السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192488 / تحميل: 8580
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فأخذت السمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام)، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام (عليه السّلام) لاحتّى تقطّعت أمعاؤه، فالتفت (عليه السّلام) إلى الخبيثة الماكرة وقال لها:«قتلتيني قتلك الله! والله لا تصيبين منّي خلفاً، لقد غرّك - يعني معاوية -وسخر منك، يخزيك الله ويخزيه» (١) .

وأخذ ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعاني من شدّة السمّ وقسوته، وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة فأمر برفع الطشت؛ لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه، قد فتك السمّ به، فانهارت قواها، وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن؛ فقد علمت أنّ أخاها سيفارقها عمّا قريب.

وأخذ الإمام (عليه السّلام) يقبّل إخوته وخلّص أصحابه، وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وتقوى الله، والاجتناب عن معاصيه. واشتدّت حالته، وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز، ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين. ووافاه الأجل المحتوم ولسانه يلهج بذكر الله، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام.

وقام الإمام الحسين (عليه السّلام) بتجهيز جثمان أخيه، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام (عليه السّلام) أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمنعته بنو اُميّة، وقد استعانوا بعائشة؛ فقد خرجت على بغل وهي تقول: لا يُدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه.وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميّين: لا تدخلوا بيتي مَنْ لا اُحبّ.

وكادت الفتنة أن تقع وتُراق الدماء، فعدل الإمام (عليه السّلام) عن دفن أخيه بجوار جدّه، ودفنه في البقيع، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن (عليه السّلام) في كتابنا (حياة الإمام الحسن) فلا نرى حاجة لذكرها.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣١٧.

١٨١

البيعة ليزيد (لعنه الله)

وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محلّ فيه لأي قيمة من القيم الدينية.

وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر، والطيش والعداء للإسلام. يقول السيد مير علي الهندي: وكان يزيد غدّاراً كأبيه، ولكن ليس داهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل؛ كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(١) .

لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانيّة، لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل، وحسبه أنّه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي. ووصفه المؤرّخون بأنّه كان مُعرّى من كلّ صفة إنسانيّة، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى.

ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر، ويعزو بعض المؤرّخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتّى أولد فيه انفجاراً في دماغه، ومن أنّه كان ولعاً بالقرود، فكان له فهد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ.

وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل، فسرّ بذلك،

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٨٢

وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها = فليس عليها إن سقطت ضمانُ

فقد سبقت خيلَ الجماعة كلَّها = وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز، ورثاه بهذه الأبيات:

كم من كرامٍ وقوم ذو محافظةٍ = جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

شيخ العشيرة أمضاها و أحملها = على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يبعد الله قبراً أنت ساكنه = فيه جمالٌ وفيه لحيةُ التيسِ(١)

وشاع بين الناس ولعه بالقرود، وقد هجاه [الشاعر] ابن تنوخ بقوله:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا = فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ

فتبّاً لمَنْ أمسى علينا خليفةً = صحابته الأدنون منه قرودُ(٢)

وكان كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(٣) .

لقد كان يزيد عنواناً لكلّ رذيلة وموبقة، وهو أخبث إنسان على وجه الأرض، وأصبح علماً للانحطاط الخُلقي والظلم الاجتماعي، وحيث ما ذكر اسمه فإنّه مثال للفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وقد ذكرنا المزيد من صفاته ونزعاته في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

____________________

(١) جواهر المطالب لمناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) / ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ / ٢.

(٣) الفخري / ٤٥.

١٨٣

١٨٤

الحكم الأسود

وخيّم على العالم الإسلامي حكم إرهابي عنيف لا يخضع لعرف ولا لقانون، ولا يستجيب لأيّة عاطفة إنسانيّة، شعاره الظلم والاستبداد واللامبالاة. هذا هو السمت الظاهر والواقع لحكم يزيد بن معاوية الذي بُلي به المسلمون، وامتحنوا امتحاناً عسيراً.

لقد عانت عقيلة بني هاشم السيّدة زينب في عهد هذا الطاغية أشقّ وأقسى ألوان المصائب والكوارث، كما تعرّضت الاُسرة النبويّة إلى الإبادة الشاملة؛ فقد جُزروا كالأضاحي، ومثّلت الجيوش الاُمويّة أشرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة.

كلّ ذلك كان بمرأى من حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فذابت نفسها أسى وحسرات، ولم تقتصر محنتها على ذلك، وإنّما تعدّت إلى ما هو أقسى وأشجّ؛ فقد سُبيت مع عقائل الوحي ومخدّرات الرسالة، يُطاف بهنّ من بلد إلى بلد، فتارة يمثلنَ أمام ابن مرجانة، واُخرى في مجلس يزيد، فلم تبقَ محنة من محن الدنيا، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عهد هذا الطاغية الأثيم.

وعلى أيّ حال، فقد تسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر وريعان الشباب، لم تصقله التجارب، ولم تُهذّبه الأيام، قد استسلم لشهواته وملذّاته التي كان البارز منها سفك الدماء، وإشاعة الفزع والخوف بين الناس.

ولم يكن الطاغية حينما وافت المنية أباه في دمشق، وإنّما كان في رحلات

١٨٥

الصيف في حوارين الثنية، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة أبيه، ويهنّئه بالخلافة، ويطلب منه الإسراع إلى عاصمته يتولّى شؤون الحكم، وحينما انتهت إليه الرسالة أسرع نحو عاصمته، ومعه أخواله وبنو اُميّة، والمغنّون والعابثون من أصحابه، وقد شعث في الطريق، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه، وقد عابوا عليه ما هو فيه، فانتقدوه وقالوا: هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس، والله سائل عنه(١) .

ومضى صوب قبر أبيه فجلس عنده وهو باكي العين، وأنشأ يقول:

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخبّ به = فأوجسَ القلبُ من قرطاسهِ فزعا

قلنا لكَ الويل ماذا في كتابكمُ = قالَ الخليفَ أمسى مدنفاً وجعا(٢)

ثمّ سار نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به بنو اُميّة وأخواله وشرطته.

خطابه في أهل الشام

وخطب يزيد في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه على خوض حرب مدمّرة مع أهل العراق، جاء فيه: يا أهل الشام، فإنّ الخير لم يزل فيكم، وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديدة، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك، حتّى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

وانبرى أهل الشام فأعلنوا دعمهم الكامل له قائلين:

____________________

(١) تاريخ الإسلام - الذهبي ١ / ٢٦٧.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٦.

١٨٦

يا أمير المؤمنين، امض بنا حيث شئت، وأقدم بنا على مَنْ أحببت، فنحن بين يديك، وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفّين.

وشكرهم يزيد على ولائهم، وأثنى على إخلاصهم(١) .

وقد كشف خطابه عن تصميمه على حرب أهل العراق؛ وذلك لعلمه بكراهيتهم له، وتجاوبهم الكامل مع الإمام الحسين (عليه السّلام).

مع المعارضة في يثرب

وكان يزيد يتحرّق غيظاً وغضباً على الجبهة المعارضة له في يثرب، والتي كانت لا تراه أهلاً لولاية أمير المسلمين.

أمّا أعلام المعارضة فهم:

١ - الإمام الحسين (عليه السّلام)

وهو ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، وكان يتمتّع بنفوذ واسع النطاق في معظم الأقاليم الإسلاميّة.

٢ - عبد الله بن الزّبير

وهو من أعلام المعارضة، إلاّ أنّه لم تكن له شعبية ولم يتمتّع بصفة فاضلة، وكان يرى أنّه أفضل من يزيد وأحقّ بالبيعة والخلافة منه.

أوامره المشدّدة إلى الوليد

وأصدر الطاغية أوامره المشدّدة إلى الوليد بن عتبة عامله على يثرب بإرغام المعارضين له على أخذ البيعة منهم، فإن امتنعوا نفّذ فيهم حكم الإعدام.

وقد جاء في رسالته: إذا أتاك كتابي فاحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير فخذهما بالبيعة،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٢٤٤.

١٨٧

فإن امتنعا فاضرب [ عنقيهما ] وابعث إليّ [ برأسيهما ]، وخذ الناس بالبيعة، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير، والسّلام(١) .

فزع الوليد

ولمّا انتهت رسالة يزيد إلى الوليد فزع فزعاً شديداً؛ فإنّ التنكيل بالمعارضين وإنزال العقاب الصارم بهم ليس بالأمر السهل؛ فإنّ معاوية مع ما يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية لم يستطع إرغام الإمام الحسين (عليه السّلام) على أخذ البيعة منه ليزيد، فكيف يستطيع الوليد تنفيذ ذلك.

ورأى الوليد أن يعرض الأمر على مروان - عميد الاُسرة الاُمويّة - ويستشيره في الأمر، فبعث خلفه وأطلعه على رسالة يزيد.

فقال له مروان: ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت منهم ذلك، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قِبَل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً، مع أنّي أعلم أنّ الحسين بن عليّ لا يُجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة. والله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان.

وعظم ذلك على الوليد؛ فقد اختار له مروان هلاك دينه ودنياه، فقال له: يا ليت الوليد لم يولد، ولم يك شيئاً مذكوراً!

وسخر منه مروان، وراح يندّد به قائلاً: لا تجزع ممّا قلت لك؛ فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولم

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

١٨٨

يزالوا، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان، ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين - يعني معاوية - فحاربوه.

ونهره الوليد ونصحه قائلاً: ويحك يا مروان عن كلامك هذا! وأحسن القول في ابن فاطمة؛ فإنّه بقيّة النبوّة(١) . واتّفق رأي الوليد ومروان على استدعاء الإمام الحسين (عليه السّلام) وابن الزّبير، وعرض الأمر عليهما والنظر في رأيهما.

استدعاء الحسين (عليه السّلام)

وأرسل الوليد في منتصف الليل(٢) عبد الله بن عمرو بن عفان خلف الإمام الحسين (عليه السّلام) وابن الزّبير، ومضى الفتى يدعوهما فوجدهما في الجامع النبوي فعرض عليهما الأمر فأجاباه إلى ذلك وأمراه بالانصراف، والتفت ابن الزّبير إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

فأجابه الإمام:«أظنّ أنّ طاغيتهم - يعني معاوية -قد هلك، فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر» . واستصوب ابن الزّبير رأي الإمام (عليه السّلام) قائلاً: وأنا ما أظنّ غيره، فما تريد أن تصنع؟

-«أجمع فتياني في الساعة ثمّ أسير إليه، وأجلسهم على الباب» .

وانبرى ابن الزّبير يبدي مخاوفه على الإمام (عليه السّلام) قائلاً:

____________________

(١) الفتوح ٥ / ١٢ - ١٣، ذكرنا عرضاً مفصّلاً للأسباب التي دعت مروان إلى هذا الموقف مع المعارضة في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٦٠.

١٨٩

إنّي أخاف عليك إذا دخلت.

-«لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» (١) .

واتّجه الإمام الحسين (عليه السّلام) صوب الوليد، فلمّا التقى به نعى إليه معاوية، فاسترجع الإمام (عليه السّلام) وقال له:«لماذا دعوتني؟» .

- دعوتك للبيعة.

فطلب منه الإمام تأجيل البيعة قائلاً:«إنّ مثلي لا يُبايع سرّاً، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم، فكان الأمر واحداً» .

لقد أراد الإمام (عليه السّلام) أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده، فصاح بالوليد: لئن فارقك - يعني الحسين - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه؛ احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه.

ووثب أبيّ الضيم كالأسد، فقال للوزغ ابن الوزغ:«يابن الزرقاء! أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت» (٢) . وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل لبيعة يزيد قائلاً:«أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة» (٣) .

____________________

(١)(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٤.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٥.

١٩٠

وكان هذا أوّل إعلان من الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد هلاك معاوية في رفضه البيعة ليزيد.

لقد أعلن ذلك في بيت الإمارة من دون مبالاة ولا خوف من السلطة، كيف يبايع حفيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يزيد الفاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة؟

ولو بايعه فأقرّه إماماً على المسلمين، عرّض العقيدة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار، وعصف بها في متاهات سحيقة من محامل هذه الحياة.

واستاء مروان من موقف الإمام (عليه السّلام)، ووجّه لوماً وعتاباً إلى الوليد قائلاً: عصيتني! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

وردّ عليه الوليد ببالغ الحجّة قائلاً: ويحك يا مروان! أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي. والله ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أأقتل حسيناً أن قال: لا أُبايع؟! والله ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم.

وسخر منه مروان وراح يقول: إذا كان هذا رأيك فقد أصبت(١) .

مغادرة الإمام (عليه السّلام) يثرب

وعزم الإمام (عليه السّلام) على مغادرة يثرب ليلوذ بالبيت الحرام، وينشر دعوته فيه.

وداعه لقبر جدّه (صلّى الله عليه وآله)

وخفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى قبر جدّه وهو حزين كئيب، يشكو إلى الله ما ألمّ به من الخطوب قائلاً:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٠.

١٩١

«اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضاً، ولرسولك رضاً» (١) .

ويُلمس في هذا الدعاء مدى انقطاعه الكامل إلى الله تعالى، وحبّه العارم إلى إقامة المعروف وتدمير الباطل، وهو يسأل الله بلهفة أن يختار له الصالح في دينه ودنياه.

وتوجّه الإمام (عليه السّلام) في غلس الليل البهيم إلى قبر اُمّه سيّدة نساء العالمين فودّعها الوداع الأخير، ووقف قبال قبرها الشريف، وتمثّلت أمامه ذكريات عواطفها الفيّاضة وشدّة حنوّها عليه فانفجر بالبكاء، وذابت نفسه أسى وحسرات، ثم ودّع القبر وداعاً حارّاً وانصرف إلى مرقد أخيه الزكي الإمام أبي محمّد (عليه السّلام)، فأخذ يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به الآلام، ثمّ قفل راجعاً إلى منزله.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٩.

١٩٢

إلى مكّة

وبعدما أعلن الإمام (عليه السّلام) رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكة المشرّفة ليبثّ دعوته فيها، وقد دعا العقيلة اُخته السيدة زينب (عليها السّلام) وعرّفها بعزمه وما سيجري عليه من الأحداث، وطلب منها أن تشاركه في محنته فاستجابت له، وصمّمت على مساعدته في نهضته وثورته التي يقيم فيها الحقّ ويدحر الباطل، كما دعا أولاده وزوجاته، وإخوته وبني عمومته إلى مصاحبته، فلبّوا جميعاً ولم يتخلّف منهم أحد إلاّ لعذر قاهر.

ولمّا أصبحوا جاء الموالي بالإبل فحملوا عليها الخيام وأدوات المياه والأرزاق وغيرها، وأعدّوها للسفر، وخرجت حفيدة الرسول السيدة زينب تجرّ أذيالها ونفسها مترعة بالهموم والآلام، وقد أحاطت بها جواريها، وكان إلى جانبها أخوها أبو الفضل العباس قمر بني هاشم، فكان هو الذي يتولّى رعايتها وخدماتها، وقد مُلئت نفسه إجلالاً وإكباراً وولاءً لها.

واستقلّت الإبل بعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحدا بهم الحادي إلى مكّة المكرّمة، وقد خيّم الحزن والأسى على المدنيّين حينما رأوا آل النبي (صلّى الله عليه وآله) قد نزحوا عنهم إلى غير مئاب.

وكان سيد الشهداء (عليه السّلام) يتلو في طريقه قوله تعالى:( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة القصص / ٢١.

١٩٣

لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس، وسلك (عليه السّلام) في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب، فامتنع وأجاب:«لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى» .

لقد رضي بما كتب الله وقدّر له، لم تضعف همّته ولم توهن عزيمته، ولم يبالِ بالأحداث المروعة التي سيواجهها، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ:

لا ذعرتُ السوام في فلق الصب = -حِ مُغيراً ولا دعيت يزيدا

يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً = والمنايا ترصدنني أن أحيدا(١)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبّار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد.

احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام (عليه السّلام)

وانتهى الإمام (عليه السّلام) إلى مكة المكرّمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان(٢) ، وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(٣) ، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم.

____________________

(١) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٠.

(٣) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

١٩٤

وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله، ويتبرّكون بتقبيل يده ويلتمسون منه العلم والحديث، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام، ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم.

فزع السلطة المحلّيّة

وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام (عليه السّلام)، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد، وقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام (عليه السّلام)، وقال له: ما أقدمك؟

-«عائذاً بالله وبهذا البيت» (١) .

لقد جاء الإمام (عليه السّلام) إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً من كلّ ظلم واعتداء. ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام (عليه السّلام)، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة واختلاف الناس إليه، وازدحامهم على مجلسه، وإجماعهم على تعظيمه، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة.

واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق، فرفع إلى ابن عباس رسالة يُمنّي فيها الإمام الحسين (عليه السّلام) بالسلامة إن استجاب لبيعته، ويتهدّده إن لم يستجب لذلك.

وقد أجابه ابن عباس: أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلّيّة له، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه، وقد ذكرنا ذلك في (حياة الإمام الحسين - نصّ رسالة يزيد وجواب ابن عباس).

____________________

(١) انظر تذكرة الخواصّ / ٢٤٨.

١٩٥

إعلان التمرّد في العراق

وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام(١) .

وعلى أيّ حال، فإنّ أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي، وهو من أكابر زعمائهم، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويِّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام).

وكان من جملة الخطباء سليمان بن صرد، وقد جاء في خطابه: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد قبض على القوم بيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

وتعالت أصواتهم من كلّ جانب، وهم يقولون بحماس بالغ: نقتل أنفسنا دونه، نقاتل عدوّه. وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين (عليه السّلام)، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم.

وفود أهل الكوفة للإمام (عليه السّلام)

وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام (عليه السّلام) يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم؛ لينقذهم

____________________

(١) العقيدة والشريعة في الإسلام / ٦٩.

١٩٦

من ظلم الاُمويِّين وجورهم، ويعلنون دعمهم الكامل له، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي(١) .

رسائل أهل الكوفة

وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام (عليه السّلام) يحثّونه على القدوم إليهم؛ لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويِّين.

وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام، وجاء فيها بعد البسملة: من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجيّة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد - يعني معاوية - الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود!

إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. واعلم أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته(٢) .

كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي، ومحمد بن عمر التميمي، وحجّار بن أبجر العجلي، ويزيد بن الحارث الشيباني، وعزرة بن قيس الأحمسي، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وهذا نصّها:

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٥.

(٢) أنساب الأشراف / ١٥٧.

١٩٧

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام(١) ، فاقدم على جند لك مجنّدة، والسّلام عليك(٢) .

وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام (عليه السّلام) ومناجزة خصومه، وقد وقّعها اُولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله، وكانوا في طليعة القوى العسكريّة التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام (عليه السّلام).

وعلى أيّ حال، فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام حتّى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب، ووردت عليه قائمة فيها مئة وأربعة ألف اسم يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرّهم.

ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين (عليه السّلام) لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه، وتسبي عياله، وهكذا شاءت المقادير ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه.

إيفاد مسلم إلى العراق

وعزم الإمام (عليه السّلام) على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة.

وزوّده بهذه الرسالة:«من الحسين بن علي إلى مَنْ بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم. أمّا بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل؛ ليعلم لي كُنه

____________________

(١) الجمام: الآبار.

(٢) أنساب الأشراف / ١٥٨ - ١٥٩.

١٩٨

أمركم، ويكتب إليّ بما يتبيّن له من اجتماعكم؛ فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله، والسّلام)) (١) .

مسلم في بيت المختار

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي(٢) ، وهو من أشهر أعلام الشيعة، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين (عليه السّلام).

وفتح المختار أبواب داره لمسلم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا الشيعة لمقابلته، فهرعوا إليه من كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام) وهم يبكون، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له؛ ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وينقذهم من جور الاُمويِّين وظلمهم.

البيعة للحسين (عليه السّلام)

وانهالت الشيعة على مسلم تبايع للإمام الحسين (عليه السّلام)، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين (عليه السّلام)(٣) ، وكان عدد المبايعين أربعين ألفاً، وقيل أقلّ من ذلك(٤) .

رسالة مسلم للحسين (عليه السّلام)

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة، وبُهر من العدد الهائل الذين بايعوا

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢١٠.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٥، (مخطوط).

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٤٧.

(٤) وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه.

١٩٩

الحسين (عليه السّلام) فكتب له: أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(١) ، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا؛ فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى.

لقد حكت مسلم هذه الرسالة أنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام (عليه السّلام)، وتلهّفاً حارّاً لقدومه، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين (عليه السّلام) للخروج من مكة إلى العراق.

فزع يزيد

وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام)، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام.

وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه، فاستدعى سرجون الرومي، وكان مستودع أسرار أبيه، ومن أدهى الناس، وعرض عليه الأمر قائلاً: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان - وهو والي الكوفة - ضعف وقول سيِّئ، فما ترى مَنْ استعمل على الكوفة؟

وأخذ سرجون يُطيل التأمّل حتّى توصّل إلى نتيجة حاسمة، فقال له: أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذ رأيه.

- نعم.

فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال له: هذا رأي معاوية، وقد مات، وقد أمر بهذا الكتاب(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ينقص عن يوم وليلة ، وأن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً على الاتصال ليمكن جعله استحاضة ، والقوي الذي يليه حيض آخر ، فلو رأت يوماً وليلة دماً قوياً وأربعة عشر ضعيفا ، ثم عاد القوي فقد فُقد الشرط الثالث(1) .

وبم نعتبر القوة والضعف؟ وجهان : اللون ، فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر ، والأحمر قوي بالنسبة إلى الاشقر ، والرائحة والثخانة ، فذو الرائحة الكريهة قوي والثخين قوي ، ولو حصل في دم خصلة وفي آخر اثنتان فهو أقوى ، ولو كان في واحد خصلة وفي آخر أخرى فالمتقدم أقوى(2) .

وشرط في قول له رابعاً ، وهو أن لا يزيد القوي والضعيف على ثلاثين يوماً ، فإن زاد سقط حكم التمييز ، لأنّ الثلاثين لا تخلو عن حيض وطهر في الغالب(3) .

يب ـ لو رأت بعد الأسود حمرة ، ثم صفرة ، فإن انقطع على العشرة فالجميع حيض ، وإن تجاوز فالصفرة استحاضة ، ثم الاولان إن زادا على العشرة فالحمرة استحاضة ، وهو أحد وجهي الشافعي ، والثاني : إلحاقها بالسواد ، فتكون فاقدة التمييز(4) ، وإن لم يتجاوزا ففي إلحاق الحمرة بالسواد أو الصفرة احتمال ، أقربه الثاني احتياطاًً للعبادة وللقوة والاولوية ، وأقوى الوجهين للشافعي الأول(5) لأنّهما قويان بالنسبة إلى ما بعدهما.

يج ـ قد بيّنا أن الاعتبار عندنا باللون لا بالتقدم ، فلو رأت خمسة حمرة وخمسة سواداً ثم استمرت الحمرة ، فالأسود حيض والطرفان استحاضة ، وهو

__________________

1 ـ المجموع 2 : 404 ، فتح العزيز 2 : 451 ، مغني المحتاج 1 : 113 ، شرح النووي لصحيح مسلم 2 : 391.

2 ـ المجموع 2 : 403 ـ 404.

3 ـ المجموع 2 : 404.

4 ـ المجموع 2 : 406 ـ 407.

5 ـ المجموع 2 : 407.

٣٠١

أظهر وجوه الشافعي ، والثاني : الجمع بين الحمرة والسواد ، فالعشرة حيض للقوة بالأولوية ، والثالث : سقوط التمييز(1) .

البحث الثاني : في المعتادة

و هي قسمان :

الأول : الذاكرة لعادتها عدداً ووقتاً. فإذا تجاوزت العادة ، فإن لم يتجاوز الأكثر فالجميع حيض ، سواء تقدمت العادة أو توسطت أو تأخرت إجماعاً ، وإن تجاوز العشرة ولاتمييز لها رجعت إلى عادتها عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي وأبوحنيفة وأحمد(2) ـ لقولهعليه‌السلام :(دعي الصلاة قدر الايام التي كنت تحيضهن ثم اغتسلي وصلي)(3) .

وقول الصادقعليه‌السلام : « المستحاضة تنظر أيامها أولا ، فلا تصلّي فيها »(4) وقال الباقرعليه‌السلام : « المستحاضة تقعد أيام قرئها ثم تحتاط بيوم أو يومين »(5) .

وقال مالك : تستظهر بعد أيامها بثلاثة إن لم يتجاوز خمسة عشر ، ثم هي بعد ذلك مستحاضة(6) ، وهو يناسب ما ذكرناه إلّا في زيادة يوم الاستظهار وفي عدد الاكثر.

__________________

1 ـ المجموع 2 : 407.

2 ـ المجموع 2 : 415 ـ 416 ، المغني 1 : 362 ، فتح العزيز 2 : 471 ، المبسوط للسرخسي 3 : 178.

3 ـ صحيح مسلم 1 : 264 / 334 ، سنن ابن ماجة 1 : 204 / 623 ، سنن النسائي 1 : 182 ، سنن أبي داود 1 : 72 / 279 ، سنن البيهقي 1 : 330 و 331 ، سنن الدارقطني 1 : 212 / 35 و 38.

4 ـ الكافي 3 : 88 / 2 ، التهذيب 1 : 106 / 277.

5 ـ التهذيب 1 : 171 / 488 ، الاستبصار 1 : 149 / 512.

6 ـ المدونة الكبرى 1 : 50 ، بداية المجتهد 1 : 51 ، المنتقى للباجي 1 : 124 ، بُلغة السالك 1 : 80.

٣٠٢

وإن كانت مميزة ، فإن اتفق زمانا التمييز والعادة فلا بحث ، وإن اختلف ، إمّا بالزمان ، كما لو كانت عادتها ( الخمسة الاُولى ، فرأت في شهر الاستحاضة صفة الحيض في )(1) الخمسة الثانية ، أو بالعدد ، كما لو رأت الستة الاُولى بصفة دم الحيض أو أربعة ، فللشيخ قولان : الرجوع إلى العادة(2) ـ وهو الاشهر ـ وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وبعض الشافعية(3) ، لما تقدم في الأحاديث.

وقال مالك : الاعتبار وبالتمييز(4) ، وهو القول الثاني للشيخ(5) ، وظاهر مذهب الشافعي(6) ، لقولهعليه‌السلام لفاطمة بنت أبي حبيش : ( ان دم الحيض أسود يعرف ، فإذا أقبلت فاتركي الصلاة )(7) وهو محمول على المبتدأة ، ولأن العادة أقوى فإنها لا تبطل دلالتها ، والتمييز لو زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته.

__________________

1 ـ بين القوسين ساقط من نسخة ( م ).

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 48.

3 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 178 ، المجموع 2 : 431 ، فتح العزيز 2 : 476 ، المغني 1 : 366 ، الشرح الكبير 1 : 367 ، بداية المجتهد 1 : 55 ، مغني المحتاج 1 : 115 ، السراج الوهاج : 32.

4 ـ بداية المجتهد 1 : 54 ، فتح العزيز 2 : 478.

5 ـ المبسوط للطوسي 1 : 49.

6 ـ المجموع 2 : 431 ، فتح العزيز 2 : 476 ، مغني المحتاج 1 : 115 ، المغني 1 : 366 ، الشرح الكبير 1 : 367 ، بداية المجتهد 1 : 55.

7 ـ سنن النسائي 1 : 123 و 185 ، سنن أبي داود 1 : 82 / 304 ، سنن البيهقي 1 : 325 ، سنن الدارقطني 1 : 207 / 3 ـ 6 ، المستدرك للحاكم 1 : 174.

٣٠٣

فروع :

أ ـ لو رأت العادة وقبلها وبعدها أو أحدهما ، فإن لم يتجاوز فالجميع حيض ، وإلّا العادة.

ب ـ العادة قد تتقدم وقد تتأخر ، فالضابط العدد مع النقاء.

ج‍ ـ العادة قد تتفق بأن يتساوى عددها في كلّ شهر ، وقد تختلف إمّا على نهج واحد كثلاثة في الأول ، وأربعة في الثاني ، وخمسة في الثالث ، وثلاثة في الرابع ، وأربعة في الخامس ، وخمسة في السادس ، وهكذا.

فاذا استحيضت في شهر ، فإن عرفت نوبته عملت عليه ، ثم على الذي بعده على العادة ، وان نسيت نوبته ، فإن جهلت بالكلية تحيضت بالاقل ، ثم تعمل إلى الاقصى ما تعمله المستحاضة وتغتسل في كلّ وقت يحتمل انقطاع دم الحيض فيه ، ثم تعمل باقي الشهر ما تعمله المستحاضة ، وإن عرفت أنّه أكثر حيضناها بأقل المحتمل كالاربعة ، ثم تعمل ما تقدم أولا على نهج واحد ، كأن تحيض من شهر ثلاثة ، ومن الثاني خمسة ، ومن الثالث أربعة ، وأشباه ذلك ، فإن أمكن ضبطه ويعتاد على وجه لا يختلف فكالأول ، وإن كان غير مضبوط جلست الأقل من كلّ شهر.

د ـ قد بيّنا أن العادة قد تحصل بالتمييز ، فلو رأت المبتدأة خمسة أسود في أول الشهر والباقي أحمر أو أصفر ، ثم في أول الثاني كذلك ، ثم استحيضت في الثالث ردت إلى الخمسة ، سواء رأت الخمسة بصفة دم الحيض أو لا ، وللشافعي وجه آخر : عدم النظر إلى التمييز السابق بعد بطلانه(1) .

__________________

1 ـ اُنظر المجموع 2 : 431.

٣٠٤

هـ ـ لو قصرت العادة عن العشرة فرأت العشرة صفرة أو كدرة ثم انقطع فالجميع حيض عندنا ـ وهو أظهر وجوه الشافعية ، وبه قال مالك ، وربيعة ، وسفيان ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، ومحمد ، وأحمد ، وإسحاق(1) ـ لقوله تعالى :( ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى ) (2) والصفرة والكدرة أذى ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض وفي أيام الطُهر طهر »(3) .

وله آخر ـ وبه قال أحمد في رواية ـ أنّه ليس لهما حكم الحيض لأنّهما ليسا على لون الدماء ، وإنّما الصفرة شيء كالصديد يعلوه صفرة ، والكدرة شيء كدر(4) ، ولمّا روي عن اُم عطية ـ وكانت قد بايعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قالت : كنا لا نعد الصفرة والكدرة حيضاً(5) والأول أصح نقلاً.

وله ثالث : إنّ سبق دم قوي من سواد أو حمرة فهما بعده حيض ، وإلّا فلا ، لأنّ الدم يظهر قويا ثم يرق ويضعف(6) .

وله رابع : إنّ تقدمه وتأخره دم قوي فالوسط حيض وإلّا فلا(7) .

وله قولان في المتقدم والمتأخر ، أحدهما : قدر يوم وليلة ، والثاني :

__________________

1 ـ المجموع 2 : 392 و 395 ، فتح العزيز 2 : 486 ، الوجيز 1 : 27 ، بُلغة السالك 1 : 78 ، بداية المجتهد 1 : 53 ، المغني 1 : 383 ، الشرح الكبير 1 : 383 ، المبسوط للسرخسي 3 : 150 ، شرح العناية 1 : 144 ، الهداية للمرغيناني 1 : 30 ، المحلى 2 : 168 ـ 169.

2 ـ البقرة : 222.

3 ـ أورده نصاً في المبسوط 1 : 44 ، وفي الكافي 3 : 78 / 1 و 3 ، والتهذيب 1 : 396 / 1230 بمعناه.

4 ـ المجموع 2 : 389 و 392 ، فتح العزيز 2 : 487 ، الوجيز 1 : 27.

5 ـ صحيح البخاري 1 : 89 ، سنن أبي داود 1 : 83 / 307 ، المستدرك للحاكم 1 : 174 ، سنن الدارمي 1 : 214.

6 ـ المجموع 2 : 392 ، الوجيز 1 : 27 ، فتح العزيز 2 : 488.

7 ـ المجموع 2 : 393 ، فتح العزيز 2 : 488.

٣٠٥

لحظة واحدة(1) .

و قال أبو يوسف : الصفرة حيض ، والكدرة ليست حيضاً إلّا أن يتقدمها دم(2) ، وقال أبو ثور : إنّ تقدمها دم أسود فهما حيض ، واختاره ابن المنذر(3) ، وقال داود : ذلك ليس بحيض(4) .

أما المبتدأة فلو رأت صفرة أو كدرة في أيام ردها إلى عادة أهلها فالوجه أنّه حيض ، وهو أحد قولي الشافعي ، والآخر : إنّ فيه الاقوال الاربعة(5) .

ا لقسم الثاني : الناسية وأقسامها ثلاثة :

الأول : نسيت العدد والوقت معاً ، وتسمى المتحيرة ، فللشيخ قولان :

أحدهما : أنها تترك الصلاة والصوم في كلّ شهر سبعة أيام ، وتفعل في الباقي ما تفعله المستحاضة وتغتسل ، ولا قضاء عليها في صلاة ولا صوم ، واستدل بإجماع الفرقة(6) .

والثاني : قال في المبسوط : تفعل ما تفعله المستحاضة ثلاثة أيام من أول الشهر ، وتغتسل فيما بعد لكلّ صلاة يحتمل الانقطاع عندها إلى آخر الشهر ، وتصوم الشهر كله ، ولا تُطلَّق هذه(7) .

____________

1 ـ المجموع 2 : 393 ، فتح العزيز 2 : 489.

2 ـ المبسوط للسرخسي 2 : 18 ، الهداية للمرغيناني 1 : 30 ، شرح العناية 1 : 144 ، المجموع 2 : 395 ـ 396 ، عمدة القارئ 3 : 298 ، بداية المجتهد 1 : 53 ، المحلى 2 : 169 ، حلية العلماء 1 : 220.

3 ـ المجموع 2 : 396 ، المغني 1 : 383 ، المحلى 2 : 169 ، حلية العلماء 1 : 220.

4 ـ حلية العلماء 1 : 221.

5 ـ المجموع 2 : 393 ـ 394.

6 ـ الخلاف 1 : 242 مسألة 211.

7 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

٣٠٦

وقال بعض علمائنا : تجلس عشرة أيام ـ وهو أكثر الحيض ـ لأنّه زمان يمكن أن يكون حيضاً(1) .

وللشافعي قولان ، أصحهما : أنّه لا حيض لها في زمان بعينه ، اذ جميع زمانها مشكوك فيه ، فتغتسل لكلّ صلاة وتصوم ، ولا يأتيها زوجها ما دامت مستحاضة(2) ـ وهو القول الثاني للشيخ ـ لأنّه ما من زمان إلّا ويحتمل الحيض والطهر ، وليس هنا أصل يرد إليه ، ولا يمكن إثبات أحكام الحيض بالشك ، فأمرناها بالاحتياط.

الثاني : أنها تُردّ إلى يوم وليلة كالمبتدأة التي لا عادة لها ، وهو رواية عن أحمد(3) .

وله قول ثالث : أنها تُردّ إلى ستة أو سبعة ، وبه قال أحمد كالمبتدأة(4) ، وهو الاشهر عندنا لقولهعليه‌السلام لحمنة : ( تحيضي في علم الله ستة أو سبعة أيام ثم اغتسلي )(5) الحديث.

فروع :

أ ـ إذا قلنا بالقول الأول للشيخ ، فالوجه أنها تتخير في الستة أو السبعة أيهما شاء‌ت بالاجتهاد جعلتها الحيض لعدم التنصيص ، فلولا

__________________

1 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 55.

2 ـ المجموع 2 : 433 ، الوجيز 1 : 28 ، فتح العزيز 2 : 491 ـ 492 و 494 ـ 495 ، مغني المحتاج 1 : 116.

3 ـ المجموع 2 : 434 ، الوجيز 1 : 27 ، فتح العزيز 2 : 491 ، المغني 1 : 370 ، مغني المحتاج 1 : 116.

4 ـ المجموع 2 : 434 ، فتح العزيز 2 : 393 ، مغني المحتاج 1 : 116 ، المغني 1 : 370 ، الشرح الكبير 1 : 375.

5 ـ سنن ابي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 222 ـ 223 / 128 ، مسند أحمد 6 : 381 ـ 382 ، المستدرك للحاكم 1 : 172 ـ 173 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

٣٠٧

التخيير لوجب البيان.

ويحتمل أن يكون أول الشهر حيضاً ، لأنّ الحيض جبلة والاستحاضة عارضة.

ب ـ كما أنها تجتهد في الزمان فكذا تجتهد في العدد بين ستة وسبعة لقوله : ( ستاً أو سبعاً )(1) ويحتمل التخيير ، وعلى قول بعض علمائنا تتعين السبعة(2) ، ولها أن تتحيض في الشهر الأول بثلاثة ، وفي الثانية بعشرة كالمبتدأة.

ج‍ ـ الناسية إنّ كانت جاهلة بشهرها ، رددناها إلى الشهر الهلالي ، فحيضناها في كلّ شهر حيضة ، لحديث حمنة(3) ، ولأنّه الغالب.

وإن كانت عالمة بشهرها حيضناها في كلّ شهر من شهورها حيضة ، لأنّها عادتها فترد إليها كما ترد المعتادة إلى عادتها في عدد الايام وزمانها.

د ـ لو جلست أياماً ثم ذكرت أن عادتها غيرها رجعت إلى عادتها وقضت ما تركت أيام جلوسها ، فلو كانت عادتها ثلاثة من آخر الشهر فجلست السبعة السابقة ، ثم ذكرت قضت ما تركت من الصلاة والصيام في السبعة ، وقضت ما صامت من الفرض في الثلاثة.

هـ ـ الناسية إنّ كانت ذات تمييز عملت عليه ، لتعذر العمل بالعادة ، وهو أظهر قولي الشافعي ، وفي الآخر : لا حكم للتمييز ، لأنّ العادة مقدمة(4) .

__________________

1 ـ سنن أبي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 223 / 128 ، مسند أحمد 6 : 382 ، المستدرك للحاكم 1 : 173 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

2 ـ هو المحقق في المعتبر : 55.

3 ـ سنن أبي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 222 / 128 ، مسند أحمد 6 : 381 ، المستدرك للحاكم 1 : 172 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

4 ـ المجموع 2 : 433 و 434 ، فتح العزيز 2 : 490.

٣٠٨

و ـ قال القفال : إذا كانت مجنونة فأفاقت فابتداء حيضها من وقت الافاقة لتوجه التكليف حينئذ(1) .

مسألة 97 : المتحيرة إن قلنا بالقول الثاني للشيخ(2) ، فطريق معرفة حكمها أن تنظر في أوقاتها ، فإن كانت تذكر شيئاً من أمر حيضها وطُهرها فكل زمان لا يحتمل أن يكون حيضاً فهو طُهر بيقين ، وكل زمان لا يحتمل أن يكون طُهراً فهو حيض بيقين ، وكل زمان يحتملهما ولم يحتمل الانقطاع تعمل ما تعمله المستحاضة ، وكل زمان يحتملهما ويحتمل الانقطاع أضافت إلى فعل المستحاضة الغُسل عند كلّ صلاة لاحتماله.

ينبغي اعتماد الاحتياط في اُمور ثمانية :

أ ـ الاستمتاع ، فيحرم على الزوج وطؤها قُبلا طول الشهر ، وفي وجه للشافعي : جواز الوطء خوفاً من الوقوع في الفساد(3) .

ب ـ الطلاق ، قال الشيخ : لا يصح طلاق هذه(4) ، ولو قيل : إنّ الطلاق يحصل بإيقاعه في أول يوم ، وأول الحادي عشر أمكن ، وعدتها تنقضي بثلاثة أشهر.

ج‍ ـ تُؤدي كلّ صلاة بغسل ووضوء ، ولا تقضي الصلاة المؤداة في أوقاتها ـ وهو أحد وجهي الشافعي(5) ـ لأنّها إنّ كانت طاهراً صحّ الاداء ، وإلّا سقط القضاء ، ولأن فيه حرجاً عظيماً. ويحتمل الوجوب لاحتمال انقطاع الحيض في خلال الصلاة ، أو في آخر الوقت ، وربما ينقطع قبل غروب

__________________

1 ـ المجموع 2 : 436 ، فتح العزيز 2 : 493.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

3 ـ المجموع 2 : 437 ، الوجيز 1 : 28 ، فتح العزيز 2 : 494 ، مغني المحتاج 1 : 116.

4 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51. المجموع 2 : 442 ، فتح العزيز 2 : 495 ، الوجيز 1 : 28.

٣٠٩

الشمس فيلزمها الظهر والعصر ، وقبل نصف الليل فيلزمها المغرب والعشاء فتغتسل في أول وقت الصبح وتصليها ، ثم تغتسل بعد طلوع الشمس وتعيدها ، لاحتمال أنّه انقطع بعدما صلّت المرة الاُولى ، ولزمها الصبح فتخرج عن العهدة بالثانية ، لأنّها إنّ كانت طاهرة في الاُولى وإلّا فإن انقطع في الوقت صحت الثانية وأجزأت ، فإن لم ينقطع فلا شيء عليها.

ولا يُشترط المبادرة إلى المرة الثانية بل متى اغتسلت وصلّت الصبح قبل انقضاء أكثر الحيض من أول وقت الصبح خرجت عن العهدة ، لأنّ الدم لو انقطع في الوقت لم يعد إلّا بعد انقضاء الأكثر ، وتُصلّي العصر والعشاء مرتين كذلك.

ولا تكتفي بأن تُعيد الظهر المرة الثانية في أول وقت العصر ، ولا أن تُعيد المغرب في أول وقت العشاء ، بل تُعيد الظهر في الوقت الذي يجوز إعادة العصر فيه وهو ما بعد الغروب ، والمغرب في الوقت الذي يجوز إعادة العشاء فيه وهو ما بعد نصف الليل لجواز انقطاعه في آخر وقت العصر بقدر ما يلزم به الظهر ، وكذا المغرب ، ثم إنّ أعادت الظهر والعصر بعد الغروب قبل أن تُؤدي المغرب كفاها للظهر والعصر غسل واحد ، ثم تغتسل للمغرب والعشاء ، لأنّه إنّ انقطع الدم قبل الغروب فقد اغتسلت ، والانقطاع لا يتكرر ، وإن لم ينقطع قبل الغروب فليس عليها ظهر ولا عصر ، وإنّما اغتسلت للمغرب لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر ، أو العصر ، أو عقيبهما ، وإن أخرتهما عن المغرب كفاها غسل المغرب لهما ، لعدم تكرر الانقطاع ، وتتوضأ لما لا تغتسل لها من هذه الصلوات ، كالمستحاضة ، وهو الثاني للشافعي(1) .

__________________

1 ـ المجموع 2 : 443 ، فتح العزيز 2 : 496 ، مغني المحتاج 1 : 117.

٣١٠

د ـ إذا وجب عليها قضاء فائتة قضتها ثلاث مرات ، كلّ مرّة بغسل ووضوء ، وأقل زمان يتصور فيه سقوط الفرض بيقين عشرة أيام ولحظتان ، فيقدر كأنها تغتسل وتُصلّي في زمان يبقى بينه وبين طلوع الشمس غسل وصلاة ، ثم يحتسب من وقت طلوع الشمس عشرة أيام ، فتغتسل وتقضي الصلاة في العشرة أي وقت شاء‌ت.

ثم إذا كملت العشرة اغتسلت وقضت الثالثة ، لأنّها إنّ كانت طاهراً في جميع المدة فالأول صحيح وما بعده زيادة ، وإن قدر ابتداء حيضها كان في صلاتها الاُولى فقد تمت لها عشرة أيام قبل الفعل الأخير ، فصح غسلها وصلاتها في الانتهاء ، وإن قدر أنها كانت في ابتداء الاُولى في آخر حيض فانقطع في أثنائها وفي الثالثة عاودها الحيض صحت الثانية.

هـ ـ إذا كان عليها طواف كان طريق أدائه كطريق قضاء الفائتة ، وتُصلّي بعد كلّ طواف ركعتين ، وليس عليها لاجل الركعتين غسل ، لأنّه مع الطواف كالعصر مع الظهر ، ويجب الوضوء ـ خلافاً للشافعي(1) ـ لتعدد الوضوء بتعدد الصلاة ، وكذا عنده إلّا هنا ، لأنّ الركعتين من توابع الطواف ، فجعلهما تبعا في الطهارة.

و ـ إذا كان عليها قضاء صوم يوم صامت يوماً متى شاء‌ت وتفطر الثاني ، ثم تصوم آخر قبل العاشر ، ثم الثاني عشر ، لأنّها إمّا طاهر في الأول فصح القضاء فيه أو غير طاهر ، فإما أن تكون فيه حائضاً في جميعه فينقطع حيضها قبل الثاني عشر ، فيُجزئها الثاني عشر ، أو ما قبل العاشر ، أو في بعضه ، فإن كان في أوّله وانقطع في أثنائه كانت طاهراً في العشرة فصح الثاني ، وإن كانت حائضاً في آخره وابتدأ به فغايته إلى الحادي عشر ، وتكون طاهراً في الثاني عشر.

__________________

1 ـ المجموع 2 : 476.

٣١١

ولو كان عليها قضاء يومين فصاعداً ضعفت ما عليها وتزيد عليه يومين وتصوم نصف المجموع متى شاء‌ت ، والنصف الآخر من أول الحادي عشر ، فلو كان عليها يومان تضعّف وتزيد يومين يكون المجموع ستة ، تصوم منها ثلاثة متى شاء‌ت ، وثلاثة من الحادي عشر من صومها الاول.

فإن كانت الثلاثة الاُولى في الطُهر فذاك ، وإن كانت في الحيض فغايته الانتهاء إلى الحادي عشر بتقدير أن يكون الابتداء في اليوم الأول ، فيقع اليومان الآخران في الطُهر ، وإن كان بعضها في الحيض دون بعض فإن وقع الأول في الطُهر صحّ مع الثالث عشر ، وإن وقع اليومان الاولان في الطُهر أجزأ ، وإن وقع اليوم الأخير في الطُهر أجزأ مع الحادي عشر.

ولو صامت ما عليها ولاء بلا زيادة ، وأعادته من الثاني عشر ، وصامت بينهما يومين متواليين أو غير متواليين ، متصلين بأحد النصفين أو غير متصلين أجزأ.

ز ـ يجب عليها صوم جميع شهر رمضان لاحتمال دوام الطُهر ، ثم تقضي عشرين يوماً عندنا لاحتمال أن تكون العشرة الاُولى حيضاً ، والثانية طُهراً ، والثالثة حيضا.

ولو علمت اتحاد الحيض ، قال علماؤنا : تقضي صوم عشرة احتياطاً ، والوجه قضاء أحد عشر لاحتمال ابتداء الحيض من نصف يوم وانقطاعه في نصف الحادي عشر.

ومن جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوماً ـ كالشافعي(1) ـ أوجب قضاء ستة عشر يوماً فتصوم شهراً آخر بالايام ، فيحصل لها أربعة عشر يوماً ويبقى

__________________

1 ـ الاُم 1 : 67 ، المجموع 2 : 481 ، فتح العزيز 2 : 499 ، الوجيز 1 : 28 ، مغني المحتاج 1 : 117.

٣١٢

عليها يومان ، فتصوم ستة أيام في مدة ثمانية عشر ، فيحصل لها صوم رمضان بأن تصوم ستة وستين يوماً في مدة ثمانية وسبعين يوماً.

قالت الشافعية : لو وجب عليها صوم شهرين متتابعين صامت مائة وأربعين يوماً ، لأنّها تصوم أربعة أشهر بالايام تحصل لها من كلّ شهر أربعة عشر يوماً وتبقى عليها أربعة أيام ، فتصوم عشرين يوماً ، فيحصل لها أربعة أيام فقد خرجت عن الفرض بيقين(1) .

ح ـ منعها عن المساجد وقراء‌ة العزائم ، والغُسل عند كلّ صلاة.

القسم الثاني : ناسية الوقت دون العدد

فإن كان العدد نصف الزمان الذي وقع الشك فيه أو قصر عنه لم يكن لها حيض بيقين ، مثل أن تعلم أن حيضها خمسة أيام من كلّ شهر ولا تعرف عينها ، قال الشيخ : تعمل في جميع الوقت ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل بعد انتهاء العدد في كلّ وقت يحتمل انقطاع دم الحيض فيه ، فتغتسل هذه آخر الخامس ، ثم عند كلّ صلاة إلى آخر الشهر ، إلّا أن تعلم أن الانقطاع في وقت بعينه فتكرر غسل الانقطاع عنده(2) ـ وبه قال الشافعي(3) ـ أخذاً بالاحتياط وتقضي صوم العدد ، ويحتمل أن تتخير في تخصيص الحيض ، كالمتحيرة ، فتجعله حيضاً ، والباقي طهراً.

وللحنابلة وجهان ، أحدهما : التحري بالاجتهاد ، والثاني : جعله في أول الشهر(4) .

____________

1 ـ المجموع 2 : 468.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

3 ـ المجموع 2 : 481 و 483.

4 ـ المغني 1 : 374 ، الشرح الكبير 1 : 373.

٣١٣

وإن زاد العدد على نصف الزمان ، مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول ، فالزائد وضعفه حيض بيقين ، وهو الخامس والسادس لدخولهما فيه على كلّ تقدير ، ثم إمّا أن تتخير في الاربعة الاُولى أو الثانية أو تجتهد وتجعل المتقدمة حيضاً ، أو تحتاط فتعمل ما تعمله المستحاضة فيهما.

ولو كان الحيض سبعة منها فالرابع والسابع وما بينهما حيض بيقين ، ولو كان خمسة وعلمت طهر الأول ، فالزيادة بنصف يوم ، فالسادس حيض بيقين ، ولو علمت طُهر العاشر ، فالخامس حيض بيقين.

وقد فرع الشيخ هنا فروعاً كثيرة(1) تدخل تحت هذا الضابط :

أ ـ لو قالت : كنت أحيض إحدى العشرات وجهلت التعيين ، فليس لها حيض بيقين ، لنقص العدد عن نصف الزمان ، فتعمل ما تعمله المستحاضة جميع الشهر ، وتغتسل آخر كلّ عشرة لاحتمال الانقطاع.

فإن قالت : كنت أحيض عشرة في كلّ شهر وجهلت التعيين فكالأول ، إلّا أنها بعد العشرة الاُولى تغتسل عند كلّ صلاة إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع ، وفي الاُولى تغتسل في آخر كلّ عشر.

ب ـ لو قالت : حيضي عشرة ، وكنت العشر الأوسط طاهراً بيقين وقع الشك في الأول والآخر ، ولا حيض بيقين لمساواة نصف الزمان العدد ، فتعمل فيهما ما تعمله المستحاضة وتغتسل في آخر كلّ منهما لاحتمال الانقطاع. أما لو قالت : كنت العشر الأول طاهراً ، فإن الشك يقع في الأوسط والاخير ، فتعمل فيهما ما تعمله المستحاضة ، ثم تغتسل آخر العشر الأول ، وعند كلّ صلاة إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع ، وكذا لو علمت الطُهر في العشر الأخير.

____________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51 ـ 57.

٣١٤

ج ـ لو قالت : كان حيضي خمسة أيام وكنت يوم الثاني طاهراً فلها يومان ، الأول والثاني طُهر بيقين ، والسادس والسابع حيض بيقين.

وإن قالت : كنت في الثالث طاهراً فالثلاثة الاُولى طُهر بيقين ، والسادس والسابع والثامن حيض بيقين. ولو قالت : كنت يوم الخامس طاهراً فالحيض الخمسة الثانية.

د ـ لو قالت : كان حيضي عشرة من كلّ شهر وكنت يوم السادس طاهراً فالستة الاُولى طُهر بيقين ، ومن السابع إلى آخر السادس عشر طهرُ مشكوك فيه لا يمكن الانقطاع فيه ، تتوضأ فيه لكلّ صلاة ، وبعد السادس عشر إلى آخر الشهر طهرُ مشكوك فيه تغتسل لكلّ صلاة لاحتمال الانقطاع.

فإن قالت : كنت يوم الحادي عشر طاهراً فهو الطُهر بيقين ، والعشر الاُولى مشكوك فيها تغتسل في آخرها لاحتمال الانقطاع ، ومن الثاني عشر إلى آخر الحادي والعشرين مشكوك فيه تتوضأ لكلّ صلاة ، ثم تغتسل عند انقضائه إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع.

هـ ـ لو قالت : كان لي في كلّ شهر حيضتان بينهما طهرُ صحيح ولا أعلم موضعهما ولا عددهما ، فليس لها حيض ولا طُهر بيقين عندنا.

أما [ عند ](1) الشافعي(2) ومن وافقه في أقل الحيض وأكثره وأقل الطُهر ، فإن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أوّله ويوما من آخره ، وما بينهما طهر.

وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أوّله ، وأربعة عشر من آخره بينهما خمسة عشر يوماً ، أو بالعكس ، ويُحتمل ما بين ذلك ، فتتوضأ لليوم الأول لأنّه طهرُ مشكوك فيه ، وتغتسل في آخره ، وتغتسل لكلّ صلاة إلى انقضاء الرابع عشر ، وأما الخامس عشر والسادس عشر فطُهر بيقين ، ثم

__________________

1 ـ زيادة يقتضيها السياق.

2 ـ المجموع 2 : 488.

٣١٥

تغتسل في انقضاء السابع عشر إلى آخر الشهر ، لإمكان انقطاع الدم في كلّ وقت.

و ـ لو قالت : حيضي خمسة في كلّ شهر وكنت في الخمسة الأخيرة طاهراً ولي طهرُ صحيح غيرها ، احتمل أن يكون حيضها الخمسة الاُولى ، والباقي يكون طُهراً ، وكذا الخمسة الثانية والثالثة عندنا.

وقال الشافعي : لا يحتمل الثالثة لأنّه لا يمكن قبلها طهر كامل ولا بعدها سوى الخمسة الأخيرة ، ويحتمل الرابعة أو الخامسة(1) .

فالخمسة الاُولى طهرُ مشكوك فيه ، تتوضأ لكلّ صلاة ، وتغتسل عند انقضائها إلى آخر العاشر لأنّه طهرُ مشكوك فيه.

وكذا من الحادي عشر إلى الخامس عشر ـ وعنده أنّه طُهر بيقين(2) ـ ومن السادس عشر إلى آخر العشرين طهرُ مشكوك فيه ، تتوضأ لكلّ صلاة ، وتغتسل عند انقضائه إلى آخر الخامس والعشرين.

ز ـ لو قالت : حيضي عشرة أيام وكنت اليوم العاشر حائضاً فقد تجاوز العدد نصف الزمان بنصف يوم ، لوقوع الشك في تسعة عشر ، فتعمل من أول الشهر ما تعمله المستحاضة ، ثم تغتسل آخر العاشر لاحتمال أنّه آخره وتفعل ما تفعله المستحاضة إلى آخر التاسع عشر ، وتغتسل عند كلّ صلاة لاحتمال الانقطاع عندها والباقي طهر بيقين.

فإن قالت : الحيض يوم الثاني عشر ، فالاولان طُهر بيقين ، وكذا من الثاني والعشرين إلى آخره ، والباقي مشكوك فيه ، لكن لا تغتسل للأنّقطاع إلّا في آخر الثاني عشر ، وعند كلّ صلاة منه إلى آخر الحادي والعشرين ،

__________________

1 ـ المجموع 2 : 486.

2 ـ المجموع 2 : 486.

٣١٦

فلها يومان من أول الشهر طُهر بيقين ، وكذا تسعة من آخره ، والشك وقع من أول الثالث إلى آخر الحادي والعشرين ، فقد قصر نصف الزمان عن العدد بنصف يوم فالثاني عشر حيض بيقين.

وغلط قلم الشيخ هنا فجعل لها مع اليومين ثمانية أيام من آخره طُهراً(1) ، والحق أنّه تسعة.

ح ـ ولو قالت : حيضي خمسة من الشهر لا أعرفها إلّا أني إن كنتُ يوم السادس طاهراً كنت السادس والعشرين حائضاً ، وإن كنت في السادس حائضاً كنت في السادس والعشرين طاهراً.

وتحقيقه أنها تحيض أحد هذين ، فالأول طُهر بيقين ، وكذا من الحادي عشر إلى آخر الحادي والعشرين ، والباقي مشكوك فيه ، وتغتسل لاحتمال الانقطاع آخر السادس إلى آخر العاشر ، وكذا آخر السادس والعشرين إلى آخر الشهر ، وتفعل في جميع الايام ما تفعله المستحاضة.

فروع ، في الامتزاج :

أ ـ إذا قالت : حيضي عشرة في كلّ شهر ، وكنت أمزج إحدى العشرات بالاُخرى بيوم ، فالأول والثلاثون طُهر بيقين ، والشك وقع بينهما ، فلا حيض لها بيقين ، تعمل ما تعمله المستحاضة جميع الشهر ، وتغتسل آخر الحادي عشر ، وآخر التاسع عشر ، والحادي والعشرين ، والتاسع والعشرين لاحتمال الانقطاع.

قال الشيخ : ويسقط قضاء صوم الأول والثلاثين ، لأنّهما طُهر بيقين ، وتقضي ما عداهما لأنّها صامت مع الشك في الطهارة ، فوجب القضاء.

ثم قال : ولو قلنا : إنّه لا يجب إلّا قضاء عشرة أيام كان صحيحاً ، لأنّه

__________________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 56.

٣١٧

من المعلوم أن الحيض لا يزيد عليها ، وصوم المستحاضة صحيح ، ولا حاجة إلى تجديد النيّة عند كلّ ليلة ، وهذا هو المعول عليه دون الأول ، والأول مذهب الشافعي(1) .

والحكم صحيح ، لكن لا مدخل للتحديد هنا ، والشافعي وافقنا على قضاء أكثر الحيض وهو خمسة عشر في أحد القولين ، وفي الآخر : ستة عشر(2) .

ب ـ لو قالت : كان حيضي عشرة وأمزج العشرة بالاُخرى بيومين ، فيومان من أول الشهر ويومان من آخره طُهر بيقين ، والشك في الباقي تعمل في الجميع ما تعمله المستحاضة ، ولا حيض بيقين لقصور العدد عن نصف الزمان ، وتغتسل آخر الثاني عشر ، والثامن عشر ، والثاني والعشرين ، والثامن والعشرين لاحتمال الانقطاع.

ولو كان المزج بخمسة فلا حيض بيقين ، لمساواة العدد نصف الزمان ، فخمسة من أول الشهر وخمسة من آخره طُهر بيقين ، لكن غسل الانقطاع في آخر الخامس عشر والخامس والعشرين خاصة.

وفرع الشيخ المزج بستة إلى المزج بالتسعة عقيب تفريعه المزج بيوم إلى المزج بستة(3) وهما واحد.

ج ـ لو قالت : حيضي عشرة وأمزج النصف بالنصف بيوم فيومان حيض بيقين واثنا عشر طُهر بيقين ، لزيادة العدد على نصف الزمان بيوم ، هما الخامس عشر والسادس عشر ، ومن السابع إلى الرابع عشر مشكوك فيه ، وكذا من السادس عشر إلى آخر الرابع والعشرين تعمل ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل لاحتمال الانقطاع آخر السادس عشر والرابع والعشرين.

__________________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 60.

2 ـ فتح العزيز 2 : 496.

3 ـ المبسوط للطوسي 1 : 59 ـ 63.

٣١٨

د ـ لو قالت : حيضي تسعة ونصف ، وكنت أمزج أحد النصفين بالآخر بيوم ، والكسر من أوّله ، واليوم الكامل في النصف الثاني ، فستة ونصف من أول الشهر طُهر بيقين ، وتمام السابع إلى آخر السادس عشر حيض بيقين ، ولو كان الكسر من الثاني فبالعكس ، من أول الشهر إلى آخر الرابع عشر طُهر بيقين ، ومن الخامس عشر إلى النصف الأول من الرابع والعشرين حيض بيقين.

ولو قالت : أمزج العشر بالعشر بيوم والكسر من الأول ، فالأول ونصف الثاني طُهر بيقين ، ثم إلى آخر الحادي عشر مشكوك فيه ، فتغتسل في آخره لاحتمال الانقطاع ، ونصف الثاني عشر طُهر بيقين ، ومن النصف الثاني إلى آخر الحادي والعشرين مشكوك فيه ، تغتسل في آخره لاحتمال الانقطاع.

ولو كان الكسر في العشر الثاني فإلى آخر التاسع طُهر بيقين ، ثم يحتمل ابتداء الحيض من أول العاشر ، فآخره النصف الأول من التاسع عشر ، ومن أول التاسع عشر ، فآخره النصف الأول من التاسع والعشرين ، ولا يحتمل أن يكون المزج بين العشرين بيوم والكسر فيهما ، لأنّ العشرين لا تختلط بيوم.

ا لقسم الثالث : ناسية العدد دون الوقت.

فإن ذكرت أول الحيض أكملته ثلاثة بيقين ثم تغتسل في آخر الثالث لاحتمال الانقطاع وتعمل إلى العاشر ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل في كلّ وقت يحتمل الانقطاع.

وإن ذكرت آخره جعلته نهاية الثلاثة ، واغتسلت عنده لاحتمال الانقطاع ، وتعمل فيما بعده عمل المستحاضة لأنّها طاهرة فيه قطعاً وما قبله ثلاثة أيام حيض بيقين ، وما زاد إلى تمام العشرة طهرُ مشكوك فيه ، تعمل ما تعمله المستحاضة ، وتقضي صوم عشرة أيام احتياطاً.

٣١٩

وإن لم تذكر الأول والآخر فذلك الوقت الذي عرفت حيضها فيه إن لم يزد على أقل الحيض فحيضها معلوم ، كما لو قالت : أعلم أني كنت ثاني الشهر حائضاً ورابعه طاهراً.

وإن زاد من غير تداخل كما لو قالت : كنت حائضاً يوم الخامس وطاهرا يوم العاشر ، فالزمان مشكوك فيه تعمل ما تعمله المستحاضة.

وإن تداخل كما لو قالت : كنت حائضاً يوم الثالث وطاهراً يوم السادس فالمتداخل حيض بيقين ، وهو الثالث ، وما عداه مشكوك فيه ، فيحتمل جعل الثالث آخر الحيض تغليبا للسبق ، وأوله إنّ أدى اجتهادها إليه ، وعملنا بالاجتهاد والتخيير ، وأوسطه ، فيكون العشرة حيضاً.

و لو قالت : إنّ حيضي كان في النصف الأول من الشهر ولا أعرف قدره ولا وقته ، فالنصف الثاني طُهر بيقين ، ومن أول الشهر ثلاثة أيام يحتمل الحيض والطهر ولا يحتمل الانقطاع ، فتعمل ما تعمله المستحاضة ، وبعد ذلك إلى تمام النصف يحتمل الحيض والطهر والانقطاع ، فتعمل عمل المستحاضة ، وتغتسل لكلّ صلاة.

مسألة 98 : قد بيّنا أن أقل الحيض ثلاثة أيام ، واختلف علماؤنا في اشتراط التوالي ، فالأكثر عليه(1) ، وقال آخرون : بعدمه(2) ، فإذا رأت ثلاثة أيام متوالية فهو حيض قطعاً ، فإذا انقطع وعاد قبل العاشر وانقطع فالدمان وما بينهما حيض ، ذهب إليه علماؤنا ـ وبه قال أبو حنيفة(3) ـ لأنّ أقل الطُهر عشرة

____________

1 ـ منهم : السيد المرتضى كما في المعتبر : 53 ، وابنا بابويه في الفقيه 1 : 50 ، والهداية : 21 ، والشيخ الطوسي في الجمل : 163 ، والمبسوط 1 : 42 ، وابن حمزة في الوسيلة : 56 ، وابن إدريس في السرائر : 28.

2 ـ قال به الشيخ الطوسي في النهاية : 26 ، وابن البراج في المهذب 1 : 34.

3 ـ شرح فتح القدير 1 : 153 و 154 ، شرح العناية 1 : 153 ، اللباب 1 : 44 ، أحكام القرآن للجصاص 1 : 345.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343