء الَّتي يعود عليها ضمير التأنيث تارةً وضمير الجمْع المذكَّر أخرى؟.

____________________

(١) الأنعام: ١٢٥.

(٢) البقرة: ٣١.

٤٢٢

وثالثاً: كيف استسلمت الملائكة لهذه المباهاة واعترفت بعجْزها وقصورها مع الأبد؟.

إذاً لا تلازم بين الإبهام والتشابه كلّياً، وعليه فتفترق موارد الحاجة إلى التفسير عن موارد الاحتياج إلى التأويل، فالتفسير: هو كشف القناع عن اللفظ المشكل، أي المبهَم، سواء أكان متشابهاً أمْ لم يكن. والتأويل: هو إرجاع الكلام إلى أحد محتملاته العقلانية، ولو كان في ظاهره واضح المدلول.

ما بين عوامل التشابه والإبهام من فَرْق:

ولتوضيح ما بين المتشابه والمبهم من فرْق، نذكر من عوامل التشابه الَّتي تختلف تماماً عن عوامل الإبهام.

يعود الفرْق بين تشابه الآية وإبهامها إلى ما بين عوامل الأمرَين من اختلاف، حيث من أهمّ عوامل التشابه هو: دقَّة المعنى وسموّ مستواه عن المستوى العامّ، مضافاً إلى رقّة التعبير وجزالة الأداء، كما في قوله تعالى: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (١) ، إذ لا يخفى لُطف هذا التعبير الرقيق عن مفهوم هو من أدقّ المفاهيم الإسلامية في الأمر بين الأمرين (لا جبْر ولا تفويض) ، ومن ثمّ خفيَ على غالبية الناس إدراك حقيقته الأصلية، من عدا أولئك الراسخين في العِلم، الَّذين استسهلوا الصعاب بفضْل جهودهم في سبيل اكتساب المعالي.

ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٢) ، فقد وقع فيها تشبيه ذاته المقدَّسة بالنور، وهو أدقّ تعبير في تقريب ذاته المقدّسة إلى أفهام العامّة، إذ لو قيل للجمهور: أن لا ماهيّة له تعالى، ولا هو جسم، ولا فيه خواصّ الجسم، لم يقتنعوا في الجواب عن موجود وقع الاعتراف به، كيف لا ماهيَّة له ولا هو جسم؟ فإذا قيل لهم: إنّه نور اقتنعوا، في حين أنّ نفس الإجابة صحيحة يعرفها

____________________

(١) الأنفال: ١٧.

(٢) النور: ٣٥.

٤٢٣

الراسخون في العِلم، إذ كما أنَّ النور في المحسوس غير قابل للإدراك ذاتاً، وإنّما يُحسّ به من قِبل إنارته للأشياء، كذلك وجوده تعالى في غير المحسوس لا يُدرك هو، وإنَّما يُدرك بإفاضته الوجود على الموجودات، فالله تبارك وتعالى يتجلّى من خلال كلّ موجود وليس يُدرك ذاتاً، كالنور سبب لإدراك الأشياء وتعجز الأبصار عن إدراكه بالذات (١) .

وأمّا عوامل الإبهام المحوجة إلى التفسير، فتعود إلى جهات أُخَر:

منها: غرابة الكلمة عن المألوف العامّ؛ نظراً لاختصاص استعمالها ببعض القبائل دون بعض، فجاء القرآن ليوحِّد اللغة باستعمال جميع لغات العرب، من ذلك: (صَلداً) بمعنى (نقيّاً) في لُغة هذَيل، و (الإملاق) بمعنى (الجوع) في لُغة لخْم، و (المنسأة) بمعنى (العصا) في لغة حضرموت، و (الودق) بمعنى (المطر) في لغة جَرْهُم، و (بُسَّت) بمعنى (تفتَّتت) في لغة كندة، وهلمّ جرّاً، الأمر الذي دُوّنت لأجْله كُتب غريب القرآن، وهي كثيرة.

ومنها: إشارات عابرة جاءت في عَرْض الكلام، بحيث يحتاج فهْمها إلى درس عادات ومراجعة تاريخ، كالنسيء في سورة التوبة (٢) ، والنهي عن إتيان البيوت من ظهورها في سورة البقرة (٣) ، أو تعابير إجمالية يحتاج الوقوف على تفاصيلها إلى مراجعة السُنَّة وأقوال السلَف، كقوله تعالى: ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (٤) ، و ( وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) (٥) ، و ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٦) وأمثال ذلك.

ومنها: تعابير عامّة صالحة لمعانٍ لا يُعرَف المقصود منها إلاّ بمراجعة ذوي الاختصاص، كالدابَّة من سورة النمل: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) (٧) ،

____________________

(١) راجع الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد: ص٩٢ - ٩٣.

(٢) آية ٣٧.

(٣) آية ١٨٩.

(٤) وردت في اثنتي عشرة موضعاً من القرآن.

(٥) وردت في سبعة مواضع من القرآن.

(٦) آل عمران: ٩٧.

(٧) النمل: ٨٢.

٤٢٤

والبرهان في سورة يوسف: ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١) ، والكوثر في: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (٢) ، والروح في: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ) (٣) ، وأمثال ذلك.

ومنها: استعارات بعيدة الأغوار، يحتاج البلوغ إليها إلى سبْرٍ وتعمّق كثير، كقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (٤) ، وقوله: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) (٥)، ونحو ذلك.

ومن ثمَّ قال الراغب (٦) : التفسير إمّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ، نحو: البحيرة، والسائبة، والوصيلة (٧) ، أو في وجيز كلام مبيّن بشرح، نحو: ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) (٨) ، وإمّا في كلام متضمّن لقصَّة لا يمكن تصويره إلاّ بمعرفتها، كقوله تعالى: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) (٩) ، وقوله: ( لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ) (١٠) .

هذه نماذج من عوامل الإبهام المحوجة إلى تفسير كاشف، وقد تبيَّن أنّها تختلف تماماً عن عوامل التشابه المستدعية لتأويل مقبول، وعليه فلا يشتبه مورد أحدهما بالآخر، وإن كانا يشتركان في خفاء المراد بالنظر إلى ذات اللفظ.

هل في القرآن متشابه؟

لا شكَّ أنّ القرآن - كما هو مشتمل على آيات محكَمات في أكثريَّة غالبة - مشتمل على آيات متشابهات في عدد قليل، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (١١) ، ونسبة عدد

____________________

(١) يوسف: ٢٤.

(٢) الكوثر: ١.

(٣) النبأ: ٣٨.

(٤) الرعد: ٤١.

(٥) يس: ٦٥.

(٦) بنقل الإتقان: ج٢، ص١٧٣ الطبعة الأولى.

(٧) المائدة: ١٠٣.

(٨) وردت في سبعة مواضع من القرآن.

(٩) التوبة: ٣٧.

(١٠) البقرة: ١٨٩.

(١١) آل عمران: ٧.

٤٢٥

المتشابهات إلى المحكَمات نسبة هابطة جدّاً، فلو اعتبرنا من مجموع آي القرآن الحكيم ما يربو على ستَّة آلاف آية، فإنّ المتشابهات لا تبلغ المئتين لو أخذنا بالتدقيق وحذْف المكرّرات حسبما يوافيك نماذج منها، وعليه فالمجال أمام مراجعة الكتاب العزيز والارتواء من مناهله العذبة واسع جدّاً.

وقد حاول البعض إنكار وجود آيٍ متشابهة بالذات في القرآن، بحجَّة أنّه كتاب هداية عامّة ( هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ) (١) ، وقد قال تعالى: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٢) .

ومن ثمّ فالتّعبير بالتشابه في آيِ القرآن، إنّما يعني التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الَّذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.

غير أنّ الإنكار لا يصلح علاجاً لواقعيةٍ لا محيص عنها، نعم، لا يصطدم وجود المتشابه في القرآن مع كونه هداية عموم.

أوّلاً: ضآلة جانب المتشابه، بحيث كان الطريق أمام المستهدين بهدى القرآن الكريم فسيحاً جداً.

ثانياً: هداية الكتاب تعني كونه المصدر الأوّل للتشريع وتنظيم الحياة العامَّة، وهذا لا يعني إمكان مراجعة الأفراد بالذّات للقرآن في جميع أحكامه وتشريعاته، إذ لمثل ذلك اختصاصيّون يَعرفون من الكتاب ما لا تعرفه العامَّة، وهم يشكِّلون قيادة الأُمّة على هدى الكتاب؛ وبذلك أصبح القرآن مصباحاً ينير درب الحياة على ركب الإنسانية بشكل عامٍّ.

أمّا الإحكام في سورة هود، فيعني الإتقان والسداد، حيث القرآن ذو أساس مكين لا يتضعضع، وذو مشعل وضّاء لا ينطفئ مع الأبديّة، قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٣) .

____________________

(١) آل عمران: ١٣٨.

(٢) هود: ١.

(٣) الحجر: ٩.

٤٢٦

وسنعرض فيما يأتي أنّ من الآيِ المتشابهة ما هي متشابهة بالذات، وإنّما يَعرف الراسخون في العلم تأويلها الصحيح، بفضْل جهودهم وتعمّقهم في أغوار هذا الدين؛ ليستنبطوا من كنوزه المستورة لآلئ وهّاجة تبهر العقول.

* * *

وحاول بعضهم في اتّجاه معاكس، زاعماً أنّ جميع آي القرآن متشابهة، ومن ثمَّ لا يجوز مسّها إلاّ بدلالة نصّ معصوم؛ وبذلك أسقط ظواهر الكتاب عن صلاحية الاستدلال بها أو الاستنباط منها لحُكم شرعي، نظراً لقوله تعالى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ) (١) ، وبما ورد: (إنّما يَعرف القرآن مَن خوطبَ به) (٢) .

وهذا قصور وجفاء، حيث يقول تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (٣) ، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فإذا التبسَت عليكم الفِتَن كقِطَع الليل المظلم فعليكم بالقرآن)، كيف الرجوع إلى القرآن لوضح الملتبسات إذا كان هو ملتبساً؟ وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجْلِ جالٍ بصَره ويفتح للضياء نظَرَه، فإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور)، وقد ورد أيضاً: (إنَّ القرآن فيه تفصيل، وبيان، وتحصيل)، و(هو الفصْل ليس بالهزْل)، (ظاهره أنيق، وباطنه عميق)، (ظاهره حُكم، وباطنه علم) (٤) .

أمّا آية الزمر، فتعني تناسق آي القرآن في الإجادة والإيفاء وقوَّة التعبير ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (٥) .

____________________

(١) الزمر: ٢٣.

(٢) تفسير البرهان للمحدّث البحراني: ج١، ص١٨.

(٣) محمّد: ٢٤.

(٤) الأحاديث مستخرجة من الكافي الشريف: ج٢، ص٥٩٩ - ٦٠٠.

(٥) النساء: ٨٢.

٤٢٧

لماذا في القرآن متشابه؟

ولعلَّ معترضاً يقول: هلاّ كانت جميع آي القرآن محكَمات، فكان ذلك أسلم من الالتباس وأقرب إلى طُرُق الاهتداء العامّ!.

قال الإمام الرازي: من الملاحدة مَن طعنَ في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، إذ كيف يكون القرآن مرجع الناس في جميع العصور مع وفْرة دواعي الاختلاف فيه، حيث يجد صاحب كلَِّ مذهب مأربه في القرآن؛ بسبب اختلاف آياته في الدلالة والردّ، الأمر الذي لا يليق بالحكيم تعالى أن يجعل كتابه المبين معرّضاً للجدل وتضارب الآراء، فلو كان جعله نقيّاً من المتشابهات المثيرة للشُبهات كان أقرب إلى حصول الغرَض والمقصود من الهداية العامَّة (١) .

وقد عالجَ ابن رشد الأندلسي - الفيلسوف العظيم - هذه الناحية معالجة دقيقة، صنّف فيها الناس إلى ثلاثة أصناف: صِنف العلماء، وعنى بهم مَن في طبقته من أرباب الحكمة العالية، وصِنف الجمهور ، وهم عامَّة الناس ممّن لم يحظوا بحُليّ العلم شيئاً، وصِنف بين بين ، لا هم في مستوى العلماء ولا مع العامَّة، وعنى بهم أرباب المذاهب الكلامية من الأشاعرة وأصحاب الاعتزال.

قال: وهذا الصِنف الأخير هم الَّذين يوجد في حقِّهم التشابه في الشرع، وهم الّذين ذمّهم الله تعالى، وأمّا عند العلماء فليس في الشرع تشابه؛ لأنَّهم يعرفون من كلّ آية وجه تخريجها الصحيح الذي قصده الشرع، والجمهور لا يشعرون بالشكوك العارضة، بعد أن كانوا أخذوا بالظواهر واستراحوا إليها من غير ترديد.

قال: إنّ التعليم الشرعي هو كالغذاء النافع لأكثر الأبدان، نافع للأكثر وربّما ضرّ بالأقلّ؛ ولهذا جاءت الإشارة بقوله تعالى: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) (٢) .

وهذا إنّما يعرض في الأقلّ من الآيات لأقلّ الناس، وهي الآيات الَّتي تضمَّنت

____________________

(١) التفسير الكبير: ج٧، ص١٧١.

(٢) البقرة: ٢٦.

٤٢٨

الإعلام عن الأشياء المتغيّبة عن الحسّ، ليس لها مثال في المحسوس، فجاء التعبير عنها بالشاهد الَّذي هو أقرب الموجودات إلى تلك الغائبات وأكثرها شبَهاً بها، فربّما عرَضَ لبعض الناس أن يأخذ ذاته لتلزمه الحَيرة والشكّ.

وهذا هو الذي سُمّي في الشرع متشابهاً، الأمر الَّذي لا يعرض للعلماء ولا للجمهور؛ لأنّ هؤلاء هم الأصحّاء الَّذين يلائمهم الغذاء النافع الذي يوافق أبدان الأصحّاء، أمّا غير هذين الصنفين فمرضى، والمرضى هم الأقلّ من الناس، ولذلك قال تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) (١) وهؤلاء هم أهل الجدل والمذاهب الكلامية.

قال: وقد سلَك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكاً ينتفع به الجمهور ويخضع له العلماء، ومن ثمّ جاء بتعابير يفهمها كلّ من الصِنفين: الجمهور يأخذون بظاهر المثال فيتصوّرون عن الممثَّل له ما يشاكل الممثّل به ويقتنعون بذلك، والعلماء يعرفون الحقيقة الَّتي جاءت في طيّ المثال.

مثلاً: لمّا كان أرفع الموجودات في الحسِّ هو النور ضُرب به المثال، وبهذا النحْو من التصوّر أمكن للجمهور أن يفهموا من الموجودات فيما وراء الحسِّ ممّا مثِّل لهم بأمور متخيَّلة محسوسة، فمتى أخَذَ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهرها، لم تعرضْ للجمهور شكٌّ في ذلك، فإذا قيل: الله نور، وأنَّ له حجاباً من نور، وأنَّ المؤمنين يرونه في الآخرة كالشمس في رائعة النهار، لم تعرض للجمهور شُبهة في حقيقة هذه التعابير، وكذلك العلماء لا تعرض لهم شُبهة في ذلك، حيث قد تبرْهَن عندهم أنَّ تلك الحالة هي مزيد عِلم ويقين.

لكن إذا ما صُرِّح بذلك للجمهور بطُلَت عندهم الشريعة كلَّها، وربَّما كفروا بما صُرِّح لهم؛ لأنَّ الجمهور يرون من كلِّ موجود هو المتخيِّل المحسوس، وأنَّ ما ليس بمتخيَّل ولا محسوس فهو عَدَمٌ عندهم.

____________________

(١) آل عمران: ٧.

٤٢٩

فإذا قيل: إنّ هناك موجوداً ليس بجسم ولا فيه شيء ممّا يرونه لازم الجسميَّة، ارتفع عنهم التخيُّل وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولاسيّما إذا قيل لهم: إنّه لا خارج العالَم، ولا داخله، ولا فوق، ولا أسفل، ومن ثمَّ لم يصرِّح الشرع بأنّه ليس بجسم، وإنَّما اكتفى بقوله: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (١) ، وقوله: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٢) .

قال: وأنت إذا تأمّلت الشرع وجدته - مع أنَّه قد ضُرب للجمهور في هذه المعاني المثالات، التي لم يمكنهم تصورّها إلاّ بذلك - قد نبَّه العلماء على تلك المعاني بحقائقها، فيجب أن يوقَف عند حدّ الشرع في نهْج التعليم الذي خصّ به صِنفاً صِنفاً من الناس، وأن لا يخلط التعليمان فتفسد الحكمة الشرعية النبوية؛ ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): (إنّا معشر الأنبياء أُمِرنا أن نُنزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدَر عقولهم) (٣) .

وقد انتهج الإمام الرازي نفس المنهج، قال: والسبب الأقوى في هذا الباب: أنّ القرآن كتابٌ مشتملٌ على دعوة الخواصّ والعوامّ جميعاً، وطبائع العوامّ تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمَن سمع من العوام في أوَّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم، ولا متحيّز، ولا مُشار إليه، ظنّ أنّ هذا عدم ونفي فوقع التعطيل، فكان الأصلح أن يُخاطَبوا بألفاظ دالَّة على بعض ما يناسب ما يتوهَّمونه ويتخيّلونه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدلّ على الحقِّ الصريح، فالقسم الأوّل - وهو الذي يخاطَبون به في أوَّل الأمر - يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني - وهو الذي يُكشَف لهم في آخِر الأمر - هي المحكَمات (٤) .

* * *

____________________

(١) الشورى: ١١.

(٢) الأنعام: ١٠٣.

(٣) الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد: ص ٨٩ و٩٦ و٩٧ و١٠٧.

(٤) التفسير الكبير: ج٧، ص١٧٢، وهو خامس وجه ذكرها بهذا الصدد.

٤٣٠

وهذا المنهج الَّذي انتهجه الفيلسوفان في توجيه وجود المتشابه في القرآن، معالجة للقضية في بعض جوانبها، وهي الآيات المتشابهة المرتبطة مع مسألة المبدأ والمعاد، وليس علاجاً حاسماً للمادَّة من جذورها، إذ تبقى آيات الخلْق والتقدير، والقضاء والقدر، والجبر والاختيار، والعدل والعصمة، وما شاكل، خارجة عن إطار هذا العلاج.

أمّا العلاج الحاسم لمادّة الإشكال في كلّ جوانب المسألة فهو: أنّ وقوع التشابه في مثل القرآن - الكتاب السماوي الخالد - شيء كان لا محيص عنه، ما دام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم، في حين سُمُوّ فحواه عن مستواهم الهابط.

القرآن جاء بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك، ولاسيّما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات، في حين التزامه في تعبيراته الكلامية نفس الأساليب الّتي كانت دارجة ذلك العهد، الأمر الّذي ضاق بتلك الألفاظ، وهي موضوعة لمعانٍ مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق.

كانت الألفاظ والكلمات الَّتي كانت العرب تستعملها في محاوراتها محدودة في نطاق ضيِّق، حسبما كانت العرب تألَفه من معانٍ محسوسة، أو قريبة من الحسّ ومبتذلة إلى حدٍّ ما، فجاء استعمالها من قِبل القرآن - الكتاب الَّذي جاء للبشريَّة على مختلف مستوياتهم مع الأبديّة - غريباً عن المألوف العام.

ومن ثمَّ قصُرَت أفهامهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير، إذ كانت الألفاظ تقصُر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها، ومن ثمَّ كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات، الأمر الذي قرَّب المفاهيم القرآنية إلى مستوى أفهام العامَّة من جهة، وبعَّدها من جهةٍ أخرى، قرَّبها من جهة إخضاعها لقوالبَ لفظية كانت مألوفة لدى العرب،

٤٣١

وبعَّدها حيث سموّ المعنى، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعةً لمِثله، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولِغَ في إخضاعه، إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالباً له ولا يتطابقه تماماً؛ هذا هو السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات، كما مرّ من مسألة الأمْر بين الأمرَين، وغيرها من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شؤون المبدأ تعالى والمعاد، ومسائل شؤون الخليقة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس.

مثلاً قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١) تعبيرٌ رمزيّ عن شأن الإنسان - بصورة عامَّة - في الأرض، إنّه ذلك الموجود العجيب الَّذي يملِك في ذاته قدرة جبّارة، يضيق عنها الفضاء وتخضع لها قوى الأرض والسماء ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) .

كلّ ذلك بفضْل نبوغه واستعداده الخارق الَّذي يمنحه القدرة على الخلْق والإبداع؛ على أثر تفكيره وجهاده في الوصول إلى درجة الكمال، وليتمثّل مظهريّته تعالى، فهو الموجود النموذجي لمظهرية ذي الجلال والإكرام، ومن ثمَّ كان خليفته في الأرض يومذاك؛ ليصبح خليفته في عالم الوجود إطلاقاً.

لم تكن العرب تستطيع إدراك هكذا تصوّر عن الإنسان، ولا كان يخطر بِبالها أنَّ لهذا الإنسان شأناً في عالَم الوجود، سوى أنّه الموجود الضعيف الذي تتألَّب عليه الضواري، ولا يقتات إلاّ على لحوم بَني جِلدته سَلباً ونَهباً، وإراقةً للدماء والفساد في الأرض.

ومن ثمَّ لمّا جاء التعبير عن شان آدم بهذا التعبير - ممّا ينمّ عن عظَمةٍ وإكبار - حسَبوه (المتصرّف في الأرض) عن جانب الله القابع في زاوية السماء، أو فسَّروه - كما في عصرٍ متأخّر - بأنَّه الخلَف عن مخلوق كان قبل آدم، الجِنّ أو النَسناس.

____________________

(١) البقرة: ٣٠.

(٢) الجاثية: ١٣.

٤٣٢

وهكذا الانجذاب بالآية يمنةً ويسرة، ما دام لم يعرفوا من حقيقة الإنسان ولا أدركوا من شأنه الخطير.

* * *

وهكذا جاء التعبير المجازي في آيتَين لا تختلفان من حيث الأداء والتعبير، غير أنّ إحداهما لمّا كانت تعبِّر عن معنى هو فوق مستوى العامّة حصل فيها التشابه، أمّا الأخرى فكانت تعبيراً عن معنىً محسوس، ومن ثمَّ لم يقع فيها إشكال، فقوله تعالى: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) فيها مجاز الحذْف، أي إلى رحمة ربّها، كما في آية أخرى نظيرتها: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (٢) أي أهل القرية، غير أنّ الأُولى صارت متشابهة لقصور أفْهام العامَّة عن إدراك مقام الإلوهية، فحسبوا منها جواز رؤيته تعالى، أمّا الآية الثانية فلم تتوقَّف في فهْم حقيقتها؛ لأنّها في معنىً محسوس.

ونظير ذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ ) (٣) دعا جهْل العامَّة بصفاته تعالى إلى فهْم ساقٍ له سبحانه، في حين أنَّ استعارة الساق للشدَّة عند العرب كان أمراً دارجاً، قال شاعرهم: (وقامت الحرب على ساق) (٤) أي أخذَت في شدّتها، فهم عندما يستمعون إلى هذا الشِعر لا يتردَّدون في فهْم الحقيقة، إذ يعلمون أن لا رِجْل للحرب ولا ساق، أمّا في الآية الكريمة فيذهب وهْمُهم إلى وجود رِجْل له تعالى وساق، ومن ثمَّ ذهب بعضهم إلى عقيدة التجسيم - تعالى الله عن ذلك -.

* * *

وقد ذهب سيِّدنا الطباطبائي (قدّس سرّه) أيضاً إلى هذا الرأي، وذكر أنَّ سبب وقوع التشابه في القرآن يعود إلى خضوع القرآن - في إلقاء معارفه العالية - لألفاظ وأساليب دارجة، هي لم تكن موضوعة لسوى معانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن

____________________

(١) القيامة: ٢٣.

(٢) يوسف: ٨٢.

(٣) القلم: ٤٢.

(٤) البرهان للزركشي: ج٢، ص٨٤.

٤٣٣

ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب.

نعم، إلاّ على أولئك الَّذين نفذَت بصيرتهم وكانوا على مستوىً رفيع، قال تعالى: ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً - إلى قوله - كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (١) . وهكذا القرآن تحتمله الأفهام على قدَر استعداداتها، وفيه من المتشابهات ما تزول بتعميق النظَر وإجادة التفكير، فيبقى القرآن كلّه محكَماً مع الأبَد بسلام (٢) .

وهكذا قال الشيخ محمَّد عبده: إنَّ الأنبياء بُعثوا إلى جميع أصناف الناس من: دانٍ وشريف، وعالمٍ وجاهل، وذكيّ وبليد، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة يفهمها كلّ أحد، ففيها من المعاني العالية، والحِكَم الدقيقة ما يفهمه الخاصَّة، ولو بطريق الكناية والتعريض، ويؤمَر العامَّة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند حدِّ المحكَم، فيكون لكلٍّ نصيبه على قدَر استعداده (٣) .

وهناك عاملٌ آخَر كان ذا أثر في إيجاد التشابه في غالبية الآيات الكريمة، إذ لم تكن متشابهة من ذي قبل، وإنّما حدَث التشابه فيها على أثر ظهور مذاهب جدَلية، بعد انقضاء القرن الأوّل الَّذي مضى بسلام، إذ كانت العرب أوَّل عهدها بنزول القرآن تستذوقه بمذاويقها البدائية الساذجة، حلواً بديعاً سهلاً بليغاً، أمّا وبعدما احتبكت وشائج الجدَل بين أرباب المذاهب الكلامية منذ مطلع القرن الثاني، فقد راج التشبّث بظواهر آياتٍ تحريفاً بمواضع الكَلِم، ومن ثمَّ غمّها نوع من الإبهام والغموض الاصطناعيَين، وأخذت كلّ طائفة تتشبّث بما يروقها من آيات؛ لغرض تأويلها إلى ما تَدعَم به مذهبَها.

____________________

(١) الرعد: ١٧.

(٢) تفسير الميزان: ج٣، ص٥٨ - ٦٢ بتلخيص واختزال.

(٣) تفسير المنار: ج٣، ص١٧٠ وهو ثالث وجه ذكرها بهذا الصدد.

٤٣٤

ولا ريب أنّ القرآن حمّال ذو وجوه - كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) -؛ لأنّه كما ذكرنا معتمد في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه، فأكسبه ذلك خاصّية قبول الانعطاف في غالبية آياته الكريمة، ومن ثمَّ نهى الإمام (عليه السلام) عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البِدع والأهواء؛ لأنَّهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة، قال (عليه السلام) لابن عبّاس - لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج -: (لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً) (١) .

انظر إلى هذه الآية الكريمة: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (٢) .

ربّما لم تكن العرب تخطر بِبالها إرادة الرؤية بالعين، كما قال الزمخشري: سمعت مستجْدِية بمكَّة - بعدما أغلق الناس أبوابهم من حرّ الظهيرة - تقول: عُيَينَتي نوَيظِرة إلى الله وإليكم (٣) ، ولم يختلِج بِبال أحد أنّها تقصد النظر بالتحديق إلى الله سبحانه، وإنَّما كان قصدُها الانقطاع إليه وتوقّع فضْله ورحمته تعالى، وهكذا في الآية الكريمة نظراً إلى موقعيّة الحصْر فيها. لكنَّ الأشاعرة وأذنابهم من مشبِّهة ومجسِّمة جمَدوا على ظاهر الآية البِدائي، وأصرّوا على أنّه النظر إليه تعالى بهاتَين العينَين اللتَين في الوجه (٤).

وهكذا لمّا سَمِعت العرب قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (٥) ، ربَّما لم تَفْهم منه سوى استقلاله تعالى بملَكوت السماوات والأرض وتدبيره لشؤون هذا العالَم، نظير قول شاعرهم:

____________________

(١) نهج البلاغة: ج٢، ص١٣٦ من الكتب والوصايا رقم ٧٠.

(٢) القيامة: ٢٢ و٢٣.

(٣) راجع الكشّاف: ذيل الآية ٢٣ من سورة القيامة. وأساس البلاغة: مادة (نظر).

(٤) راجع الإبانة لأبي الحسن الأشعري: ص ١١ طبعة حيد آباد الدكن.

(٥) يونس: ٣.

٤٣٥

ثمّ استوى بشَرٌ على العراق

من غير سيفٍ ودم مِهراق

وقال آخر:

فلمّا علَونا واستوَينا عليهم

تركناهم صرعى لنِسرٍ وكاسرِ

لكنَّ الأشاعرة ومن ورائهم سائر أهل التشبيه، أبَوا إلاّ تفسيره بالاستقرار على العرْش جلوساً متربِّعاً فوق السماوات العُلى، وقد ينزل إلى السماء الدنيا؛ ليطَّلع على شؤون خلْقه فيغفر لهم ويجيب دعاءهم، إذ لا يمكنه ذلك وهو متربِّع على كرسيّه فوق السماوات (١) .

وعلى هذا السبيل، لمّا نزلت الآية: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، لا نظنّ أنّ العرب فهمَت منها الجوارح والأعضاء، نظير قوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) (٣) ، لا يعني الجارحة المخصوصة كما زعَمته المشبِّهة من أصحاب الحشْو، وإنّما عنَى يد القدرة ونفْيَ العجْز عن التصرّف فيما يشاء تعالى.

أمّا الأشعري ومَن حَذا حذْوَه، فإنَّهم قد انحرفوا في فَهْم هذا المعنى الظاهر، فأوَّلوه إلى الجارحة، وقالوا: إنّ لله يداً ورجْلاً وعيناً ووجْهاً وما إلى ذلك؛ وقوفاً مع ظاهر الكلمة في القرآن (٤) .

* * *

____________________

(١) راجع الإبانة: ص٣٥ فما بعد، ورسالة الردّ على الجهْمية للدارمي: ص١٣ فما بعد.

(٢) المائدة: ٦٤.

(٣) الإسراء: ٢٩.

(٤) راجع الإبانة: ص٣٩ فما بعد، وغيرها من كتُب القوم وهي كثيرة.

٤٣٦

٤٣٧

حقيقةُ التأويل

- ما بين التأويل والتفسير من فَرْق.

- المعاني الأربعة للتأويل.

- هل يَعلم التأويل إلاّ الله؟

- شكوك واعتراضات.

- مزعومة المنكِرين.

- مَن هُم الراسخون في العِلم؟

٤٣٨

حقيقةُ التأويل

ما بين التأويل والتفسير من فَرْق:

التأويل يُستعمل بمعنى توجيه المتشابه، وهو تفعيل من الأوّل بمعنى الرجوع؛ لأنّ المؤوِّل عندما يُخرِّج للمتشابه وجهاً معقولاً، هو آخِذٌ بزمام اللفظ ليعطِفه إلى الجهة الّتي يحاول التخريج إليها، ومن ثمَّ يستعمل في تبرير العمل المتشابه أيضاً، كما في قصَّة الخِضْر (عليه السلام)، قال لصاحبه: ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) (١) أي سأُطلِعُك على السرِّ المبرّر لأعمالٍ أثارَت شكوكك ودَعتْك إلى الاعتراض.

إذاً فكلّ لفْظ أو عمل متشابه - أي مثير للرَيب - إذا كان له توجيه صحيح، فهذا التوجيه تأويله لا محالة، وعليه فالفَرْق بين التفسير والتأويل: هو أنّ الأوّل توضيح ما لجانب اللفظ من إبهام، والثاني توجيه ما فيه من مَثار الرَيب، وقد سبق ما بين عوامل الإبهام والتشابه من فَرْق.

هذا، وقد اصطلحوا أيضاً على استعمال التأويل في معنىً ثانوي للآية، فيما لم تكن بحسَب ذاتها ظاهرة فيه، وإنَّما يتوصّل إليه بدليل خارج، ومن ثمَّ يعبَّر عنه

____________________

(١) الكهف: ٧٨.

٤٣٩

بالبَطْن، كما يعبَّر عن تفسيرها الأوَّلي بالظَهْر، فيقال: تفسير كلّ آية ظهْرها، وتأويلها بطْنها.

والتأويل بهذا المعنى الأخير عامٌّ لجميع آيِ القرآن، كما في الأثر: (ما في القرآن آية إلاّ ولَها ظهْرٌ وبطْن)، وقد سُئل الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) عن ذلك، فقال: (ظهْرُه تنزيلُه، وبطْنُه تأويلُه، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر) (١) ، وقال (عليه السلام) أيضاً: (ظَهْر القرآن الَّذين نزل فيهم، وبطْنه الَّذين عملوا بمثل أعمالهم) (٢) ، فقد جاء التنزيل في كلامه (عليه السلام) بمعنى التفسير، أي أنّ للآية مورد نزول يكشف عن مدلولها الأوَّلي المنصرم، ويعبَّر عنه بسبب النزول، ولا غنى للمفسِّر عن معرفة أسباب النزول في كشْف إبهام الآية، كما في: آية النسيء (٣) ، وآية نفي الجُناح عن السعي بين الصفا والمروة (٤) ، وآية النهي عن دخول البيوت من ظهورها (٥) ، ونحوها كثير.

نعم، هناك عموم ثابت أبديّ تنطوي عليه الآية، وبذلك تشمل عامَّة المكلَّفين مع الأبديَّة، وهو بطْنها وتأويلها الَّذي يعرفه الراسخون في العلم؛ ولولا ذلك لبطلت الآية، قال الإمام الباقر (عليه السلام): (ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لَمَا بقيَ من القرآن شيء، ولكنَّ القرآن يجري أوَّله على آخِره ما دامت السماوات والأرض من خيرٍ أو شرٍّ) (٦).

وقد صحّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنَّ فيكم مَن يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلتُ على تنزيله، وهو عليُّ بن أبي طالب) (٧) ، فقد قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على تطبيق القرآن الخاصّ حسب مورد نزوله، وقاتل عليٌّ (عليه السلام) على تطبيقه العامّ على مشابه القوم.

____________________

(١) بصائر الدرجات: ص١٩٥. البحار: ج٩٢ ص٩٧ رقم ٦٤.

(٢) تفسير العيّاشي: ج١، ص١١. البحار: ج٩٢، ص٩٤، رقم ٤٦.

(٣) التوبة: ٣٧.

(٤) البقرة: ١٥٨.

(٥) البقرة: ١٨٩.

(٦) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٠. الصافي: ج١، ص١٤.

(٧) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٥ - ١٦.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459