السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192501 / تحميل: 8581
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

السلام ، فان الفاظ القصة لا تدل على التأويل الذي ذكره الخضر لموسى. كما انه في آية( وأوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ) لا تدل هاتان الجملتان دلالة لفظية على وضع اقتصادي خاص هو التأويل للأمر الوارد فيها. وفي آية( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ) لا تدل الآية دلالة لفظية على تأويله الذي هو الوحدة الإسلامية وهكذا دواليك في الآيات الاخرى لو امعنا النظر فيها.

بل في الرؤيا تأويله حقيقة خارجية رآها الراؤون في صورة خاصة ، وفي قصة موسى والخضر تأويل الخضر حقيقة تنبع منها اعماله التي عملها ، والامر في آية الكيل والوزن تأويله مصلحة عامة تنبع منه ، وآية رد النزاع الى الله والرسول ايضاً شبيهة بما ذكرناه.

فتأويل كل شيء حقيقة خارجية يتراءى ذلك الشيء منها وهو بدوره يحقق التأويل ، كما ان صاحب التأويل بقاؤه بالتأويل وظهوره في صاحبه.

وهذا المعنى جار في القرآن الكريم ، لان هذا الكتاب المقدس يستمد من منابع حقائق ومعنويات قطعت اغلال المادية والجسمانية ، وهي اعلى مرتبة من الحس والمحسوس واوسع من قوالب الالفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية.

٦١

ان هذه الحقائق والمعنويات لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة ، وانما هي الفات للبشرية من عالم الغيب الى ضرورة استعدادهم للوصول الى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقة والاعمال الصالحة ، ولا طريق للوصول الى تلك السعادة الا بهذه الظواهر ، وعندما ينتقل الإنسان الى العالم الاخر تتجلى له الحقائق مكشوفة ، وهذا ما يدل عليه آيتا سورتي الاعراف ويونس المذكورتان.

والى هذا يشير ايضا قوله تعالى :( حّم *والكتاب المبين *انا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون *وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) (١) .

انطباق الآية على « التأويل » بالمعنى الذي ذكرناه واضح لا غبار عليه ، وخاصة لانه قال( لعلكم تعقلون ) ولم يقل « لعلكم تعقلونه » ، لان علم التأويل خاص بالله تعالى كما جاء في آية المحكم والمتشابه( وما يعلم تأويله الا الله ) ، ولهذا عندما تريد الآية ان تذكر المنحرفين الذين يتبعون المتشابهات ، تصفهم بأنهم يبتغون الفتنة والتأويل ولم تصفهم بأنهم يجدون التأويل.

فاذاً « التأويل » هو حقيقة او حقائق مضبوطة في ام

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

٦٢

الكتاب ولا يعلمها الا الله تعالى وهي مما اختص بعالم الغيب.

وقال تعالى ايضاً في آيات اخرى :( فلا اقسم بمواقع النجوم *وانه لقسم لو تعلمون عظيم *انه لقرآن كريم *في كتاب مكنون *لا يمسه الا المطهرون *تنزيل من رب العالمين ) ؟(١) .

يظهر جلياً من هذه الآيات ان للقرآن الكريم مقامين : مقام مكنون محفوظ من المس ، ومقام التنزيل الذي يفهمه كل الناس.

والفائدة الزائدة التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة ، هي الاستثناء الوارد في قوله( الا المطهرون ) الدال على ان هناك بعض من يمكن ان يدرك حقائق القرآن وتأويله. وهذا الاثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى( وما يعلم تأويله الا الله ) ، لان ضم احداهما الى الاخرى ينتج الاستقلال والتبعية ، اي يعرف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق ولا يعرفها احد الا باذنه عز شأنه وتعليم منه.

وعلم التأويل شبيه فيما ذكرنا بعلم الغيب الذي اختص بالله تعالى في كثير من الآيات ، وفي آية استثنى العباد

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الواقعة : ٧٥ ـ ٨٠.

٦٣

المرضيون فأثبت لهم العلم به ، وهي قوله تعالى :( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احداً *الا من ارتضى من رسول ) (١) . فمن مجموع الكلمات في علم الغيب نستنتج انه بالاستقلال خاص بالله تعالى ولا يطلع عليه احدا الا باذنه عز وجل.

نعم ، المطهرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية ويصلون الى غور معارف القرآن ـ كما تدلنا عليه الآيات التي ذكرناها. ولو ضممنا هذه الى قوله تعالى( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (٢) .

الوارد حسب احاديث متواترة في حق اهل البيتعليهم‌السلام نعلم ان النبي واهل بيته هم المطهرون العالمون بتأويل القرآن الكريم.

القرآن والناسخ والمنسوخ :

بضمن آيات الاحكام الواردة في القرآن الكريم آيات احتلت احكامها مكان احكام كانت موضوعة في آيات سابقة ، فأنهت الآيات اللاحقة مفعول الآيات السابقة ولم تعد

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الجن : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سور الاحزاب : ٣٣.

٦٤

تلك الاحكام معمولاً بها. وتسمى الآيات السابقة بـ « المنسوخ » والآيات اللاحقة بـ « الناسخ ».

فمثلاً في بداية مبعث الرسول أمر المسلمون بمداراة اهل الكتاب في قوله تعالى :( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) (١) . وبعد مدة انهي هذا الحكم وامروا بالقتال معهم في قوله( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب ) (٢) .

والنسخ الذي يدور على السنتنا حقيقته هي : وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه.

لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل والخطأ الى الله تعالى المنزه عن كل جهل وخطأ ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود اي اختلاف بينها.

بل النسخ في القرآن معناه : انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ. ونعني بهذا ان للحكم الاول كانت مصحلة زمنية محدودة واثر موقت بوقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ١٠٩.

(٢) سورة التوبة : ٢٩.

٦٥

ذلك الزمن المحدود وزوال الاثر. ونظراً الى ان الآيات نزلت في مناسبات مختلفة خلال ثلاث وعشرون سنة ، من السهولة بمكان تصور اشتمالها على هكذا احكام.

ان وضع حكم موقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم ، ثم وضع الحكم الدائم وابدال الحكم الموقت به ، شيء ثابت لا اشكال فيه. كما يفهم هذا ايضا مما ورد في القرآن الكريم حول فلسفة النسخ. قال تعالى :( واذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون *قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين ) (١) .

الجري والانطباق في القرآن :

القرآن الكريم كتاب دائم لكل الازمان وتسري احكامه على كل الناس ، فيجري في الغائب كما يجري في الحاضر وينطبق على الماضي والمستقبل كما ينطبق على الحال. فمثلاً الآيات النازلة في حكم ما على احد المؤمنين بشروط خاصة في عصر النبوة يسري ذلك الحكم على غيره لو توفرت تلك الشروط في العصور التالية ايضاً ، والآيات التي تمدح او تذم

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ١٠١ ـ ١٠٢.

٦٦

بعض من يتحلى بصفات ممدوحة او مذمومة تشمل من يتحلى بها ممن لم يعاصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فاذاً مورد نزول آية من الآيات لا يكون مخصصاً لتلك الآية نفسها. ونعني بذلك انه لو نزلت في شخص او اشخاص معينين آية لا تكون تلك الآية جامدة في ذلك الشخص او اولئك الاشخاص ، بل يسري حكمها في كل من يشترك مع اولئك في الصفات التي كانت مورداً لتلك الآية.

هذا هو الذي يسمى في السنة الاحاديث بـ « الجري ». قال الامام الباقرعليه‌السلام ، في حديثه للفضيل بن يسار ، عندما سأله عن هذه الرواية « ما في القرآن آية الا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف الا وله حد ولكل حد مطلع » ما يعني بقوله « ظهر وبطن »؟ قالعليه‌السلام : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع. الحديث(١) .

وفي بعض الاحاديث يعتبر بطن القرآن ـ يعني انطباقه بموارد وجدت بالتحليل ـ مثل الجري(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) تفسير العياشي ١ / ١٠.

(٢) انظر المصدر السابق ١ / ١١.

٦٧

التفسير وظهوره وتطوره :

بدأ التفسير للآيات وبيان معاني الفاظ القرآن وعباراته من عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان هو المعلم الاول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده وحل ما غمض من عباراته ، قال تعالى( وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ) (١) .

وقال :( هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (٢) .

وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه ، وهم الذين يسمون بـ « القراء ». وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولا زال حتى الان فيهم مفسرون.

علم التفسير وطبقات المفسرين :

اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد ان ارتحل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الى الرفيق الاعلى ، ومنهم

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة الجمعة : ٢.

٦٨

أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الانصاري وابو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وانس وابو هريرة وابو موسى ، وكان اشهرهم عبد الله بن عباس.

كان منهج هؤلاء في التفسير انهم ينقلون ما سمعوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في معاني الآيات بشكل احاديث مسندة(١) وبلغت هذه الاحاديث كلها الى نيف واربعين ومائتي حديث اسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لا يمكن الركون اليها.

وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على انه تفسير منهم بدون اسناده الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعد المفسرون من متأخري اهل السنة هذا القسم ايضا من جملة الاحاديث ، بحجة ان الصحابة اخذوا علم القرآن من النبي ويبعد ان يفسروا من عند انفسهم.

ولكن لا دليل قاطع على كلامهم هذا ، بالاضافة الى ان كمية كبيرة من الاحاديث المذكورة واردة في اسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية ، كما ان فيها احاديث غير مسندة منقولة عن بعض علماء اليهود الذين اسلموا ككعب الاحبار وغيره.

ــــــــــــــــــ

(١) آخر كتاب الاتقان ، طبع القاهرة سنة ١٣٧٠ هـ.

٦٩

وكان ابن عباس في اكثر الاوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات ، كما نرى ذلك جلياً في مسائل نافع بن الازرق ، فان ابن عباس عند الاجابة عليها استشهد بالشعر في اكثر من مائتي مورد من الآيات ، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جواباً منها في كتابه الاتقان(١) .

ومن هنا لا يمكن اعتبار الاحاديث المنقولة عن الصحابة احاديث نبوية كما لا يمكن القول بأنهم لم يفسروا مطلقاً برأيهم.

ومفسرو الصحابة هم الطبقة الاولى من المفسرين.

( الطبقة الثانية ) هم التابعون ، وهم تلامذة مفسري الصحابة ، وهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وضحاك. ومن هذه الطبقة ايضا الحسن البصري وعطاء بن ابي رباح وعطاء بن ابي مسلم وابي العالية ومحمد بن كعب القرظي وقتادة وعطية وزيد بن اسلم وطاوس اليماني(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) الاتقان ص ١٢٠ ـ ١٣٣.

(٢) مجاهد ، مفسر مشهور ، توفي سنة ١٠٠ او سنة ١٠٣ ( تهذيب الاسماء للنووي ).

سعيد بن جبير مفسر معروف تلميذ ابن عباس ، قتله الحجاج الثقفي سنة ٩٤ ( التهذيب ).

عكرمة ، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير ،

٧٠

( الطبقة الثالثة ) تلامذة الطبقة الثانية ، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابو صالح الكلبي ونظرائهم(١) .

ــــــــــــــــــ

توفي سنة ١٠٤ ( التهذيب ).

ضحاك ، من تلامذة عكرمة ( لسان الميزان ).

الحسن البصري ، زاهد ومفسر معروف ، توفي سنة ١١٠ ( التهذيب ).

عطاء بن ابي رباح ، فقيه ومفسر مشهور ، من تلامذة ابن عباس ، توفي سنة ١١٥ ( التهذيب ).

عطاء بن ابي مسلم ، من اكابر التابعين ، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة ، توفي سنة ١٣٣ ( التهذيب ).

ابو العالية ، من ائمة التفسير واكابر التابعين ، كان في المائة الاولى من الهجرة ( التهذيب ).

محمد بن كعب القرظي ، مفسر معروف ، وهو من اسرة يهودية من بني قريظة ، كان في المائة الاولى من الهجرة.

قتادة ، اعمى ، كان من اكابر المفسرين ، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة ، توفي سنة ١١٧ ( التهذيب ).

عطية ، ينقل عن ابن عباس ( لسان الميزان ).

زيد بن اسلم ، مولى عمر بن الخطاب ، فقيه ومفسر ، توفي سنة ١٣٦ ( التهذيب ).

طاوس اليماني ، من اعلام عصره ، وهو تلميذ ابن عباس ، توفي سنة ١٠٦ ( التهذيب ).

(١) عبد الرحمن بن زيد ، يعد من علماء التفسير.

٧١

وكان منهج التابعين في التفسير انهم ينقلونه احيانا بصورة احاديث عن الرسول الكريم او الصحابة ، واحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها الى احد ، فعامل متأخرو المفسرين مع هذه الاقوال معاملة الاحاديث النبوية واعتبروها احاديث موقوفة(١) .

ويطلق على الطبقتين الاخرتين لفظة « قدماء المفسرين ».

( الطبقة الرابعة ) اوائل المؤلفين في علم التفسير ، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم. ومن هذه الطبقة ايضا ابن جرير الطبري صاحب التفسير المشهور(٢) .

ــــــــــــــــــ

ابو صالح الكلبي ، النسابة المفسر ، وهو من اعلام القرن الثاني.

(١) الاحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه.

(٢) سفيان بن عيينة ، مكي من طبقة التابعين الثانية ، وهو من علماء التفسير توفي سنة ١٩٨ ( التهذيب ).

وكيع بن الجراح ، كوفي من طبقة التابعين الثانية ، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة ١٩٧ ( التهذيب ).

شعبة بن الحجاج البصري ، من طبقة التابعين الثانية ، وهو من مشاهير المفسرين ، توفي سنة ١٦٠ ( التهذيب ).

عبد بن حميد ، صاحب تفسير ، من طبقة التابعين الثانية ، كان في القرن الثاني من الهجرة.

٧٢

ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل اقوال الصحابة والتابعين بشكل احاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة. الا ان ابن جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الاحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها. ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين.

( الطبقة الخامسة ) المفسرون الذين نقلوا الاحاديث في تفاسيرهم بحذف الاسانيد واكتفوا بنقل الاقوال والآراء.

قال السيوطي : فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل(١) .

الا ان المتدبر في الاحاديث المسندة يرى ايضا كثيرا من الوضع والدس ، ويشاهد الاقوال المتناقضة تنسب الى صحابي واحد ، ويقرأ قصصاً وحكايات يقطع بعدم صحتها ، ويمر على احاديث في اسباب النزول والناسخ والمنسوخ لا تتفق مع سياق الآيات. ومن هنا نقل ان الامام احمد بن حنبل قال : ثلاثة لا اصل لها المغازي والملاحم واحاديث التفسير. ونقل عن الامام الشافعي ان الثابت من الاحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط.

ــــــــــــــــــ

ابن جرير الطبري ، محمد بن جرير بن يزيد ، من مشاهير علماء السنة ، توفي سنة ٣١٠ ( لسان الميزان ).

(١) الاتقان ٢ / ١٩٠.

٧٣

( الطبقة السادسة ) المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها ، فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي اتقنه : فالنحوي ادرج المباحث النحوية كالزجاج والواحدي وابي حيان(١) ، والاديب اورد المباحث البلاغية كالزمخشري في كشافه(٢) ، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير(٣) ، والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما(٤) ، والاخباري ملأ كتابه بالاحاديث كالثعلبي في تفسيره(٥) ، والفقيه جاء بالمسائل الفقهية

ــــــــــــــــــ

(١) الزجاج ، من علماء النحو ، توفي سنة ٣١٠ ( ريحانة الادب ).

الواحدي ، نحوي مفسر ، توفي سنة ٤٦٨ ( الريحانة ).

ابو حيان الاندلسي ، نحوي مفسر قارىء توفي في مصر سنة ٧٤٥ ( الريحانة ).

(٢) الزمخشري ، من مشاهير علماء الادب ، مؤلف تفسير الكشاف ، توفي سنة ٥٣٨ ( كشف الظنون ).

(٣) الامام فخر الدين الرازي ، متكلم مفسر مشهور ، صاحب تفسير مفاتيح الغيب ، توفي سنة ٦٠٦ ( كشف الظنون ).

(٤) عبد الرزاق الكاشاني ، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري ( ريحانة الادب ).

(٥) احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي ، صاحب التفسير المشهور ، توفي سنة ٤٢٦ او ٤٢٧ ( الريحانة ).

٧٤

كالقرطبي في تفسيره(١) . وقد خلط جماعة آخرون في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني(٢) وروح البيان(٣) وتفسير النيسابوري(٤) .

والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة الى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس والبحث ، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيراً من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على القرآن حملاً ولا تدل عليها الآيات.

أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم :

الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ، وقد رأينا ان لهم منهجاً خاصا في التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته ، فجعلوه احاديث نبوية واقوال للصحابة والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لانه يكون من قبيل الاجتهاد

ــــــــــــــــــ

(١) محمد بن احمد بن ابي بكر القرطبي ، توفي سنة ٦٦٨ ( الريحانة ).

(٢) تأليف الشيخ اسماعيل حقي ، توفي سنة ١١٣٧ ( ذيل كشف الظنون ).

(٣) تأليف شهاب الدين محمود الالوسي البغدادي ، توفي سنة ١٢٧٠ ( ذيل كشف الظنون ).

(٤) غرائب القرآن ، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري ، توفي سنة ٧٢٨ ( ذيل كشف الظنون ).

٧٥

 مقابل النص. ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رأيها فيها وتجتهد.

أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة ، ولذا يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة.

تعتقد الشيعة ـ بنص من القرآن الكريم حجية اقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في التفسير ، وترى ان الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في اقوالهم الا ما ثبت انه حديث نبوي. وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين ان اقوال العترة الطاهرة من اهل بيتهعليهم‌السلام هي تالية لاقوال الرسول ، فهي حجة ايضا. ومن هنا اخذت الشيعة في التفسير بما اثر عن النبي واهل بيتهعليهم‌السلام ، فكانت طبقات المفسرين منهم كما يلي :

( الطبقة الاولى ) : الذين رووا التفسير عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وائمة اهل البيتعليهم‌السلام ، وادرجوا الاحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة ، كزرارة ومحمد بن مسلم ومعروف وجرير واشباههم(١) .

ــــــــــــــــــ

(١) زرارة بن اعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

معروف بن خربوذ وجرير من خواص اصحاب الامام الصادق عليه الصلاة والسلام.

٧٦

( الطبقة الثانية ) : اوائل المؤلفين في التفسير ، كفرات بن ابراهيم الكوفي وابي حمزة الثمالي والعياشي وعلي بن ابراهيم القمي والنعماني(١) .

وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري اهل السنة ، فقد رووا الاحاديث المأثورة عن الطبقة الاولى وادرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم الخاصة في الموضوع.

ومن الواضح ان الزمن الذي كان يمكن الاخذ فيه عن الائمةعليهم‌السلام كان طويلاً بلغ نحواً من ثلاثمائة سنة ،

ــــــــــــــــــ

(١) فرات بن ابراهيم الكوفي ، صاحب التفسير المشهور ، من مشايخ علي بن ابراهيم القمي ( ريحانة الادب ).

ابو حمزة الثمالي ، من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامام السجاد والباقرعليهما‌السلام ( الريحانة ).

العياشي ، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي ، من اعيان علماء الامامية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ( الريحانة ).

علي بن ابراهيم القمي ، من مشائخ الحديث الشيعي في اواخر القرن الثالث واوائل القرن الرابع الهجري.

النعماني ، محمد بن ابراهيم ، من اعيان علماء الامامية ، وهو تلميذ ثقة الإسلام الكليني ، كان في اوائل القرن الرابع الهجري ( الريحانة ).

٧٧

فكان من الطبيعي ان لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين بصورة دقيقة ، بل كانتا متداخلتين ومن الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما.

وقد قل عند اوائل مفسري الشيعة نقل احاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم ، وكنموذج لنقل الاحاديث مروية بدون اسانيد نلفت الانظار الى تفسير العياشي الذي حذف بعض تلامذته اسانيده اختصاراً ، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الاصل.

( الطبقة الثالثة ) اصحاب العلوم المختلفة ، كالشريف الرضي في تفسيره الادبي والشيخ الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره الفلسفي والميبدي الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي(١) .

ــــــــــــــــــ

(١) الشريف الرضي ، محمد بن الحسين الموسوي ، من اجلاء فقهاء الامامية ، اعلم اهل زمانه في الشعر والادب ، ومن تآليفه كتاب « نهج البلاغة » توفي سنة ٤٠٤ او ٤٠٦ ( ريحانة الادب ).

شيخ الطائفة ، محمد بن الحسن الطوسي ، من اعلام علماء الامامية ، من تآليفه « التهذيب » و « الاستبصار » اللذين هما اصلان من الاصول الاربعة الحديثية عند الشيعة ، توفي سنة ٤٦٠ ( الريحانة ).

٧٨

وهناك جماعة جمعوا في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة ، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره « مجمع البيان » الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها(١) .

كيف يتقبل القرآن التفسير؟

الاجابة على هذا السؤال تتوضح من الفصول الماضية ، فان القرآن الكريم ـ كما ذكرنا ـ كتاب دائم للجميع ،

ــــــــــــــــــ

صدر المتألهين ، محمد بن ابراهيم الشيرازي ، الفيلسوف المشهور ، مؤلف كتاب « اسرار الآيات » و « مجموعة تفاسير » ، توفي سنة ١٠٥٠ ( روضات الجنات ).

الميبدي.

السيد هاشم البحراني ، صاحب تفسير « البرهان » في اربعة اجزاء كبار توفي سنة ١١٠٧ ( الريحانة ).

الفيض الكاشاني ، المولى محمد محسن بن المرتضى ، مؤلف كتاب « الصافي » و « الاصفى » ، توفي سنة ١٠٩١ ( الريحانة ).

الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي ، مؤلف كتاب « نور الثقلين » في خمسة اجزاء ، توفي سنة ١١١٢ ( الريحانة ).

(١) أمين الإسلام ، الفضل بن الحسن الطبرسي ، من اعيان علماء الامامية ، صاحب « مجمع البيان » في عشرة اجزاء ، توفي سنة ٥٤٨ ( الريحانة ).

٧٩

يخاطب الكل ويرشدهم الى مقاصده وقد تحدى في كثير من آياته على الاتيان بمثله واحتج بذلك على الناس ، ووصف نفسه بأنه النور والضياء والتبيان لكل شيء ، فلا يكون مثل هذا الكتاب محتاجا الى شيء اخر.

يقول محتجاً على انه ليس من كلام البشر :( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) (١) .

ليس فيه اي اختلاف ، ولو وجد فيه اختلاف بالنظرة البدائية يرتفع بالتدبر في القرآن نفسه.

ومثل هذا الكتاب لو احتاج في بيان مقاصده الى شيء اخر لم تتم به الحجة ، لانه لو فرض ان احد الكفار وجد اختلافا في شيء من القرآن لا يرتفع من طريق الدلالة اللفظية للايات لم يقنع برفعه من طرق اخرى ، كأن يقول النبي مثلاً يرتفع بكذا وكذا ، ذلك لان هذا الكافر لا يعتقد بصدق النبي ونبوته وعصمته ، فلم يتنازل لقوله ودعاويه.

وبعبارة اخرى : لا يكفي ان يكون النبي رافعا للاختلافات القرآنية بدون شاهد لفظي من نفس القرآن لمن لا يعتقد نبوته وعصمته ، والآية الكريمة( أفلا يتدبرون

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٨٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعدّهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان؛ لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ لأنّه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة.

ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف، وأصبح رأيه هو الفيصل؛ لأنّ عمر وضع ثقته به، وكان رأيه مع عثمان؛ لأنّه صهره، وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان؛ لأنّه يحقّق رغباتهم وأطماعهم.

وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعثمان بن عفان، فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم: أيّها الناس، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا عليّ.

وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً.

وأيّد المقداد مقالة صاحبه عمّار، فقال: صدق عمّار، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا.

وشجبت الاُسر القرشيّة المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار، ورشحّت عميد الاُمويِّين عثمان بن عفان، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان.

وكأنّ شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وناهضت دعوته، وعذّبت أنصاره حتّى هرب منها، وتابعته إلى يثرب

١٢١

بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه، ولكنّ الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم، ونصر نبيّه العظيم، ولولا سماحة النبي (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة، ولكنّه عفا عنهم وجعلهم من الطلقاء.

وعلى أيّ حال، فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً: إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا. وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً: متى كنت تنصح للمسلمين؟

وصدق عمّار، فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(١) ؟

واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويِّين، وانبرى ابن الإسلام البار عمّار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً: أيّها الناس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟

وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!

وطفحت الروح الجاهليّة على هذه الكلمات، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل؛ فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام، فأيّ حقّ لها في خلافة المسلمين؟ وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين: أبت قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد.

إنّ أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء

____________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٣٧٥.

١٢٢

الذين أعزّهم الله بدينه، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب.

وعلى أيّ حال، فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيّين، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبويّة بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له: يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.

والتفت عبد الرحمن إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، وفعل أبي بكر وعمر؟

فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً:«بل على كتاب الله وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي» .

إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً أنّ الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين، ولا يحفل بها، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه، ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبي (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه.

ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط ثمّ خالفه، ولكنّه (سلام الله عليه) في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ، ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف.

وعلى أيّ حال، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد، فصفق بكفّه على يده وقال له: اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.

والتاع الإمام فخاطب ابن عوف:«والله، ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه، دقّ الله بينكما عطر منشم» .

١٢٣

لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم:«ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون» .

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده: يا عليّ، لا تجعل على نفسك سبيلاً. وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول:«سيبلغ الكتاب أجله» .

والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون.

وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً: تالله، ما رأيت مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! وا عجباً لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل، ولا أعلم ولا ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعواناً!

وصاح به عبد الرحمن: اتّق الله يا مقداد؛ فإنّي خائف عليك الفتنة.

وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ومنحها لبني اُميّة، وقد رأت عقيلة الوحي السيدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها، وأنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي، وإشاعة الخير والهدى بين الناس.

١٢٤

لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين، وحجبت الاُسرة النبويّة عن القيادة العامة للعالم الإسلامي، وسلّطت عليهم شرار خلق الله؛ فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم.

وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي - من دون شك - من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة، فإنّهما الأساس لكلّ ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب.

حكومة عثمان

وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط، وأخذوا يتصرّفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم، ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسيّة والاقتصادية؛ فقد كان بمعزل عنها، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل؛ وذلك لخبثه وسوء سريرته، فكان وزيره ومستشاره. وقد هام عثمان بحبّ اُسرته، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول: لو كانت مفاتيح الجنّة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(١) .

وقد أسند مناصب الدولة لهم، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلاميّة، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي، وقد عرضنا في بعض كتبنا(٢) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته، كما عرض لها الحجّة الأميني، والدكتور طه حسين، والعقّاد وغيرهم.

وقد أدّت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين،

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٦٢.

(٢) حياة الإمام الحسن، وحياة الإمام الحسين (عليهما السّلام).

١٢٥

وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلاميّة.

الجبهة المعارضة

ونقمت على عثمان وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام، وفي طليعتهم:

١ - أبو ذرّ الغفاري

٢ - عمّار بن ياسر

٣ - السيّدة عائشة

٤ - طلحة

٥ - الزبير

٦ - عبد الرحمن بن عوف

٧ - عبد الله بن مسعود، وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته

وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه؛ فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام، ثمّ نفاه إلى الربذة، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقوّمات الحياة، وقد أنهكه الجوع حتّى توفي غريباً جائعاً مظلوماً، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وقطع عنه مرتبه فلم يسعفه شيء حتّى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها.

كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي، وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر؛ فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتّى أصابه فتق واُغمي عليه.

وقد رفعت السيدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول: هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبلَ وعثمان قد أبلى سنّته! كما أفتت بحلّية قتله فقالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلاميّة، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من

١٢٦

عثمان وبطانته، فخفّت بعض الكتائب العسكريّة فزحفت إلى يثرب، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه، أو الاستقالة من منصبه، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم، وهي إقصاء بني اُميّة، إلاّ أنّه خان بوعده، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمَنْ استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب.

وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم، ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب، وعرضوا عليه رسائله وطالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه فلم يستجب لهم، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب؛ استهانة به، ولم يسمحوا بمواراته إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) توسّط في دفنه، فاستجاب له الثوار على كره، فدفنوه في حش كوكب.

لقد انتهت حكومة عثمان، وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن وألقتهم في شرّ عظيم؛ فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسيّة، فراحت تُطالب الإمام بدمه، وهي التي أفتت بقتله وكفره، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه.

وعلى أيّ حال، فقد رأت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسيّة، فكان لها أعمق الأثر في نفسها؛ فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رُزئت فيها السيدة زينب؛ فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال.

حكومة الإمام (عليه السّلام)

وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهم يهتفون

١٢٧

بحياته، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير، فهو ابن عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه، ومَنْ كان منه بمنزل هارون من موسى، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه، وليس في المسلمين مَنْ يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم ولم يستجب لهم؛ لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسيّة، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشيّة التي تريد السيطرة على السلطة وإخضاعها لرغباتها الخاصة.

فقال (عليه السّلام) للثوار:«لا حاجة لي في أمركم، فمَنْ اخترتم رضيت به» .

فهتفوا بلسان واحد: ما نختار غيرك.

وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام المسلمين، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم: البيعة، البيعة.

فامتنع الإمام (عليه السّلام) من إجابتهم، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين: أما ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من أبناء القرى؟!

فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً:«دعوني والتمسوا غيري» . ثمّ أعرب لهم الإمام (عليه السّلام) عمّا ستعانيه الاُمّة من الأزمات قائلاً:«أيّها الناس، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت له العقول» .

١٢٨

لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض؛ فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلاميّة فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم، وإنّهم حتماً سيقاومون كلّ مَنْ يريد الإصلاح الاجتماعي؛ فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم.

ثمّ عرض الإمام على القوات المسلحة وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً:«إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَنْ ولّيتموه» . واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين: ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك.

وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم، فأقبل الإمام (عليه السّلام) فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس، وكان من جملة خطابه:«أيّها الناس، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَنْ أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا آخذ على أحد» .

وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وطفق الإمام قائلاً:«اللّهمّ اشهد عليهم» .

وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه، وأوّل مَنْ بايعه طلحة، فبايعه

١٢٩

بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله، فتطيّر منها الإمام وقال:«ما أخلفه أن ينكث» (١) .

ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بيعته، وبايعته القوات العسكريّة، كما بايعه مَنْ بقي من أهل بدر والمهاجرين والأنصار كافة(٢) .

ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا، ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله:«وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب» .

لقد ابتهج المسلمون، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلاميّة بخلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعيّة، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم، القائل:«أأقنع من نفسي بأن يُقال: أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش؟!» .

وجوم القرشيّين

واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب كما استقبلوا نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّ الروح الجاهليّة بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحقّ لم تزل مائلة فيهم، ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أيّ شيء.

وقريش تعرف الإمام جيداً؛ فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه، ومحق

____________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٩٣.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٣٧٦.

١٣٠

كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه، وقد خفّ إليه الاُمويّون وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام: إنّك قد وترتنا جميعاً؛ أمّا أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأمّا مروان فشتمت أباه، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه، فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا.

فردّ الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحقّ قائلاً:«أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم؛ وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمَنْ ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم» (١) .

إنّ الاُمويِّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له.

وعلى أيّ حال، فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام (عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء.

لقد أيقنوا أنّ الإمام سيعاملهم معاملة عادية، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين، وقد كان سيء الظنّ بهم، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله:«ما لي ولقريش! لقد قاتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين. والله لأبقرنّ الباطل

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٥.

١٣١

حتى يظهر الحقّ من خاصرته، فقل لقريش فليضج ضجيجها» .

لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم، وإلى عدي اُخرى، وإلى بني اُميّة ثالثة.

وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين.

إجراءات حاسمة

وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة بإجراءات حاسمة ضدّ الحكم المباد كان منها:

١ - مصادرة الأموال المنهوبة

وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط؛ لأنّها أُخذت بغير وجه مشروع، وقد صودرت أموال عثمان حتّى سيفه ودرعه.

وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها: ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها.

وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض؛ فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان؛ فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام (عليه السّلام).

٢ - عزل الولاة

وقام رائد العدالة الاجتماعيّة بعزل ولاة عثمان؛ لأنّهم أظهروا الجور والفساد

١٣٢

في الأرض؛ فقد عزل معاوية بن هند، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية، فأبى وامتنع من المداهنة في دينه، وكيف يُبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوّتهم.

وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان، ولم يُبقِ واحداً منهم والياً على قطر من الأقطار.

٣ - المساواة بين المسلمين

وأعلن الإمام (عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين، مساواة في العطاء، ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعيّة، وقد عوتب على مساواته في العطاء، فأجاب:«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ؟ أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ...» .

وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه؛ فطبّق العدل ونشر المساواة، فلم يؤثر أيّ أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم، ولم يمنحهم أيّ امتياز في دولته.

وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه، فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين، فتناولت منه شيئاً، فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، إنّ لها فيه حقّاً.

فأنكر عليهم ذلك، وقال:

١٣٣

«إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء» (١) .

لقد تحرّج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرّج، وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً، فلم يرَ الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ.

على خطّة العدل والشرف غذّى أبناءه، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها، فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٦٠، القسم الأوّل.

١٣٤

التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام)

وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه، ويسير وفق مخطّطاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم، ومنحهم الامتيازات الخاصة فأبى (عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن.

ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد، وهم:

طلحة والزّبير

وبايع طلحة والزّبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وانعقدت بيعته في أعناقهما، ولكنّ الأطماع السياسيّة والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد، وقد خفّا إلى الإمام (عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام، فقالا للإمام: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟

فأسرع الإمام قائلاً:«نعم، على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان» .

فرفضا ذلك، وقالا:

١٣٥

لا، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر.

فرمقهما الإمام بطرفه، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً:«لا، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة، والعون على العجز والأولاد» .

لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم، وقاما مغضبين، فقال الزّبير في ملأ من قريش: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتّى أثبتنا عليه الذنب، وسبّبنا له القتل وهو جالس في بيته، وكُفي الأمر، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا.

وقال طلحة: ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(١) وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا.

والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم، ولو عرفاه ما نازعاه، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته، وانتهى حديثهما إلى الإمام (عليه السّلام)، فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له:«بلغك قول الرجلين؟» .

- نعم، أرى أنّهما أحبّا الولاية فولّ البصرة الزّبير، وولّ طلحة الكوفة.

ولم يرتضِ الإمام رأي ابن عباس، فقال مفنّداً لرأيه:«ويحك! إنّ العراقين - البصرة والكوفة - بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان. ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام،

____________________

(١) يريد به سعد بن أبي وقّاص، فإنّه امتنع عن بيعة الإمام (عليه السّلام)، والذي دفعه على ذلك حقده له.

١٣٦

ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي» .

لقد كان الإمام (عليه السّلام) عالماً بأطماعهما وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الإمرة والسلطان، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة.

ولمّا علم طلحة والزّبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين: ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

-((إلى أين؟)) .

- نريد العمرة.

فرمقهما الإمام بطرفه، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما:«والله ما العمرة تريدان، بل الغدرة ونكث البيعة» . فأقسما له بالأيمان المغلّظة أنّهما لا يخلعان بيعته، وأنّهما يريدان أن يعتمرا بالبيت الحرام، وطلب منهما الإمام أن يُعيدا له البيعة ثانياً ففعلا دون تردد، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدهما على الحقّ وشقّ كلمة المسلمين.

تمرّد عائشة

ويجمع المؤرّخون على أنّ عائشة في طليعة مَنْ أشعل نار الثورة على عثمان؛ فقد أفتت بقتله ومروقة من الدين، وكانت تسمّيه نعثلاً، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان، فلمّا انتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها كان قادماً من المدينة، فأسرعت قائلة: مهيم(١) .

____________________

(١) مهيم: كلمة استفهام، من معانيها: ما وراؤك.

١٣٧

- قتلوا عثمان.

وأسرعت قائلة: ثمّ صنعوا ماذا؟

- واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز.

ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها، وتحطّمت قواها، وهتفت وهي حانقة، وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض فيشير إلى الأرض، قائلة: والله، ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب! قُتل عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه.

وبُهر عبيد من منطقها، فقال لها باستهزاء وسخرية: ولِمَ؟ فوالله إنّ أوّل مَنْ أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!

وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها، فقالت له: إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل.

وهي حجّة واهية لا واقع لها، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها، وعدوا عليه فقتلوه كما تقول؟!

ولم يخفَ على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها، فراح يردّ عليها:

فمنكِ البداء ومنكِ الغِيَرْ = ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ

وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمام = وقُلتِ لنا إنّه قد كفرْ

فهبنا(١) أطعناكِ في قتلِه = وقاتِلُه عندنا مَنْ أمرْ

____________________

(١) في رواية: (ونحن).

١٣٨

ولم يسقُطِ السقفُ من فوقنا = ولم تنكسف شمسُنا والقمرْ

وقد بايعَ الناسُ ذا تُدرَأٍ(١) = يُزيلُ الشبا ويقيمُ الصَّعرْ

و يلبسُ للحربِ أثوابها = وما مَنْ وفى مثلُ مَنْ قد غدرْ

وغاظها قوله فأعرضت عنه، وقفلت راجعة إلى مكة(٢) وهي كئيبة حزينة؛ لأنّ الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه، وراحت تندب عثمان؛ فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام، يقول شوقي:

أثأرُ عثمانَ الذي شجاها = أم غصّةٌ لم ينتزع شجاها

ذلك فتقٌ لم يكن بالبالِ = كيدُ النساءِ موهنُ الجبالِ

إنّ دم عثمان لا يصلح بأيّ حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام؛ فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تُحمد عليه، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الزحف إلى البصرة

وانضمّ طلحة والزّبير إلى عائشة ومعهما جميع رجال الحكم المُباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام (عليه السّلام)، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها، ونادى المنادي في مكة: أيّها الناس، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمَنْ كان يريد إعزاز الإسلام، وقتال المحلّين، والطلب بدم عثمان، ولم يكن عنده مركب

____________________

(١) ذو تُدرأٍ: أي ذو عزيمة ومنعة. الشبا: المكرون. الصعر: ميل في الوجه أو في أحد الشفتين، والمراد أنّه يقيم الشيء الملتوي.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٤، وغيره.

١٣٩

ولا جهاز، فهذا جهازه وهذه نفقته.

وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال، وقد كان قسم من النفقات من يعلي بن اُمية والي عثمان؛ فقد أعان بأربعمئة ألف، وحمل سبعين رجلاً(١) .

واعتلت عائشة على جملها ولم ترغب فيه، وصادفوا في الطريق العرني، وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة، فقالوا للعرني: يا صاحب الجمل، تبيع جملك؟

- نعم.

- بِكَم؟

- بألف درهم.

- مجنون أنت، جمل يباع بألف درهم!

- نعم، جملي هذا.

- وممّ ذلك؟

- ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه.

- لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعنا.

- لمَنْ تريده؟

- لاُمّك.

- قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.

- إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة.

- هو لكم، خذوه بغير ثمن.

- لا، ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٤، وغيره.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343