الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين0%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 178
المشاهدات: 104252
تحميل: 7401

توضيحات:

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104252 / تحميل: 7401
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يقول بهذا الصدد:« عليكم بأداء الأمانة؛ فوالّذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليه‌السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه » (١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال من قبل:« لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة » (٢) . فالمطلوب والأهم من الوجهة الشرعية تطبيق المعتقدات دون الاكتفاء بالناحية النظرية لها، وهذا لعمري خلاصة وجذوة الرسالات السماوية.

ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى وبعد أن وضّح الخارطة الإيمانية التي ينبغي للإنسان المسلم السير وفقها، قال:( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إبراهيم وءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (آل عمران/٣٣)، وهو بذلك يدفع المؤمنين إلى التطلع عبر إيمانهم العملي نحو أن يكونوا من المصطفين الأخيار؛ فالأصطفاء أمر يعمّ جميع المؤمنين ممّن يدفعهم الإيمان الجاد إلى التطور والوعي الأكثر والأوسع لحقيقة الوجود ومصيره.

والسؤال الأكثر جدية الذي أودّ طرحه في هذا المقام هو: إنه على الرغم من عمق العلاقة العاطفية التي تربط الموالين للإمام الحسينعليه‌السلام ، فإننا نرى تفاوتاً واضحاً بين مستوى العلاقة العاطفية وبين مقدار الاندماج الفكري والعقلي بقضية كربلاء ورؤى الإمام الحسينعليه‌السلام وأخلاقه!

فما السبب في ذلك يا ترى؟! علماً بأننا قدّمنا فيما مضى

____________________

(١) بحار الأنوار ٧٢ / ١١٤، ح٣.

(٢) ميزان الحكمة ١ / ٣٤٤.

٨١

من القول بأنّ العلاقة العاطفية بالحسينعليه‌السلام وقضيته العادلة لا تأخذ مصداقيتها ما لم ينضم إليها وعي والتزام فكريان.

لقد تركنا الإطار الفكري للقضية، وكأن السبط الشهيدعليه‌السلام قد ولد في يوم عاشوراء وقُتل فيه. وها نحن لا نعرف - أو لا نتطلع لأن نعرف - من الإمام الحسين سوى أحداث كربلاء رغم عظمتها، في حين أن حياة الإمام الحسينعليه‌السلام تحمل في طياتها العظمة برمتها، بدءاً بمولده الشريف في الصدر الأول للإسلام، ثمّ امتداداً لمعطيات هذا المولد المبارك.

إنّنا لا نكلّف أنفسنا البحث في رسائل وخطب سيد الشهداء اللاهبة إلى معاوية، فضلاً عن عدم تدبّرنا فيها، وإننا نتغافل عن مطالعة رسائلهعليه‌السلام المفصّلة فيما يخص حياة العلماء وصفاتهم، بل ولا نسعى إلى التدبر في الزيارات التي نقرؤها؛ تعظيماً وعرفاناً بجميل الحسينعليه‌السلام لنا. فهل فكّر الواحد منا فيما تعنيه هذه الزيارات؟ ولماذا هذا التعدد فيها؟ ولماذا هذا التوقيت الخاص لأنواعها وأقسامها؟

وإننا في الوقت الذي نكون بأمس الحاجة إلى أجهزة تبليغية متطورة وفاعلة بهذا الشأن نرى الكثير من الخطباء عديمي الاهتمام بما تعنيه هذه الزيارات، مع العلم أنها قد صدرت عمن هم معصومون عن الخطأ؛ الأمر الذي يحول دون الانتفاع بهذه الزيارات أدنى نفع.

وإنني إذ أقرأ الزيارة المعروفة بزيارة عاشوراء كثيراً ما تستوقفني عباراتها النورانية، والتي منها هذه العبارة:« السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، وأناخت برحلك » . فالأرواح التي حلّت

٨٢

بفناء الحسينعليه‌السلام هي أرواح الأنبياء والشهداء، والعلماء والصدّيقين؛ أرواح المخلصين الذين يهمهم خدمة الدين وإعلاء كلمته.

فأنعِم وأكرِم بلحظة أو ساعة أو حياة يخصص الإنسان فيها جهوده وطاقاته لكي يكون مع هذا الإمام العظيم؛ الإمام الذي على أساس جهاده قامت قائمة الدين بعد عواصف وسيول التحريف والكبت والطغيان، بل وأكثر من ذلك كله هو استمرار معطيات الثورة الحسينيّة بالنسبة للمصممين على إنقاذ شعوبهم من عبودية الطاغوت.

ونحن بدورنا نسلّم على تلك الأرواح ونقول:« السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، وأناخت برحلك، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتكم؛ السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته » .

٨٣

الإمام الحسينعليه‌السلام ضمانة الهدى والفلاح

عن الحسين بن علي عليهما السلام قال:« دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده اُبيُّ بن كعب، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مرحباً بك يا أبا عبد الله، يا زين السماوات والأرض. قال له اُبيّ: وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرض أحدٌ غيرك؟! فقال: يا اُبيّ، والذي بعثني بالحق نبياً إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض، وإنه لمكتوب عن يمين عرش الله مصباح هدى، وسفينة نجاة » (١) .

الإمام الحسين عليه‌السلام ضمانة الهدى والفلاح (*)

إنّ أبا عبد اللهعليه‌السلام كما أنبأنا بذلك الصادق الأمين هو مصباح للهدى، وسفينة للنجاة. والإنسان بحاجة في حياته إلى أمرين: الهدى والفلاح؛ الهدى لكي يعرف الطريق، والفلاح لكي يصل إلى أهدافه، ويحقق أهدافه وطموحاته.

والإمام الحسينعليه‌السلام يضمن لنا تحقيق هذين الأمرين، وهذا يعني أنّهعليه‌السلام يمثّل تلك القيم والمبادئ التي نزل بها الوحي، والتي تبصر الإنسان بطريقه في الحياة.

والحسينعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار ٩١ / ١٨٤، ح١.

(*) لا يخفى ما في العنوان من تكرار مع ما قبله.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٨٤

بنهجه وكلماته المضيئة، والحب الذي له في قلوب المؤمنين يمثّل النجاة في الدنيا والآخرة.

وإذا تدبّرنا في آيات الذكر الحكيم نرى أنّ الهدى والفلاح هما نهاية وعاقبة المتقين؛ ففي بداية سورة البقرة نقرأ قوله تعالى:( ألم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ ) (البقرة/١ - ٢)، حتّى تصل إلى قوله:( اُولئك عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولئك هُمُ المُفْلِحُونَ ) (البقرة/٥).

فالهدى هو القرآن، والذي يدلنا على هذا الهدى هو الإمام الحسينعليه‌السلام من خلال كلماته وأفكاره، ومن خلال تجسيده للقرآن؛ فقد كانعليه‌السلام القرآن الناطق بما قام به من حركة ونهضة؛ ولذلك كان مصباحاً للهدى، أي تفسيراً وتأويلاً صحيحاً للقرآن الذي أمرنا بمقارعة الطغاة والظالمين، وأن لا نشرك بالله احداً.

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام هو في نفس الوقت سفينة نجاة؛ فالبشرية معرّضة لأن تبتلعها أمواج الفتن، وتهددها الأخطار، وعليها اذا ما أرادت التخلص من هذه الفتن والأخطار أن تتمسّك بنهج أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

العودة إلى حقيقة الدين؛ رسالة الأنبياء

ولقد كان من أهم مهام الأنبياءعليهم‌السلام ، وأعظم مسؤولياتهم أنهم كانوا يحاولون إعادة الناس إلى حقيقة الدين. ولقد بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل والأوصياء الواحد بعد الآخر؛ لأنّ الناس كانوا يحاولون أفراغ الدين من محتواه والأخذ بقشوره؛ فهم يصلّون ولكن صلاتهم لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ولا تدعوهم إلى الله وذكره،

٨٥

ولا تدفعهم إلى إطعام المسكين، وأداء الواجبات وترك المحرمات. ومثل هذه الصلاة هي صلاة عمر بن سعد التي أداها في يوم عاشوراء، في حين أنّه قد قتل الصلاة؛ لأنّه قتل أبا عبد اللهعليه‌السلام الذي كان يمثّل الصلاة وكل الواجبات الشرعية.

وعلى سبيل المثال فإنّ الحج كان من ضمن الفرائض التي كانت موجودة قبل الإسلام، ولكنّ المشركين كانوا قد افرغوا هذه الفريضة من محتواها؛ فمشركو قريش الذين كانوا سدنة البيت كانوا يوجبون على الحجاج أن لا يطوفوا بثيابهم، وإنّما عليهم أن يبدّلوها ويرتدوا ثياباً جديدة يأخذونها من سدنة البيت ليحجّوا بها.

وهذه هي إحدى البدع؛ فالعرب كانوا يأتون للحج ولكنّ المشركين كانوا يفرضون عليهم غرامة. قد كان البعض فقراء لا يستطيعون شراء تلك الثياب، فكانوا يضطرون إلى أن يطوفوا حول الكعبة عراة.

وقد أقام المشركون في بيت الله الحرام ما يقرب من ثلاثمئة صنم، وكانوا يطوفون حول البيت، ثم يلبّون فيقولون: لبيك اللَّهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك …(١) . وبذلك كانوا يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويدّعون التوحيد وهم غارقون في الشرك!

هكذا كان دين المشركين، لقد افرغوه من محتواه؛ فكان حجهم وصلاتهم مكاء وتصدية كما يقول (عزّ وجلّ):( وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ) (الأنفال/٣٠). فالذي كان يصلّي لم يكن

٨٦

يصلي لله، وإنما ليصد الناس عن سبيله.

ولقد جاء نبينا الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعيد إلى الدين حقيقته وجوهره، وهكذا كانت وظيفة الأئمةعليهم‌السلام ؛ فقد قاموا بهذا الدور أيضاً؛ فقد جاء الإمام الحسينعليه‌السلام ليرى فوق منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يفتخر بأنه يشرب الخمر، ويزني بعمّته، ويلاعب القرود، بالإضافة إلى أنّه كان أحد الشعراء المعروفين بالغناء والطرب ووصف الخمرة!

وهكذا، فقد كانت الخلافة موجودة، ومنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله موجوداً، وهكذا الحال بالنسبة إلى المسجد. ولكننا عندما ننظر إلى المحتوى نراه فساداً في فساد، وحميات وعصبيات، واختلافاً بين القبائل العربية، وبين العرب والموالي، وبالتالي عودة الجاهليّة بكل قيمها الفاسدة.

وقد روي في هذا المجال أنّ عبد الله بن عمر قد دعي إلى نصرة الحسينعليه‌السلام ، ولكنه امتنع عن ذلك، طالباً من الداعين له أن يتركوه منشغلاً بالصلاة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بحجة أنّ هذا العمل أكثر ثواباً عند الله.

هذا في حين أنّ الاُمّة كانت تنحرف، والفساد يعم، والإسلام في خطر، فما فائدة مثل هذه الصلاة والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« إذا ظهرت البدعة في اُمّتي فليظهر العالم علمه؛ فإن لم يفعل فعليه لعنة الله» (١) ؟ إنّ الصلاة التي تغطّي على تقاعس الإنسان وهزيمته واستسلامه إنّما هي مكاء وتصدية.

ترى من الذي يجب أن يقوم بمهمة إزالة هذا الانحراف الواسع العميق

____________________

(١) بحار الأنوار ٢ / ٧٢.

٨٧

غير أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي ادّخره الله سبحانه لمثل هذا اليوم؟ ولذلك فقد أصبحعليه‌السلام مصباح الهدى وسفينة النجاة؛ لأنّه هو الذي أنقذ الله به البشرية كلها من الضلالة، وإلاّ لكان الدين في خبر كان، ولانتهى كما انتهت الأديان السابقة؛ فلقد علّم الحسينعليه‌السلام البشرية أن حقيقة الدين هي المهمة لا مظاهره، وهو درس لنا نحن أيضاً؛ فإذا رأينا إنساناً يصلّي ولكنه يكذب بعد الصلاة، ويخون الأمانة، فعلينا أن نقول له: إن صلاتك مردودة عليك.

وإذا أردنا أن نجرّب مجتمعاً ما فعلينا أن نعرفه من خلال تعامل أفراده مع بعضهم البعض؛ فهل يؤدّون الأمانة، أم أنّهم يأكلون أموالهم بينهم بالباطل؟ ولقد جاء في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :« لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده؛ فإنَّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك » (١) .

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام جاء ليعلّمنا أنّ الدين والإيمان حقيقة؛ فالإيمان ليس بالتظنّي ولا بالتمني، وإنّما هو ما وقّر في القلب، فإذا لم يوجد النور في القلب، ولم تكن للإنسان القدرة على نهي النفس عن الهوى، فيؤدي الصلاة وهو يعبد الشيطان وهوى النفس، فإنّ هذه الصلاة مردودة؛ فالله (عزّ وجلّ) لا يتقبل إلاّ من المتقين، وهذه هي حقيقة الدين.

حقائق الدين في القرآن

ولقد أوضح لنا القرآن حقائق الدين، فهو يقول مرة:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (البقرة/١٧٧). فتولية الوجه

____________________

(١) اُصول الكافي ٢ / ١٠٥.

٨٨

إنّما هو من جملة الاُمور الظاهرية، والبر إنّما هو الإيمان الحقيقي، والإنفاق، والجهاد في سبيل الله.

ثم يقول مرة اُخرى:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ ) (التوبة/١٩). فهل من الممكن أن اُصبح مؤمناً حقيقياً بمجرد أن آتي بالماء وأسقي به الحجيج في حين أنّني لم أنه نفسي عن الهوى، ولم أخف مقام ربي، ولم أكن مع ديني ضد مصلحتي؟

وفي سورة [مريم] يبيّن لنا ربنا تبارك وتعالى بعض صفات الأنبياء، فيقول:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ) (مريم/٥٤)، أي أنّ الدين هو الصدق في الوعد والكلام والالتزام، ثم يقول تعالى:( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ) (مريم/٥٥)، فإن ندّعي التدين ولكن لا نهتم بأولادنا، ولا نأمرهم بالصلاة فإنّ هذا ليس من الدين في شيء.

ثم يقول تعالى بشأن إدريسعليه‌السلام :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ) (مريم/٤١)، فقد كانت من صفات هذا النبي العظيم أنّه كان صادقاً في كلِّ حقٍّ، وهذا هو معنى الإيمان.

ومن الصفات التي اشترك فيها جميع الأنبياءعليهم‌السلام الصفة التي يشير إليها تعالى في قوله:( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّا ) (مريم/٥٨)، فالحقائق الإلهية كانت تعني بالنسبة اليهم الخضوع والخشوع والإخبات؛ ولذلك فإنّهم كانوا يسلّمون للأمر الإلهي دون مناقشة.

وبعد ذلك يشير ربنا (عزّ وجلّ) إلى الانحراف الذي ظهر بعد الأنبياءعليهم‌السلام قائلاً:( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ ) (مريم/٥٩)،

٨٩

ومن المعلوم أنّ إضاعة الصلاة ليس كتركها؛ فالإضاعة تعني أنهم كانوا يصلّون، ولكن ليس تلك الصلاة التي يريدها الله تعالى؛ لأنّهم كانوا يتبعون شهواتهم لا أحكام دينهم.

فرصة إصلاح النفس

إنّنا الآن نريد أن نركب سفينة النجاة وندخل في أمان الله تعالى تحت راية أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ لذا فعلينا أن نصلح واقعنا الفاسد. وإذا ما دخلنا في محرّم ثم خرجنا منه كما دخلنا فقد ضيّعنا فرصة إصلاح نفوسنا وأوضاعنا؛ فعلينا أن نهيئ أنفسنا للانتفاع من هذا الموسم الشريف وخصوصاً فيما يتعلق بعلاقتنا مع بعضنا البعض.

فإذا كان الواحد منا يحمل في قلبه - لا سمح الله - حقداً وضغينة، أو سوء ظن تجاه أخيه المؤمن فعليه أن يزيله. ولا تكن تعزيتنا في هذا الشهر من أجل ان يكون موكبنا - مثلاً - أفضل من مواكب الآخرين، أو حسينيتنا أفضل من الحسينيّات الاُخرى؛ فمثل هذا التفكير إنّما هو من الحميات والعصبيات الجاهليّة.

إنّ المهم هو العمل الذي يكون فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأن لا يكون هدفنا رضا الناس فقط. ثمّ إنّ مجالسنا يجب أن تكون مركزاً للوحدة والتلاحم؛ لأنّ راية الحسينعليه‌السلام هي راية الوحدة، لا راية الفرقة والاختلاف، فإذا ما تفرقنا فإنّ الآخرين سيستشكلون علينا بأننا نمتلك إماماً واحداً، ولكننا مع ذلك متفرقون عن بعضنا.

فلنوحد أنفسنا؛ فإن الوحدة هي حقيقة الدين كما قال الله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (آل عمران/١٠٣)، وحبل الله هو القرآن الكريم، والنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

٩٠

والأئمة المعصومونعليهم‌السلام .

ولنصلح أنفسنا ولا نخدعها بالمظاهر، فعندما نقف أمام أبي عبد اللهعليه‌السلام ونقول:« إنّي سلم لمن سالمكم، وحربٌ لمن حاربكم » (١) ، فإن هذا يقتضي أن نحب كلَّ من أحب الحسينعليه‌السلام ، ونوالي كلَّ مَن والاه، لا أن نختلف معه ونُكنَّ له العداوة والضغينة، ونروح ضحية التنافس المقيت.

فلنطهّر أنفسنا، ولنكن صادقين مع أمامنا الحسينعليه‌السلام ، وفي هذه الحالة سنركب سفينة النجاة، وسيكون الحسينعليه‌السلام شفيعنا في الآخرة، وسبباً لنجاتنا من المشاكل والمآسي في الدنيا.

٩١

الإمام الحسينعليه‌السلام ومنهج البراءة من المشركين

لقد دافع المسلمون في الجزيرة العربية عن الوحي في العصر الأوّل أفضل دفاع، وجاهدوا الكفّار دون هوادة حتّى نصرهم الله تعالى، فعمّ الإسلام الجزيرة، ورفرفت على ربوعها راية التوحيد، وحينئذ أنزل الخالق (عزّ وجلّ) سورة البراءة التي هي السورة الوحيدة في القرآن التي لا تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم؛ دلالة على غضب الله وشدة انتقامه.

وعندما نزلت هذه السورة على قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأراد إبلاغ المسلمين في الموسم الأكبر في الحجِّ بأنه منذ تلك اللحظة، وإلى أربعة أشهر يمهل المشركين أن يتركوا الجزيرة العربية ولا يعودوا إلى حرم الأمن الإلهي.

نزل جبرائيلعليه‌السلام على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بأن لا يحمل هذه السورة إلى المشركين إلاّ هو أو شخص يمثّله ويكون نفسه. وحينئذ دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام وحمله هذه السورة، فصدع الإمامعليه‌السلام بها في الموسم.

وكانت القبائل العربية المشركة المتوافدة إلى موسم الحج الأكبر متواجدة في المشاعر كما في مكة المكرمة، ولكن الإمامعليه‌السلام أعلن البراءة بكلِّ صراحة في ذلك الموسم العظيم.

٩٢

والملاحظ في هذا المجال أنّ كل الطغاة عبر التأريخ يرفضون الحديث عن البراءة، فلا بأس أن تتحدث عن الصدق، والوفاء، وصلة الرحم، والصلاة، والزكاة، ولكن إيّاك ان تتحدث عن الشرك، والرشوة، والفساد، والانحراف، والمنكر.

ترى لماذا تبدأ كلمة التوحيد بالرفض وتنتهي بالإثبات (لا إله إلاّ الله)؟ ولماذا يغفر الله تعالى كل ذنب ولكنه لا يغفر الشرك به؟ ولماذا يعد الشرك ظلماً عظيماً؟ ولماذا كانت معركة الأنبياءعليهم‌السلام عبر التأريخ مع الشرك والمشركين الذين كانوا يتّخذون مع الله آلهة، ومن دونه أولياء؟

السبب في كل ذلك هو أن المنزلق الأكبر للبشرية إنّما هو منزلق أن لا يرفضوا الله تعالى، ولكنهم يشركون به في نفس الوقت؛ فكل شيء يشهد على وجود الله، ولكن الناس يريدون عادة أن يعبدوا مع الله غيره، وأن يتّخذوا مخلوقاته أولياء من دونه؛ سواء كانوا حجراً أم بشراً أم مناهج.

فالمشكلة هي أن الإنسان يريد أن يعبد الله تعالى عندما تكون له مصلحة في ذلك؛ فتراه يعبد الله حيناً، ويخضع للطاغوت حيناً. فالمنزلق الخطير الذي يوقع الشيطان الإنسان فيه هو هذا المنزلق، فلا بأس أن يصلي من الليل إلى الصباح، ولكن إذا تعيّن عليه أن يطبّق قوله سبحانه:( يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) (النساء/ ١٣٥) أن يقوم لله، ويشهد بالقسط، وينكر المنكر، ويقاوم الطاغوت، ويرفض الانحراف، فحينئذ تبدأ الصعوبة.

فالذي يقوم أمام سلطان جائر وينكر عليه فساده وانحرافه، فإن هذا السلطان لن يسكت عنه؛ ولذلك كان

٩٣

إبراهيم الخليلعليه‌السلام محطّماً للأصنام؛ لأنّه رفض الانحراف، بل إنه بدأ مسيرة التوحيد من خلال الرفض؛ رفض عبادة الشمس والكواكب حتّى قال:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأرض ) (الأنعام/ ٧٩)، فلولا رفضه لعبادة من هو دون الله لما كان موحداً، ولما عمد إلى تحطيم الأصنام.

الرفض بداية الإيمان

وهكذا فإن الرفض هو بداية الإيمان، ولقد علّمنا أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام درس الرفض والتوحيد؛ فالسرّ الذي جعل العالم كلّه يقف إجلالاً لهعليه‌السلام كلّما مرت ذكرى محرم هو في أنّ منهج التوحيد علّمه كيف يرفض الانحراف ولو كلّفه ذلك أن يسفك دمه.

فالإمام الحسينعليه‌السلام أعلن عن ثورته بقوله:« إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحّرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله » (١) . فلم يقل: أنا لا اُبايع يزيد، بل قال: إنّ منهجي يختلف عن منهجه.

فمثل أبي عبد الله الحسين الذي رضع من ثدي الإيمان، وترعرع في حضن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وشبَّ تحت رعاية أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يمكنه أن يبايع رجلاً فاسقاً كيزيد. فمَن كان مع الحسينعليه‌السلام لا يمكن أن يكون مع يزيد، وهذا هو الطريق الصحيح.

ولقد أعلن الحسينعليه‌السلام مرة اُخرى عن منهجه التوحيدي في رسالته إلى العلماء؛ حيث نقل في هذه الرسالة حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.

٩٤

لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله » (١) ، أي إنّ الإنسان الذي يداهن السلاطين ولا يتبرأ منهم فإنه سيكون شريكاً في جرائمهم.

وقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يستهدف من هذه الرسالة استنهاض همم العلماء ليقوموا قياماً واحداً ضد يزيد الطاغية. وفي هذا المجال يقول تعالى:( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (الزمر/١٧)، وفي موضع آخر يقول (عزّ وجلّ):( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة/٢٥٦).

فالكفر بالطاغوت هو بداية الطريق، والذي لا يكفر به لا يمكن أن يؤمن بالله، فكيف من الممكن أن تجتمع على إنسان واحد قيادتان؟ وكيف يقوده إمامان؛ إمام الهوى، وإمام الهدى؟

إنّ حركة الإنسان لا تتحمل قيادتين؛ ولذلك فإن الرفض هو بداية التسليم والإيمان، وهذا هو ما فعله الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فهو لم يترك جانباً من جوانب حياتنا إلاّ وأضاءه بنهضته الكبرى.

إنّ الحسينعليه‌السلام بدأ نهضته هذه بقضية هامة، وهي أنه قد نظر إلى العاقبة منذ بداية الطريق؛ فقد أعلن في أول خروجه من مكة المكرمة قائلاً:« … خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء …» .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٨٢.

٩٥

ثمّ قالعليه‌السلام :« مَن كان فينا باذلاً مُهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا؛ فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله » (١) .

وهكذا فإنهعليه‌السلام لم يُمَنِّ الناس بالإمارة والنصر والخيرات، وإنما أعلن لهم أنّ هذا الطريق لا بدّ وأن ينتهي بالشهادة. وعندما يتسلح قوم بهذه الفلسفة وهذه الروحية العالية فإنهم لا يمكن أن يغلبوا عن ضعف؛ لأنّ النهاية هي الشهادة، وهم قد بدؤوا بالنهاية هذه، أي اعتبروها بداية الطريق كما فعل الإمام الحسينعليه‌السلام .

ونحن اليوم نجدد ذكرى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ونستقبل شهر محرم بما فيه من نفحات إلهية، وفرص للهداية، وعواطف جياشة، وأعين دامعة، وبما فيه من مجالس.

علينا أن نستقبله بالكلمة المسؤولة التي تحمّل الناس مسؤوليتهم الشرعية؛ فالقرآن الكريم يقول:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ ) (الرعد/١١)، ويقول:( وَأَن لَّيْسَ لِلإنسان إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) (النجم/٤٠).

فالكل سوف يقف في ذلك اليوم الرهيب لكي يجيب ربه، ولا فرق في ذلك بين الكبير والصغير، والعالم والجاهل، والغني والفقير؛ فالجميع سوف يحملون معهم المسؤولية، فأنت مسؤول، وأنا مسؤول، وكلنا مسؤولون.

ومن مسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته نستلهم ثمة أفكار، منها:

درس المسؤولية

١ - فكرة المسؤولية، وهي الفكرة الاُولى التي زرعها الإمام الحسينعليه‌السلام في روع الاُمّة؛ فهناك الكثير ممن جاء إلى الإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٦ - ٣٦٧.

٩٦

وأوصاه بأن لا يحمل معه عياله وأهل بيته إذا كان متأكداً من أنه سيُقتل في سبيل الله، ولكنهعليه‌السلام كان يريد أن يعلّمنا درس المسؤولية، وأنّ كلَّ واحد منّا يجب أن يتحمل قدراً منها.

وفعلاً، فقد حمل الجميع هذه الرسالة في يوم عاشوراء؛ اعتباراً من حبيب بن مظاهر، ذلك الرجل الذي احدودب ظهره بسبب شيخوخته، وانتهاءً بالطفل الرضيع علي الأصغر، وهذه هي فكرة المسؤولية التي يجب أن نبيّنها للناس عبر المنابر والمجالس.

إنّ الأوضاع المتردية التي نجدها في اُمتنا، والفساد العريض، والتشتت والاختلاف، كل ذلك رهين بالمسؤولية التي لا بدّ أن نتحملها؛ فالعلماء بعلمهم، والخطباء بألسنتهم، والكُتّاب بأقلامهم، والتجار بأموالهم، وكلّ حسب قدرته وطاقته. فبما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض الدينية، فالجميع يجب أن يتحملوا المسؤولية.

وكلّ واحد منا عندما يريد البحث عن خطيب يعلمه معالم دينه، فلا بدّ أن يفتّش عن خطيب يحمله المسؤولية، لا أن يبحث عن خطيب يبرّر له ويخدّره؛ فالدين ليس بالتمني، بل بالعمل والاجتهاد والورع.

فالجماهير يجب أن تلتف حول خطباء ينطقون عن أبي عبد اللهعليه‌السلام بكلماتهم وسلوكهم؛ فالخطيب الذي يجلس على منبر أبي عبد اللهعليه‌السلام إنّما ينطق باسمه؛ فلذا لا بدّ أن يكون مثله.

اتّباع القيادة الربانيّة

٢ - أمّا الفكرة الثانية التي لا بدّ أن نستقبل بها شهر محرم فهي فكرة القيادة الربانيّة؛ فعندما حمل الحسينعليه‌السلام الراية قال:« إنّا نحن أهل

٩٧

بيت النبوة، ومعدن الرسالة … » (١) ، أي إنّ الخط الصحيح يتمثّل في قيادة ربانية إلهية تتّصف بصفة النبوة والرسالة، أي تحمل الحقائق الإلهية إلى الناس. ومعنى ذلك أنّ القائد الشرعي هو الذي يحمل في داخله حقائق التوحيد ليحملها إلى الآخرين، وهذا هو معنى القيادة الربانيّة.

فعندما تريد أن تعرف قائدك فانظر إليه، هل يدافع عن قيم الوحي، وهل يدعو إلى قيم الرسالة، وهل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أم يداهن السلاطين ويسكت عنهم؟

ومن هنا فإن الاُمّة الإسلاميّة لا يمكن أن يسودها الصلاح إلاّ بالتفافها حول القيادات الربانيّة، وهذه القيادات لا بدّ أن نعرفها ونبحث عنها؛ فالله سبحانه وتعالى أخفى أولياءه بين عباده، وقد تحدّث القرآن عن صفاتهم قائلاً:( يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) (المائدة/٥٤).

اختيار المنهج السليم

٣ - الفكرة الثالثة التي نستلهمها من نهضة الحسينعليه‌السلام الكبرى هي الطريق الواضح والمنهج السليم؛ فلقد اختارعليه‌السلام طريقاً ومنهجاً محددين، فلو كان قد قُتل وهو متعلق بأستار الكعبة لما أصبحت ثورته عظيمة، ولكنه أعلن أوّلاً البراءة من المشركين، وعبّأ الاُمّة الإسلاميّة بالوعي، ثم قَدِمَ إلى كربلاء.

صحيح أنهعليه‌السلام قد استشهد في أرضٍ بعيدة عن موطنه، ولكن أرض العراق كانت مأهولة بالقرى والمدن، وهوعليه‌السلام

٩٨

عندما قُتل فيها صبغ أرضها بدمه الشريف، وكانت رايته هي المنتصرة رغم انكسارها الظاهري؛ ولذا أصبحت الكوفة بعد ذلك بفترة قصيرة مركزاً للثورات المتلاحقة طوال تأريخها؛ ففي سنة (٦٥) للهجرة انفجرت حركة التوابين، ثمَّ حركة المختار. وإذا ما سمعنا عن كلِّ الحركات الكبرى في التأريخ فإنّ منشأها الكوفة؛ وذلك ببركة دم أبي عبد اللهعليه‌السلام .

وعندما قُتلعليه‌السلام في كربلاء فإنّ أهل بيته الذين اُسروا حملوا رسالته إلى الكوفة، ومنها إلى الشام ثمَّ إلى المدينة. وهكذا فقد كانت رايتهعليه‌السلام تدور في الآفاق حتّى أسقطت أنظمة الطغاة.

ونحن يجب أن نفتش عن الاستراتيجية الصحيحة والمنهج اللاحب الذي نسير به إلى الأهداف المرسومة، من خلال تحمل المسؤولية، واتباع القيادة الربانيّة، وتعيين الاستراتيجية الواضحة، وبذلك ستنتصر الاُمّة على أعدائها، وتتغلب على مشاكلها، وتحقق أهدافها بإذن الله. وهذه هي دروس ثورة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

وكلمة أخيرة، وهي أنّ علينا تطهير أنفسنا في هذا الشهر من الحمية الجاهليّة، والأفكار الخاطئة، والثقافات الدخيلة، والأحقاد والضغائن، وأن نوحّد أنفسنا تحت راية الإسلام والإيمان. فالإمام الحسينعليه‌السلام هو سفينة النجاة، فلنركب هذه السفينة، وهو مصباح هدى، فلنهتدِ بهذا المصباح في الظلمات، وهو شفيع هذه الاُمّة، فلنطلب الشفاعة من الله تبارك وتعالى به ليغفر الله ذنوبنا ويكفّر عنا سيئاتنا.

ونسأله تعالى أن يوفقنا لأن نكون حسينيِّين قولاً وعملاً، وأن نكون مع الحسينعليه‌السلام وتحت رايته في الدنيا والآخرة.

٩٩

الإمام الحسينعليه‌السلام محور حكمة الخلق، ومظهر تحدّي الطغيان

عندما يتذكر الإنسان أبا الأحرار وسيّد الشهداء أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ينهمر في قلبه شلاّل من مشاعر شتى؛ فمن جهة يتدفق في قلب الإنسان تيار من الحزن عند ذكر السبط الشهيد، ومن جهة اُخرى يتفجّر في قلبه إحساس عميق بالشجاعة والبطولة والتحدّي، ومن جهة ثالثة ينساب على قلب الإنسان - عندما تثور في نفسه ذكرى الإمام الحسينعليه‌السلام - نور من السرور والبهجة بهذا السبط الشهيد الذي غيّر العالم بكيانه المتميز.

الإمام الحسين عليه‌السلام محور حكمة الخلق

ونحن عندما ندرس طبيعة الخلقة، والحكمة الكامنة وراءها من خلال آيات الذكر الحكيم، والسنة النبوية الشريفة، وعبر ما يهتدي إليه عقل الإنسان وفكره الصافيان، فحينئذ سندرك أن الإمام الحسينعليه‌السلام كان محوراً أساسياً في حكمة الخلق، وأنّه لا بدّ لمثل هذا الرجل أن يأتي، ولا بدّ أن يكتب بدمه عنوان حياة الإنسان، وأن تكون ملحمة كربلاء رمز وجود الخلقة بفضل تلك الإرادة التي جعلت السبط الشهيد يقتحم

١٠٠