الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين22%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111335 / تحميل: 8681
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّف(١) :

المبحث الثالث

في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج(٢) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

٦١

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(١) .

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

__________________

(١) انظر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٣١.

٦٢

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(٢) .

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ ٦ لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين(٣) .

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع الله [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ١ / ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٨ ـ ٩ ، زاد المعاد ٣ / ٤٣ ـ ٤٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٢ / ٢٣٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ١٩٣ ، مجمع البيان ٨ / ٢٢٩.

٦٣

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(١) .

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(٢) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية(٣) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٢) التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك.

انظر : الصحاح ٣ / ١٢٦٩ ، لسان العرب ١١ / ٢٤٧ ، تاج العروس ١١ / ٣٩٢ ، مادّة « قعع ».

(٣) القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة ٦١٦ ه‍ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر : معجم الألفاظ التاريخية : ١٢٥.

٦٤

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(١) .

وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٦٥

وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف ;.

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف ;.

٦٦

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا ٦ فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ ٦ حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(١) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٩.

٦٧

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(١) .

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف ; : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٦٨

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح ـ البالغة في الظهور منتهاه ـ مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

٦٩
٧٠

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث الرابع

في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب!(٢) .

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف(٣) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٣٦ المقصد الثالث.

(٣) كان في المصدر : « وكيف من » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

٧١

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(١) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء(٢) ـ ونعم ما قال ـ : كلّ عاقل جرّب الأمور

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : ٤٣.

٧٢

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم(١) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

__________________

(١) سقطت من المصدر.

٧٣

فتحها.

مع إنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(١) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة الله تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد »(٢) .

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٨٣.

٧٤

وقال الفضل(١) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل ـ بعد وضع القعقعة ـ : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [ سبل(٢) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١١ ـ ١١٤.

(٢) السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٤ ، لسان العرب ٦ / ١٦٤ ، تاج العروس ١٤ / ٣٢٧ ، مادّة « سبل ».

٧٥

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود(١) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ(٢) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى ، وإن كان

__________________

(١) في المصدر : الوجوب.

(٢) في المصدر : عادة.

٧٦

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

والله أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٧٧

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف ;.

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

٧٨

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا ـ كما في فرض الرازي ـ ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

٧٩
٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لماذا الإمام الحسينعليه‌السلام مصباح الهدى

من المعروف أن في جسم الإنسان نظاماً يدافع عنه ويحميه، ويحول دون تسرب الجراثيم إليه أو السيطرة عليه، وإذا ما تزعزع هذا النظام في يوم من الأيام فإنّ الإنسان سيصاب بما يُدعى اليوم بمرض فقدان المناعة (الإيدز)، وهو المرض الذي يمنح مختلف الجراثيم القدرة على القضاء على حياة الإنسان.

إنّ الله تبارك وتعالى حينما خلق ابن آدم خلق له العين التي يبصر بها، واليد التي يبطش بها، والرجل التي يسعى بها، وخلق له أجهزة هي الغاية في الدقة والاتقان، وخلق مع ذلك كلّه سياجاً رصيناً يتمثّل في نظام المناعة الذاتية.

وكذلك أوجد سبحانه وتعالى نظام الدفاع في داخل الإنسان؛ حيث زوّده بشبكة بالغة التعقيد من الأعصاب، فترى لكلِّ خلية عصبية طرفين؛ طرفاً في المخ وآخر مثبتاً في أطراف الجسد، فحتّى لو أنّ نملة - على حقارة حجمها ووزنها - وقفت على إصبع من أصابع رجل الإنسان، فإنّه سرعان ما ينكشف أمرها عبر ما يوعز به المخ بسرعته الخيالية؛ لكي تتحرك اليد - مثلاً - لتطرد هذا الجسم الغريب.

وأوجد (عزّ وجلّ) العين الباصرة ليكون بمقدور صاحبها دفع الخطر عن نفسه ومحيطه، أمّا مَن لم يتمتع بالاُذن السامعة، أو قابلية الشم، أو اللمس

١٤١

أو التذوق فإنّه سيكون عرضة للهزيمة أو الانهيار أو التضرر على أقل تقدير؛ لأنّ نظامه الدفاعي قد حلّ فيه الخلل والنقصان. وبالإضافة إلى كلِّ ذلك هناك طاقة إنسانيّة كبرى يختزنها الإنسان ليستفيد منها في أشد الأوقات حراجة، وهي الإحساس المسبق بالخطر، الإحساس الذي يوفّر له القدرة على التصدي والتجاوز، هذا فضلاً عن قدرة العقل والتفكير لوضع الخطط واختيار الوسائل للدفاع.

وهذا الواقع نجده أيضاً في المجتمع؛ حيث يملك - بما آتاه الله - القدرة للدفاع عن نفسه عبر المميزات المادية والروحية والفكرية. ولعل أوّل عوامل انهيار المجتمع أو الدولة هو الافتقار إلى هذه المميزات.

فمثلاً: إذا كانت هناك دولة من أجمل وأحسن وأرقى الدول، ولكنها تفتقر إلى جيش يدافع عنها أمام الأخطار الخارجية، أو أنها تفتقر إلى الجهاز الأمني الذي من طبيعته المسارعة في كشف الأخطار، إنّ مثل هذه الدولة تصاب بالعطب والانهيار غالباً؛ وعلى ذلك فإنّ الصحة والأمان نعمتان لا يمكن الاستعاضة عنهما بأية مميزات اُخرى؛ سواء على الصعيد الخاص أو العام.

فالاُمّة التي تستطيع الدفاع عن نفسها؛ حيث تمتلك الشرف، والإباء، والحماسة، وقدرة مقاومة الأخطار، هذه الاُمّة تبقى أمة شامخة، أمّا الاُمّة التي تفتقر إلى نظام دفاعي، أو لا تجد في قاموسها مكاناً لمعاني الشرف والحماسة والرغبة في التصدي فإنّها اُمّة سرعان ما تنهار وتذوب في مطامح الأمم الاُخرى.

وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: إنّ الدول إنّما تقوم على أساس العصبية. ومراده من العصبية الغيرة، والحمية، والشرف، والاستعداد الدائم لمقاومة الأعداء والأخطار حتّى الموت.

١٤٢

فالاُمّة التي تملك هذه القيمة، ويعرف أبناؤها أنّ هناك ما هو أغلى من الحياة والعيش لبضعة سنوات يبقى فيها المرء صاغراً، هذه الاُمّة تبقى ولا تنهار.

إنّ هذه القيمة الإنسانيّة الراقية عبّر عنها أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسّلام) بقوله مخاطباً أصحابه:« فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين» (١) ، أي إنّ مصداقية حياة الإنسان لا تتحقق إلاّ بكونه منتصراً، وإنّ الموت يهيمن على الإنسان بكلِّ ثقله ما دام مقهوراً منهزماً وإن حلا له تصوّر كونه حياً.

لقد عاشت وتعيش اُمتنا المسلمة منذ ما يزيد على ألف وأربعمئة سنة، متحدية للزمن الصعب؛ حيث مرّت بها حوادث كانت الواحدة منها حريّة بتدمير أي اُمّة من الاُمم الاُخرى، ولكن الاُمّة الإسلاميّة قاومت وتصدّت بفضل ما تملك من نظم دفاع ووقاية.

فهل تعرف أنّ الحروب الصليبية قد استمرت حوالي مئتي عام، أي ستة أجيال كاملة، وأنّ بعض تلكم الحملات كانت تضم ما يزيد على المليون مقاتل صليبي تجمّعوا للاستيلاء على الشرق، وبالذات على بقعة صغيرة منه هي بلاد الشام أو فلسطين؟

وهل تعرف أنّ الحملات التترية على المسلمين قد أبادت مدناً بأكملها؟ ولكن الاُمّة الإسلاميّة ظلت مقاومة صامدة بفضل تعاليم القرآن، وبفضل الملاحم التاريخية الفذة التي سجّلها المسلمون بأحرف من نور، وبفضل القيم التي كرّسها المؤمنون خلال مواقفهم البطولية في الصدر الأوّل للإسلام، وبفضل ما غرسته ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء في نفوس المسلمين من قيم وتعاليم وبصائر.

____________________

(١) نهج البلاغة - الخطبة رقم ٥١.

١٤٣

وقد سألني أحدهم - وأنا واقف في عرفة أثناء الحجّ - عن السبب وراء ما اُرّدده على لساني من ذكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، رغم أنّ الجميع يعرف أن منادياً ينادي من قِبل الله سبحانه وتعالى في يوم عرفة:(انصرفوا مغفورين؛ فقد أرضيتموني ورضيت عنكم) (١) ، في وقت يراني فيه جالساً أو واقفاً وأنا أقول:« السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم، السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين » .

أو يسألني عن سبب بكائي على الحسينعليه‌السلام في عرفة واهتمامي البالغ في قراءة دعاء الإمام الحسين الذي قرأه هو في يوم عرفة.

ولا أجد ما اُجيبه سوى القول: بأن كلّما نملك فإنّما هو من الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فهو الذي علّمنا كيف ندافع عن أنفسنا في مقابل الطغاة، وأن نعيش أعزةً، وألاّ نموت إلاّ بعزّة؛ فهذه الشعلة المتّقدة فينا قد امتلكناها من الحسينعليه‌السلام ؛ حيث قال سلام الله عليه:« إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر » (٢) .

وهذه رسالة ليس من شأنها أن تكتب بيد عادية، بل كتبت بدم الحسين، ودم أبنائه، ودم رضيعه (سلام الله عليهم أجمعين).

أعطى الذي ملكتْ يداه إلهه

حتّى الرضيع فداه كلُّ رضيعِ

لقد تعلّمنا من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام وما قدّمه من تضحيات

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٦ / ٢٤٩.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٨٨.

١٤٤

طالت أعزَّ ما لديه أنّ الحياة التي كتبها الله سبحانه للإنسان ليست هذه الحياة التي يضطر فيها الواحد منّا إلى الاستجداء أو خدمة الظلمة والخضوع لهم.

وقد استلهم أتباع هذا الإمام العظيمعليه‌السلام هذا الدرس المقدّس في أرض المقاومة في لبنان؛ حيث قدحت شرارة الدفاع المقدس في جنوب لبنان، وتمكّن الشباب الثائر من إلحاق الهزيمة النكراء بالقوة الصهيونية التي كانت تقف وراءها جيوش سبع عشرة دولة.

وقد سطّرت المقاومة الإسلاميّة في لبنان آلاف الملاحم البطولية لتحقيق هذا الإنجاز العظيم، وكان في كلِّ ملحمة من هذه الملاحم ما يهزّ قلب وفكر الإنسان بما للكلمة من معنى؛ وذلك لأنّ شيعة الحسينعليه‌السلام في الجنوب اللبناني قد فهموا الدرس الحسيني الخالد جيداً، كما أخذوا على أنفسهم أن يتأسّوا بسيرة علي الأكبر والقاسم بن الحسن المجتبىعليهم‌السلام ، وكيف أنهما - كما يشير التاريخ الموثق لملحمة كربلاء - لم يوليا أهمية للدنيا؛ لأنّهما قد عرفا ما حاق بالدين من خطر ماحق، وما ينتظرهما من حياة أبدية سعيدة إذا ما نهضا بوجه الظلم والطغيان.

ومن هنا قال علي الأكبر لأبيه الإمام الحسينعليه‌السلام بعد أن عرف بأن الحق معهم: يا أبة، لا نبالي بالموت(١) . ومن هنا أيضاً رأينا كيف أنّ القاسم بن الحسن لم يأبه بتلك الجموع الظالمة، وجلس ليصلح شسع نعله وهو محاصر بين ألسنة النيران، ووابل الحجر، ووميض السيوف والرماح.

واليوم نجد أنّ نفس هذه الروح المقدسة قد انتقلت من المجاهدين

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٧ و ٣٧٩.

١٤٥

اللبنانيين لتستقر في ذات الشباب الفلسطينيين الذين يتسابقون فيما بينهم لينالوا شرف الشهادة في سبيل الله؛ ذلك لأنّ قصص وملاحم التضحية والفداء قد انتقلت هي الاُخرى إليهم.

أمّا في العراق، فأقولها بصراحة: إنّ نظام صدام لم يدع وسيلة قمع وإفساد إلاّ واستخدمها، ولو أنّنا لجأنا إلى الإحصاءات في هذا المجال لوصلنا إلى أرقام نجومية؛ فقد تمتّع صدام بدعم كافة القوى العالمية، وكانت كافة الإمكانات الدولية تحت تصرفه؛ بسبب ما كان يؤديه من خدمات للصليبية والصهيونية العالمية بموقفه المجرم وحربه الشعواء ضد الجمهورية الإسلاميّة في إيران، ولا يزال الغرب يرى أنّ من مصلحته التعامل مع صدام كرئيس ضعيف في المنطقة.

ولكن مع كل ذلك لا يزال الشعب العراقي شعباً مقاوماً، وأبرز دليل على ذلك تمسك هذا الشعب بأصالته الدينية والثورية المتمثلة في إقامة الشعائر الحسينيّة بمختلف الطرق، رغم الحجر والمنع، والتخويف والإثارة. زرافات الناس تنهمر انهمار السيل على كربلاء، متحدّين موقف السلطة الظالمة إزاء إحياء الشعائر الحسينيّة، ومقاومين لطغيانها وبطشها.

إنّ ملحمة كربلاء علّمتنا وعلّمت أبناءنا كيف نحارب في لبنان، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وفي العراق لندافع عن قيمنا وشرفنا، وبهذا صار الإمام الحسينعليه‌السلام مصباح هدى وسفينة نجاة.

فاُمّتنا لا بدّ لها من تجاوز الذات لتحقيق المصالح الكبرى؛ إذ إنّ الدفاع عن القيم فوق الذاتيات، وفوق المصالح الفردية العقيمة، وعندئذٍ ستتحول اُمّتنا إلى خير اُمّة سواء في الدنيا أو الآخرة.

١٤٦

فالله تبارك وتعالى لم يقل: كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس؛ لأنكم تملكون الثروة أو النفط أو الموقع الاستراتيجي، أو لأنكم تمتلكون نظاماً تشريعياً جيداً. كلاّ، فالذي يملك كل ما ذكرناه ولكنه يفتقر إلى قدرة الدفاع عن نفسه يذهب كلُّ ما يملكه هباءً منثوراً، تماماً كما الإنسان الضخم الجثة ولكنه جبان خائر العزم، لا قيمة له ولا يهابه أحد.

ربنا سبحانه وتعالى يقول:( كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ) (آل عمران/١١٠)، وهو الأساس في المسألة برمّتها.

ولقد قرأنا عبر الروايات التاريخية الخاصة بمقتل الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ الطاغية يزيد قد أمر بأن يطاف برأس الإمامعليه‌السلام في مختلف المدن والقرى في البلاد الإسلاميّة، وأنّ الرأس الشريف كان إذا ما وضع في موضع من هذه المدينة أو تلك يقرأ قوله سبحانه وتعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَاَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَن نَدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَآ إِذاً شَطَطاً * هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إلى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ

١٤٧

وَيُهَيّءْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً ) (الكهف/٩ - ١٦)؛ وذلك ليبيّن للناس بأنّه يمثّل قصة أصحاب الكهف في التاريخ المعاصر، أي كما قام الفتية من أصحاب الكهف وانتفضوا وبيّنوا الحقيقة، ودافعوا عن القيم من داخل حالة الظلم، فدافع الله عنهم ونصرهم؛ فغلب دينهم على الدين الآخر، كذلك الإمام الحسينعليه‌السلام كرر القصة نفسها؛ لأنّه كان قد ملؤه الإيمان والتصديق بوعد الله القائل:( فَلَن تَجِد َلِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (فاطر/٣).

واليوم نجد أنّ خط وفكر الإمام الحسينعليه‌السلام هو الذي ينتصر في كلِّ مكان رغم إرادة الظالمين الذين مارسوا ويمارسون أنواع القمع والديكتاتورية.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن يتبع نهج الحسينعليه‌السلام ، ونهج جده وأبيه المرتضى، واُمّه الزهراء وأخيه المجتبى والأئمة المعصومين من ذرّيته (عليهم الصلاة والسّلام)، وأن يجعلنا من المدافعين عن الدين والمبادئ، وأن يحيينا حياة محمّد وآله، ويميتنا ممات محمّد وآله، وأن يثبّت لنا قدم صدق مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسينعليه‌السلام .

١٤٨

الإمام الحسينعليه‌السلام يدعوك لنصرته

لقد ردّد السبط الشهيد أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام في كربلاء هذا النداء التاريخي:« أما من ناصر ينصرنا؟ » (١) ، وكرّره المرّة بعد الاُخرى في كلِّ مصيبة هجمت عليه، وخصوصاً في اللحظات الأخيرة من حياته عندما فقد أعزّته وأنصاره، بل وحتّى طفله الرضيع.

الإمام الحسين عليه‌السلام إمام كلِّ العصور

ترى من كان يخاطبعليه‌السلام ؟ هل كان يخاطب اُولئك الذين ذبحوا ابناءه وأهل بيته وأنصاره، أم كان يخاطب أشخاصاً آخرين؟

إنّ الحسينعليه‌السلام سيّد الشهداء، وإمام المتّقين، وقدوة الصالحين، لا في عصره فحسب، وإنّما دائماً وأبداً، وعبر العصور المتتالية؛ فقد كانعليه‌السلام يخاطب الأجيال، ويخاطبنا، ويخاطب من كان قبلنا، ومن سيأتي من بعدنا، ويخاطب كلَّ ضمير حيّ، وكل قلب معمور بالإيمان.

لقد كانعليه‌السلام خلاصة الفضائل، وتطبيقاً حيّاً للقرآن، بل والقرآن الناطق؛ فنصرتهعليه‌السلام لا تقتضي بالضرورة أن نعاصره ونعيش معه، بل تعني نصرة مبادئه وأهدافه، والقيم التي ثار من أجلها؛

____________________

(١) مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام / ٢٣٦.

١٤٩

فإن لم نستطع أن ننتصر لشخص أبي عبد اللهعليه‌السلام ، والفتية من أهل بيته وأصحابه وأنصاره، فلا بدّ من أن ننصر تلك المبادئ التي ثار من أجلها وضحّى في سبيلها؛ ولذلك نجد المؤمنين عندما يقفون أمام الضريح المقدس يردّدون هذا الهتاف القدسي الخالد: (لبيك يا أبا عبد الله)، وهم يعنون بهذا النداء أنّهم إن لم يكونوا حاضرين عند استنصاره واستغاثته، ولم ينصروه في ذلك اليوم نصرة مادية، فإنّهم سوف ينتصرون للمبادئ والقيم والرسالة التي من أجلها ضحّى، وفي سبيلها بذل أعزّ ابنائه وأنصاره.

ولذلك نجد هؤلاء المؤمنين يكرّرون أيضاً النداء التالي: (فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم) (١) ؛ لأنّ هذا التمنّي والرجاء إنّما هو تعبير عن ذلك الإخلاص الذي نحمله، عن تلك الروح الإيمانية التي نتمنّى أن نتحلّى بها، وعن ذلك المبدأ الذي اتخذناه طريقاً ومنهجاً.

هتاف الحسين مازال يدّوي

واليوم وبعد مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على ذلك التاريخ ما يزال هذا الهتاف يدوّي ويتجلّى في كل يوم، ولقد صدقت المقولة الخالدة: (كلّ يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء).

ففي كل يوم تتجلى المعركة بين الحقِّ والباطل، واُولئك الذين يريدون أن يفصلوا الواقع عن التاريخ، أو أن يجرّدوا التاريخ من سننه وبصائره ورؤاه فهم قشريون لا يريدون أن يتحمّلوا مسؤولياتهم.

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام / ٤٢٧.

١٥٠

معركة الحق والباطل تعيد نفسها

واليوم تتجلّى هذه المعركة مرة اُخرى في عالمنا الإسلامي؛ فبنو اُميّة بأفكارهم، وعنصرياتهم، وجاهليتهم قد عادوا من جديد. فالذي يدرس تاريخ بني اُميّة، ويبحث في طبيعة ذلك التجمع الذي كان قد احتشد تحت راية أبي سفيان، ثمّ راية معاوية ويزيد، يدرك أنهم ليسوا بعيدين عن التجمعات الطاغوتية القائمة في أغلب بلدان عالمنا الإسلامي اليوم؛ فبنو اُميّة كانوا قد حملوا راية القومية، ونفخوا في العنصريات البائدة، وأعادوا الحياة إلى الجاهليّة التي قضى عليها الإسلام في الظاهر.

والأنظمة الطاغوتية القائمة الآن تفعل نفس الشيء، وتتبع ذات الأساليب؛ وعلى هذا فمن أراد أن يحيي الجاهليّة فلا بد من أن يحيي معها أبا سفيان؛ لأنّ هذا الرجل هو الذي كان يقودها. كما ويعني أن نبعث من جديد معاوية ويزيد؛ لأنهما هما اللذان ورثا من أبي سفيان راية الجاهليّة.

في حين إنّ على كل إنسان مؤمن أن يتبرأ من بني اُميّة، وممّن شايعهم وسار في طريقهم، وأن يلعنهم قائلاً:« ولعن الله بني اُميّة قاطبةً » (١) . وهذه الكلمة لا تعني أنّ بني اُميّة يمثّلون عنصراً؛ فالإسلام لا يتبرأ من العنصر؛ فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان فإنّه خلقه بحيث لا يكون هناك فرق بين عربي وأعجمي، وبين أبيض وأسود، وعلى هذا فإنّ لعن بني اُميّة قاطبة يعني لعن منهجهم واُسلوبهم في العمل.

بنو اُميّة يعودون إلى الحياة

إنّ بني اُميّة يعودون الآن إلى الحياة بنفس الشعارات، فإن سمعنا أنّ

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء / ٤٥٦.

١٥١

صداماً - مثلاً - يفتخر في مجالسه بالحجّاج قائلاً: إنّه أفضل حاكم حكم العراق! فليس هذا شاذاً عن القاعدة؛ فصدام لا يفتخر بجسم الحجّاج الذي تحوّل إلى رميم، وإنّما لأنّه ينهج منهجه، ويؤمن بأفكاره في الحياة؛ فقد فعل صدام مثل ما فعله الحجّاج من قتل للأبرياء، وهتك للحرمات، والاعتداء على شرف النساء.

وإنَّ الأعمال والممارسات القمعية التي قام ويقوم بها تشبه إلى حد كبير ما قام به عمر بن سعد في كربلاء عندما أمر بإحراق خيم نساء أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ المجاهدين الذين يقاومون هذه الممارسات القمعية يدفعوننا إلى إكبارهم وإكبار ذلك الدين والمبدأ الذي يربّي مثل هؤلاء الإبطال، وإلى ازدياد إيماننا بصدق رسالات الله (عزّ وجلّ) وتعاليمه، وكيف أنّ هذه التعاليم تُخرّج مثل هؤلاء المجاهدين المضحّين الذين يقفون في هذه القمة السامقة.

الصراع ما يزال متجدّداً

وبعد، فهذا هو الصراع الحقيقي المتجدد دائماً بين الحزب الاُموي الجديد والجاهليّة الجهلاء وبين أنصار أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ فهتافهعليه‌السلام ما يزال يدوّي في كل أُذنٍ واعية، ولكن هناك آذان صمّاء لا تسمع.

ونحن لا نوجّه خطابنا إلى مثل هؤلاء، بل إلى اُولئك الذين يمتلكون الآذان الواعية السميعة التي تلتقط صوت أبي عبد اللهعليه‌السلام ، هذا الصوت الذي يخترق القرون ليصل إلى مسامعنا ومسامع الدهر قائلاً:« أما من ناصرٍ ينصرنا؟ » .

إنّها استغاثة من إمام ثار، ولكن لا لنفسه، وإنّما لدين الله وحرماته وحدوده.

١٥٢

نحن ومحّرم

إنّ أيام محرم تأتي في كلِّ عام، ولكن هل من الصحيح أن ندعها تأتي وتذهب دون أن نستغلّها الاستغلال الأمثل؟ بل وإنني أخشى أن يكون هناك بعض ممّن يشتركون في المجالس الحسينيّة، ويذرفون الدموع، ولكنهم في نفس الوقت يشتركون بأعمالهم في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وزيادة مصائبه ومآسيه.

كذلك الرجل الذي بادر بعد حرق الخيام إلى نهب وسلب حلي بنات أبي عبد اللهعليه‌السلام ؛ حيث روي عن عبد الله بن الحسن، عن اُمّه فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام قالت: دخلت العامة علينا الفسطاط، وأنا جارية صغيرة، وفي رجلي خلخالان من ذهب؛ فجعل رجل يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدو الله؟!

فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله.

فقلتُ: لا تسلبني.

قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه(١) !

وهكذا فإنّ هناك من يشترك في مجالس أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ولكنه في نفس الوقت يساهم في دعم السلطات الظالمة وتأييدها، ويمتنع عن تقديم يد العون والنصرة إلى المجاهدين السائرين في خط الإمام الحسينعليه‌السلام . وأنا أخشى أن يكون مصير هؤلاء كمصير اُولئك.

إنّنا إذا سمعنا أصوات استغاثة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ثمّ لم نستجب لها فإنّنا سنُحشر مع أهل الكوفة الذين قاتلوا الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان بعضهم من شيعته وشيعة أبيهعليهما‌السلام . إذاً فالتشيّع بدون إرادة وتضحية وعطاء هو نوع من النفاق الأسود.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٨٢.

١٥٣

شهر محرم منعطف خطير

إنّنا لا بدّ أن نحوّل شهر محرم في كلِّ عام إلى منعطف خطير هام، وإلى قفزة في مسيرة العمل الجهادي ضد الطغاة. فلو اُسقط هؤلاء الطغاة بحول الله تعالى وقوّته، وبجهاد المجاهدين، فإنّ آفاقاً جديدة سوف تفتح أمام الاُمّة، أمّا إذا بقي هؤلاء الطغاة فإنّ ليالي حالكة ستكون في انتظار المسلمين؛ لأنّ الصراع قد بلغ الآن ذروته ولا يمكن التراجع عنه.

إنّ كلّ واحد منّا عليه أن يتحوّل إلى جهاز إعلامي، وأن نكون جدّيين في إبعاد الكسل والضجر والتواني عن أنفسنا. فلنكن حازمين، ولنتجاوز عقبات هذا الطريق؛ فمن يريد أن ينصر أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام فإنّ عليه أن لا يكون جباناً كسولاً ضجراً، وأن لا يدع عقبة تقف أمامه، وأن يكون جدّياً في عمله.

إنّ أمامنا فرصة شهر محرم الحرام في كل عام، فلنجرّب أنفسنا، ولنجرّب إرادتنا، ولنتوكل على الله سبحانه وتعالى، فهو القائل وقوله الحق:( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) (الطلاق/٣)، والله لا بدّ أن ينصرنا شريطة أن ننصره بكلّ ما نمتلك من قوة. فلنحوّل شهر محرم الحرام إلى أيام كلّها عمل وجهاد؛ لكي نحوّل المجتمع إلى مجتمع ملتهب ثورة وحماساً في سبيل القضايا التي تعيشها الاُمّة.

وللأسف فإنّ البعض يحمل هذه الفكرة الخاطئة، وهي أنه يستصغر نفسه، ويستهين بالدور الذي من الممكن أن يقدّمه فيقول: مَن أنا؟ وماذا يمكن أن اُقدّم للقضية، ومَن يقول إنّني لو عملت فإنّ الله سوف ينصر اُمّتي؟

١٥٤

في حين إنّ من الواجب عليه أن يقوم بدوره، وليس عليه نتيجة هذا الدور؛ فإنكار المنكر واجب بالقلب، واللسان، والمال، واليد، والنفس، وبكلِّ وسيلة شرعية اُخرى، فإذا تملّص كلُّ واحد منا من المسؤولية، وانسحبنا من الساحة لم يبقَ في الميدان أحد.

فكثيراً ما تكون مشاركتك أنت شخصياً في العمل مكملة لشروط الانتصار، فإن كان للانتصار شرط، وهو اجتماع مليون إنسان، وكنت أنت تكمل هذا الرقم، ثمّ تأخّرت وانهزم الجانب الإسلامي فإنّك ستكون مسؤولاً في هذه الحالة؛ لأنّك كنت تستطيع أن تقدّم النصرة والعون، وأن تجعل النصر حليف الجانب الإسلامي ولكن لم تفعل.

فلماذا التواكل؟ ولماذا نخضع للوساوس الشيطانيّة ولهوى النفس؟ ولماذا ننسى مبادئنا عند العمل؟ فرغم أنّ المبادئ راسخة كلها في بالنا، ولكننا عند العمل نتجاهلها ونتناساها، في حين أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول في هذا الصدد:« لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكّاً؛ إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقّنتم فأقدموا » (١) . فالإقدام مهم، فإلى متى الانتظار البارد؟

ماذا نقدّم؟

وربما يسأل البعض في هذا المجال: ماذا عسانا أن نقدّم؟

إنّك تستطيع أن تقوم بأعمال كثيرة؛ أن تحرّك لسانك، ويدك، وأن تتبرّع في سبيل القضية، علماً بأنّ التبرّع ليس بكمّية المبلغ الذي تدفعه، ولكن بمقدار حبّك لهذا المال، وانتزاع هذا الحب من نفسك كما يقول تعالى:( لَن تَنَالُوا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران/٩٢).

____________________

(١) نهج البلاغة - قصار الحكم / ٢٧٤.

١٥٥

وفي هذا المجال يُروى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صنع للزهراءعليها‌السلام قميصاً جديداً ليلة عرسها وزفافها، وكان لها قميص مرقوع، وإذا بسائل على الباب يقول: أطلب من بيت النبوة قميصاً خلقاً.

فأرادت أن تدفع اليه القميص المرقوع، فتذكّرت قوله تعالى:( لَن تَنَالُوا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، فدفعت له الجديد، فلمّا قرب الزفاف نزل جبرئيل وقال: يا محمّد، إنّ الله يقرئك السّلام، وأمرني أن اُسلّم على فاطمة، وقد أرسل لها معي هدية من ثياب الجنة من السندس الأخضر(١) .

بين القول والفعل

وهكذا، فكلّما كان قلب الإنسان متعلّقاً بشيء كلّما كانت علاقتة النفسية به شديدة، وكلّما استطاع هذا الإنسان تحدّي هذه العلاقة كان ثوابه عظيماً، وخصوصاً العلماء، وبالأخص طلبة العلوم الدينية والمبلّغين.

فليس من الصحيح أن يدعو الناس إلى الإنفاق في حين أنّهم لا ينفقون بشكل عملي كما يقول تعالى:( أتَأْمُرُونَ الْنَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ) (البقرة/٤٤)، وكما يقول الإمام عليعليه‌السلام :« ما أحثّكم على طاعةٍ إلاّ وأسبقكم إليها » (٢) .

ونحن لو تعمّقنا في الآية السابقة، وخشعنا لها، لتبيّن لنا قبح وبشاعة أن يدعو الإنسان الناس إلى سلوك هو لا يتحلّى به كما يقول عزّ من قائل:( كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) (الصف/٣).

____________________

(٨١) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى / ٤٨٥.

(٨٢) نهج البلاغة - الخطبة رقم ١٧٥.

١٥٦

فالله (عزّ وجلّ) يمقت ويحتقر ذلك الإنسان الذي يدعو إلى البرِّ ثم لا يبادر إليه من خلال العمل والإنفاق والجهاد.

فلنكن إذاً كما كان الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه الأوفياء (سلام الله عليهم جميعاً)، لنكن عند أقوالنا وادّعاءاتنا، ولنكن حسينيِّين في سلوكنا وتصرّفاتنا ومواقفنا، فيكون بإمكاننا خدمة رسالتنا الإسلاميّة الخدمة الأفضل والأمثل.

١٥٧

أين نحن من ولاية الإمام الحسينعليه‌السلام

( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (السجدةِ/٢٤)

تحت لهيب أشعة الشمس، في طرف الصحراء حيث الرمال الحارقة، في ظهيرة يوم عرفة، في وادي عرفات، وعند يسار جبل الرحمة، وعندما احتشدت وفود الرحمن إلى تلك الأرض المباركة، حيث الرحمة الإلهية الشاملة.

في تلك الزاوية وقف السبط الشهيد الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ودموعه تجري، وعيناه كأنّهما عينان نضّاختان، وحوله تلك الثلّة المؤمنة المباركة من اُولي البصائر، هم بدورهم كانت دموعهم تجري، رافعين أيديهم إلى السماء، ضارعين يجأرون إلى ربّهم، وصوت الإمام الحسينعليه‌السلام الشجيّ الزاخر بكل ألوان العرفان والتعبّد والتوسّل، ذلك الصوت كان يدوّي في تلك الصحراء:« إلهي أنا الفقيرُ في غِنايَ فكيف لا أكونُ فقيراً في فقري! إلهي أنا الجاهلُ في علمي فكيف لا أكونُ جهولاً في جهلي! إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ، وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عن السُّكونِ إلى عطاءٍ، واليأسِ منكَ في بلاءٍ. إلهي منّي ما يَليقَ بلؤُمي، ومنك ما يليقُ بكرمك.

١٥٨

إلهي وصَفْتَ نفسكَ باللطفِ والرأفة لي قبل وجودِ ضَعفي، أفتمنعُني منهما بعد وجودِ ضَعفي! إلهي إن ظَهَرتِ المحاسنُ منّي فبفضلكَ ولك المِنّةُ عليَّ، وإنْ ظهرت المساوئ منّي فبعدلِكَ ولك الحجّةُ عليَّ. إلهي كيف تَكِلُني وقد تكفّلتَ لي، وكيف أُضامُ وأنت الناصرُ لي، أم كيف أخيبُ وأنت الحفيُّ بي؟! … » (١) .

وفي عشيّة يوم تاسوعاء، حينما زحف الجيش الاُموي الظالم على مخيم الإمام أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وبلغ ذلك الإمام، طلب إلى أخيه أبي الفضل العباسعليه‌السلام أن يسأل العدو المهلة حتّى يجدّد وأصحابه (رضوان الله عليهم أجمعين) العهد بالقرآن الكريم، ويقضوا ليلتهم الأخيرة بإقامة الصلاة وقراءة الدعاء.

وقد وصف الأعداء قبل الأصدقاء أنّهم كانوا يسمعون من مخيم الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه دويّاً كدوّي النحل من شدّة التضرع والعبادة والدعاء.

وحتّى خلال اللّحظات الأخيرة؛ حيث كان نزف الدم قد أخذ من الإمام الحسينعليه‌السلام كلّ مأخذ، لم يغفل سيّد الشهداءعليه‌السلام عن ذكر الله طرفة عين، فقال إذ ذاك:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك » (٢) .

مَن هو الإمام الحسينعليه‌السلام ؟

هذا هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، فجوهره المقدّس كان عرفانه بالله، وكان وجدانه حبّ الله؛ فقد كانعليه‌السلام يألف الصلاة

____________________

(١) مفاتيح الجنان - دعاء الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧١.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام - المقرمّ / ٣٥٧.

١٥٩

والقرآن، ويستأنس بهما، وكان يرى نفسه بين أصابع الرحمن، كان كلُّه عرفاناً وتقوىً وحبّاً عميقاً لربّ العزّة.

وفي إطار تعرّفنا على الإمام الحسينعليه‌السلام نجد أنفسنا مضطرّين إلى التركيز على تلك اللحظة الحاسمة من حياته الشريفة، وأقصد بها لحظة عاشوراء، وهي اللحظة التي كانت تعبيراً متكاملاً عن كلّ قيم السماء، وعن تأريخ جميع الأنبياء، كما كانت تعبيراً عن وراثة سيّد الشهداء لصفوة الله آدمعليه‌السلام ، ولشيخ المرسلين نوحعليه‌السلام ، ولمحطّم الأصنام إبراهيمعليه‌السلام ، ولكليم الله موسىعليه‌السلام ، ولروح الله عيسىعليه‌السلام ، ولسيد الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ يوم عاشوراء كان كيوم القيامة، كألف سنةٍ ممّا تعدّون، بل وأكثر من ذلك بكثير؛ ولذلك يقف الزائر للقبر الشريف قائلاً:« السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله …» حتّى ينتهي إلى النصّ الشريف من الزيارة المتواترة:« السلام عليك يا وارث عليٍّ وليّ الله » (١) .

لقد ولد الإمام الحسينعليه‌السلام ولادتين؛ كانت الأولى في الثالث من شعبان، وكانت الولادة الثانية في يوم عاشوراء، وهو في كلا الولادتين وُلد ووُلد معه الإسلام. فحينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً » (٢) ، فالقضية تعني بالدرجة الأولى قصد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى توجيه الاُمّة إلى منزلة الإمام الحسينعليه‌السلام من الدين والعقيدة التي تمثّلها شخصية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يأتي تبعاً لذلك قصد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تبيين صلة القرابة التي تربطه بالحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة وارث للإمام الحسينعليه‌السلام .

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٦٥.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178