السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام11%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191705 / تحميل: 8555
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية، وزادوه أربعمئة أو ستمئة درهم(١) .

واعتلت عليه عائشة وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويِّين وغيرهم من الطامعين في الحكم.

ماء الحوأب

وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء، فاجتازت على مكان يُقال له الحوأب، فتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح، فقالت لمحمد بن طلحة: أيّ ماء هذا؟

- ماء الحوأب.

فذعرت عائشة، وقالت: ما أراني إلاّ راجعة.

- لِمَ يا اُمّ المؤمنين؟

- سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه:«كأنّي بإحداكنَّ قد نبحتها كلاب الحوأب (٢) ، وإيّاك أن تكوني يا حُميراء» .

فردّ عليها محمّد وقال لها: تقدّمي رحمك الله، ودعي هذا القول. ولم تقتنع عائشة، وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٧٥.

(٢) روى ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده:((أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار، وتنجو بعد ما كادت؟)) . جاء ذلك في شرح النهج ٢ / ٤٩٧، وهذا الحديث من أعلام النبوّة، ومن إخباره بالمغيّبات.

١٤١

وعلم طلحة والزّبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب، فأقبلا يلهثان؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما، فجاؤوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب. وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(١) ، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه.

في ربوع البصرة

وأشرفت قافلة عائشة على البصرة، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها، ولمّا التقى بها قال: ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين؟

- أطلب بدم عثمان.

فردّ عليها من منطقه الفيّاض قائلاً: ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.

- صدقت، ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟!

فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً: ما أنتِ من السوط والسيف، إنّما أنتِ حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك، وليس على النساء قتال، ولا لهنّ الطلب بالدماء، وأنّ عليّاً لأولى منكم وأمسّ رحماً؛ فإنّهما ابنا عبد مناف؟!

ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام (عليه السّلام)، وقالت لأبي الأسود: لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه، أفتظنّ [يا] أبا الأسود أنّ أحداً يقدم

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٢، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨١.

١٤٢

على قتالي؟

فأجابها أبو الأسود: أما والله لتقاتلنَ قتالاً أهونه الشديد.

ثمّ تركها وانصرف صوب الزّبير، فقابله وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قائلاً له: يا أبا عبد الله، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول: لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب، وأين هذا المقام من ذاك؟

فأجابه الزّبير: نطلب بدم عثمان.

ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية: أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا.

ورأى الزّبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة، وعرض الأمر عليه، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب.

وعقد الفريقان هدنة مؤقتة، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن لا يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب حتّى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

مظاهرة نسوية لتأييد عائشة

وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهنَّ يجبنَ في شوارع يثرب ويضربنَ بالدفوف، وقد رفعنَ أصواتهنَّ بهذا النشيد: ما الخبر، ما الخبر، إنّ عليّاً كالأشقر، إن تقدّم عقر، وإن تأخّر نحر.

١٤٣

ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها، فجعلت توبّخهنّ، وقالت لهنّ: إن تظاهرتنَ على أبي فقد تظاهرتنَ من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فاستحيت النساء وتفرّقنَ، وعادت السيدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها(١) .

نقض الاتفاق

وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة؛ فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف، وكان مقيماً في دار الإمارة، فاعتقلوه ونكّلوا به، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، ونهبوا ما في بيت المال، وثارت الفتنة في البصرة؛ فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام (عليه السّلام) وحزب عائشة، وقد حملوها على جمل، وسُمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين(٢) .

زحف الإمام (عليه السّلام) إلى البصرة

وزحف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزّبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام (عليه السّلام).

وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة، وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام، فحملوا عليه فقطعوا

____________________

(١) زينب الكبرى / ٢٥.

(٢) عرضنا لهذه الأحداث بصورة مفصّلة في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

١٤٤

يمينه، فأخذ المصحف بيساره، وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب، فحملوا عليه فقطعوا يساره، فأخذ المصحف بأسنانه، وجعل يناديهم: الله في دمائنا ودمائكم.

فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتّى سقط إلى الأرض جثة هامدة، ولم تُجْدِ معهم هذه الدعوة الكريمة، وأصرّوا على الحرب.

إعلان الحرب

ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام (عليه السّلام) إلى السلم وعدم إراقة الدماء؛ فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحقّ؛ فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم، فعبّأ جنوده، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف، فقالت: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر! أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس.

ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كيف ساغ لها أن تحاربه؟!وخاطبها الإمام (عليه السّلام)، فقال لها:«يا عائشة، عمّا قليل ليصبحنَّ نادمين» (١) .

وأعطى الإمام خطته العسكريّة لجنوده، فقال لهم:«أيّها الناس، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تتّبعوا مولّياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع، أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله» .

ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة، كما وضعت الأصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء.

____________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٤٤٧.

١٤٥

واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وقالت: شاهت الوجوه. فأجابها رجل من شيعة الإمام: يا عائشة، وما رميت إذ رميت ولكنّ الشيطان رمى.

وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش. وبدأ القتال كأشدّه، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

واشتدّ القتال، وقد بان الانكسار في جيش عائشة، وقد قُتل طلحة والزّبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين.

عقر الجمل

وأحاط أصحاب عائشة بجمل اُمّهم، فدعا الإمام (عليه السّلام) عمّار بن ياسر ومالك الأشتر، وأمرهما بعقر الجمل قائلاً:«اذهبا فاعقرا هذا الجمل؛ فإنّ الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيّاً؛ فإنّهم قد اتّخذوه قبلة لهم» .

وانطلق الأشتر وعمّار ومعهما فتية من مراد، فوثب فتى يُعرف بمعمر بن عبد الله إلى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى إلى الأرض، وله صوت منكر لم يُسمع مثله، وتفرّق أصحاب عائشة حينما هوى الصنم الذي قدّموا له آلاف القتلى، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وذرّ رماده في الهواء؛ لئلا تبقى منه بقيّة يفتتن بها الغوغاء، وبعدما فرغ من ذلك قال:«لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!» .

١٤٦

ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى:( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) (١) .

وانتهت بذلك حرب الجمل التي أثارتها الأحقاد والأطماع، وقد أشاعت بين المسلمين الضغائن والفتن، وألقتهم في شرّ عظيم.

العفو العام

وأصدر الإمام (عليه السّلام) أوامره بالعفو العام عن جميع أعدائه وخصومه، وطلبت عائشة من الإمام أن يعفو عن ابن أختها عبد الله بن الزّبير وهو من ألدّ أعدائه فعفا عنه، وكذلك عفا عن مروان بن الحكم، وقد توسّط في أمره الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وآمن الأسود والأحمر - على حدّ تعبير اليعقوبي -، ولم ينكّل بأيّ أحد من خصومه وأعدائه.

تسريح عائشة

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة وردّها إلى يثرب، ولم يعرض لها بأيّ مكروه أو أذى، وقد غادرت البصرة ونشرت في ربوعها الحزن والحداد والثكل، وتصدّعت الوحدة بين المسلمين، وشاعت بينهم الكراهية والبغضاء.

وعلى أيّ حال، فقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث، وعرفت ما تحمله الاُسر القرشيّة من العداء العارم والبغض الشديد لأبيها (عليه السّلام)، وأنّها قد شنّت الحرب عليه كما شنّته على أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل.

تمرّد معاوية

ومهّدت عائشة الطريق إلى معاوية، وفتحت له أبواب المعارضة لحكومة الإمام

____________________

(١) سورة طه / ٩٧.

١٤٧

أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فلولاها لما تمكّن ابن هند من مناجزة الإمام ورفضه لبيعته.

وقد اتّخذ معاوية دم عثمان ورقة رابحة للمطالبة بدمه، ومن المؤكّد زيف هذه الدعوى وعدم واقعيتها؛ فقد استنجد به عثمان حينما حوصر وطلب منه أن يسعفه بقوّة عسكرية لرفع الحصار عنه فلم يستجب له حتّى أجهز عليه الثوار.

إنّ الذي دعا معاوية إلى التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام) هو ما يعلمه من سيرة الإمام وسياسته الهادفة إلى إقامة الحقّ وتدمير الباطل؛ فالإمام لا يُبقي معاوية في جهاز الحكم لحظة واحدة، ويُجرّده من جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين، ويُحاسبه حساباً عسيراً على جميع تصرّفاته المجافية لروح الإسلام؛ من لبس الحرير والديباج، واستعمال أواني الذهب والفضة، والإسراف الفظيع في بناء القصور، ولا يقرّ شرعيّة دعم عمر له وثنائه عليه ومبالغته في تأييده؛ فهو الذي لم يحاسبه على أعماله التي تصادمت مع تعاليم الإسلام، وقال فيه: إنّه كسرى العرب. واعتبر الإمام ذلك تعدٍّ على سياسة العدل التي تبنّاها في جميع مراحل حكمه وحياته.

وعلى أيّ حال، فقد بعث الإمام إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي وزوّده برسالة يدعوه فيها إلى مبايعته والدخول في طاعته، إلاّ أنّ معاوية أصرّ على غيّه ورفض الاستجابة لدعوة الحقّ والوئام؛ فقد توفّرت عنده القوّة العسكريّة التي يستطيع بها على محاربة الإمام.

زحف معاوية لصفّين

وبعدما توفّرت لمعاوية الإمكانيات العسكريّة والقوى المكثفة زحف بها إلى صفّين وأقام فيها، وكان أوّل عمل قام به احتلال الفرات، واعتبر ذلك أوّل الفتح؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه، وظلّت جيوشه مقيمة هناك تصلح أمرها وتنظّم قواها لتستعدّ إلى حرب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

١٤٨

مسير الإمام (عليه السّلام) إلى صفّين

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للخروج إلى صفّين، وأمر الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فعجّت الكوفة بالنفار، وخرج الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) تحفّ به البقية الخيرة من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي طليعتهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر.

ولزمت جيوش الإمام (عليه السّلام) في زحفها السريع الفرات حتّى انتهت إلى صفّين، فلم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وعليها الحرس الكثير وهم يُمانعونهم أشدّ الممانعة من الوصول إليه، فأخبروا الإمام (عليه السّلام)، فدعا صعصعة بن صوحان وأمره بمقابلة معاوية ليسمح لجنوده بورود الماء، وسار إليه صعصعة وعرض عليه مقالة الإمام، فامتنع من إجابته، واعتبر ذلك أوّل الفتح.

وحملت جيوش الإمام حتّى احتلت الفرات وانهزمت جيوش معاوية، وطلب أصحاب الإمام منه أن يمنع الماء عن عسكر معاوية فأبى (عليه السّلام)، وأبى أن يكيل لهم الصاع بالصاع، وقابلهم مقابة المحسن الكريم إلى أعدائه وخصومه.

الحرب

وأوفد الإمام إلى معاوية رسل السّلام رجاءً في الصلح وحقن الدماء، فردّهم بعنف وأعلمهم أنّه مصمّم على الحرب، ورجعت كتائب السلام إلى الإمام، وعرّفته برفض معاوية لدعوته وإصراره على الحرب.

ولم يجد الإمام بدّاً من الحرب، فأصدر تعاليمه لعموم جيشه بعدم قتل المدبر، وعدم الإجهاز على الجريح، وعدم المُثلة بأيّ قتيل منهم، وعدم أخذ أموالهم إلاّ ما وجد في معسكرهم، وغير ذلك من صنوف الشرف والرحمة التي لم يعهد لها نظير في عالم الحروب.

وبدت الحرب بين جيش الإمام (عليه السّلام) وجيش معاوية، فكانت كتائب من عسكر

١٤٩

الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه، ولم يرغب الإمام (عليه السّلام) أن تقع حرب عامة بين الفريقين؛ رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح.

وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فراح يقول لأصحابه: أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب.

وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية، وأنّه جاهلي لا إيمان له، وأنّه معاد لله ورسوله.

وعلى أيّ حال، فلم تقع حرب عامة بين الفريقين، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية، كما سئم ذلك جيش أهل الشام.

الحرب العامة

ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة، وفعل معاوية مثل ذلك، وبدأ الهجوم العام، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحقّ.

وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر، وقد حزن عليه الإمام كأشدّ ما يكون الحزن، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي.

هزيمة معاوية

وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه

١٥٠

تذكر قول ابن الإطنابة:

أبت لي عفّتي وحياءُ نفسي = وإقدامي على البطلِ المشيحِ

وإعطائي على المكروهِ مالي = وأخذي الحمدَ بالثمنِ الربيحِ

وقولي كلّما جشأت وجاشتْ = مكانك تحمدي أو تستريحي

فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية.

مكيدة رفع المصاحف

ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة، ولم تأت عفواً، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي، وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس. لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون: لقد أعطى معاوية الحقّ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه.

لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج، والسائمون من الحرب، والطامعون في الحكم، وعملاء الحكم الاُموي، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليُسمع الجيش: ما أرى الناس إلاّ قد رضوا، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.

وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام (عليه السّلام) وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟

١٥١

والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها، فأجابه معاوية: لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه؛ تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه.

وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به؟! أوَليس خروجه على السلطة الشرعيّة مجافية لتعاليم القرآن؟!

وعلى أيّ حال، فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً: هذا هو الحقّ.

وانبرى الإمام (عليه السّلام) فزيّف دعوة التحكيم، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن، وأنّهم على ضلالهم القديم.

وأصرّ جيش الإمام على الاستجابة لدعوة معاوية، وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه؛ فاستجاب (عليه السّلام) مرغماً مكرهاً على ذلك، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح، ولم يبقَ بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة، فطلب منه الإمام (عليه السّلام) في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك، فأمره الإمام (عليه السّلام) ثانياً بالانسحاب؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال.

وعلى أيّ حال، فقد أوقف القتال، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية؛ فقد سلم من الخطر المحدق به، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف.

انتخاب الأشعري

وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي، فرفض

١٥٢

الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه فخلّى بينهم وبين رغباتهم، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك؛ فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم.

وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر، وبذلك فقد عُقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويُصلح شؤونه. وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدّامة، وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك.

اجتماع الحكمين

وأوفد معاوية إلى الإمام (عليه السّلام) رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال، وأجابه الإمام إلى ذلك؛ فأوفد أربعمئة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري، فأرشاه ابن العاص بالولائم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته، وقد اتّفق معه على أن يعزل كل صاحبه ويرشّحا عبد الله بن عمر.

وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر فخلع عليّاً عن منصبه، وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً. ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له: ما لك عليك لعنة الله؟! ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث. فصاح ابن العاص: لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

نعم، هما كلب وحمار، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار

١٥٣

بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام (عليه السّلام)، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه. يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي:

لو كانَ للقومِ رأيٌ يعصمونَ بهِ = من الضلالِ رموكم بابنِ عباسِ

للهِ درّ أبيهِ أيّما رجلٍ = ما مثلهُ لفصالِ الخطبِ في الناسِ

لكن رموكم بشيخٍ من ذوي يمنٍ = لم يدرِ ما ضرب أخماسٍ بأسداسِ

إن يخلُ عمرو به يقذفهُ في لججٍ = يهوي بهِ النجمُ تيساً بين أتياسِ

أبلغ لديكَ علياً غير عاتبه = قولَ امرئ لا يرى بالحقِّ من باسِ

ما الأشعري بمأمونٍ أبا حسنٍ = فاعلم هُديتَ وليس العجزُ كالراسِ

فاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمهمُ = إنّ ابنَ عمِّكَ عباسٌ هو الآسي

لقد امتحن الإمام (عليه السّلام) كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين.

فتنة الخوارج

وتمرّد الخوارج على الإمام (عليه السّلام) وألزموا بأمر التحكيم، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً؛ فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين: مَنْ أنت؟

- رجل مؤمن.

- ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

- إنّه أمير المؤمنين، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله.

- ما اسمك؟

١٥٤

- عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله.

- أفزعناك؟

- نعم.

- لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلّ الله أن ينفعنا به.

- نعم، حدّثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:«ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً» .

فهتفوا جميعاً: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً. وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان، فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة، فأنزلوهما تحت نخل، فسقطت رطبة منها، فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً: بغير حلّ أكلتها! فألقاها بالوقت من فيه.

واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله، فصاح به بعضهم: إنّ هذا من الفساد في الأرض! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه، وقال لهم: لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليَّ منكم بأس؛ ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام، وإنّي لمؤمن، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك.

فلم يعنَ هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية، فجاؤوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر و ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه، ثمّ ذبحوه، وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف، فقالت لهم مسترحمة:

١٥٥

إنّما أنا امرأة، أما تتّقون الله؟

فلم يعنوا باسترحامها، وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ، وفيهنّ اُمّ سنان الصيداوية، وكانت قد صحبت النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض.

واقعة النهروان

وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام (عليه السّلام)، ورفعوا شعارهم (لا حكم إلاّ لله)، ولكنّه لم يعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار؛ فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد.

ولمّا أراد الإمام (عليه السّلام) الخروج إلى محاربة معاوية، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج؛ فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها.

فاستصوب الإمام (عليه السّلام) رأيهم، وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم، وقبل أن تندلع نار الحرب وجّه الإمام (عليه السّلام) إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم، فأجابوا جميعاً: إنّا كلّنا قتلناهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم.

وأقبل الإمام (عليه السّلام) بنفسه فوجّه لهم خطاباً رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم، فامتنع الإمام من إجابتهم؛ فإنّه لم يقترف أيّ ذنب في أمر التحكيم، وإنّما هم أرغموه على ذلك.

ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) من إرجاعهم إلى الحقّ عبّأ جنوده لحربهم، وفعل الخوارج مثل ذلك، وهتف بعضهم:

١٥٦

هل من رائح إلى الجنّة؟

فأجابوه جميعاً: الرواح إلى الجنّة، وهم يهتفون بشعارهم (لا حكم إلاّ لله). وحملوا حملة منكرة على جيش الإمام، وما هي إلاّ ساعة حتّى قُتلوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم إلاّ تسعة، وبذلك فقد انتهت حرب النهروان، وقد أعقبت هي وحرب صفّين تمرّد الجيش العراقي؛ فقد مُني بالتمرّد والانحلال والسئم من الحرب، وأصبح الإمام (عليه السّلام) يدعوهم فلا يستجيبون له، كما فقد الإمام في هذين الحربين أعلام أصحابه وخيارهم الذين يعتمد على إخلاصهم وتفانيهم في الولاء له.

وعلى أيّ حال، فقد رجع الجيش من النهروان إلى الكوفة، وجبن عن ملاقاة معاوية، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يدعوهم إلى حربه فامتنعوا من إجابته.

اُفول دولة الحقّ

وأفلت دولة الحقّ التي تبنّت حقوق الإنسان وقضاياه المصيرية، وواكبت العدل الاجتماعي والعدل السياسي، وأقامت صروح الحقّ ومعاقل الشرف والفضيلة لكلّ إنسان.

ولم يعهد الشرق في جميع مراحل تأريخه حكماً نزيهاً وعادلاً كحكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي لم يخضع في جميع فتراته لأيّة عاطفة لا تتّصل بالحقّ؛ فقد تجرّد حكمه عن كلّ نزعة يؤول أمرها إلى التراب.

وقد نقمت عليه كأشدّ ما يكون الانتقام الرأسمالية القرشيّة؛ فقد خافت على مصالحها، وخافت على أموالها التي استولت عليها بغير حقّ، فوضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاته السياسيّة الهادفة إلى الإصلاح الشامل، واتّهمته بالتآمر على قتل عثمان عميد الاُسرة الاُمويّة، واتّخذت من قتله ورقة رابحة لفتح أبواب الحرب عليه، فكانت حرب الجمل وصفين والنهروان.

وقد انهارت حكومة الإمام (عليه السّلام)، وبقي في أرض الكوفة يصعّد زفراته وآهاته، وقد استفحل شرّ معاوية وقوي سلطانه، واتّسع نفوذه،

١٥٧

وزادت قواته العسكريّة وتسلّحت بجميع المعدّات الحربية في ذلك العصر، وأخذ معاوية يشنّ الغارات على معظم الأقاليم الإسلاميّة الخاضعة لحكم الإمام، فكانت جيوشه تقتل وتنهب الأموال؛ وذلك لإسقاط هيبة حكومة الإمام، وأنّها لا تقدر على حماية الأمن العام للمواطنين.

وقد انتهت الغارات إلى الكوفة والإمام (عليه السّلام) يدعو جيشه لحماية البلاد وصدّ العدوان الغادر على الناس فلم يستجيبوا له؛ فقد خلدوا إلى الراحة وسئموا الحرب وشاعت في أوساطهم أوبئة الخوف من معاوية. وأخذ الإمام الممتحن يناجي ربّه ويدعوه أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي لم يعِ مبادئه وسياسته الهادفة إلى نشر العدل وإشاعة المساواة بين الناس.

وتوالت المحن الشاقة يتبع بعضها بعضاً على الإمام (عليه السّلام)، وكان من أشقّها عليه الغارات المتّصلة التي تشنّها قوات معاوية على أطراف البلاد الإسلاميّة، وترويعها للنساء والأطفال والعُجّز، والإمام مسؤول عن توفير الأمن لهم وحمايتهم من كلّ أذى أو مكروه، ولكنّه لم يجد سبيلاً لذلك؛ لأنّ جيشه قد تمرّد عليه، وسرت فيه أوبئة الخوف وأفكار الخوارج ممّا جعلته أعصاباً رخوة لا حراك فيها ولا حياة.

وكان من بين الذين اعتنقوا مبادئ الخوارج الأثيم المجرم عبد الرحمن بن ملجم، فنزح مع عصابة من الخواج إلى مكة، وعقدوا فيها مؤتمراً عرضوا فيه ما لاقاه حزبهم من القتل والتنكيل، وما مُني به العالم الإسلامي من الفتن والخطوب، وعزوا ذلك إلى الإمام (عليه السّلام) ومعاوية وابن العاص، فصمّموا على اغتيالهم، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليّ بن أبي طالب.

وقال عمرو بن بكير التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وضمن الحجّاج بن عبد الله الصريمي اغتيال معاوية، واتّفقوا على يوم معيّن وهو يوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، كما عيّنوا ساعة الاغتيال وهي ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح.

وقفل ابن ملجم إلى الكوفة، وهو يحمل معه الشرّ والشقاء لجميع سكّان الأرض، والتقى بقطام وكان هائماً في حبّها، وكانت تعتنق فكرة الخوارج؛ فقد قُتل أبوها وأخوها في واقعة النهروان، وعرض عليها الزواج،

١٥٨

فشرطت عليه مهراً وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وقينة، وقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، واتّفقا على هذا المهر المشؤوم، وفيه يقول الفرزدق:

ولم أرَ مهراً ساقهُ ذو سماحةٍ = كمهرِ قطامٍ من فصيحٍ وأعجمِ

ثلاثة آلافٍ وعبد وقينة = وضرب عليّ بالحسامِ المسمّمِ

فلا مهرَ أغلى من عليّ وإن غلا = ولا فتكَ إلاّ دونَ فتك ابن ملجمِ(١)

ولمّا أطلّت ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك اضطرب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى، وهو ينظر إلى الكواكب ويتأمّل فيها فيزداد قلقه، وهو يقول:«ما كذبتُ ولا كُذّبت، إنّها الليلة التي وُعدت فيها» .

وصادفت تلك الليلة ليلة الجمعة، وقد أحياها بالصلاة وتلاوة كتاب الله، ولمّا عزم على الخروج إلى الجامع ليؤدّي الصلاة صاحت في وجهه وزّ اُهديت إلى الإمام الحسن (عليه السّلام)، فتنبّأ عن وقوع الحادث العظيم قائلاً:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، صوائح تتبعها نوائح» (٢) .

وأقبل الإمام (عليه السّلام) على الباب ليفتحه فعسر عليه؛ لأنّها كانت من جذوع النخل لا من الساج، فاقتلعها فانحلّ إزاره، فشدّه وهو يقول:

اشدد حيازمكَ للموتِ = فإنّ الموتَ لاقيكا

ولا تجزع من الموتِ = إذا حلّ بناديكا(٣)

وخرج الإمام (عليه السّلام)، فلمّا انتهى إلى بيت الله جعل على عادته يوقظ الناس لصلاة الصبح، وشرع الإمام في أداء الصلاة، فلمّا استوى من السجدة الأولى هوى عليه

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٣.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٢٩١.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٥٧.

١٥٩

الوغد الأثيم ابن ملجم بسيفه وهو يهتف بشعار الخوارج: (الحكم لله لا لك).

وضرب الإمام (عليه السّلام) على رأسه فقدّ جبهته الشريفة، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في إقامة العدل وتدمير الظلم وإسعاد البؤساء والفقراء.

ولمّا أحسّ الإمام (عليه السّلام) بلذع السيف، رفع صوته قائلاً:«فزت وربّ الكعبة» .

لقد فزت يا إمام المتّقين ويعسوب الدين، فأيّ فوز أعظم من فوزك؟ لقد أقمت الإسلام بسيفك، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد، وحطّمت الشرك وأفكار الجاهليّة وتقاليدها، ورفعت كلمة الله مع ابن عمّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عالية في الأرض.

لقد فزت أيّها الإمام العظيم، فأنت أوّل حاكم في دينا الإسلام طلّقت الدنيا ثلاثاً فلم تغرّك مباهجها، ولم تخدعك السلطة، فلم تبنِ لك بيتاً، ولم تدّخر لعيالك وأبنائك شيئاً من حطام الدنيا.

لقد فزت، فقد كانت نهايتك المشرّفة في أقدس بيت من بيوت الله، وفي أعظم شهر من شهور الله، فبداية حياتك في الكعبة، ونهايتها في هذا الجامع العظيم، ولسانك يلهج بذكر الله.

ولمّا رُفع الإمام (عليه السّلام) صريعاً في محرابه هتف معرّفاً بقاتله قائلاً:«قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم فلا يفوتنّكم» .

وهرع الناس من كلّ جانب، قد أذهلهم الخطب وأضناهم المصاب، وبلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق، فوجدوا الإمام صريعاً في محرابه، فأخذوا يندبونه بذوب أرواحهم، ولم يستطع الإمام (عليه السّلام) الصلاة بالناس، فصلّى وهو جالس والدم ينزف منه، وأمر ولده الإمام الحسن فصلّى بالناس، وحُمل الإمام إلى منزله، واُلقي القبض على الوغد ابن ملجم فجيء به مخفوراً إلى الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت:

١٦٠

«لقد جئت شيئاّ إدّاً، وأمراً عظيماً! ألم أشفق عليك واُقدّمك على غيرك في العطاء، فلماذا تجازيني بهذا الجزاء؟» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى ولده الحسن (عليه السّلام) فأوصاه بالبرّ والإحسان بابن ملجم قائلاً:«يا بُني، ارفق بأسيرك وارحمه، واشفق عليه» .

فبُهر الحسن (عليه السّلام) وقال:«يا أبتاه، قتلك هذا اللعين، وفجعنا بك، وأنت تأمرنا بالرفق به!» . فأجابه الإمام (عليه السّلام) بما انطوت عليه نفسه من المُثل العليا قائلاً:«يا بُني، نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة؛ أطعمه ممّا تأكل، واسقه ممّا تشرب، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله، ولا تمثّل بالرجل؛ فإنّي سمعت جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور. وإن أنا عشت فأعلم ما أفعله به، وأنا أولى بالعفو؛ فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً» .

أيّ نفس ملائكية هذه النفس التي توصي بالبرّ والإحسان لقاتلها؟!

السيّدة اُمّ كلثوم مع ابن ملجم

وبكت السيّدة اُمّ كلثوم، وأخذت تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، وأكبر الظنّ أنّها العقيلة الزينب، فقالت للباغي الأثيم ابن ملجم: يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين! فردّ عليها الباغي الزنيم: لم أقتل أمير المؤمنين، ولكن قتلت أباك. فردّت عليه: والله، إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس. فأجابها ابن ملجم بصلف وشماتة:

١٦١

فلِمَ تبكين إذاً؟ عليَّ تبكين؟! والله لقد أرهقت السيف، ونفيت الخوف، وخسئت الأجل، وقطعت الأمل، وضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ - وقيل: بربيعة أو مضر - لأتت عليهم. والله، لقد سممته شهراً، فإن أخلفني فأبعده سيفاً وأسحقه(١) !

لك الويل أيّها الأثيم! فقد عمدت لاغتيال أقدس إنسان بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أراد أن يُقيم الحقّ ويوزّع خيرات الله في الأرض على المحرومين والمضطهدين، لقد خسرت صفقتك وبئت بغضب الله وعذابه الدائم.

العقيلة مع أبيها

وهرعت عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السّلام) إلى أبيها وهي تبكيه وتندبه، وقد ذابت نفسها حزناً وألماً، وطلبت منه أن يحدّثها بالحديث الذي سمعته من المرأة الصالحة اُمّ أيمن عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عمّا يجري عليها من الكوارث والخطوب، ولم يكن عند الإمام (عليه السّلام) قوّة على الكلام، فقال لها:«الحديث كما حدّثتك اُمّ أيمن، وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاّء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً؛ فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم.

ولقد قال لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس (لعنه الله) في ذلك اليوم - أي يوم قتل الحسين -يطير فرحاً، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، ألا مَنْ اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّى تستحكم ضلالة الخلق

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٢١٦، القسم الأوّل.

١٦٢

وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج. ولقد صدّق عليهم إبليس - وهو كذوب - أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر)) (١) .

وصاياه

وجعل الإمام (عليه السّلام) وهو في الساعات الأخيرة من حياته يوصي أبناءه، وفي طليعتهم سيّدا شباب أهل الجنّة الإمام الحسن والحسين (عليهما السّلام) بمكارم الأخلاق والزهد في الدنيا.

ومن بنود وصيّته هذه الوصايا الخالدة، قال (عليه السّلام):«اُوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء زُوي عنكما، وقولا للحقّ، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً.

اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم؛ فإنّي سمعت جدّكما (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام.

الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم (٢) ، ولا يضيعوا بحضرتكم. الله الله في جيرانكم؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى ظننا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم. الله الله في الصلاة؛ فإنّها عمود دينكم. الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا - أي لم ينظر إليكم بالكرامة -.الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل (٣) ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيتولّى عليكم شرارُكم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم» .

ثمّ وجّه وصيته إلى آله وذويه قائلاً:

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٦٦.

(٢) لا تغبوا أفواههم: أي لا تقطعوا صلتكم عنهن، وصلوا أفواههم بالطعام دوماً.

(٣) التباذل: العطاء والصلة.

١٦٣

«يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين (١) ؛ألا لا تقتلنَّ بي إلاّ قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل؛ فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور» (٢) .

وحفلت هذه الوصية بالقيم الخالدة التي هي من أروع ما خلّفه الأنبياء والمصلحون لاُممهم وشعوبهم.

إقامة الحسن (عليه السّلام) من بعده

وأقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفة على المسلمين من بعده ولده الأكبر سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن (عليه السّلام)، وأجمعت الشيعة على ذلك.

وذهب بعض أهل السُنّة إلى أنّ الإمام (عليه السّلام) لم يستخلف أحداً من بعده، مستدلّين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي أنّه قيل لعليّ: ألا تستخلف؟ فقال: إن يرد الله بالاُمّة خيراً يجمعهم على خيرهم. وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نصّ على ذلك ابن حجر(٣) .

إنّ الإمام الحسن (عليه السّلام) هو أفضل إنسان في المجتمع الإسلامي، فهو سيّد شباب أهل الجنّة، وإمام إن قام أو قعد على حدّ تعبير رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد توفّرت فيه جميع الصفات الكريمة والنزعات الرفيعة، فكيف لا يُرشّحه الإمام لهذا المنصب الخطير؟ ومَنْ هو أحقّ به منه؟!

____________________

(١) يشير بذلك إلى مصرع عثمان الذي اتّخذ الاُمويّون دمّه ورقة رابحة في سبيل أطماعهم السياسيّة.

(٢) نهج البلاغة ٣ / ٨٥.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٥٧.

١٦٤

الوصية الأخيرة للإمام (عليه السّلام)

أمّا الوصية الأخيرة للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد روتها عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام)، قالت: كان آخر عهد أبي إلى أخوي الحسن والحسين (عليهما السّلام)، أنّه قال لهما:«يا بنيَّ، إذا أنا متّ فغسّلاني، ثمّ نشّفاني بالبردة التي نُشّف بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السّلام)، وحنّطاني وسجّياني على سريري، ثمّ انظروا حتّى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره» (١) .

إلى جنّة المأوى

ولمّا أدلى الإمام (عليه السّلام) بوصاياه أخذ يُعاني آلام الموت وهو يتلو آيات الذكر الحكيم، ويُكثر من الدعاء والاستغفار، ولمّا دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به:«لمثل هذا فليعمل العاملون» (٢) . ثمّ فاضت روحه الزكية إلى جنّة المأوى.

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء الدنيا بعدله وعمله وكماله، فما أظلّت سماء الدنيا قطّ أفضل ولا أسمى منه ما عدا أخاه وابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

لقد مادت أركان العدل، وانطمست معالم الحقّ، ومات أبو الغرباء والبؤساء.

سيّدي أبا الحسن، لقد مضيت إلى عالم الخلود، وأنت مكدود مجهود، قد جُهل حقّك، واُبعدت عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد تظافرت الاُسر القرشيّة على حربك، ووضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاتك الإصلاحية، كما فعلت مثل ذلك مع ابن عمّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

____________________

(١) زينب الكبرى / ٣٨.

(٢) سورة الصافات / ٦١.

١٦٥

تجهيزه ودفنه (عليه السّلام)

وقام الإمام الحسن (عليه السّلام) مع بقية إخوانه بتجهيز أبيه، فغسّلوا الجسد الطاهر وأدرجوه في أكفانه وصلّوا عليه، وفي الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير، وكانت معهم العقيلة زينب(١) وهي تذرف الدموع، وقد نخب الحزن فؤادها، ودفنوا الجثمان المعظّم في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن كعبة للوافدين، وجامعة من أهم الجامعات في الإسلام.

لقد شاهدت السيّدة زينب الكوارث والخطوب التي أحاطت بأبيها، فملأت قلبها الزاكي أسى وحزناً، وعرفتها بما تكنّه قريش من الحقد والحسد لأبيها، وسائر أبناء الاُسرة النبويّة.

عهد الإمام الحسن (عليه السّلام)

وفي صبيحة اليوم الذي وارى فيه الإمام الحسن (عليه السّلام) جثمان أبيه انبرى إلى جامع الكوفة يحفّ به إخوته وسائر بني هاشم، وقد اكتظّ الجامع بمعظم قطعات الجيش وقادة الفرق والوجوه والأشراف، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبين أبيه عملاق الفكر الإسلامي، وكان تأبينه منسجماً تمام الانسجام مع سموّ شخصية أبيه؛ فقد وصفه بأبلغ وأروع ما يكون الوصف.

وصفه بهذه الكلمات الذهبية:«لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولم يُدركه الآخرون بعمل» .

ومعنى ذلك أنّ أباه نسخة فريدة لا مثيل لها في تأريخ الإنسانيّة في جميع الأزمان والآباد؛ فإنّ من المحقّق أنّه ليس في ميدان الإصلاح الاجتماعي والسياسي زعيم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في نزاهته وتجرّده من جميع النزعات المادية؛ فقد

____________________

(١) زينب الكبرى / ٣٨.

١٦٦

تقلّد زمام الحكم وكان معظم الشقّ خاضعاً لحكمه، وكانت الأموال تُجبى له كالسيل فلم يؤثر نفسه وأهله بشيء منها، ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم كان قد ادّخرها من راتبه ليشتري بها عبداً يستعين به أهله في حاجاتهم إلاّ أنّه عدل عن ذلك، وأمر ولده الحسن (عليه السّلام) بإرجاعها إلى بيت المال، كما أعلن ذلك الإمام الحسن (عليه السّلام) في خطابه.

استمعوا له، قال (عليه السّلام):«وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال» .

وكان ذلك حقّاً هو منتهى السموّ والعظمة، ومنتهى التجرّد عن الدنيا والزهد في جميع مظاهرها وملاذّها.

ولمّا أنهى الإمام الحسن (عليه السّلام) خطابه الرائع بايعه الجمهور، وكانوا أصنافاً، وهم:

١ - قادة الفرق والزعماء، وهؤلاء كان معظمهم مع معاوية؛ فقد استمالهم بأمواله وذهبه، ووعدهم بالمناصب العالية إن انضموا إليه.

٢ - الخوارج، وهم من ألدّ أعدائه وأعداء أبيه، وكانوا يكيدون له في وضح النهار وغلس الليل.

٣ - المؤمنون من شيعته ممّن عرفوا حقّه، ودانوا له بالولاء والطاعة، وهم قلّة قليلة.

وعلى أيّ حال، فقد علم معاوية ما مُني به جيش الإمام الحسن (عليه السّلام) من الضعف والانحلال والتمرّد على قيادته، فكتب إلى الإمام (عليه السّلام) يستنجزه الحرب، وزحف بجيوشه الذين تسودهم الطاعة والإخلاص له، فانتهى إلى المدائن فعسكر فيها.

ولمّا اُذيع ذلك سرت أوبئة الرعب والخوف في نفوس جيش الإمام (عليه السّلام)، وقد دعاهم إلى مناجزة معاوية فلم يستجب له سوى بعض المؤمنين من أصحابه، وجعل يستحثّ الناس على الخروج لحرب معاوية، وبعد جهد شاق خرج معه أخلاط من الناس - على حدّ تعبير الشيخ المفيد - متباينون في أفكارهم وميولهم، وأخذوا

١٦٧

يجدّون في السير لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى المدائن فعسكروا فيها.

حوادث رهيبة

ومُني الإمام الحسن (عليه السّلام) بحوادث مروّعة حينما كان في مسكن، كان من أقساها وأفجعها ما يلي:

١ - خيانة القائد العام

وكان عبيد الله بن العباس قائداً لجميع القوات المسلّحة في جيش الإمام (عليه السّلام)، ولمّا تيقّن أنّ الدنيا قد تنكّرت للإمام انحرف عنه ومال إلى معسكر معاوية بعد أن تسلّم الرشوة منه، وقد اضطرب جيش الإمام (عليه السّلام) وماج بالفتن، وكانت خيانته من أفجع النكبات التي مُني بها الإمام (عليه السّلام).

٢ - تسلل الوجوه إلى معاوية

وتسلّل الوجوه والأشراف في جيش الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية بعد أن تسلّموا منه الأموال.

٣ - خيانة ثمانية آلاف

والتحق بمعسكر معاوية ثمانية آلاف جندي مع قادتهم، وأكبر الظنّ أنّهم من أتباع الخائن العميل الأشعث بن قيس، وقد بان الانكسار والضعف بجيش الإمام (عليه السّلام) بعد خيانة هذا العدد الكبير منهم.

٤ - خيانة ربيعة

وتعتبر قبائل ربيعة العمود الفقري في جيش الإمام (عليه السّلام)؛ فقد أقبل زعيمها خالد بن معمر إلى معاوية فقال له: اُبايعك عن ربيعة كلّها. فبايعه على ذلك.

وفيه يقول الشاعر مخاطباً معاوية:

معاوي أكرم خالدَ بن معمّرٍ = فإنّك لولا خالدٌ لم تؤمّرِ

ولمّا انتهى الخبر إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) انهارت قواه، واتّجه صوب الجيش

١٦٨

فقال لهم:«يا أهل العراق، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثمّ اختلفتم عليه، وقد أتاني أنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه، فحسبي منكم! لا تغرّوني في نفسي وديني» (١) .

وكذلك بايع معاوية سرّاً عثمان بن شرحبيل زعيم بني تميم(٢) .

٥ - نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام)

وعمدت تلك العصابة التي انمحت عن نفوسها جميع أفانين الشرف والكرامة إلى نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام) وأجهزته، وأكبر الظنّ أنّ للخوارج ضلعاً كبيراً في هذه الجريمة.

٦ - محاولة اغتيال الإمام (عليه السّلام)

ولم تقف محنة الإمام الحسن (عليه السّلام) في جيشه عند حدّ؛ فقد عظم بلاؤه إلى أكثر من ذلك؛ فقد قدم المرتشون والخوارج على اغتياله وذلك في عدّة محاولات، وهي:

١ - إنّه كان يصلّي فرماه شخص بسهم

٢ - طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه

٣ - طعنه بخنجر في أثناء الصلاة

واتّضحت للإمام (عليه السّلام) بعد هذه الاعتداءات الصارخة على حياته أنّه ليس عنده جيش يركن إليه لمناجزة معاوية.

٧ - الحكم عليه بالكفر

ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الإمام الحسن (عليه السّلام) أنّ بعض العناصر في جيشه حكموا عليه بالشرك والإلحاد، وأكبر الظنّ أنّهم الخوارج الذين لا نصيب لهم

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٢٢٣، القسم الأوّل.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٢٧.

١٦٩

من الإيمان والإسلام.

وعلى أيّ حال، فقد انبرى الجرّاح بن سنان نحو الإمام وهو رافع صوته قائلاً: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!

إنّ مجتمعاً يضمّ أمثال هؤلاء الأوغاد لهو مجتمع غير سليم.

ضرورة الصلح

ودرس الإمام الحسن (عليه السّلام) الموقف من جميع جوانبه ووجوهه، ورأى أنّه بين محذورين؛ وهما:

الأول: أن يناجز معاوية ويفتح معه باب الحرب، وهذا ما يطلبه ويبغيه لإنقاذ العالم الإسلامي من هذا العدو الظالم الذي يكيد له في الليل إذا يغشى، وفي النهار إذا تجلّى؛ فحربه أمر لازم وضروري، ولكن ذلك لا سبيل له، ولا تساعده الحكمة وعمق النظر؛ وذلك لما يلي:

١ - إنّه ليس عند الإمام (عليه السّلام) قوّة عسكرية يستطيع أن يخوض بها الحرب؛ فإنّ الأكثرية الساحقة من جيشه قد استجابت لمعاوية، وآثرت السلم والعافية.

٢ - إنّ معاوية قد أرشى معظم قادة الفرق في جيش الإمام (عليه السّلام)، فصاروا طوع إرادته، وضمنوا إنجاز ما يريد من اغتيال الإمام (عليه السّلام) أو تسليمه له أسيراً.

٣ - إنّ من المؤكد أنّ معاوية هو الذي ينجح في الحرب - حسب الفنون العسكريّة - فإذا استشهد الإمام (عليه السّلام) فإنّه لا يستشهد وحده، وإنّما يستشهد معه جميع أفراد اُسرته وخلّص شيعته، ولا تستفيد القضية الإسلاميّة من تضحيتهم شيئاً؛ فإنّ دهاء معاوية وما يتمتّع به من وسائل المكر والخداع يجعل تبعة ذلك على الإمام (عليه السّلام)، وبذلك يخسر العالم الإسلامي أهم رصيد روحي وفكري.

٤ - إنّ الإمام إذا لم يستشهد واُخذ أسيراً لمعاوية، فإنّ من المحقّق أنّه يمنّ عليه ويوصمه مع بقية أهل البيت (عليهم السّلام) بالطلقاء، ويسجّل له بذلك يداً على العلويِّين،

١٧٠

ويمحو عنه وعن الاُمويِّين وصمة الطلقاء التي أسداها عليهم النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما فتح مكة.

الثاني: أن يصالح معاوية على ما في الصلح من قذى العين وشجى الحلق، وهذا هو المتعيّن في عرف السياسة وقوانين الحكمة، وله مرجّحاته الواقعية والظاهرية التي أشرنا إليها.

وكان من أعظم فوائد الصلح ومن أهم ثمراته إبراز الواقع الاُموي الذي خفي على المسلمين؛ فقد تظاهر الاُمويِّين بالإسلام، وأشاعوا أنّهم حماة الدين، وأقرب الناس إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وأمسّهم رحماً به، وبعد الصلح انكشف زيفهم، وظهر واقعهم الجاهلي؛ فقد تفجّرت سياسة معاوية بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فقد أعلن بعد الصلح مباشرة أمام الحشود فخاطب أهل العراق قائلاً: إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا ولا لتحجّوا وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك، وإنّي قد أعطيت الحسن بن عليّ شروطاً لا أفي بواحد منها وها هي تحت قدمي.

ولو لم يكن للصلح من فائدة إلاّ إبراز حقيقة معاوية وتجريده من كلّ إطار ديني لكفى؛ فقد أبرز معاوية واقعه بهذا الخطاب، فهو لم يُقاتل أهل العراق من أجل الطلب بدم عثمان، ولا من أجل ظاهرة إسلاميّة، وإنّما قاتلهم من أجل الإمرة والسلطان، ولو كان يملك ذرّة من الشرف والكرامة لما فاه بذلك، ولما أعلن نقضه للعهود والمواثيق التي أعطاها للإمام الحسن (عليه السّلام).

وعلى أيّ حال، فإنّا قد بسطنا القول بصورة موضوعية وشاملة في بيان ضرورة الصلح، وإنّه هو المتعيّن على الإمام (عليه السّلام) شرعاً وسياسة في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام))، كما استوفينا البحث من الشروط التي شرطها الإمام (عليه السّلام) على معاوية والتي لم يفِ بشيء منها، فمَنْ أراد الإلمام بهذه البحوث عليه بمراجعة هذا الكتاب.

١٧١

السفر إلى يثرب

وأخذ الإمام الحسن (عليه السّلام) يتهيّأ للسفر إلى يثرب، ويترك البلد الذي خذله وخذل أباه من قبل، ولمّا تمّت وسائل النقل خرج أهل الكوفة إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف يندبون حظّهم التعيس؛ فقد أصبحت بلدهم مصراً من الأمصار بعد أن كانت عاصمة الدولة الإسلاميّة، وأصبحت القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم، ويُقام في بلدهم حكم إرهابي لا يعرف الرحمة ولا الرأفة.

وعلى أيّ حال، فقد انتهى الإمام (عليه السّلام) إلى يثرب فخفّ أهلها إلى استقباله؛ فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة.

وعلى أيّ حال، فقد أفلت دولة الحقّ وقامت على أنقاضها دولة الباطل، وكان ذلك من أعظم النكبات التي عانتها حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب، فكانت عالمة بمجريات الأحداث ونتائجها التي كان منها ما عانته من الرزايا والخطوب في كربلاء.

١٧٢

حكومة معاوية

واستقبل المسلمون حكومة معاوية بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب واعتبروها نكسة للإسلام، ونصراً حاسماً للقوى المعادية له والحاقدة عليه، وفي طليعتها الاُسرة الاُمويّة ومَنْ شايعها من القبائل القرشيّة؛ فقد انتعشت الأفكار الجاهليّة وعادت لها الحياة من جديد، وانطوت الديمقراطية الإسلاميّة وما تنشده من التقدّم والتطوّر للإنسان في مجالاته الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة.

يقول السيد مير علي الهندي: ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكلّ ما يرافقها من خلاعات، وكأنّها بُعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكم الاُمويِّين من جند الشام(١) .

لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار.

ونعرض - بإيجاز - لبعض نزعاته وصورة عن سياسته:

عداؤه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)

وورث معاوية عداءه للرسول (صلّى الله عليه وآله) من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٧٣

وخصومه، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويُطفئ نور الله، ولكنّ الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده.

وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية، وهي التي حرّضت وحشيّاً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل.

ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن أبويه؛ فقد اُترع بالكراهية والبغض له، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذّن يؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يملك إهابه واندفع قائلاً: لله أبوك يابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين(١) .

وكان من حقده على النبي (صلّى الله عليه وآله) ما حدّث به مطرف بن المغيرة و قال: وفدت مع أبي على معاوية، فكان يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ وهو يذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه. وأقبل ذات ليلة وهو غضبان، فأمسك عن العشاء، فانتظرته ساعة وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتماً هذه الليلة؟

- يا بُني، جئتك من أخبث الناس.

- ما ذاك؟

- خلوت بمعاوية فقلت له: إنّك قد بلغت مُناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً؛ فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فثار معاوية وقال:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ / ١٠١.

١٧٤

هيهات، هيهات! ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى بعد هذا - لا اُمّ لك - إلاّ دفناً دفناً؟!(١)

وتحكي هذه البادرة مدى حقده وبغضه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه يسعى جاهداً لمحو ذكره وإطفاء نوره.

بغضه لآل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)

وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، وقد قام بما يلي:

١ - ستر فضائلهم

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبي (صلّى الله عليه وآله) وحجبها عن الناس، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح، فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس، فبادره معاوية قائلاً: يابن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليّ بقتالي إيّاكم يوم صفّين. يابن عباس، إنّ ابن عمّي عثمان قُتل مظلوماً.

فردّ عليه ابن عباس: فعمر بن الخطاب قُتل مظلوماً، فسلّم الأمر إلى ولده؟ وهذا ابنه - وأشار إلى عبد الله بن عمر -.

فأجابه معاوية:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧.

١٧٥

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً: فمَنْ قتل عثمان؟

- قتله المسلمون.

وامسك ابن عباس بزمامه قائلاً: فذلك أدحض لحجّتك؛ إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحقّ.

ووجم معاوية ثمّ قال: إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته، فكفّ لسانك يابن عباس.

فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟

- لا.

- أفتنهانا عن تأويله؟

- نعم.

- فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟

- نعم.

- فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

- العمل به.

- فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

- سل عن ذلك مَنْ يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت وأهل بيتك.

- إنّما نزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟

- فاقرؤوا القرآن، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم، وممّا قاله رسول الله فيكم، وارووا ما سوى ذلك.

١٧٦

وسخر منه ابن عباس، وتلا قوله تعالى:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

وصاح به معاوية: اكفف نفسك، وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً، ولا تسمعه أحداً علانية.

لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ومحو ذكرهم حتّى لا يبقى لهم أيّ رصيد شعبي في الأوساط الإسلاميّة.

٢ - اضطهاد الشيعة

واضُطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية؛ فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام، وكان ما عانوه منه لا يُوصف لشدّة قسوته ومرارته.

وهذه صورة موجزة لما عانوه:

أ - القتل الجماعي

وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم؛ فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(٢) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(٣) ، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم؛ فقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب.

كما صفّى معاوية جميع العناصر الواعية من الشيعة، وكان منهم:

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٢.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ٣٤٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦.

١٧٧

١ - حجر بن عدي وجماعته

٢ - عمرو بن الحمق الخزاعي

٣ - رشيد الهجري

٤ - أوفى بن حصن

٥ - عبد الله الحضرمي وجماعته

٦ - جويرية العبدي

٧ - عبد الرحمن العنزي

٨ - صيفي بن فسيل.

وقد ذكرنا بصورة مفصّلة كيفية شهادتهم، وما لاقوه من التنكيل من معاوية؛ لمحبّتهم لأهل البيت (عليهم السّلام).

ب - ترويع النساء

وروّع معاوية جمهرة من سيّدات نساء الشيعة، كان من بينهنّ:

١ - الزرقاء بنت عدي

٢ - اُمّ الخير البارقية

٣ - سودة بنت عمارة

٤ - اُمّ البراء بنت صفوان

٥ - بكارة الهلالية

٦ - أروى بنت الحارث

٧ - عكرشة بنت الأطرش

٨ - الدرامية الحجونية

لقد لاقين هذه السيّدات التوهين والتقريع والترويع من معاوية؛ لولائهنّ لأهل البيت (عليهم السّلام).

١٧٨

جـ - هدم دور الشيعة

وأوعز معاوية إلى عمّاله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها(١) ، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه.

د - حرمان الشيعة من العطاء

وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء، وهذا نصها: وانظر إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه(٢) .

وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم، فمَنْ وجدوه يتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام) محوا اسمه، وأسقطوا عطاءه.

هـ - رفض شهادة الشيعة

وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعز إلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره(٣) ؛ مبالغة في التوهين بهم.

و - إبعاد الشيعة إلى خراسان

ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد بن أبيه عمدة ولاة معاوية، وأخوه اللاّشرعي ضدّ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام)، وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان، المقاطعة الشرقية في فارس(٤) .

وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٧٨.

(٤) تاريخ الشعوب الإسلاميّة ١ / ١٤٧.

١٧٩

في تلك البلاد حتّى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويِّين حتّى أطاح بدولتهم.

هذه بعض الإجراءات الرهيبة التي اتّخذها معاوية ضدّ الشيعة، وهي تمثّل مدى حقده وعدائه لأهل البيت (عليهم السّلام).

أمّا البحث عن نزعاته الشريرة وسائر أعماله المجافية لروح الإسلام والقانون فقد ذكرناها بصورة مفصّلة في الجزء الثاني من كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام)) فلا حاجة لذكرها.

اغتيال الإمام الحسن (عليه السّلام)

وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضدّ الإسلام والمسلون اغتياله لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن (عليه السّلام)، الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده، وراح يُنشئ دولة اُمويّة تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه.

وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع، وذو قلب خال من كلّ شفقة، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة(١) .

واستعرض الطاغية السفّاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث، فهي من بيت جُبل على الجريمة، وطُبع على الغدر والخيانة؛ فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم، وأمره بإغراء جعدة بالأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت له، وعرض عليها مروان ذلك فاستجابت له،

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343