الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين0%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 178
المشاهدات: 104244
تحميل: 7401

توضيحات:

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104244 / تحميل: 7401
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لماذا الإمام الحسينعليه‌السلام مصباح الهدى

من المعروف أن في جسم الإنسان نظاماً يدافع عنه ويحميه، ويحول دون تسرب الجراثيم إليه أو السيطرة عليه، وإذا ما تزعزع هذا النظام في يوم من الأيام فإنّ الإنسان سيصاب بما يُدعى اليوم بمرض فقدان المناعة (الإيدز)، وهو المرض الذي يمنح مختلف الجراثيم القدرة على القضاء على حياة الإنسان.

إنّ الله تبارك وتعالى حينما خلق ابن آدم خلق له العين التي يبصر بها، واليد التي يبطش بها، والرجل التي يسعى بها، وخلق له أجهزة هي الغاية في الدقة والاتقان، وخلق مع ذلك كلّه سياجاً رصيناً يتمثّل في نظام المناعة الذاتية.

وكذلك أوجد سبحانه وتعالى نظام الدفاع في داخل الإنسان؛ حيث زوّده بشبكة بالغة التعقيد من الأعصاب، فترى لكلِّ خلية عصبية طرفين؛ طرفاً في المخ وآخر مثبتاً في أطراف الجسد، فحتّى لو أنّ نملة - على حقارة حجمها ووزنها - وقفت على إصبع من أصابع رجل الإنسان، فإنّه سرعان ما ينكشف أمرها عبر ما يوعز به المخ بسرعته الخيالية؛ لكي تتحرك اليد - مثلاً - لتطرد هذا الجسم الغريب.

وأوجد (عزّ وجلّ) العين الباصرة ليكون بمقدور صاحبها دفع الخطر عن نفسه ومحيطه، أمّا مَن لم يتمتع بالاُذن السامعة، أو قابلية الشم، أو اللمس

١٤١

أو التذوق فإنّه سيكون عرضة للهزيمة أو الانهيار أو التضرر على أقل تقدير؛ لأنّ نظامه الدفاعي قد حلّ فيه الخلل والنقصان. وبالإضافة إلى كلِّ ذلك هناك طاقة إنسانيّة كبرى يختزنها الإنسان ليستفيد منها في أشد الأوقات حراجة، وهي الإحساس المسبق بالخطر، الإحساس الذي يوفّر له القدرة على التصدي والتجاوز، هذا فضلاً عن قدرة العقل والتفكير لوضع الخطط واختيار الوسائل للدفاع.

وهذا الواقع نجده أيضاً في المجتمع؛ حيث يملك - بما آتاه الله - القدرة للدفاع عن نفسه عبر المميزات المادية والروحية والفكرية. ولعل أوّل عوامل انهيار المجتمع أو الدولة هو الافتقار إلى هذه المميزات.

فمثلاً: إذا كانت هناك دولة من أجمل وأحسن وأرقى الدول، ولكنها تفتقر إلى جيش يدافع عنها أمام الأخطار الخارجية، أو أنها تفتقر إلى الجهاز الأمني الذي من طبيعته المسارعة في كشف الأخطار، إنّ مثل هذه الدولة تصاب بالعطب والانهيار غالباً؛ وعلى ذلك فإنّ الصحة والأمان نعمتان لا يمكن الاستعاضة عنهما بأية مميزات اُخرى؛ سواء على الصعيد الخاص أو العام.

فالاُمّة التي تستطيع الدفاع عن نفسها؛ حيث تمتلك الشرف، والإباء، والحماسة، وقدرة مقاومة الأخطار، هذه الاُمّة تبقى أمة شامخة، أمّا الاُمّة التي تفتقر إلى نظام دفاعي، أو لا تجد في قاموسها مكاناً لمعاني الشرف والحماسة والرغبة في التصدي فإنّها اُمّة سرعان ما تنهار وتذوب في مطامح الأمم الاُخرى.

وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: إنّ الدول إنّما تقوم على أساس العصبية. ومراده من العصبية الغيرة، والحمية، والشرف، والاستعداد الدائم لمقاومة الأعداء والأخطار حتّى الموت.

١٤٢

فالاُمّة التي تملك هذه القيمة، ويعرف أبناؤها أنّ هناك ما هو أغلى من الحياة والعيش لبضعة سنوات يبقى فيها المرء صاغراً، هذه الاُمّة تبقى ولا تنهار.

إنّ هذه القيمة الإنسانيّة الراقية عبّر عنها أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسّلام) بقوله مخاطباً أصحابه:« فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين» (١) ، أي إنّ مصداقية حياة الإنسان لا تتحقق إلاّ بكونه منتصراً، وإنّ الموت يهيمن على الإنسان بكلِّ ثقله ما دام مقهوراً منهزماً وإن حلا له تصوّر كونه حياً.

لقد عاشت وتعيش اُمتنا المسلمة منذ ما يزيد على ألف وأربعمئة سنة، متحدية للزمن الصعب؛ حيث مرّت بها حوادث كانت الواحدة منها حريّة بتدمير أي اُمّة من الاُمم الاُخرى، ولكن الاُمّة الإسلاميّة قاومت وتصدّت بفضل ما تملك من نظم دفاع ووقاية.

فهل تعرف أنّ الحروب الصليبية قد استمرت حوالي مئتي عام، أي ستة أجيال كاملة، وأنّ بعض تلكم الحملات كانت تضم ما يزيد على المليون مقاتل صليبي تجمّعوا للاستيلاء على الشرق، وبالذات على بقعة صغيرة منه هي بلاد الشام أو فلسطين؟

وهل تعرف أنّ الحملات التترية على المسلمين قد أبادت مدناً بأكملها؟ ولكن الاُمّة الإسلاميّة ظلت مقاومة صامدة بفضل تعاليم القرآن، وبفضل الملاحم التاريخية الفذة التي سجّلها المسلمون بأحرف من نور، وبفضل القيم التي كرّسها المؤمنون خلال مواقفهم البطولية في الصدر الأوّل للإسلام، وبفضل ما غرسته ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء في نفوس المسلمين من قيم وتعاليم وبصائر.

____________________

(١) نهج البلاغة - الخطبة رقم ٥١.

١٤٣

وقد سألني أحدهم - وأنا واقف في عرفة أثناء الحجّ - عن السبب وراء ما اُرّدده على لساني من ذكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، رغم أنّ الجميع يعرف أن منادياً ينادي من قِبل الله سبحانه وتعالى في يوم عرفة:(انصرفوا مغفورين؛ فقد أرضيتموني ورضيت عنكم) (١) ، في وقت يراني فيه جالساً أو واقفاً وأنا أقول:« السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم، السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين » .

أو يسألني عن سبب بكائي على الحسينعليه‌السلام في عرفة واهتمامي البالغ في قراءة دعاء الإمام الحسين الذي قرأه هو في يوم عرفة.

ولا أجد ما اُجيبه سوى القول: بأن كلّما نملك فإنّما هو من الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فهو الذي علّمنا كيف ندافع عن أنفسنا في مقابل الطغاة، وأن نعيش أعزةً، وألاّ نموت إلاّ بعزّة؛ فهذه الشعلة المتّقدة فينا قد امتلكناها من الحسينعليه‌السلام ؛ حيث قال سلام الله عليه:« إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر » (٢) .

وهذه رسالة ليس من شأنها أن تكتب بيد عادية، بل كتبت بدم الحسين، ودم أبنائه، ودم رضيعه (سلام الله عليهم أجمعين).

أعطى الذي ملكتْ يداه إلهه

حتّى الرضيع فداه كلُّ رضيعِ

لقد تعلّمنا من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام وما قدّمه من تضحيات

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٦ / ٢٤٩.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٨٨.

١٤٤

طالت أعزَّ ما لديه أنّ الحياة التي كتبها الله سبحانه للإنسان ليست هذه الحياة التي يضطر فيها الواحد منّا إلى الاستجداء أو خدمة الظلمة والخضوع لهم.

وقد استلهم أتباع هذا الإمام العظيمعليه‌السلام هذا الدرس المقدّس في أرض المقاومة في لبنان؛ حيث قدحت شرارة الدفاع المقدس في جنوب لبنان، وتمكّن الشباب الثائر من إلحاق الهزيمة النكراء بالقوة الصهيونية التي كانت تقف وراءها جيوش سبع عشرة دولة.

وقد سطّرت المقاومة الإسلاميّة في لبنان آلاف الملاحم البطولية لتحقيق هذا الإنجاز العظيم، وكان في كلِّ ملحمة من هذه الملاحم ما يهزّ قلب وفكر الإنسان بما للكلمة من معنى؛ وذلك لأنّ شيعة الحسينعليه‌السلام في الجنوب اللبناني قد فهموا الدرس الحسيني الخالد جيداً، كما أخذوا على أنفسهم أن يتأسّوا بسيرة علي الأكبر والقاسم بن الحسن المجتبىعليهم‌السلام ، وكيف أنهما - كما يشير التاريخ الموثق لملحمة كربلاء - لم يوليا أهمية للدنيا؛ لأنّهما قد عرفا ما حاق بالدين من خطر ماحق، وما ينتظرهما من حياة أبدية سعيدة إذا ما نهضا بوجه الظلم والطغيان.

ومن هنا قال علي الأكبر لأبيه الإمام الحسينعليه‌السلام بعد أن عرف بأن الحق معهم: يا أبة، لا نبالي بالموت(١) . ومن هنا أيضاً رأينا كيف أنّ القاسم بن الحسن لم يأبه بتلك الجموع الظالمة، وجلس ليصلح شسع نعله وهو محاصر بين ألسنة النيران، ووابل الحجر، ووميض السيوف والرماح.

واليوم نجد أنّ نفس هذه الروح المقدسة قد انتقلت من المجاهدين

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٧ و ٣٧٩.

١٤٥

اللبنانيين لتستقر في ذات الشباب الفلسطينيين الذين يتسابقون فيما بينهم لينالوا شرف الشهادة في سبيل الله؛ ذلك لأنّ قصص وملاحم التضحية والفداء قد انتقلت هي الاُخرى إليهم.

أمّا في العراق، فأقولها بصراحة: إنّ نظام صدام لم يدع وسيلة قمع وإفساد إلاّ واستخدمها، ولو أنّنا لجأنا إلى الإحصاءات في هذا المجال لوصلنا إلى أرقام نجومية؛ فقد تمتّع صدام بدعم كافة القوى العالمية، وكانت كافة الإمكانات الدولية تحت تصرفه؛ بسبب ما كان يؤديه من خدمات للصليبية والصهيونية العالمية بموقفه المجرم وحربه الشعواء ضد الجمهورية الإسلاميّة في إيران، ولا يزال الغرب يرى أنّ من مصلحته التعامل مع صدام كرئيس ضعيف في المنطقة.

ولكن مع كل ذلك لا يزال الشعب العراقي شعباً مقاوماً، وأبرز دليل على ذلك تمسك هذا الشعب بأصالته الدينية والثورية المتمثلة في إقامة الشعائر الحسينيّة بمختلف الطرق، رغم الحجر والمنع، والتخويف والإثارة. زرافات الناس تنهمر انهمار السيل على كربلاء، متحدّين موقف السلطة الظالمة إزاء إحياء الشعائر الحسينيّة، ومقاومين لطغيانها وبطشها.

إنّ ملحمة كربلاء علّمتنا وعلّمت أبناءنا كيف نحارب في لبنان، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وفي العراق لندافع عن قيمنا وشرفنا، وبهذا صار الإمام الحسينعليه‌السلام مصباح هدى وسفينة نجاة.

فاُمّتنا لا بدّ لها من تجاوز الذات لتحقيق المصالح الكبرى؛ إذ إنّ الدفاع عن القيم فوق الذاتيات، وفوق المصالح الفردية العقيمة، وعندئذٍ ستتحول اُمّتنا إلى خير اُمّة سواء في الدنيا أو الآخرة.

١٤٦

فالله تبارك وتعالى لم يقل: كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس؛ لأنكم تملكون الثروة أو النفط أو الموقع الاستراتيجي، أو لأنكم تمتلكون نظاماً تشريعياً جيداً. كلاّ، فالذي يملك كل ما ذكرناه ولكنه يفتقر إلى قدرة الدفاع عن نفسه يذهب كلُّ ما يملكه هباءً منثوراً، تماماً كما الإنسان الضخم الجثة ولكنه جبان خائر العزم، لا قيمة له ولا يهابه أحد.

ربنا سبحانه وتعالى يقول:( كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ) (آل عمران/١١٠)، وهو الأساس في المسألة برمّتها.

ولقد قرأنا عبر الروايات التاريخية الخاصة بمقتل الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ الطاغية يزيد قد أمر بأن يطاف برأس الإمامعليه‌السلام في مختلف المدن والقرى في البلاد الإسلاميّة، وأنّ الرأس الشريف كان إذا ما وضع في موضع من هذه المدينة أو تلك يقرأ قوله سبحانه وتعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَاَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَن نَدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَآ إِذاً شَطَطاً * هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إلى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ

١٤٧

وَيُهَيّءْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً ) (الكهف/٩ - ١٦)؛ وذلك ليبيّن للناس بأنّه يمثّل قصة أصحاب الكهف في التاريخ المعاصر، أي كما قام الفتية من أصحاب الكهف وانتفضوا وبيّنوا الحقيقة، ودافعوا عن القيم من داخل حالة الظلم، فدافع الله عنهم ونصرهم؛ فغلب دينهم على الدين الآخر، كذلك الإمام الحسينعليه‌السلام كرر القصة نفسها؛ لأنّه كان قد ملؤه الإيمان والتصديق بوعد الله القائل:( فَلَن تَجِد َلِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (فاطر/٣).

واليوم نجد أنّ خط وفكر الإمام الحسينعليه‌السلام هو الذي ينتصر في كلِّ مكان رغم إرادة الظالمين الذين مارسوا ويمارسون أنواع القمع والديكتاتورية.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن يتبع نهج الحسينعليه‌السلام ، ونهج جده وأبيه المرتضى، واُمّه الزهراء وأخيه المجتبى والأئمة المعصومين من ذرّيته (عليهم الصلاة والسّلام)، وأن يجعلنا من المدافعين عن الدين والمبادئ، وأن يحيينا حياة محمّد وآله، ويميتنا ممات محمّد وآله، وأن يثبّت لنا قدم صدق مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسينعليه‌السلام .

١٤٨

الإمام الحسينعليه‌السلام يدعوك لنصرته

لقد ردّد السبط الشهيد أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام في كربلاء هذا النداء التاريخي:« أما من ناصر ينصرنا؟ » (١) ، وكرّره المرّة بعد الاُخرى في كلِّ مصيبة هجمت عليه، وخصوصاً في اللحظات الأخيرة من حياته عندما فقد أعزّته وأنصاره، بل وحتّى طفله الرضيع.

الإمام الحسين عليه‌السلام إمام كلِّ العصور

ترى من كان يخاطبعليه‌السلام ؟ هل كان يخاطب اُولئك الذين ذبحوا ابناءه وأهل بيته وأنصاره، أم كان يخاطب أشخاصاً آخرين؟

إنّ الحسينعليه‌السلام سيّد الشهداء، وإمام المتّقين، وقدوة الصالحين، لا في عصره فحسب، وإنّما دائماً وأبداً، وعبر العصور المتتالية؛ فقد كانعليه‌السلام يخاطب الأجيال، ويخاطبنا، ويخاطب من كان قبلنا، ومن سيأتي من بعدنا، ويخاطب كلَّ ضمير حيّ، وكل قلب معمور بالإيمان.

لقد كانعليه‌السلام خلاصة الفضائل، وتطبيقاً حيّاً للقرآن، بل والقرآن الناطق؛ فنصرتهعليه‌السلام لا تقتضي بالضرورة أن نعاصره ونعيش معه، بل تعني نصرة مبادئه وأهدافه، والقيم التي ثار من أجلها؛

____________________

(١) مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام / ٢٣٦.

١٤٩

فإن لم نستطع أن ننتصر لشخص أبي عبد اللهعليه‌السلام ، والفتية من أهل بيته وأصحابه وأنصاره، فلا بدّ من أن ننصر تلك المبادئ التي ثار من أجلها وضحّى في سبيلها؛ ولذلك نجد المؤمنين عندما يقفون أمام الضريح المقدس يردّدون هذا الهتاف القدسي الخالد: (لبيك يا أبا عبد الله)، وهم يعنون بهذا النداء أنّهم إن لم يكونوا حاضرين عند استنصاره واستغاثته، ولم ينصروه في ذلك اليوم نصرة مادية، فإنّهم سوف ينتصرون للمبادئ والقيم والرسالة التي من أجلها ضحّى، وفي سبيلها بذل أعزّ ابنائه وأنصاره.

ولذلك نجد هؤلاء المؤمنين يكرّرون أيضاً النداء التالي: (فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم) (١) ؛ لأنّ هذا التمنّي والرجاء إنّما هو تعبير عن ذلك الإخلاص الذي نحمله، عن تلك الروح الإيمانية التي نتمنّى أن نتحلّى بها، وعن ذلك المبدأ الذي اتخذناه طريقاً ومنهجاً.

هتاف الحسين مازال يدّوي

واليوم وبعد مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على ذلك التاريخ ما يزال هذا الهتاف يدوّي ويتجلّى في كل يوم، ولقد صدقت المقولة الخالدة: (كلّ يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء).

ففي كل يوم تتجلى المعركة بين الحقِّ والباطل، واُولئك الذين يريدون أن يفصلوا الواقع عن التاريخ، أو أن يجرّدوا التاريخ من سننه وبصائره ورؤاه فهم قشريون لا يريدون أن يتحمّلوا مسؤولياتهم.

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام / ٤٢٧.

١٥٠

معركة الحق والباطل تعيد نفسها

واليوم تتجلّى هذه المعركة مرة اُخرى في عالمنا الإسلامي؛ فبنو اُميّة بأفكارهم، وعنصرياتهم، وجاهليتهم قد عادوا من جديد. فالذي يدرس تاريخ بني اُميّة، ويبحث في طبيعة ذلك التجمع الذي كان قد احتشد تحت راية أبي سفيان، ثمّ راية معاوية ويزيد، يدرك أنهم ليسوا بعيدين عن التجمعات الطاغوتية القائمة في أغلب بلدان عالمنا الإسلامي اليوم؛ فبنو اُميّة كانوا قد حملوا راية القومية، ونفخوا في العنصريات البائدة، وأعادوا الحياة إلى الجاهليّة التي قضى عليها الإسلام في الظاهر.

والأنظمة الطاغوتية القائمة الآن تفعل نفس الشيء، وتتبع ذات الأساليب؛ وعلى هذا فمن أراد أن يحيي الجاهليّة فلا بد من أن يحيي معها أبا سفيان؛ لأنّ هذا الرجل هو الذي كان يقودها. كما ويعني أن نبعث من جديد معاوية ويزيد؛ لأنهما هما اللذان ورثا من أبي سفيان راية الجاهليّة.

في حين إنّ على كل إنسان مؤمن أن يتبرأ من بني اُميّة، وممّن شايعهم وسار في طريقهم، وأن يلعنهم قائلاً:« ولعن الله بني اُميّة قاطبةً » (١) . وهذه الكلمة لا تعني أنّ بني اُميّة يمثّلون عنصراً؛ فالإسلام لا يتبرأ من العنصر؛ فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان فإنّه خلقه بحيث لا يكون هناك فرق بين عربي وأعجمي، وبين أبيض وأسود، وعلى هذا فإنّ لعن بني اُميّة قاطبة يعني لعن منهجهم واُسلوبهم في العمل.

بنو اُميّة يعودون إلى الحياة

إنّ بني اُميّة يعودون الآن إلى الحياة بنفس الشعارات، فإن سمعنا أنّ

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء / ٤٥٦.

١٥١

صداماً - مثلاً - يفتخر في مجالسه بالحجّاج قائلاً: إنّه أفضل حاكم حكم العراق! فليس هذا شاذاً عن القاعدة؛ فصدام لا يفتخر بجسم الحجّاج الذي تحوّل إلى رميم، وإنّما لأنّه ينهج منهجه، ويؤمن بأفكاره في الحياة؛ فقد فعل صدام مثل ما فعله الحجّاج من قتل للأبرياء، وهتك للحرمات، والاعتداء على شرف النساء.

وإنَّ الأعمال والممارسات القمعية التي قام ويقوم بها تشبه إلى حد كبير ما قام به عمر بن سعد في كربلاء عندما أمر بإحراق خيم نساء أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ المجاهدين الذين يقاومون هذه الممارسات القمعية يدفعوننا إلى إكبارهم وإكبار ذلك الدين والمبدأ الذي يربّي مثل هؤلاء الإبطال، وإلى ازدياد إيماننا بصدق رسالات الله (عزّ وجلّ) وتعاليمه، وكيف أنّ هذه التعاليم تُخرّج مثل هؤلاء المجاهدين المضحّين الذين يقفون في هذه القمة السامقة.

الصراع ما يزال متجدّداً

وبعد، فهذا هو الصراع الحقيقي المتجدد دائماً بين الحزب الاُموي الجديد والجاهليّة الجهلاء وبين أنصار أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ فهتافهعليه‌السلام ما يزال يدوّي في كل أُذنٍ واعية، ولكن هناك آذان صمّاء لا تسمع.

ونحن لا نوجّه خطابنا إلى مثل هؤلاء، بل إلى اُولئك الذين يمتلكون الآذان الواعية السميعة التي تلتقط صوت أبي عبد اللهعليه‌السلام ، هذا الصوت الذي يخترق القرون ليصل إلى مسامعنا ومسامع الدهر قائلاً:« أما من ناصرٍ ينصرنا؟ » .

إنّها استغاثة من إمام ثار، ولكن لا لنفسه، وإنّما لدين الله وحرماته وحدوده.

١٥٢

نحن ومحّرم

إنّ أيام محرم تأتي في كلِّ عام، ولكن هل من الصحيح أن ندعها تأتي وتذهب دون أن نستغلّها الاستغلال الأمثل؟ بل وإنني أخشى أن يكون هناك بعض ممّن يشتركون في المجالس الحسينيّة، ويذرفون الدموع، ولكنهم في نفس الوقت يشتركون بأعمالهم في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وزيادة مصائبه ومآسيه.

كذلك الرجل الذي بادر بعد حرق الخيام إلى نهب وسلب حلي بنات أبي عبد اللهعليه‌السلام ؛ حيث روي عن عبد الله بن الحسن، عن اُمّه فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام قالت: دخلت العامة علينا الفسطاط، وأنا جارية صغيرة، وفي رجلي خلخالان من ذهب؛ فجعل رجل يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدو الله؟!

فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله.

فقلتُ: لا تسلبني.

قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه(١) !

وهكذا فإنّ هناك من يشترك في مجالس أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ولكنه في نفس الوقت يساهم في دعم السلطات الظالمة وتأييدها، ويمتنع عن تقديم يد العون والنصرة إلى المجاهدين السائرين في خط الإمام الحسينعليه‌السلام . وأنا أخشى أن يكون مصير هؤلاء كمصير اُولئك.

إنّنا إذا سمعنا أصوات استغاثة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ثمّ لم نستجب لها فإنّنا سنُحشر مع أهل الكوفة الذين قاتلوا الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان بعضهم من شيعته وشيعة أبيهعليهما‌السلام . إذاً فالتشيّع بدون إرادة وتضحية وعطاء هو نوع من النفاق الأسود.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٨٢.

١٥٣

شهر محرم منعطف خطير

إنّنا لا بدّ أن نحوّل شهر محرم في كلِّ عام إلى منعطف خطير هام، وإلى قفزة في مسيرة العمل الجهادي ضد الطغاة. فلو اُسقط هؤلاء الطغاة بحول الله تعالى وقوّته، وبجهاد المجاهدين، فإنّ آفاقاً جديدة سوف تفتح أمام الاُمّة، أمّا إذا بقي هؤلاء الطغاة فإنّ ليالي حالكة ستكون في انتظار المسلمين؛ لأنّ الصراع قد بلغ الآن ذروته ولا يمكن التراجع عنه.

إنّ كلّ واحد منّا عليه أن يتحوّل إلى جهاز إعلامي، وأن نكون جدّيين في إبعاد الكسل والضجر والتواني عن أنفسنا. فلنكن حازمين، ولنتجاوز عقبات هذا الطريق؛ فمن يريد أن ينصر أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام فإنّ عليه أن لا يكون جباناً كسولاً ضجراً، وأن لا يدع عقبة تقف أمامه، وأن يكون جدّياً في عمله.

إنّ أمامنا فرصة شهر محرم الحرام في كل عام، فلنجرّب أنفسنا، ولنجرّب إرادتنا، ولنتوكل على الله سبحانه وتعالى، فهو القائل وقوله الحق:( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) (الطلاق/٣)، والله لا بدّ أن ينصرنا شريطة أن ننصره بكلّ ما نمتلك من قوة. فلنحوّل شهر محرم الحرام إلى أيام كلّها عمل وجهاد؛ لكي نحوّل المجتمع إلى مجتمع ملتهب ثورة وحماساً في سبيل القضايا التي تعيشها الاُمّة.

وللأسف فإنّ البعض يحمل هذه الفكرة الخاطئة، وهي أنه يستصغر نفسه، ويستهين بالدور الذي من الممكن أن يقدّمه فيقول: مَن أنا؟ وماذا يمكن أن اُقدّم للقضية، ومَن يقول إنّني لو عملت فإنّ الله سوف ينصر اُمّتي؟

١٥٤

في حين إنّ من الواجب عليه أن يقوم بدوره، وليس عليه نتيجة هذا الدور؛ فإنكار المنكر واجب بالقلب، واللسان، والمال، واليد، والنفس، وبكلِّ وسيلة شرعية اُخرى، فإذا تملّص كلُّ واحد منا من المسؤولية، وانسحبنا من الساحة لم يبقَ في الميدان أحد.

فكثيراً ما تكون مشاركتك أنت شخصياً في العمل مكملة لشروط الانتصار، فإن كان للانتصار شرط، وهو اجتماع مليون إنسان، وكنت أنت تكمل هذا الرقم، ثمّ تأخّرت وانهزم الجانب الإسلامي فإنّك ستكون مسؤولاً في هذه الحالة؛ لأنّك كنت تستطيع أن تقدّم النصرة والعون، وأن تجعل النصر حليف الجانب الإسلامي ولكن لم تفعل.

فلماذا التواكل؟ ولماذا نخضع للوساوس الشيطانيّة ولهوى النفس؟ ولماذا ننسى مبادئنا عند العمل؟ فرغم أنّ المبادئ راسخة كلها في بالنا، ولكننا عند العمل نتجاهلها ونتناساها، في حين أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول في هذا الصدد:« لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكّاً؛ إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقّنتم فأقدموا » (١) . فالإقدام مهم، فإلى متى الانتظار البارد؟

ماذا نقدّم؟

وربما يسأل البعض في هذا المجال: ماذا عسانا أن نقدّم؟

إنّك تستطيع أن تقوم بأعمال كثيرة؛ أن تحرّك لسانك، ويدك، وأن تتبرّع في سبيل القضية، علماً بأنّ التبرّع ليس بكمّية المبلغ الذي تدفعه، ولكن بمقدار حبّك لهذا المال، وانتزاع هذا الحب من نفسك كما يقول تعالى:( لَن تَنَالُوا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران/٩٢).

____________________

(١) نهج البلاغة - قصار الحكم / ٢٧٤.

١٥٥

وفي هذا المجال يُروى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صنع للزهراءعليها‌السلام قميصاً جديداً ليلة عرسها وزفافها، وكان لها قميص مرقوع، وإذا بسائل على الباب يقول: أطلب من بيت النبوة قميصاً خلقاً.

فأرادت أن تدفع اليه القميص المرقوع، فتذكّرت قوله تعالى:( لَن تَنَالُوا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، فدفعت له الجديد، فلمّا قرب الزفاف نزل جبرئيل وقال: يا محمّد، إنّ الله يقرئك السّلام، وأمرني أن اُسلّم على فاطمة، وقد أرسل لها معي هدية من ثياب الجنة من السندس الأخضر(١) .

بين القول والفعل

وهكذا، فكلّما كان قلب الإنسان متعلّقاً بشيء كلّما كانت علاقتة النفسية به شديدة، وكلّما استطاع هذا الإنسان تحدّي هذه العلاقة كان ثوابه عظيماً، وخصوصاً العلماء، وبالأخص طلبة العلوم الدينية والمبلّغين.

فليس من الصحيح أن يدعو الناس إلى الإنفاق في حين أنّهم لا ينفقون بشكل عملي كما يقول تعالى:( أتَأْمُرُونَ الْنَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ) (البقرة/٤٤)، وكما يقول الإمام عليعليه‌السلام :« ما أحثّكم على طاعةٍ إلاّ وأسبقكم إليها » (٢) .

ونحن لو تعمّقنا في الآية السابقة، وخشعنا لها، لتبيّن لنا قبح وبشاعة أن يدعو الإنسان الناس إلى سلوك هو لا يتحلّى به كما يقول عزّ من قائل:( كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) (الصف/٣).

____________________

(٨١) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى / ٤٨٥.

(٨٢) نهج البلاغة - الخطبة رقم ١٧٥.

١٥٦

فالله (عزّ وجلّ) يمقت ويحتقر ذلك الإنسان الذي يدعو إلى البرِّ ثم لا يبادر إليه من خلال العمل والإنفاق والجهاد.

فلنكن إذاً كما كان الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه الأوفياء (سلام الله عليهم جميعاً)، لنكن عند أقوالنا وادّعاءاتنا، ولنكن حسينيِّين في سلوكنا وتصرّفاتنا ومواقفنا، فيكون بإمكاننا خدمة رسالتنا الإسلاميّة الخدمة الأفضل والأمثل.

١٥٧

أين نحن من ولاية الإمام الحسينعليه‌السلام

( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (السجدةِ/٢٤)

تحت لهيب أشعة الشمس، في طرف الصحراء حيث الرمال الحارقة، في ظهيرة يوم عرفة، في وادي عرفات، وعند يسار جبل الرحمة، وعندما احتشدت وفود الرحمن إلى تلك الأرض المباركة، حيث الرحمة الإلهية الشاملة.

في تلك الزاوية وقف السبط الشهيد الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ودموعه تجري، وعيناه كأنّهما عينان نضّاختان، وحوله تلك الثلّة المؤمنة المباركة من اُولي البصائر، هم بدورهم كانت دموعهم تجري، رافعين أيديهم إلى السماء، ضارعين يجأرون إلى ربّهم، وصوت الإمام الحسينعليه‌السلام الشجيّ الزاخر بكل ألوان العرفان والتعبّد والتوسّل، ذلك الصوت كان يدوّي في تلك الصحراء:« إلهي أنا الفقيرُ في غِنايَ فكيف لا أكونُ فقيراً في فقري! إلهي أنا الجاهلُ في علمي فكيف لا أكونُ جهولاً في جهلي! إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ، وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عن السُّكونِ إلى عطاءٍ، واليأسِ منكَ في بلاءٍ. إلهي منّي ما يَليقَ بلؤُمي، ومنك ما يليقُ بكرمك.

١٥٨

إلهي وصَفْتَ نفسكَ باللطفِ والرأفة لي قبل وجودِ ضَعفي، أفتمنعُني منهما بعد وجودِ ضَعفي! إلهي إن ظَهَرتِ المحاسنُ منّي فبفضلكَ ولك المِنّةُ عليَّ، وإنْ ظهرت المساوئ منّي فبعدلِكَ ولك الحجّةُ عليَّ. إلهي كيف تَكِلُني وقد تكفّلتَ لي، وكيف أُضامُ وأنت الناصرُ لي، أم كيف أخيبُ وأنت الحفيُّ بي؟! … » (١) .

وفي عشيّة يوم تاسوعاء، حينما زحف الجيش الاُموي الظالم على مخيم الإمام أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وبلغ ذلك الإمام، طلب إلى أخيه أبي الفضل العباسعليه‌السلام أن يسأل العدو المهلة حتّى يجدّد وأصحابه (رضوان الله عليهم أجمعين) العهد بالقرآن الكريم، ويقضوا ليلتهم الأخيرة بإقامة الصلاة وقراءة الدعاء.

وقد وصف الأعداء قبل الأصدقاء أنّهم كانوا يسمعون من مخيم الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه دويّاً كدوّي النحل من شدّة التضرع والعبادة والدعاء.

وحتّى خلال اللّحظات الأخيرة؛ حيث كان نزف الدم قد أخذ من الإمام الحسينعليه‌السلام كلّ مأخذ، لم يغفل سيّد الشهداءعليه‌السلام عن ذكر الله طرفة عين، فقال إذ ذاك:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك » (٢) .

مَن هو الإمام الحسينعليه‌السلام ؟

هذا هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، فجوهره المقدّس كان عرفانه بالله، وكان وجدانه حبّ الله؛ فقد كانعليه‌السلام يألف الصلاة

____________________

(١) مفاتيح الجنان - دعاء الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧١.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام - المقرمّ / ٣٥٧.

١٥٩

والقرآن، ويستأنس بهما، وكان يرى نفسه بين أصابع الرحمن، كان كلُّه عرفاناً وتقوىً وحبّاً عميقاً لربّ العزّة.

وفي إطار تعرّفنا على الإمام الحسينعليه‌السلام نجد أنفسنا مضطرّين إلى التركيز على تلك اللحظة الحاسمة من حياته الشريفة، وأقصد بها لحظة عاشوراء، وهي اللحظة التي كانت تعبيراً متكاملاً عن كلّ قيم السماء، وعن تأريخ جميع الأنبياء، كما كانت تعبيراً عن وراثة سيّد الشهداء لصفوة الله آدمعليه‌السلام ، ولشيخ المرسلين نوحعليه‌السلام ، ولمحطّم الأصنام إبراهيمعليه‌السلام ، ولكليم الله موسىعليه‌السلام ، ولروح الله عيسىعليه‌السلام ، ولسيد الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ يوم عاشوراء كان كيوم القيامة، كألف سنةٍ ممّا تعدّون، بل وأكثر من ذلك بكثير؛ ولذلك يقف الزائر للقبر الشريف قائلاً:« السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله …» حتّى ينتهي إلى النصّ الشريف من الزيارة المتواترة:« السلام عليك يا وارث عليٍّ وليّ الله » (١) .

لقد ولد الإمام الحسينعليه‌السلام ولادتين؛ كانت الأولى في الثالث من شعبان، وكانت الولادة الثانية في يوم عاشوراء، وهو في كلا الولادتين وُلد ووُلد معه الإسلام. فحينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً » (٢) ، فالقضية تعني بالدرجة الأولى قصد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى توجيه الاُمّة إلى منزلة الإمام الحسينعليه‌السلام من الدين والعقيدة التي تمثّلها شخصية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يأتي تبعاً لذلك قصد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تبيين صلة القرابة التي تربطه بالحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة وارث للإمام الحسينعليه‌السلام .

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٦٥.

١٦٠