الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين33%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111268 / تحميل: 8668
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام الحسينعليه‌السلام

قدوة الصدِّيقين

المؤلّف: سماحة آية الله السيد محمّد تقي المدرّسي

١

٢

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

يظل الحديث عن الإمام الحسينعليه‌السلام يشغف القلوب، ويجذب النفوس، ويستهوي الأحرار، ويستقطب المؤمنين لماذا؟ إنّه الحسين، وما أدراك ما الحسين!

إنّه صاحب الفضائل والمناقب، صاحب المقامات والمعارج الذي يتمنّى الإنسان لو تكون له واحدة منها لتكفيه شرفاً ورفعة، وفخراً وعزة ...؛ فبمجرد أن تلقي ببصرك على جانب من سيرته المباركة وإذا بالمكارم والمآثر تسطع أمام ناظريك حتّى تحتار في تشخيص أيها أجلى وأبهى من غيرها؛ فتجده (سلام الله عليه) قمة سامقة في العلم، في العبادة، في العطاء، في الإيثار، في الشجاعة، في القيادة، ناهيك عن كونه قمة سامقة في الحسب والنسب أيضاً.

إنّه كله خير، وكله بركة، ولكن ثمة محور في حياة الإمامعليه‌السلام لا يمكن التغاضي عنه، وهو كربلاء؛ حيث إنها كانت مجمع فضائل الإمامعليه‌السلام ، وخلاصة معالم شخصيته؛

٣

لذا من أراد أن يقرأ الإمام الحسينعليه‌السلام لا يمكنه ذلك من دون الوقوف على كربلاء.

إنها ملحمة أهل بيت النبوة في مقارعة الطغيان ومواجهة الضلال، إنها الفرقان بين الحقِّ والباطل، إنها الميزان في تشخيص الإيمان من الشرك والنفاق؛ من هنا كان الحديث عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، من أي زاوية، لا بدّ وأن يقرن بكربلاء؛ ولهذا صارت كربلاء الوجه البارز لحياة الإمامعليه‌السلام ، والباب الواسع الذي يدخله الناس إلى رحاب الحسينعليه‌السلام .

وقد وقف على أعتاب باب الحسينعليه‌السلام خلق كثير عبر التاريخ، كلهم يريد أن يدنو منه؛ لينهل من معارفه، ويكسب من علومه، ويتعلم من أخلاقه، ويقتفي بآثاره

ولا غرابة في ذلك أبداً؛ لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن اُسطورة تاريخية، وإنما هو نهج قد حفر في الأمة نهراً لا يمكن ردمه مهما توالت عليه أيدي الطغاة. وها نحن نعيش بعد أكثر من ألف وثلاثمئة سنة على استشهاده، ولم يخطر على بال أحد من مواليه لحظة أن ينسوه، وهم ينادون:أبد والله ما ننسى حسينا .

فذكره حديث لا يملّ منه، وفضائله دروس لا يُستغنى عنها، وكلماته مدرسة لا يمكن الغياب عنها؛ وهذا ما جعل أقلام العلماء والمثقفين تجري في تأليف آلاف الكتب عن شخصية الإمام في كل أبعادها، كما أن قريحة الشعراء لم تتوقف لحظة في الإفاضة بقصائد وأناشيد في رثائه ومدحه.

٤

ولا نبالغ إن قلنا: إنّ ما كُتب عن الإمام الحسينعليه‌السلام عبر التاريخ، وبلغات مختلفة، قلَّ نظيره لشخصية اُخرى إن لم نقل فاقها جميعاً؛ وذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام هو محيي الشريعة، ومنار الفضيلة، والحجة على الخلق، وباب نجاة الأمة؛ فهو محط أفكار المفكرين، ومركز توجه المؤمنين.

وها نحن اليوم نقف على أعتاب باب الحسينعليه‌السلام ؛ بغية درك شيء من آفاق شخصيته، ومعرفة بعض أبعادها، متتلمذين عليها، آخذين منها درس الحياة؛ وإلى هذا عمدنا إلى جمع وترتيب مجموعة أحاديث سماحة آية الله السيد محمّد تقي المدرسي في هذا الخصوص؛ لما رأينا فيها من بصائر ورؤى تنفع العباد، فكان هذا الكتاب.

فإلى كلِّ من يبحث عن الحقيقة، وإلى كلِّ من يطلب الفضيلة، وإلى كلِّ من يريد الكلمة الطيبة نقدم هذا الكتاب، راجين من الله تعالى أن يتقبله منا بقبول حسن إنه ولي التوفيق.

القسم الثقافي في مكتب سماحة آية الله السيد محمّد تقي المدرسي

٢ / ربيع الأول / ١٤٢٢ هـ                

٥

ذلكم الإمام الحسينعليه‌السلام

١ - روى أبو العباس قال: كنت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، والنبيّ تارة يقبّل هذا واُخرى يقبّل هذا، إذ هبط عليه جبرئيل بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال:« أتاني جبرئيل من ربي فقال لي: يا محمّد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لستُ أجمعهما لك، فافد أحدهما بصاحبه » .

فنظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إبراهيم فبكى، ثم قال:« إنَّ إبراهيم متى مات لم يحزن عليه غيري، واُم الحسين فاطمةُ، وأبوه علي ابن عمّي، لحمي ودمي، ومتى مات حزنت ابنتي، وحزن ابن عمّي، وحزنت أنا عليه، وأنا اُوثر حزني على حزنهما. يا جبرئيل، يُقبض إبراهيم؛ فديت الحسين بإبراهيم » .

وقبض إبراهيم بعد ثلاث، فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رأى الحسين مقبلاً قبّله، وضمه إلى صدره، ورشف ثناياه، وقال:« فديت مَن فديته بابني إبراهيم » (١) .

٢ - عن سلمان الفارسي قال: دخلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا الحسين بن علي على فخذه، وهو يلثم فاه، ويقول:« أنت سيد ابن

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي - باقر شريف القرشي ١ / ٩٥، عن تاريخ بغداد ٢ / ٢٠٤.

٦

سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام، وأبو الأئمة، وأنت حجة الله وابن حجته، وأبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم » (١) .

٣ - عن جابر بن عبد الله قال: مَن سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن عليعليه‌السلام ؛ فأني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« مَن أحبَّ أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا » (٢) .

٤ - عن يعلي (ابن مرة) العامري أنه خرج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طعام دعوا له، قال: فاستمثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذه فطفق الصبي يفر ها هنا مرة وها هنا مرة، فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يضاحكه حتّى أخذه.

قال: فوضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إحدى يديه تحت قفاه والاُخرى تحت ذقنه ووضع فاه على فيه فقبّله، وقال:« حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط » (٣) .

٥ - عن حذيفة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:« لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلاً من ولدي، اسمه كاسمي » .

فقال سلمان: من أي ولدك يا رسول الله؟

قال:« من ولدي هذا » . وضرب بيده على الحسين(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي - باقر شريف القرشي ١ / ٩٥، عن المراجعات / ٢٢٨.

(٢) ذخائر العقبى - محب الدين الطبري / ١٢٩ - ١٣٠.

(٣) فرائد السمطين - للجويني ٢ / ١٣١.

(٤) ذخائر العقبى - محب الدين الطبري / ١٣٦ - ١٣٧.

٧

٨

الفصل الأوّل

على خطى الإمام الحسينعليه‌السلام

٩

١٠

الإمام الحسينعليه‌السلام منار التوحيد

هذه رايات الحزن ترفرف على ربوع بلاد الولاء، وأناشيد الثورة الحسينيّة المباركة تلهب مشاعر الحب عند المخلصين لأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ...

بالرغم من مرور أربعة عشر قرناً ويزيد على نهضة السبط الشهيد فإنّ هناك المزيد من الحقائق التي لا بدّ أن نستوحيها منها، والبصائر التالية لمحة من تلك الحقائق:

١ - الإمام الحسين عليه‌السلام معلّم الحنفيّة

أوتدري لماذا منع بنو اُميّة - شأنهم شأن كل الجبابرة عبر التاريخ - من أن يتعلّم الناس أبعاد حقيقة الشرك، ومسؤولية الإنسان أمام الانحراف والفساد، أو الكفر والضلالة كما في الرواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام :« إنَّ بني اُميّة اطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك؛ لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه » (١) ؟

ولماذا لم يحمل إلى المشركين يوم الحج الأكبر وبعد فتح مكة - لم يحمل إليهم - سورة البراءة التي أبعدتهم نهائياً عن الجزيرة العربية سوى

____________________

(١) الكافي - للمحدث الكليني ٢ / ٤١٥.

١١

الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بأمر من الله سبحانه، وكانت تلك من أعظم فضائله؟

ولماذا الشهادة بالتوحيد في كلمة لا إله إلاّ الله تبدء بالرفض، وكان علينا أن نعلنها صريحة صاعقة كل يوم عدة مرات: أشهد أن لا إله إلاّ الله؟ لكي نعرف الإجابة لا بدّ أن نتذكّر الحقيقة التالية: إن المنزلق الخطير للبشرية والذي يريد الشيطان إيقاع الناس فيه، هو تمني التوفيق بين الحق والباطل، بين الله سبحانه وبين الشركاء من دونه. لقد حسبوا أنّ من الممكن أن يتّخذوا عباد الله من دونه أولياء، ولم يعرفوا أن ذلك يعني إلغاء الإيمان بالله رأساً. قال الله تعالى:( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ) (الكهف/١٠٢).

وإنّما كان محور المعركة الكبرى بين الرسل والاُمم الضالة هو التوحيد، ورفض الآلهة التي اتّخذها الناس شركاء لربِّ العزة. ولم يكن أحد من أعداء الرسل ينفي الربوبيّة عن رب العرش سبحانه، ولكنهم كانوا يريدون اتّخاذ الآلهة معه.

وعندما رفض الأنبياءعليهم‌السلام المداهنة في أمر الآلهة، وأعلنوا البراءة منها، وقعت المعركة الكبرى التي انتصر الله لهم فيها، وخاب المشركون، وصاروا أحاديثَ تلاحقهم اللعنة أبداً.

لقد كانت رسالة الله الى نوحعليه‌السلام تتلخص في الكلمة التالية( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (هود/٢٦).

وتلك كانت صفوة رسالة الله إلى هودعليه‌السلام :( وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ) (هود/٥٠).

١٢

وهي رسالة النبي صالحعليه‌السلام :( وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) (هود/٦١).

وهي رسالة النبي إبراهيمعليه‌السلام :( وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (الأنعام/٧٤).

ورفض النبي موسىعليه‌السلام طغيان فرعون وتبرأ منه، وقال له:( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمَاً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (الشعراء/٢١). وهدّده فرعون بالسجن، وقال له:( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لاَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) (الشعراء/٢٩). وكانت العاقبة أنّ الله تعالى نصر موسىعليه‌السلام وقومه، وأغرق الآخرين: ( وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ ) (الشعراء/ ٦٥ - ٦٦).

وتتلخص رسالة النبي الأعظم محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في إعلان البراءة من المشركين: ( وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (التوبة/٣).

ولم يداهنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله طرفة عين، بل قال لهم بكلِّ صراحة:( قُلْ يَآ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلآ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلآ أَنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلآ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (الكافرون/ ١ - ٦).

١٣

وإذا استطال الإمام عليعليه‌السلام وحطّم أصنام قريش المرصوصة حول الكعبة بأمر من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا تلى على المشركين في الموسم آيات البراءة منهم، فإنه خاض حرباً لا هوادة فيها ضد دعاة الشرك الذين تظاهروا بالإسلام؛ وكانت معركة الجمل ضد الناكثين، ومعركة صفّين ضد القاسطين، ومعركة النهروان ضد المارقين. كانت كل تلك المعارك دفاعاً عن التوحيد وقيم التوحيد.

ورفعت اُميّة راية الشرك المصبوغة بظاهر من طقوس الدين، وقاومها الأئمة الطاهرونعليهم‌السلام من أهل بيت الرسالة؛ فقد حاربهم الامام عليعليه‌السلام في صفّين بسيفه، وحاربهم بخطبه وتركها كلمة باقية في عقبه، فإذا بالإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام يحاربهم حيناً بالسيف وحيناً بالكلمة، وورثها الإمام الحسينعليه‌السلام حين حاربهم بالكلمة الصادعة، ثمّ بالقيام الإلهي، وختمت له بالشهادة.

وكانت البراءة من الشرك، ومعارضة الطغاة ميراث الأئمة الهادينعليهم‌السلام وشيعتهم ومواليهم، وستبقى هكذا حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.

فلا زالت معركة التوحيد ضد الشرك قائمة، ولا زالت الفريضة التي لا يقبل الله من دونها من أحد عدلاً ولا صرفاً هي البراءة من الآلهة التي تُعبد من دون الله؛ فالكفر بالطاغوت هو الذي يطهّر القلب من حجاب الشرك، ويوفر له فرصة إشراق نور التوحيد عليه.

ألا تقرأ قوله سبحانه:( لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة/٢٥٦)؟

وما هو الطاغوت؟ أليس كلّ حجر أو بشر يُعبد من دون الله ثمّ يستسلم له الناس؟

١٤

وتفسير الطاغوت - كما في موسوعة بحار الأنوار - هو: الشيطان، والأصنام، وكلّ معبود غير الله، وكلّ مطاع باطل سوى أولياء الله. وقد عبّر الأئمةعليهم‌السلام عن أعدائهم في كثير من الروايات والزيارات بالجبت والطاغوت، واللات والعزى(١) .

وهذه المعركة الحامية تدور رحاها في البدء على صعيد القلب البشري؛ حيث يختار المؤمنون اجتناب طاغوت الهوى والشهوات، والتسليم لربِّ العالمين في العقيدة والفكر، والاستماع الى داعي الحق.

وقد قال ربنا سبحانه في صفة هؤلاء الصفوة:( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ ) (الزمر/١٧ - ١٨).

ومن هنا فإنّه لا ينصر الله من ادّعى العلم والثقافة ثمّ آمن بالجبت والطاغوت، بل يلعنه لعناً وبيلاً، وقد قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلآءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلاً * اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (النساء/٥١ - ٥٢). وهذه اللعنة تلحق كلّ أدعياء العلم الذين يشترون بدينهم ثمناً قليلاً، ويركعون أمام بلاط السلاطين، ويسجدون إجلالاً للمال والمقام.

وقد أمر الله المؤمنين بالكفر بالطاغوت، ولم يقبل إيمان طائفة زعموا أنهم يؤمنون بالله وبالرسالات الإلهية ولم يكفروا بالطاغوت، بل أرادوا أن

____________________

(١) بحار الأنوار ٢٤ / ٨٣.

١٥

يتحاكموا اليه. ومجرد التحاكم إليه دليل على رضاهم به، فقال الله تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (النساء/٦٠).

ولا يبلغ المرء ذروة الإيمان حتّى يصل كفره بالطاغوت إلى درجة البراءة من الذين يعبدون الطاغوت، وهم المشركون ولو كانوا أقرب الناس إليهم، وقد قال ربنا سبحانه:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبراهيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضآءُ أَبَداً حتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُُ ) (الممتحنة/٤).

وهكذا كان تحطيم الأصنام البشرية والحجرية، ورفض جبروت الطغاة وجهادهم في الله جهاداً كبيراً، كان ذلك هو الفرض الأول والواجب الأهم لكل مَن شاء أن يسلك طريق الهدى، وإلاّ فإنه يبقى في ضلال بعيد.

ولقد علّم الإمام الحسينعليه‌السلام الذي انتهى إلى مقامه ميراث الأنبياءعليهم‌السلام ، وقام بأدائه بكلِّ شجاعة وإخلاص؛ علّم الناس درس الرفض، وأعطاهم معيار البراءة، وعلّمهم ما هو الشرك، وكيف يجب أن يطهّر البشر حياته منه حتّى يصبح مؤمناً حقاً. فلا مداهنة للطغاة، ولا سكوت أمام المجرمين، ولا تهرّب من واجب المعارضة ضد الظلم، ولا تهاون في فريضة القيام لله وإقامة القسط والشهادة للحقِّ، وما أمر به الله سبحانه في قوله:( يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ ) (المائدة/٨).

١٦

وهذا هو الجانب الأهم من جانبي الإيمان، وهو الذي يحاول الناس التهرب منه؛ لأنه أشد وطأً وأعظم مسؤولية.

في عصر الإمام الحسينعليه‌السلام كان هناك الكثيرون ممن ادّعوا أنهم أنصار الإسلام، وقيادات الجهاد، وعلماء الدين، ولكنهم تراجعوا أمام مؤامرات بني اُميّة، بالرغم من علمهم بأنها تهدد كيان الإسلام؛ فهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، واستمرؤا العيش الرغيد.

وإنما الإمام الحسينعليه‌السلام بقيامه الإلهي فصل بين الحقِّ والباطل، وبين أنصار الحقِّ وأدعيائه، وبين خط الرسالة المحافظ على جوهر الدين وخط النفاق المتظاهر بالدين، وعلّم الناس أنّ كلَّ آيات الجهاد وحقائق الحنفية البيضاء، الرافضة للانحراف، وكل تعاليم الأنبياءعليهم‌السلام لا زالت قائمة، وستبقى قائمة عبر العصور، وأنّ الله لم ينزل قرآناً يُطبّق في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ينتهي ويصبح سفراً تاريخياً غير قابل للتنفيذ. كلا، إنه رسالة الله إلى البشرية كافة وفي كلِّ الأحقاب.

ولقد أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام هذه الحقيقة في كلمته التي وجهها إلى العلماء، فجاء فيها:« أمّا بعد، فقد علمتم أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثمّ لم يغيّر [عليه] بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله » (٨) .

والذين يعرفون هذه الحقيقة من نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام هم وحدهم حفظة جهاده، وورثة تضحياته، والقائمون على نهضته.

١٧

وهكذا يجدد المسلمون كلَّ عام، بل كل يوم ذكرى عاشوراء؛ لأنهم يعرفون أنّ عاشوراء ثورة لا تنتهي، وأنها جزء من حكمة الحياة، وأنّ المؤمن لا يعترف بسلطة الطاغوت أنّى كان، بل يقاومه ويكافحه، وأنه يستمد من ذكرى عاشوراء ونهضة الحسينعليه‌السلام وقود هذا الصراع المقدس؛ لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام زين السموات والأرض، ومصباح درب المجاهدين.

ولقد جاء في حديث شريف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه مكتوب عن يمين العرش في خصوص الحسينعليه‌السلام أنه مصباح هدى وسفينة نجاة(١) .

وأي مصباح أبهر ضياء من مصباح الشهادة، أم أي سفينة أسرع وأوسع للناجين من سفينة الكفر بالطاغوت والقيام لله ضد الظالمين؟! ومن هنا فإنّ أيام عاشوراء هي من أيام الله؛ حيث هنا يعيش أولياء أهل البيتعليهم‌السلام روح كربلاء؛ حيث البطولة الإيمانية والجهاد في سبيل الله، وحيث ذكريات الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه الحافلة بالإيثار والفداء، إنّها أيام الرحمة الإلهية؛ حيث يتعرّض الصالحون فيها إلى نفحات الرب كما تستقبل الأرضي الطيبة غيث السماء.

إذاً تعالوا نستقبل - نحن أيضاً مع المؤمنين الصادقين - أيام عاشوراء هذا العام كما في كلِّ عام بروح الوالهين؛ لكي نتزوّد منها عزماً وعرفاناً واستقامة؛ لعلّ الله يرحمنا بفضله ويصلح ما فسد من أوضاعنا.

كيف نستقبل هذا الشهر الحرام، وكيف نتزود منه؟ في البصائر التالية إجابة على ذلك.

____________________

(١) بحار الأنوار ١ / ١٨٤.

١٨

٢ - الكلمة المسؤولة

القلب الطاهر ينبت الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة كما شجرة باسقة تؤتي اُكلُها كل حين بإذن ربها، بينما القلب الخبيث كالأرض النكدة لا تنبت إلاّ شجرة خبيثة، لا تزيد الناس إلاّ ضلالاً.

ونهضة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت كلمة طيبة، ولا تزال ثمراتها المباركة تمثّل طعاماً هنيئاً للاُمة الإسلاميّة. وما المنبر الحسيني سوى مائدة هذه الثمرات المباركة، وأمّا خطباء المنبر الحسيني فهم فروع هذه الشجرة المباركة، ومجالس العزاء مدارس هذه الكلمات المباركات.

إنّ على خطباء المنبر الحسيني أن يعرفوا قدر موقعهم المتميّز، وإنّ أيَّ تقصير يصدر منهم سيكون ذا عواقب خطيرة. إنّ الاُمة الإسلاميّة تعاني من نقص حاد جداً في الثقافة الرساليّة التي تُستوحى من حقائق القرآن وبصائر السنة وواقعيات العصر، ولا يزال المنبر الحسيني هو أفضل وأصفى وأطهر وسيلة لبث هذه الثقافة، وعليهم أن يعرفوا بإن كلمتهم يتلقّاها الناس بقدر كبير من الثقة والرضا؛ باعتبارها من كلمات الإسلام الحق.

إنَّ أهم نقطة يجب أن يعرفها الناس اليوم هي مدى مسؤوليتهم عن واقعهم المتردّي، وأنهم لا ولن يتجاوزوا هذا الواقع إلاّ بجهد كلِّ فرد منهم، وأن الأفكار السلبية والكلمات الانهزامية هي المسؤولة عن كلِّ المآسي؛ لأنها تخدّر الناس وتُبرّر لهم سكوتهم وتقاعسهم، وعدم اهتمامهم بأوضاعهم.

إننا نعرف الثقافة الصحيحة بمدى بعثها للهمم، وشحذها للعزائم،

١٩

وقدرتها على توعية الناس بمسؤولياتهم الحياتية.

أمّا الثقافة الجبانة، والتي تبرّر المعاذير، وتخدّر الناس وتمنيهم بالغرور، وتزيّن لهم الحياة الدنيا، ولا تذكّرهم بأنّ الدنيا مجرد مزرعة، ودار فتنة وامتحان، فإنها ثقافة يزيدية لا تمتّ إلى المنبر الحسيني، ولا إلى روح عاشوراء بأية صلة.

وعلى الناس أن يختاروا المنبر الذي يجلسون إليه، والخطيب الذي يستمعون إليه؛ فلا يختاروا إلاّ من نطق باسم السبط الشهيد، وتحدّث عن نهج الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان رافضاً للجبابرة والطغاة، وكان في سلوكه الشخصي مثلاً للمؤمن الموالي لأهل بيت النبوةعليهم‌السلام .

٣ - القيادة الربانيّة

والإمام الحسينعليه‌السلام أركز بنهضته راية الإسلام على أرض صلبة، وبيّن للناس مَن هو القائد الحقّ، ومَن هو المدّعي للقيادة بالباطل.

وقد أطلق في بداية نهضته كلمته المدوّية على مدى التاريخ، والتي أبان علة رفضه البيعة ليزيد عندما طالبه الحاكم الاُموي بها، فقال له بكل صراحة:« … إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المَّحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله … » (١) .

وهكذا علّمنا أنّ القيادة يجب أن تكون في أهل بيت النبوّة الذين طهّرهم الله من الدنس، وأذهب عنهم الرجس، وفيمن يسير في خطهم، ويكون على نهجهم.

واليوم، حيث تتعدد المذاهب وتتشتت القوى لا بدّ أن نبحث عن تلك

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وترجم له الخطيب البغدادي، فقال « 2 / 230 »: « محمد بن الحسين بن حفص بن عمر، أبو جعفر الخثعمي الأشناني الكوفي: قدم بغداد وحدث بها عن عباد بن يعقوب الرواجني، وعباد بن أحمد العزرمي، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، ومحمد بن عبيد المحاربي، وفضالة بن الفضيل التميمي. روى عنه محمد بن سليمان الباغندي، والقاضي أبو عبد الله المحاملي، وأبو عمرو بن السماك، ومحمد بن عمر الجعابي، ومحمد بن زيد بن مروان، وأبو الحسين بن البواب المقرئ، ومحمد بن المظفر الحافظ، وغيرهم ...

أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان الحافظ، قال: سنة خمس عشرة وثلاث مائة، فيها مات أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي مولى الأشناني لسبع خلون من صفر يوم الخميس. وأخبرني بعض أصحابنا أنه سمعه يقول: إنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وكان ثقة حجة ».

2. وفي تاريخ الطبري « 9 / 185 »: « ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي: وفيها « سنة 236 » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه ».

١٢١

3. وقال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 52 »: « وكان آل أبي طالب قبل خلافته « المنتصر » في محنة عظيمة وخوفٍ على دمائهم، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين.

وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسَّيْر إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْو أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكلٌّ خشي العقوبة وأحْجَمَ، فتناول الذيريج مِسْحاةً وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة فيه، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد، فلم يروا فيه أثر رِمَّةٍ ولا غيرها! ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمَّن الناس، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحير لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر برد فدَكَ إلى ولد الحسن والحسين وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم، وفي ذلك يقول البحتري، من أبيات له:

وإن علياً لأوْلى بكمْ

وأزكى يداً عندكم من عُمَرْ

وكلٌّ له فَضْلُه والحُجُو

لُ يومَ التَّراهُنِ دونَ الغَرَرْ

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب، وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت، وأغريت بهم العامة:

ولقد بَرَرْتَ الطالبيةَ بعد ما

ذُمُّوا زماناً بعدها وزمانا

ورَدَدْتَ ألفةَ هاشم فرأيتَهُمْ

بعد العداوة بينهم إخوانا

١٢٢

آنستَ ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ

حتى نسُوا الأحقادَ والأضغانا

لو يعلمُ الأسلاف كيف بَرَرْتهم

لرأوك أثقلَ من بها ميزانا »

4. وفي النجوم الزاهرة « 2 / 283 »: « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل ذلك كله مزارع. فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء دعبل وغيره ».

5. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / 374: « فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ

قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما ».

6. وقال ابن الأثير في تاريخه « 6 / 108 »: « في هذه السنة « 236 » أمرالمتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته، وخُرب وزُرع »!

7. وقال في مآثر الإنافة « 1 / 230 »: « بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته »!

8. وفي أمالي الطوسي / 325: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر

١٢٣

الحسين فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور، فمرَّت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمرَّ عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته!قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي بولادتي منه.

9. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: حدثني إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين (ع) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أولم يفعل. قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرتَ به، فلم أر شيئاً، ولم أجد شيئاً! فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت وما رأيت، فكتب إلى السلطان: إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرته فمخره بالماء، وكَرَبَهُ بالبقر.

قال أبوعلي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي

١٢٤

ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية، وأمرتُ بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة: لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه ».

10. في أمالي الطوسي / 327: « قال: حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد، قال: دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره، أعوده في مرضه الذي مات فيه، فوجدته بحال سوء، وإذا هوكالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والإنبساط إليَّ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج وخلا الموضع، فسألته عن حاله فقال: أخبرك والله وأستغفر الله: إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون « العمال الميامون » معهم المساحي والمرور، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني، فقمت وأنا ذَعِرٌ فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا! وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت: إرموهم، فرموا

١٢٥

فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله! فاستوحشت لذلك وجزعتُ وأخذتني الحُمَّى والقَشعريرة!

ورحلت عن القبر لوقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لماَّ لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به!

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيتَ ما تحذر من المتوكل، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر فقال لي: قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي مالا أرجو معه البقاء! قال أبو برزة: كان هذا في أول النهار، فما أمسى حتى مات!

قال ابن خشيش: قال أبوالفضل: إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة (ع) فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له: قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. قال: ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر »!

11. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثني أبوعبد الله الباقطاني، قال: ضمني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري، وكان قائداً من قواد السلطان، أكتب له، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض حتى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنه القير، وكان يتفقأ مع ذلك مادة منتنة، قال: فلما آنس بي سألته عن سواد وجهه، فأبى أن يخبرني، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فقعدت فسألته، فرأيته كأنه يحب أن يكتم عليه، فضمنت له الكتمان فحدثني قال: وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين وإجراء الماء عليه،

١٢٦

فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله (ص) في المنام، فقال: لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين.

فلما أصبحنا جاؤوا يستحثونني في المسير، فسرت معهم حتى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به المتوكل، فرأيت النبي (ص) في المنام فقال: ألم آمرك ألا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم، فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا! ثم لطمني وتفل في وجهي، فصار وجهي مسوداً كما ترى، وجسمي على حالته الأولى »!

ملاحظات على نصوص هدم القبرالشريف

1. استمرت محاولة المتوكل هدم القبرالشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 الى شعبان 237، حتى استطاع أن يمنع الزوار من زيارته ويهدمه.

لكن الشيعة واصلوا تحدي السلطة والذهاب الى الزيارة أكثر من عشر سنين حتى هلك المتوكل، وواصل هو منع الزوار ومطاردتهم، وحرث مكان القبر!

2. كان أكبر تجمع لزيارة الناس لقبر الحسين (ع) في شهر شعبان. ففي أمالي الطوسي / 328: « بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قواده، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً، ليشعب قبر الحسين (ع) ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره (ع)، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لوقتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما

١٢٧

حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها، والإنكفاء إلى المصر! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة. وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر ».

وفي أمالي الطوسي / 329: « حدثني عبد الله بن دانية الطوري، قال: حججت سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على حال خيفة من السلطان، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين (ع) فإذا هوقد حرثت أرضه ومُخِر فيها الماء، وأُرسلت الثيران العوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب! فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد، وأنا أقول في ذلك:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاكَ بنوأبيه بمثلها

هذا لعمرُك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتبعوه رميما

١٢٨

فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل، فعجبت لذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة ».

أقول: يدل استشهاد الشاعر بشعر ابن بسام على أنه كان منتشراً بين المسلمين. ويدل ما تقدم على أن المتوكل بدأ حملته على كربلاء سنة 236، وهدمَ القبر الشريف ومنع زيارته لكن المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم كسروا المنع، ورأوا المعجزات، فأصروا على زيارة قبر الحسين (ع) وتحضروا للمواجهة في السنة الثانية، ووجه اليهم المتوكل جيشاً كثيفاً، لكن لما رأى إصرارهم على قتاله، أمر قائده أن يرجع ويدعي أنه جاء في مهمة تتعلق بولاية الكوفة! واستمر الأمر على هذا نحوعشر سنين، وكان المنع من الزيارة سارياً، لكنه غير محترم. وبلغ المتوكل في آخر عمره توافد الناس الى كربلاء: « وأنه قد كثر جمعهم وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين »! واستطاعت قواته أن تهدم القبر الشريف، لكن الله تعالى هدم عمره وسقط طائر الحمام الزاجل في بغداد بقتله، كما قالت الرواية.

ومعنى هذا أن محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف استمرت إحدى عشرة سنة فقد بدأت سنة 236، واستمرت حتى هلك في الرابع من شوال سنة 247.

3. واجه الإمام الهادي (ع) خطة المتوكل. وعند صدور المنع أمر الشيعة في بغداد أن يتجنبوا المواجهة، ثم وجههم الى الزيارة وتحدي منع السلطة.

ففي الكافي « 1 / 525 »: « خرج نهيٌ عن زيارة مقابر قريش « الكاظمين » والحاير « كربلا » فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لايزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يُتفقد كل من زار فيقبض

١٢٩

عليه » ثم أمر الإمام (ع) الشيعة بزيارة قبر الحسين (ع) وجعلها أولوية قبل غيره. قال المفيد في المقنعة / 482: « روى إبراهيم بن عقبة قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث: « الإمام الهادي (ع) » أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفرمحمد بن علي (ع) ببغداد؟ فكتب إليَّ: أبوعبد الله (ع) المقدم، وهذان أجمع وأعظم ثواباً ». وكامل الزيارة / 500.

ثم قام الإمام الهادي (ع) بعمل ملفت في الحث على زيارة قبر جده الحسين (ع) فقد كان مريضاً فأمر أن يرسلوا له شخصاً يزور الحسين (ع) ويدعو له.

ففي الكافي « 4 / 568 »: « عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليَّ أبو الحسن (ع) في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول: إبعثوا إلى الحير، إبعثوا إلى الحير، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثم دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك: أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: انظروا في ذاك، ثم قال لي: إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع ب‍الحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: أجلس حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول الله (ص) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها. فأنا أحب أن يدعي الله لي حيث يحب الله أن يدعى فيها ».

١٣٠

وروى في الحبل المتين / 228، ومصباح المتهجد / 788 ، عن الإمام الهادي (ع) قال: « علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ».

ورُوِيَ ذلك عن الإمام الحسن العسكري (ع)، وهويدل على أن الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري (ع) قاوما معاً هجمة المتوكل لهدم قبر الحسين (ع).

4. نسب بعضهم الأبيات: تالله إن كانت أمية قد أتت الخ. الى ابن السكيت، والصحيح أنها لابن بسام، أو البسامي.

قال السمعاني في الأنساب « 1 / 346 »: « البسامي: بفتح الباء الموحدة والسين المهملة المشددة بعدهما الألف وفي آخرها الميم، هذه النسبة إلى بسام، وهو إسم لجد أبي الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر البسامي، من أهل بغداد، سائر الشعر، مشهورٌ عند أهل الأدب، روى عنه محمد بن يحيى الصولي، وأبوسهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، وغيرهما مات البسامي في صفر سنة اثنتين وثلاث مائة ». فقد كان في مطلع شبابه عندما هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع).

وفي وفيات الأعيان « 3 / 363 »: « كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم وكان من أعيان الشعراء، ومحاسن الظرفاء، لَسِنَاً مطبوعاً في الهجاء، لم يسلم منه أمير ولا وزير، ولا صغير ولا كبير ولما هَدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين، عمل البسامي:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمرك قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما!

١٣١

وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به، وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره، ومنع الناس من إتيانه. هكذا قال أرباب التواريخ.

ولابن بسام المذكور من التصانيف: أخبار عمر بن أبي ربيعة، ولم يستقص أحد في بابه أبلغ منه، وكتاب أخبار الأحوص، وكتاب مناقضات الشعراء ».

5. ذكر المؤرخون أن دعبلاً الخزاعي هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع)، ولم أجد شعره في ذلك، إلا بيتاً واحداً يتهم فيه المتوكل بالتخنث، كما في ديوانه / 48:

ولستُ بقائل قَذَعاً ولكنْ

لأمْرٍ مَّا تَعَبَّدَكَ العبيدُ

وأبياتاً في الحث على زيارة قبر الحسين (ع) وذم الناهين، في ديوانه / 114:

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزَارُ

وَاعْصِ الِحمَارَ فمَنْ نَهَاكَ حِمَارُ

لم لا أزوركَ يا حسينُ لك الفدا

قومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودةُ في قلوب ذوي النهى

وعلى عدوك مَقْتَةٌ ودَمارُ

يا ابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عَمُّهُ

خيرُ العمومة جعفرُ الطيَّار

عجباً لمصقولٍ أصابكَ حَدُّهُ

في الوجه منك وقد عَلاك غُبَارُ

هدم قبر الحسين (ع) قبل المتوكل

في كامل الزيارات لابن قولويه / 221: « عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي، قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين (ع) مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلا، فاختفيت في ناحية القرية حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحوالقبر، فلما دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي: إنصرف مأجوراً فإنك لا تصل إليه، فرجعت فزعاً حتى إذا كان يطلع الفجر أقبلت

١٣٢

نحوه، حتى إذا دنوت منه خرج إليَّ الرجل فقال لي: يا هذا إنك لا تصل إليه! فقلت له: عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته، فلا تَحُلْ بيني وبينه، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا، قال فقال لي: إصبر قليلاً فإن موسى بن عمران (ع) سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي (ع) فأذن له، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك، فهمَّ بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر، ثم يعرجون إلى السماء.

قال فقلت له: فمن أنت عافاك الله، قال: أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين (ع) والإستغفار لزواره! فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه. قال: فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد، فدنوت من القبر وسلمت عليه ودعوت الله على قَتَلتِهِ، وصليت الصبح، وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام ».

أقول: هذا الحديث وغيره يدل على أن الأمويين كانوا يمنعون الشيعة من التجمع عند قبر الحسين (ع) ومن زيارته، وكان المنع متفاوتاً حسب تشدد والي الكوفة وتساهله، وحسب قوة الخليفة الأموي أوضعفه.

لكن الأمويين لم يهدموا قبر الحسين (ع)، وأول من ارتكب جريمة هدمه: المنصور الدوانيقي، وذلك بعد ثورة الحسنيين عليه وانتصاره عليهم سنة 145، فقد أمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يهدمه!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثنا يحيى بن عبد الحميد الِحَّماني أملاه عليَّ في منزله، قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة، من منزلي

١٣٣

فلقيني أبو بكر بن عياش، فقال لي: إمض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعة، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إليَّ فقال لي: يا بن الحِمَّاني، إنما جررتك معي وجَشَّمتك معي أن تمشي خلفي، لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية! قال: فقلت: من هويا أبا بكر؟ قال هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى!

فسكت عنه، ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى، وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبوبكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار، وهومحلول الإزار. قال: فدخل على حمار وناداني: تعالى يا ابن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهومعي؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهوقاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه.

فلما استقر أبوبكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف فناداني: تعال ويحك فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليَّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تُكَلِّمُنَا فيه؟ قال: لا، ولكني جئت به شاهداً عليك.

١٣٤

قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر. قال: أيُّ قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص)!

وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر، وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتى كاد أن يَنْقَدَّ، ثم قال: وما أنت وذا؟

قال: إسمع حتى أخبرك، إعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني، فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق، فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي: أين تريد أيها الشيخ؟ قلت: أريد الغاضرية. قالت لي: تَبَطَّنْ هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق. فمضيت ففعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعدُّ من السنين؟ فقال: ما أحفظ ما مضى من سني وعمري، ولكن أبعدُ ذكري أني رأيت الحسين بن علي (ع) ومن كان معه من أهله ومن تبعه، يمنعون الماء الذي تراه، ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه! فاستفظعت ذلك وقلت له: ويحك أنت رأيت هذا؟ قال: إي والذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته، وإنك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم! فقلتُ: ويحك وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت: ما أجرى إليه؟ قال:

١٣٥

أيكرب قبر ابن النبي (ص) وتحرث أرضه؟ قلت: وأين القبر؟ قال: ها هوذا أنت واقف في أرضه، فأما القبر فقد عميَ عن أن يعرف موضعه!

قال أبو بكر بن عياش: وما كنت رأيتُ القبر قبل ذلك الوقت قطُّ، ولا أتيته في طول عمري، فقلت: من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن، له إذا جماعة كثيرة على الباب، فقلت للآذن: أريد الدخول على ابن رسول الله (ص) فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت. قلت: ولمَ؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله، ومعهما جبرئيل وميكائيل، في رعيل من الملائكة كثير.

قال أبوبكر بن عياش: فانتبهت وقد دخلني روعٌ شديد وحزنٌ وكآبةٌ، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام، ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدينٍ كان لي على رجل منهم، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم، فقالوا لي: ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم أنا أبو بكر بن عياش، وإنما خرجت في طلب دينٍ لي، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضرُّوا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة، فنادى رجل منهم: مولاي ورب الكعبة لا يعرض له. ثم قال لبعض فتيانهم: كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن.

١٣٦

قال أبوبكر: فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى، فرأيت والله الذي لا إله إلا هوالشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت: لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحياً، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام، فأجابني ثم قال لي: إمض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهومكروب، فلم يفتني شئ في منامي إلا الآذن والحير، فإني لم أر حِيراً ولم أر آذناً؟ فاتق الله أيها الرجل، فإني قد آليت على نفسي ألا أدعَ إذاعة هذا الحديث، ولا زيارةَ ذلك الموضع وقصدَه وإعظامَه، فإن موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل (ع) لحقيقٌ بأن يرغب في إتيانه وزيارته، فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله (ص) قال: من رآني في المنام فإياي رأى، فإن الشيطان لا يتشبه بي.

فقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك، وعنق هذا الذي جئت به شاهداً علي! فقال أبوبكر: إذن يمنعني الله وإياه منك، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به!

فقال له: أتراجعني يا عامر وشتمه! فقال له: أسكت أخزاك الله وقطع لسانك!

فأرعد موسى على سريره ثم قال: خذوه!

١٣٧

فأخذ الشيخ عن السرير، وأخذت أنا، فوالله لقد مر بنا من السحب والجرِّ والضرب، ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبداً، وكان أشد ما مرَّ بي من ذلك أن رأسي كان يُجَرُّ على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يكني!

وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك، اللهم إياك أردنا، ولولد وليك غضبنا، وعليك توكلنا.

فصيَّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلاً، فالتفت إليَّ أبوبكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال: يا حِمَّاني قد قضينا لله حقاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله (ص).

فما لبثنا إلا مقدار غدائةٍ ونومة، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً، وكان أبوبكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً، ثم يقول: اللهم إن هذا فيك فلا تَنْسَهْ، فلما دخلنا على موسى، وإذا هوعلى سرير له فحين بصر بنا قال: لا حيا الله ولا قرب، من جاهل أحمق يتعرض لما يكره، ويلك يا دعي، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم!

فقال له أبوبكر: قد سمعت كلامك، والله حسبك! فقال له: أخرج قبحك الله، والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع، أوذكر عنك لأضربن عنقك!

١٣٨

ثم التفت إليَّ وقال: يا كلب وشتمني وقال: إياك ثم إياك أن تظهر هذا، فإنه إنما خُيِّلَ لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة!

فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إليَّ وقال: إحفظ هذا الحديث وأثبته عندك، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع، ولكن حدث به أهل العقول والدين ».

ملاحظات

1. أبوبكر بن عياش، من كبار أئمة السنة وقرائهم وعُبَّادهم: « روى له البخاري في صحيحه ومسلم في مقدمة كتابه وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة. وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ». « الكواكب النيرات / 102 ».

قال الذهبي في سيره: « 8 / 495 »: « أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي، مولاهم الكوفي الحناط بالنون، المقرئ، الفقيه، المحدث، شيخ الإسلام، وبقيه الأعلام مولى واصل الأحدب لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة ».

وقد روى عنه كبار أئمة المذاهب، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب « 12 / 31 »: « وعنه الثوري، وابن المبارك، وأبوداود الطيالسي، وأسود بن عامر شاذان، ويحيى بن آدم، ويعقوب القمي، وابن مهدي، وابن يونس، وأبونعيم، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابنا أبي شيبة، وإسماعيل بن أبان الوراق، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وخالد بن يزيد الكاهلي وآخرون ».

١٣٩

ويظهر من غضبه لهدم قبر الحسين (ع) ومبادرته الى النهي عن المنكر، أنه صاحب دين، لكن طريقته في الإستنكار ساذجة، ثم نراه تراجع وسكت! وقد كانت له مكانة واحترام في الناس، فلو أنه وقف في المسجد ودعا المسلمين الى الإعتراض لأجابه الكثيرون، لكنه اعترض بطريقة بدائية، فزجره الوالي العباس بأسلوب فرعون، وقال له: قصتك ومنامك خيال وحماقة، وأنت فارسي مولى بني أسد، ونحن والحسين هاشميون، فلا تدخل بيننا!

وقصته تدل على أن مؤسس جريمة هدم قبر الحسين (ع) المنصور الدوانيقي! وأن المسلمين حتى غير الشيعة نقموا عليه واعترضوا.

2. أعاد المسلمون مشهد الحسين (ع) بعد الدوانيقي، وعادوا الى زيارته حتى جاء حفيده هارون، الذي سموه الرشيد، فهدمه مرة ثانية!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثني يحيى بن المغيرة الرازي، قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد، إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت! قال: فرفع جرير يديه، فقال: الله أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول الله (ص) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة، ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره ».

أقول: معنى: تغيير مصرعه، تغيير قبره ومكان قتله (ع). وقد قطعت قبل تلك السدرة سدرتان: سدرة البقيع وكانت تستظل بها الزهراء (ع)، وسدرة الحديبية التي بايع النبي (ص) تحتها المسلمين. وقاطعهما واحد، ولا مجال للتفصيل.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178