الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين33%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111440 / تحميل: 8702
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

خطاباً أكّدت فيه على أنّ هذا المصرع سيكون عَلَماً وبدايةً للتاريخ، وسيجتمع المسلمون حول هذا المكان ليتّخذوا منه منطلقاً للبعثة، وتحولاً جديداً للإسلام.

وكانت (سلام الله عليها) صادقة؛ لأنّها كانت تتحدّث عن أبيهاعليه‌السلام ، عن جدها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرئيلعليه‌السلام ، عن الله سبحانه وتعالى، حديثاً ذا سلسلة ذهبية تتصل برب العزة.

فبداية التحول أو التحول نفسه شمل قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فهذا سنان - وهو أحد القتلة - يأتي برأس الحسينعليه‌السلام إلى عمر بن سعد وهو يقول:

أوقر ركابي فضةً أو ذهبا

إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا

قتلتُ خير الناس اُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبون النسبا(١)

مما لا شك فيه إنّ هذا الرجل مصيره النار، وقد بدأ يعترف بجرائمه بحق خير الناس، وهكذا تبدأ الاعترافات الواحدة تلو الاُخرى، كلٌّ يقول ماذا فعل؛ ولذلك وبعد حوالي أقل من خمس سنوات من مقتل أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) قام الصحابي الجليل سليمان بن صُرد الخزاعي بتلك الثورة العملاقة (ثورة التوابين).

وكان سليمان (عليه الرحمة) آنذاك رجلاً طاعناً في السن، ناهز التسعين من عمره، ومع ذلك استطاع أن يعبِّئ أربعة آلاف شخص مستعد للشهادة، وكانوا يجمعون السلاح في شوارع الكوفة وينادون: يا لثارات الحسين.

وكانوا أول من سقى الناس الماء مجّاناً، وكانوا يقولون لمن يسقونه الماء:(اشرب والعن قاتل الحسين) ، مع أنّ

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٣ / ٣٠٥.

١٢١

جلب الماء كان صعباً حينها؛ لبُعد منابعه ومصادره عن المدينة، ولكنهم جمعوا بهذا الاُسلوب الأنصار، وقرروا الذهاب إلى الشام لمقاتلة الظلمة قاتلي الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث استشهد معظمهم في معركة غير متكافئة، فهل كانت حركتهم بداية أم نهاية؟

إنها بداية تبعتها حركة المختار الثقفي، ثم حركة أهل المدينة التي عُرفت بـ (واقعة الحرة)، والتي خلع فيها أهل المدينة بيعة يزيد والاُمويِّين من رقابهم بعد أن عرفوا حقيقتهم، فأرسل إليهم يزيد عشرة آلاف رجل بقيادة (مسلم بن عقبة)، أو كما يسميه المسلمون (مُسْرِف)؛ لإسرافه في القتل، وتجاوزه على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وصحابته والتابعين، وهتك أعراضهم، فما استسلم أهل المدينة، بل حاربوا حرباً استشهادية فدائية، أي حرب من نوع جديد تعلّموها من أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه).

فإذن هنا كانت البداية، ثمّ انّطلقت الثورات والتي كان أبرز المشاركين فيها أعقاب الإمام الحسن (سلام الله عليه)، أبناء وأحفاد الحسن المثنى الذي شارك في معركة كربلاء ولم يُقتل، وإنما جُرح، فضلاً عن أبناء خاله وخالاته، وكان قد عولج وشفي.

وقد نظم هؤلاء السادة الحسنيون حركات وثورات متلاحقة لا يرد ذكرها في الأخبار عادة. وكانت الأنظمة الحاكمة تُلقي هؤلاء الثوار في سجون رهيبة، هي عبارة عن حُفر يُلقى الطعام إليهم فيها من كوى صغيرة في الأعلى، وكانوا لا يميزون الليل من النهار في تلك الحفر إلاّ بمقدار قراءتهم القرآن الكريم، أي إنهم كانوا يقرؤون

١٢٢

ثمانية أجزاء من القرآن مثلاً حتّى يحين موعد صلاة الظهر، ثم ثمانية اُخرى حتّى يحين موعد صلاة المغرب، وهكذا فلا ليل ولا نهار، وإذا مات أحدهم لا يُدفن، بل يُترك في مكانه حتّى يتحلّل، ثمّ يموت آخر وآخر، يموتون جميعاً، فيُهدم السجن على جثثهم ويصبح قبراً لهم.

ورغم ذلك كانوا يثورون، وقد كان عيسى بن زيد بن علي بن الحسين صغيراً عندما توفّي والده في المنفى، وقد سُمّي بالسيد السقّاء؛ لأنّه خرج من بلده ودخل الكوفة، واستأجر بعيراً، وكان يسقي عليه، ويأكل من ثمن السقاية، وكان لا يُعرف عنه شيء سوى أنه سقّاء.

ولمّا توفي ترك ولدين أخذهما أحد أصحابه وجاء بهما إلى المهدي العباسي، وما إن قيل للمهدي العباسي: إنّ فلاناً جاء، قال: دعوه يدخل، فقد جاء إلى الموت برجله؛ إذ إننا نبحث عنه، وقد رصدنا مكافأة لمن يقبض عليه.

فجاء ودخل ومعه الطفلان، وسلّم على الخليفة العباسي، فلم يرّد عليه سلامه، ولكنه قال له: لقد جئت برجلك إلى الموت.

قال: يا خليفة، جئتك معزّياً ومبشراً.

قال: بم تبشّرني؟

قال: لقد توفي عيسى بن زيد.

فقال: إنها والله لبشارة حقاً.

وقد كان عيسى قبل وفاته رجلاً كبيراً في السن، وكان مجرّد سقّاء، ومع ذلك كان شبحه يلاحق الخليفة في قصره ببغداد.

ثم قال: وبم تعزّيني؟

قال: هذان ولداه وقد أصبحا يتيمين. وبكى، ثم قال له المهدي العباسي: لقد عفونا عنك لبشارتك، وأمّا الطفلان فسيبقيا عندي؛ لقرابتهما منّي، فهما وأنا من بني هاشم!

وهكذا بقي مزيد بن عيسى والحسين بن عيسى عند المهدي الذي وضعهم في دار الخلافة مع أولاده، حيث يصطحبونهم يومياً

١٢٣

إلى الصيد، أي إنهما كانا سجينين في دار الإمارة، وعندما كبر أحدهم وأصبح عمره سبعة عشر عاماً، ذهب إلى أحد الأصقاع وجمع أنصاراً وقاد ثورة على المهدي العباسي.

حملة الرسالة

وهكذا فقد حمل أولاد الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام الرسالة والثورة، ليس من الجانب الثوري وجانب حمل السلاح فقط، بل ومن جانب العبادة والعلم، وتبليغ الرسالة، وقيادة الاُمّة في مختلف المجالات أيضاً. إذاً فكربلاء كانت البداية. والسؤال هو: كيف أصبحت كربلاء البداية نهايةً في أذهان بعضنا؛ مما جعلها وسيلة للتبرير والاعتذار عن العمل والتعلل؟

إنني اُريد أن أستوحي الإجابة السليمة من الآيات القرآنية التي توّجتُ بها الحديث: إنّ في كل حركة في التاريخ جانبين؛ جانب الهدم وجانب البناء، فأنت إذا أردت أن تبني عمارة ضخمة فلا بدّ لك قبل كلِّ شيء من أن تهدم العمارة السابقة المنهارة والخاوية على عروشها، وتسوّي الأرض، وترسي القواعد، وتبني تلك العمارة الضخمة التي تريدها، أليس كذلك؟

وكربلاء أرض كانت فيها رسالتان؛ رسالة الهدم ورسالة البناء، وقد جاء الإمام الحسين (سلام الله عليه) بهاتين الرسالتين، فأعلن: لا ليزيد، ولا لبني اُميّة، ولا للطاغوت، وقال:« مثلي لا يبايع مثله » (١) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.

١٢٤

و« هيهات منّا الذلة! » (١) ، وهذا يعني الهدم. أي هدم بناء بني اُميّة، ذلك البناء الجاهلي الفاسد.

وكل حركة كانت في هذا الاتجاه كانت هدماً للطغيان الاُموي، ولكن هل كانت كل الحركات للهدم فقط؟ كلا بالطبع؛ فقد كان إلى جانب هذا الهدم بناء، والبناء هنا يعني بناء الحركة؛ فالإمام الحسين أكد أيضاً أنه: لا ليزيد، نعم لولاية الله تعالى وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وولاية الإمام الحسنعليه‌السلام ، وولاية الحسينعليه‌السلام نفسه، وولاية أولاده المعصومينعليهم‌السلام .

كفى المشكلة أنه منذ ظهور الخوارج ظهرت مجموعات من الناس لا تقول سوى (لا)، وليس عندها (نعم). كانوا يقولون: (لا حكم إلاّ لله)، ولكن الله هو الذي ينزّل الشرائع من السماء ويحكم. وقد لاحظنا عبر التاريخ أن الله يرسل أنبياءه ليحكموا،( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ ) (النساء/٦٤)،( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (النساء/٦٤).

إذاً فالقصة قصة (لا) و (نعم)؛ لا للطاغوت، نعم للرسول، نعم للإمام. وحينما قال الخوارج: (لا) حاربوا الإمام علياًعليه‌السلام ، وحاربوا الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحاربوا يزيد، وحاربوا معاوية، وحاربوا بني العباس …

وبدا أنهم يجهلون ما يريدون! ثم حاربوا أنفسهم إلى أن انتهوا

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ١٩٣.

١٢٥

وانقرضوا تقريباً؛ فلقد انهى السلب والنفي والرفض كلَّ شيء لديهم حتّى وجودهم.

حركات ذات بعدين

تعتبر حركة الإسلام حركة ذات بعدين؛ حيث بدأ الإسلام بكلمة (لا إله إلاّ الله). فحينما نقول: (لا إله) فإنّنا نعني ألا يكون هناك وثن، ولا صنم، ولا عبادة للشمس، ولا عبادة للنجم، ولا عبادة للطاغوت، ولا عبادة للقوم، ولا عبادة للعنصر، ولا عبادة للدم، ولا عبادة للوطن، ولا عبادة للأرض. أما حينما نقول: (إلاّ الله) فذلك يعني أننا نقول: نعم لله ورسوله وخلفائه، وحزبه وجنده.

في حين أن الخوارج أخذوا فقط (لا إله) فسكتوا؛ لأنّ الذي ينفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينفي الله، والذي ينفي علياًعليه‌السلام ينفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي ينفي الحسن ينفي علياًعليهما‌السلام ، والذي ينفي الحسين ينفي الحسنعليهما‌السلام ، أي إنّ الذي لا يقبل التالي إنّما يرفض الأوّل تلقائياً، يرفضه ويتسلسل.

وهذه الناحية الثانية ظلت عالقة في تاريخنا مع الأسف؛ فقد عمّقنا الرفض في أنفسنا، ولكننا لم نفلح في تعميق حالة الإيجاب؛ ولذلك أصبحنا اُمة رافضة دون أن نكون اُمة بانية لتاريخها. إذاً كيف بُني التاريخ؟

أعلى درجات الإيمان

لقد بُني التاريخ من خلال القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم يؤكّد ويركز - وبالذات في الآيات التي تلوناها - على حقيقة مهمة، وهي بصيرة التسليم؛ فلقد كانت من أعظم صفات النبي إبراهيمعليه‌السلام صفة التسليم.

١٢٦

والتسليم يعني القبول والرضا، والطاعة والاتّباع،( وإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ ) (البقرة/١٢٧). كان النبي إبراهيم يرفع القواعد، وإسماعيل يساعده،( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (البقرة/١٢٧ - ١٢٨)، والإسلام يعني التسليم والرضا المطلق.

حينما وضع النبي إبراهيمعليه‌السلام في المنجنيق ورُمي به تلقّاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟

قال: أمّا إليك فلا؛ حسبي الله ونعم الوكيل.

فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدتُ النار؛ فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي.

فقال: لا اُريد.

وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرّت النار.

قال: لا اُريد.

فقال جبرئيل: فاسأل الله.

فقال: حسبي من سؤالي علمهُ بحالي(١) .

إنّ النبي إبراهيمعليه‌السلام يطلب من الله أن يجعله من المسلمين؛ فالإسلام درجة أعلى من كل الدرجات، ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) (البقرة/١٢٨ - ١٣٠).

تُرى كيف اقتضى الاستنتاج القرآني أنّ مَن لا يرغب بسلوك طريق النبي إبراهيمعليه‌السلام أن يكون من السفهاء؟

____________________

(١) بحار الأنوار ٦٨ / ١٥٦.

١٢٧

الجواب:( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) (البقرة/١٣٠)؛ لأنّ الله اصطفى إبراهيمعليه‌السلام ، وكان أفضل الخلق في عصره،( وَإِنَّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (البقرة/١٣٠)؛ لأنه حينما( قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ) (البقرة/١٣١)، أي ارضَ بكلام الله،( قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (البقرة/١٣١)، أي إنه لا يوجد لدي اعتراض على الله؛ فأنا مستعد لتنفيذ ما يأمر به.

هكذا هي ملة النبي إبراهيمعليه‌السلام ، والأنبياءعليهم‌السلام جميعاً لديهم هذه الملة،( وَوَصَّى بِهَآ إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) (البقرة/١٣٢). هذا الخط الممتد من النبي إبراهيمعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو كله إلى كلمة واحدة، وهي كلمة الإسلام، أي التسليم والرضا المطلق.( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ ) (البقرة/١٣٢)، أي مسلمون لرب العالمين، وهكذا تتسلسل الآيات.

وحينما تكون الاُمّة مسلمة فهي تهدم العدو وتبني الصديق؛ لأنّ الإسلام يقتضي التسليم للقيادة والأوامر والأحكام الشرعية، وأيضاً رفع الاختلافات.

وقد قال ربنا في آية اُخرى:( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ

١٢٨

حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (النساء/٦٥)، أي يجعلوك حاكماً فيما نمى بينهم من الخلافات والصراعات،( ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء/٦٥).

إنّ القضايا المتواضعة التي تفتّتنا هي سبب تخلفنا، وهي في الواقع جراثيم تتكاثر وتتكاثر إلى أن تصبح خلافات وصراعات ضخمة. إنّ تعبير القرآن الكريم تعبير بليغ، فهو يقول:( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ، ولو أنّ المتخاصمين ذهبوا منذ الوهلة الاُولى لبروز الخلاف إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحسموه لما تحول هذا الخلاف إلى أنهارٍ من الدم، ومعولٍ لهدم الاُمّة والحضارة.

نحن يجب أن نبني، وعلينا ان نأخذ من واقعة كربلاء منطلقاً للبناء؛ وذلك بتكريس حسِّ الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام في أنفسنا؛ بحيث نوالي أهل البيتعليهم‌السلام ، ونوالي أولياءهم، ونعادي اعداءهم..

١٢٩

الحزب الجاهلي والتحدي الرسالي

كان الرجل مسافراً في سفرة طويلة، فلمّا عاد إلى أهله بعد سنين وجد في البيت بنتاً ذات خمس أو ست سنوات، سأل زوجته: مَن هذه البنت؟ فقالت: كنتُ حاملاً حينما سافرت.

فأضمر الرجل في قلبه شراً، وتحيّن الفرصة، وذات يوم اصطحب ابنته إلى ضاحية القرية التي كان يسكنها، وبدأ بحفرِ حفرة، بينما جلست البنت على طريق الصحراء تنظر إلى أبيها، وهي لا تعلم لِمَ كان مشغولا بحفر تلك الحفرة، وكان كلما تعب وعاد ليجلس تأتي هذه الطفلة التي هي في عمر الورود لتمسح عن وجهه التراب والغبار والعرق، إلى أن حانت ساعة الجريمة؛ فأخذها ودسّها في الحفرة وأهال عليها التراب.

في تلك اللحظة كانت أصوات الاستغاثة تتعالى من فم ابنته، لكن قلبه القاسي كان عصيّاً على الرحمة؛ فلذا دسّها ثم عاد إلى البيت ينفض ثيابه من التراب!

إحدى صور المعاناة

هذه صورة واحدة من صور المعانات التي فرضتها الجاهليّة على العرب قبل الإسلام؛ فقد كانت ثقافتهم مليئة بالعصبية وإثارة التمايز القبلي، والتعصب القومي والعنصرية المقيتة، ولم يكن الجد والاجتهاد وسائر القيم

١٣٠

البنّاءة هو ما يسود اقتصادهم، بل كان اقتصادهم مبنياً على الغارات الليلية التي كانوا يباغتون بها بعضهم بعضاً.

فإذا أحست القبيلة بالفقر فإنّها تفكر في الغزو، وتعتبره عملاً مشروعاً؛ حيث تغير بالليل أو بالنهار على قبيلة اُخرى؛ فتقتل الرجال، وتسبي النساء، وتغنم ما استطاعت أن تغنمه من الأموال.

وكانت الغارات المتبادلة بينهم تخيّم على حياتهم، حتّى إنّ الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يقول حينما يصوّر حياتهم:« كان شعارهم الخوف، ودثارهم السيف » (١) . ففي خارج ثيابهم يحملون السيف، وفي داخل أنفسهم كان يعشعش الخوف، وكانت نظرتهم الثقافية بدائية إلى أبعد الحدود.

أمّا عبادتهم فحدّث ولا حرج؛ فما كانت صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية (تصفيق وتصفير)، فكانوا يطوفون حول البيت عراة، وينشدون الأشعار الفاحشة أثناء الطواف، ويدعون الله بهذه الكلمات: (اغفر اغفر، وإن لم تغفر جزماً تغفر)، أو كانوا يقولون: (لبّيك اللَّهمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ...) (٢) .

لكلِّ قبيلةٍ صنم

وكانت الكعبة بهذه المساحة تحمل أكثر من ثلاثمئة وستين صنماً، أمّا في بلادهم فكانوا يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم من مواد شتى، بين حجارة أو تمر أو خشب، أمّا علاقاتهم الاجتماعية فكانت مبنية على أساس الخوف والترقّب؛ لأنّ أبسط الاُمور كانت قد تؤدي إلى

____________________

(١) نهج البلاغة - خطبة رقم ٨٩.

(٢) بحار الأنوار ٣ / ٢٥٣.

١٣١

 نشوب حرب طاحنة تستمر أعواماً متطاولة كما حدث في حرب (داحس والغبراء)، وربما (البسوس) التي استمرت ثلاثمئة عاماً، وكان سببها أن رجلاً قتل ناقة آخر.

وعموماً فقد كان الفقر والجوع والخوف والتردي الحضاري يسيطر على حياتهم إلى أبعد الحدود، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليغيّر هذه الحالة رأساً على عقب؛ فليس من العبث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تبق له في هذه الدنيا إلاّ بنت واحدة يقول عنها:« فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها (١) ...فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله » (٢) .

وليس عبثاً أنّ الله سبحانه وتعالى قدّر لهذه البنت أن تكون الكوثر، وأن تكون ذرّية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منها، بل إنّ ذلك لكي يغيّر الإسلام، وتغيّر التقادير الإلهية كل تلك السنن الباطلة والثقافات السخيفة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي.

عمل فريد من نوعه

وقد عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال ثلاث وعشرين سنة ما لم يعمله النبي نوحعليه‌السلام بين قومه خلال ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وما لم يفعله الأنبياء العظام اُولوا العزم والشدة في قرون عديدة.

فقد اختصر جهودهم في أقل من ربع القرن الذي عاشه مع اُمّته، وتحدى ركام الخرافات والأساطير والثقافات الباطلة، وكوّن حضارة يكمن أساس قيمتها في التعاون على البر والتقوى؛ بحيث وصلت الحال

____________________

(١) بحار الأنوار ٢١ / ٢٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٥٤.

١٣٢

بالمسلمين إلى درجة أنّ جرحى معركة (مؤتة) كانوا يرفضون الواحد بعد الآخر شرب الماء الذي أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسقيهم به، طالبين تقديمه لإخوتهم المجروحين، ولسان حال أحدهم يقول: إن صاحبي أشد عطشاً مني فاسقه قبلي. رغم أنهم كانوا يحتضرون جميعاً، وأنّ من المستحب أن يُسقى المحتضر قبل وفاته. وهكذا فقد آثر كلٌّ منهم صاحبه على نفسه ولو كانت به خصاصة حتّى ماتوا عطاشى عن بكرة أبيهم.

لقد تحول اُولئك العرب الذين كان أحدهم يقتل صاحبه بسبب لقمة خبز إلى هذه القمة العالية من المحبة والعطاء والرقة؛ فعندما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يلقي خطاباً فيهم كانت دموعهم تسيل على خدودهم؛ إذ قد تحوّل قساة القلوب إلى ذوي قلوب لينة كنبتة الربيع.

وحينما وقف الإمام الحسينعليه‌السلام على مصرع حبيب بن مظاهر قال:« لله درّك يا حبيب! لقد كنت فاضلاً تختم القرآن في ليلة واحدة » (١) . هكذا تحوّل اُولئك الناس، وإذا بالأرض الإسلاميّة تخضرّ، وإذا باُولئك الأذلاء يتحولون إلى أعزّة، وإذا برسل العرب وكتبهم تتواتر وتتوافد على أقطار الأرض، وإذا بهرقل الروم وكسرى فارس وقيصر الروم والغساسنة يكتبون الرسائل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو لمن جاء بعده متوسّلين قبول عذرهم، وإذا بالجيوش الإسلاميّة تقتحم المدن بعد المدن وتصل إلى ما تصل إليه.

وخلال ربع قرن ساد الإسلام مناطق واسعة من العالم؛ ذلك لأنّ القيم الجاهليّة الشيطانيّة الخبيثة تحولت إلى قيم ربانية عالية. ولكن الجاهليّين

____________________

(١) مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام / ١٣١.

١٣٣

جاؤوا ولبسوا رداء الإسلام وتسللوا إلى مواقع السلطة، وهؤلاء هم بنو اُميّة ومَن لفَّ لفيفهم، وقد حملوا راية الكفر علنا، وكان هدفهم الأساس إعادة تلك الجاهليّة الاولى بكل تفاصيلها.

ولهذا قال الإمام الحسينعليه‌السلام :« إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الاُمّة براع مثل يزيد! » (١) ؛ لأن يزيد جاء فعلاً لهدف تصفية الإسلام تصفية تامة، وهو لم يكن أرعنَ كما يدّعي بعض المؤرّخين، بل كان يدرك جيداً ما يفعل، وكان الحزب الاُموي يحكم من خلاله، ومن خلال أبيه، ومن خلال من تلاه من خلفاء الجور.

صراع مبدئي

إنّ قصة الصراع بين أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وبين الحزب الاُموي ليست حكاية بسيطة ذات دوافع هامشية، بل إنها صراع بين الحزب الرسالي (حزب الله)، والحزب الجاهلي (حزب الشيطان).

أو هو صراع بين الشجرة الطيبة( مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ) (إبراهيم/٢٤)، والشجرة الملعونة في القرآن( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرض مَالَهَا مِن قَرَارٍ ) (إبراهيم/٢٦)؛ فالشجرة الاولى تنتج الورد والثمار الطيبة، والشجرة الثانية تنتج الحنظل والأشواك، والصراع إنّما هو بين منهجين وبرنامجين.

ومثلما كان لدى الاُمويِّين مخطط مدروس بدأ بتنفيذه معاوية، واستمر طيلة حكم بني اُميّة، كذلك كان لدى آل الرسول (سلام الله عليهم) برنامج واضح أيضاً، قام كلٌّ منهم فيه بدور، وهذا البرنامج ليس من الأرض وإنما جاء من السماء.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٦.

١٣٤

وقصة عاشوراء ليست طارئة، وإنّما هي حلقة من المخطط، أي إنّه لا بدّ أن يصطدم الفريقان، ولا بد أن يُقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ليفتح بشهادته خطّاً جديداً للاُمة لمقاومة التحريفية الاُمويّة، وينبغي أن يحدث ذات الأمر في مواجهة أية تحريفية اُخرى في التاريخ. وهذا البرنامج أزلي أبدي منذ خلق الله الكون وإلى ما شاء الله سبحانه.

ما هي مسؤوليتنا؟

وإزاء مثل هذا المخطط الاُموي المستمر حتّى الآن، وفي سياق البرنامج الرسالي الأزلي الأبدي، ما هي مسؤوليتنا نحن؟

إنّ هذه المسؤولية تتمثل - أوّلاً - بالدفاع عن تلك القيم التي دافع عنها الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ حيث جاء ليدافع عن الصلاة والصوم، والزكاة والحج. أما إذا فصلنا الحسينعليه‌السلام عن هذه القيم فسنصبح كأننا نقبل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكننا نتصوره بشكل آخر في أذهاننا لا كما بعثه الله سبحانه وتعالى. والنبي الذي لا يأمر بالصلاة والصيام والحج ليس نبياً، ولم يبعثه الله.

وحينما نقرأ زيارة وارث ونقول:« أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر »، فهذا الكلام يعني أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد جسّد هذه القيم، واستشهد من أجلها.

ولو سُئلتُ أن اُلخص هدف الإمام الحسينعليه‌السلام في كلمة واحدة، لقلت: إنّ هدفه وهدف كلِّ الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام هو القرآن، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي هو الثقل الأكبر؛ فقد ضحى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام من أجله، ولو بقي القرآن غريباً بيننا، لا يتدبر الواحد منّا في

١٣٥

آياته، ولا يقرأ الآخر تفسيره، ولا يطبقه الثالث على حياته، فسنكون ممّن وجّهوا السهام إلى قلب الحسين المقدس.

وبقيت كلمة هامة؛ فإذا رأينا قناة انحصر عنها الماء فلا ينبغي أن نسدها، وإذا رأينا صحناً قلَّ فيه الطعام فلا يستحسن أن نهشمه، وإذا رأينا قرآننا لا يُطبَّق لا نمزق رسمه، أي لا بدّ أن تبقى قضية الحسينعليه‌السلام ساخنة في كل مجال حتّى لو كانت مفرغة لبعض الوقت من جلّ مضامينها؛ لأنّه سوف يأتي قوم ويملؤون هذا الفراغ، ويحوّلون هذه القضية إلى قضية رائدة.

١٣٦

واقعة كربلاء ثورة مستمرة

إنّ قضية كربلاء هي أساساً ليست قضية عادية تتكرر، بل هي تشبه بعثة الأنبياءعليهم‌السلام ، وقضية الطوفان في التاريخ، وسحرة فرعون، وشق البحر لموسى، وما أشبه ذلك من الأحداث الهامة التي لا تتكرر.

وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يضرب بهذه الواقعة المثل الأعلى للظلم من جهة، ولتحدي الظلم من جهة اُخرى؛ لكي لا يدّعي أحد من البشر أنّ الظلم الذي وقع عليه هو ظلم عظيم لا يستطيع تحديه، ولكي لا يتذرع شعب بإن النظام الحاكم عليه هو نظام متجبّر قاهر طاغوتي لا يستطيع الوقوف بوجهه؛ فلقد كان النظام الذي تسلّط على رقاب المسلمين في ذلك اليوم أشدّ قهراً وطغياناً؛ ولكي لا يقول أحد إنّه لا يستطيع أن يعمل من أجل الله تعالى بحجة أنّه يخشى على أمواله؛ فلقد جاء أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء ومعه صفوة أمواله.

ولكي لا يزعم أحد أنّه يخاف من الثورة لأنها سوف تسلبه راحته؛ فالإمام الحسينعليه‌السلام أقلقته الثورة حتّى أنه اندفع من المدينة المنورة إلى مكة، ومن مكة إلى الكوفة، وفي طريق الكوفة انحرف إلى كربلاء.

١٣٧

وبالإضافة إلى ذلك لكي لا يقول أحد إنّه يخاف على نفسه من القتل؛ لأنّ دمه ليس أزكى من دم أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيّد شباب أهل الجنّة.

ولكي لا يقول أحد إنّه يخاف على منصبه ومرتبته العالية بين الناس، وإنّ الحكومة سوف تعلن أنّه رجل إرهابي وجاسوس للأجانب؛ فسيّدنا وإمامنا الحسينعليه‌السلام ضحّى بعنوانه ومركزه في كربلاء؛ فشريح القاضي أفتى بحلّية دم الإمام الحسينعليه‌السلام ، كما أنّنا نعلم أنّ رأسه الشريف المبارك طيف به في كل مكان، وكانت المنابر كلها تعلن أنّ هذا هو رأس الخارجيّ الذي خرج على الحكومة الشرعية!

ثمَّ لكي لا يقول أحد إنّ نفسه لا تهمّه، ولكنه يخشى على أطفاله، وزوجته، وعرضه، وناموسه من انتهاك السلطات لها؛ فالإمام الحسينعليه‌السلام قدم إلى كربلاء ومعه كلّ عياله، وفيهم عقيلة بني هاشم، تلك المرأة الشريفة المحترمة التي كانت في يوم من الأيام أميرة على البلاد الإسلاميّة، واُختها اُمّ كلثوم، ومجموعة اُخرى من الفتيات الهاشميّات المخدّرات، ومع كلّ ذلك فقد أتى أبو عبد اللهعليه‌السلام بكلّ أهل بيته، معلناً عن استعداده لأن يعرّضهم للسبي والأسر والسلب في سبيل مرضاة الخالق (عزّ وجلّ).

ولهذا فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد سلب منّا بثورته الخالدة كلّ الأعذار والتبريرات بعدم الثورة، فلماذا لا نثور، وممّن نخاف، وأيّ نهج يجب أن نتّبعه؟ إنّ علينا تحديد منهجنا منذ الآن؛ فأمّا مع الحسين بن عليعليه‌السلام ، وأمّا مع يزيد بن معاوية.

وهناك أيضاً منهج وسط يلتقي مع

١٣٨

منهج يزيد، وهو الطريق الذي سار فيه شريح القاضي؛ حيث ادّعى أنه سوف لا يدخل الحرب ضد الحسينعليه‌السلام ، ولكنه دخل في النهاية في معسكر يزيد بن معاوية.

علينا أن نتساءل عن سبب حدوث واقعة كربلاء؛ ليأتينا الجواب بأنّ الله تبارك وتعالى قدّر هذه الواقعة لتكون المثل الأعلى للمؤمنين الرساليين الذين يتّبعون نهج أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ولكي لا يبقى أيُّ تبرير أو حجّة للإنسان في استسلامه للطغاة.

وهكذا فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام يبقى العنوان والمثل الأعلى للثورة الإسلاميّة. فعلى الرغم من مرور ما يقرب من ألف وأربعمئة عام على واقعة كربلاء ولكننا نرى التهابها يزداد في كلِّ عام، وكأنها حدثت قبل فترة قصيرة، وخصوصاً في البلدان التي يكثر فيها الموالون لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ ذلك لأنّ الحسينعليه‌السلام هو ثورة خالدة في قلوب المؤمنين إلى الأبد، وليس باستطاعة أية قوة أن تخمد هذه الثورة.

فمنذ زمان هارون العباسي والمتوكل وغيرهم من الطغاة كانت هناك محاولات مستمرة لمنع إقامة العزاء على الإمام الحسينعليه‌السلام ، والوقوف في وجه هذا المد الإسلامي الجارف، ولكن هل استطاعوا أن يفعلوا شيئاً؟

إنّ واقعة كربلاء هي ثورة مستمرة لا يستطيع أحد في العالم أن يخمدها؛ فهي ثورة منطلقة من الماضي لتصنع المستقبل، ولتخلق واقعاً جديداً وحياة اُخرى.

إنّ الشباب الرسالي الواعي لا بدّ أن يدرك أنّ قضية أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ليست قضية تاريخية مضت، بل هي ثورة مستمرة هدفها

١٣٩

إحراق كل عروش الظالمين. فما دام هناك حاكم ظالم جالس على أريكة الحكم، فإنّنا مستمرون في الدفاع عن مبادئ الحسين، وحمل رايته حتّى نسقطهم جميعاً.

وهذه الروح الاستمرارية التي أعطتنا إياها قضية كربلاء هي أكبر رأسمال نملكه؛ فلولاها لكان الطغاة قد منعونا حتّى عن الصلاة، ولأدخلوا الكفر والفسوق إلى بيوتنا، ولاستعبدونا، ولم يتركونا نتمسك بقيمنا وديننا.

١٤٠

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة ، فالإنذار يترك فيهم أثرين : الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم ، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة ، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار ، وذلك على خلاف الكفّار عمى القلوب الغافلين الذين لا يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

٢ ـ باعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد».

لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(١) ، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير ، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

٣ ـ «الخشية» كما قلنا سابقا ، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى ، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا ، وهو أنّه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله ، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته ، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء ، اللذين هما عاملا الحركة التكاملة المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

__________________

(١) انظر النحل : ٤٤ وفصّلت : ٤١ ، والزخرف : ٤٤ والقمر : ٢٥ ، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيرا بمعنى «التذكير المطلق».

١٤١

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف ، والخوف ممزوجا بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

٤ ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان ، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان ، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضا أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعا ريائيا ، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضا بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للأمور المغيبة عن حسّنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

٥ ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار ، إذ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البدء ينذر ، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريعزوجل .

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر ، وهو تلك الزلّات التي ارتكبها ، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّا الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ استخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعظم.

٦ ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفضيل ، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل ، والثانية على الثاني.

__________________

(١) الأحزاب ، ٢١.

١٤٢

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ) .

الاستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط ، بل( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) .

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال

١٤٣

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ) .

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كلّ هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما للخلق ، وبناء على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال.

* * *

مسألتان

١ ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب ، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها : «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصى جميع أعمال الفرد على مدى عمره( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(٢) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة ١٩ و ٢٥.

ثانيا : «صحيفة أعمال الامّة» والتي تبيّن الخطوط الاجتماعية لحياتها ، كما

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٤٩.

١٤٤

يقول القرآن الكريم :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .(١)

وثالثها : «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع ، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط ، بل لجميع الحوادث العالمية ، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم ، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

٢ ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : «ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء! قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتّى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . هكذا تجمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء ، طالبا ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(٢) .

هذا الحديث المؤثّر ، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد ، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(٣) .

__________________

(١) الجاثية ، ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، ح ٢٥.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٢ ، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري ، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا ، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلّامة الطباطبائي ـ أيضا ـ بتفاوت يسير.

١٤٥

اتّضح إذا أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، وله في كلّ من تلك الأمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت»عليهم‌السلام حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : «لمّا أنزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا : يا رسول الله ، هو التوراة؟ قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا : فهو القرآن؟ قال : لا ، قال : فأقبل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(١) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي» ، قد إستاء كثيرا من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة ، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع وعدم التمكّن من التّفسير ، إلّا أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الأوّل ، ثمّ يليه قلب وليّه ، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب ، لأنّهما فرع لذلك الأصل ، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب معنى الإمام ، صفحة ٩٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٩.

١٤٦

الكبير ، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟

وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر ، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

١٤٧

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) )

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجا من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها ،

١٤٨

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيها لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحيانا على نفس الناس أيضا ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديما ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

__________________

(١) يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأوّل.

١٤٩

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول :( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) (١) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيحعليه‌السلام (ولا منافاة مع قوله تعالى :( إِذْ أَرْسَلْنا ) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضا) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرّع بها الكثير من الكفّار دائما في مواجهة الأنبياء( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) .

فإذا كان مقرّرا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكا مقرّبا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنسانا ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضا على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

١٥٠

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لا بدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) ومسئوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

( وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الادّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلّا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضا أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسىعليه‌السلام .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) (١) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ،

__________________

(١) تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية ١٣١ ، وذيل الآية ٤٧ من سورة النمل.

١٥١

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لملمدّة(١) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد احتمالان ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت ، ومن الممكن أن ذكر العذاب الأليم إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعا اخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضا أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(٢) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من استقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء :( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٢) وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والاتّهام والقذف.

١٥٢

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة( أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلّا النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(١) .

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة أولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

__________________

(١) التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الأمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

١٥٣

الآيات

( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) )

١٥٤

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول :( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما استطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فردا عاديا ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّا أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

١٥٥

الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «يا قوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجرا ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) (١) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون :( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ عدم الاستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطؤ عن الاستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا

__________________

(١) الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠.

١٥٦

تضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي ألاحظ بوضوح أنّ هناك صوتا يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذا عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا :( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ) .

هنا أيضا يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فما ذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريدون أحدا بضرّ ، إلّا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

١٥٧

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد :( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعند ما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة( فَاسْمَعُونِ ) والجملة السابقة لها( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضا ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية(١) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال :( يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) غافر ـ ٣٨.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم أولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

__________________

(١) راجع الآيات ٣ و ٣٢ يونس ـ ٣ و ٥٢ هود ـ ٢٤ النمل ٢٩ ـ الكهف وغيرها.

١٥٨

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القويّة الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ، حتّى قتلوه(١) .

وفي رواية اخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(٢) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات أخرى من القرآن الكريم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(٣)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم أخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار»(٤) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٨ و ١٩.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٤.

(٣) آل عمران ، ١٦٩.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨.

١٥٩

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرة!!

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(٢) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والاحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، وأصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنبا إلى جنب ،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٣) . ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين :

__________________

(١) بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة احتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو استفهامية ، ولكن يبدو أنّ احتمال كونها استفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون مصدرية.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، ـ صفحة ٢٠.

(٣) الحجرات ، ١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178