السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192536 / تحميل: 8582
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد.

ولاية ابن زياد على الكوفة

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد، وأراد عزله عن ولاية البصرة(١) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده.

وعلى أيّ حال، فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه، وكتب إليه ما يلي: أمّا بعد، فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسّلام(٢) .

وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة، وقد جاء فيها: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(٣) .

وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة، فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة.

ابن زياد في الكوفة

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٣٥٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

٢٠١

فيهم شريك بن الأعور الحارثي، وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)(١) .

وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين (عليه السّلام)، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور؛ مخافة أن يعرفه الناس، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين (عليه السّلام).

وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر، وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته.

فانبرى مخاطباً له: ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله، وما لي في قتالك من إرب.

ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان، فصاح به: افتح لا فتحت! فقد طال ليلك. ولمّا تكلّم عرفه الناس، فصاحوا: إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي، وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها.

وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعتلى المنبر وخطب الناس.

وكان من جملة خطابه: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين يزيد - أصلحه الله - ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٢٠٢

ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(١) .

وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس، ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لمّا أصبح ابن زياد - بعد قدومه إلى الكوفة - صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(٢) .

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد، وقال: أمّا بعد، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي.

فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً: أيّها الأمير، إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، إنّما المرء بجده، والفرس بشدّه، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة.

واُفحم ابن زياد، فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(٣) .

مسلم في بيت هانئ

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٧.

(٢) الفصول المهمّة / ١٩٧.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٦٠.

٢٠٣

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إليهم.

التجسّس على مسلم (عليه السّلام)

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم (عليه السّلام)، ومعرفة نشاطاته السياسيّة، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده.

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه، وكان فطناً ذكياً، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري، وإنّما أمره بالانتساب للموالي؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وقال له: إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له: إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه.

ومضى معقل في مهمّته، فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم، فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً: إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

وخدع مسلم بقوله، فقال له: لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال، والذي تحبّ، وينصر الله بك أهل نبيّه، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة

٢٠٤

وكتمان الأمر(١) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم، فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع.

وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة، ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها.

اعتقال هانئ

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير، وفي بيته مسلم بن عقيل، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج، ولمّا التقوا به قالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنّه قد ذكرك وقال: لو علم أنّه شاكٍ لعدته.

فاعتذر لهم وقال: الشكوى تمنعني. فلم يقنعوا بذلك، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته، فاستجاب لهم على كره وسار معهم، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ، فقال لحسان بن أسماء: يابن الأخ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل، فما ترى؟

فقال له حسان: يا عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، وقال له: أتتك بخائن رجلاه.

وذعر هانئ فقال له:

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩.

٢٠٥

ما ذاك أيها الأمير؟

فصاح به الطاغية: إيه يا هانئ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر هانئ وقال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

- بلى، قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع، فدعا الجاسوس معقلاً، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ: أتعرف هذا؟

- نعم.

وأسقط ما في يدي هانئ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف، فقال لابن مرجانة: قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي(١) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(٢) .

وثار ابن زياد فرفع صوته: والله، لا تفارقني حتّى تأتيني به - أي بمسلم -.

وسخر منه هانئ، وردّ عليه: لا آتيك بضيفي أبداً.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٧.

٢٠٦

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه، فسمح له بذلك، فاختلى به وقال له: يا هانئ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك؛ إنّ هذا الرجل - يعني مسلماً - ابن عمّ القوم، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان.

ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ؟

وقال هانئ: بلى والله، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا حيّ صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً.

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد: أيّها الأمير، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(١) .

والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به: أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فلم يعبأ به هانئ، وقال: إذن تكثر البارقة حولك(٢) .

فثار ابن مرجانة وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٧٥.

(٢) البارقة: السيوف.

٢٠٧

والهفا عليك! أبالبارقة تخوّفني؟

وصاح بغلامه مهران وقال له: خذه. فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح به ابن زياد: أحروري أحللت بنفسك، وحلّ لنا قتلك؟!

ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(١) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها.

وعلى أيّ حال، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة.

ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له: ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ، فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً: يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي! أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له: يا شريح، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢٠٨

[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة، فخاطب مذحج قائلاً: قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل.

وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً: إذا لم يُقتل فالحمد لله(١) .

وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن، وقد صحبوا معهم الخزي والعار، وانطلقت الألسنة بذمّهم. وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم، قال:

فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري = إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّمَ السيفُ وجههُ = وآخر يهوى من طمارِ قتيلِ(٢)

أصابهما فرخُ البغيّ فأصبحا = أحاديثَ مَنْ يسيري بكلّ سبيلِ

ترى جسداً قد غيّرَ الموتُ لونهُ = ونضحُ دمٍ قد سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييَّةٍ = وأقطع من ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً = وقد طلبتهُ مذحجٌ بذحولِ(٣)

تطوفُ حواليهِ مرادٌ وكلّهم = على رقبةٍ من سائلٍ ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ = فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ(٤)

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) الطمار: اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم.

(٣) الهماليج: جمع هملاج، نوع من البرذون.

(٤) مروج الذهب ٢ / ٧٠، والشاعر مجهول.

٢٠٩

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم.

ثورة مسلم (عليه السّلام)

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وقيل: أربعون ألفاً(١) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت).

وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام)، وهم:

١ - عبد الله بن عزيز الكندي، جعله على ربع كندة.

٢ - مسلم بن عوسجة، جعله على ربع مذحج.

٣ - أبو ثمامة الصائدي، جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان.

٤ - العباس بن جعدة الجدلي، جعله على ربع المدينة.

واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(٢) .

وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال: أمّا بعد يا أهل الكوفة، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله، وطاعة أئمّتكم، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا، وتندموا وتُقهروا، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً، وقد اُعذر مَنْ أنذر.

وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت، فسأل عن ذلك فقيل له: الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه.

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢١٠

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف، فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(١) .

وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم، وضاقت الدنيا على ابن زياد، وأيقن بالهلاك؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة، وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(٢) .

حرب الأعصاب

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه، وهم:

١ - كثير بن شهاب الحارثي

٢ - القعقاع بن شور الذهلي

٣ - شبث بن ربعي التميمي

٤ - حجّار بن أبجر.

٥ - شمر بن ذي الجوشن الضبابي(٣)

وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم.

وكان ممّا قاله كثير بن شهاب: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين - يعني يزيد - قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٣) المصدر السابق ٣ / ٢٧٢.

٢١١

- يعني ابن زياد - العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(١) .

وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(٢) .

وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له: الناس يكفونك(٣) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد.

هزيمة جيش مسلم (عليه السّلام)

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية.

ويقول المؤرّخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه، وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين(٤) .

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٨.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٤.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ / ٣٠٠.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٥.

٢١٢

في أثناء الصلاة، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه.

في ضيافة طوعة (رضي الله عنها)

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل، وقد خلت المدينة من المارة؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

وسار مسلم وهو خائر القوى، قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها: (طوعة)، وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس، أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له: بلال، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السّلام، وقالت له: ما حاجتك؟

- اسقني ماءً.

فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس، فارتابت منه، وقالت له: ألم تشرب الماء؟

- بلى.

- اذهب إلى أهلك، إنّ مجلسك مجلس ريبة(١) .

____________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٥١.

٢١٣

وسكت مسلم، فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها، فذعرت منه وقالت له: سبحان الله! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري.

ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزين النبرات: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب، وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها، فقالت له: وما ذاك؟

- أنا مسلم بن عقيل، كذّبني القوم وغرّوني.

فدهشت المرأة وقالت له: أنت مسلم!

- نعم(١) .

وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير، فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها، وقد حازت الشرف والفخر، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل؛ فقد مزّق الأسى قلبه، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالقدوم إلى الكوفة.

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة، فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم، فاستراب من ذلك، فسألها عنه فلم تجبه، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٢.

٢١٤

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ، فأعلمه بمكان مسلم، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته.

وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر، فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لك عبد الرحمن؟

- أصلح الله الأمير، البشارة العظمى.

- ما ذاك؟ مثلك مَنْ بشّر بخير.

- إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة.

وفرح ابن مرجانة، وتمّت بوارق آماله وأحلامه، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً: قم فآتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى.

لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة.

الهجوم على مسلم (عليه السّلام)

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم

٢١٥

من الذلّ والعبودية، ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن.

ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له.

واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(١) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(٢) ، وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوّة الخارقة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(٣) ، وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم؛ فقد أشاع فيهم القتل، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال، فلامه الطاغية وقال: سبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(٤) !

وثقل ذلك على ابن الأشعث، وقال لابن مرجانة: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة

____________________

(١) الدرّ النضيد / ١٦٤.

(٢) المحاسن والمساوئ - البيهقي ١ / ٤٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٤.

(٤) الفتوح ٥ / ٦٣.

٢١٦

الحيرة؟(١) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام(٢) .

وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة، فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه، وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا = وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا

أو يُخلطُ الباردُ سخناً مرّا = ردّ شعاعُ الشمسِ فاستقرا

كلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا = أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(٣)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً: إنّك لا تُكذب ولا تُخدع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك.

فلم يحفل به مسلم، ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم قائلاً: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار؟ ويلكم! أما ترعون حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذريّته؟

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم، فصاح بالجيش: ذروه حتّى اُكلّمه. فدنا منه، وقال له: يابن عقيل، لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي.

ولم يعنَ به مسلم؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم،

____________________

(١) الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.

(٢) الفتوح ٥ / ٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٥، نقلاً عن الطبري / ٦٣، الفتوح ٥ / ٩٤ - ٩٥.

٢١٧

وأجابه: يابن الأشعث، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً.

وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي.

وتكاثرت عليه الجموع، فصاح بهم ابن الأشعث: إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة. فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى الأسفل، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

أسره (عليه السّلام)

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار، وانتزعوا منه سيفه، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة.

وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك، فأجابه أنّه ليس لي بأمير.

فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً، وقال له: سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول.

فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، وجرت مناورات كلامية بينهما، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، وكان يُسبّح الله ويستغفره.

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه،

٢١٨

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة، فأُخرج من السجن في وضح النهار، وجعل يستنجد باُسرته، وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً، فرفع هانئ صوته قائلاً: اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله).

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته.

وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(١) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد.

ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام)، كما أعدم جاعة منهم، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

لقد سمعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها، وأيقنت أنّ شقيقها وبقيّة أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٥٥، القسم الأوّل.

٢١٩

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ينقص عن يوم وليلة ، وأن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً على الاتصال ليمكن جعله استحاضة ، والقوي الذي يليه حيض آخر ، فلو رأت يوماً وليلة دماً قوياً وأربعة عشر ضعيفا ، ثم عاد القوي فقد فُقد الشرط الثالث(1) .

وبم نعتبر القوة والضعف؟ وجهان : اللون ، فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر ، والأحمر قوي بالنسبة إلى الاشقر ، والرائحة والثخانة ، فذو الرائحة الكريهة قوي والثخين قوي ، ولو حصل في دم خصلة وفي آخر اثنتان فهو أقوى ، ولو كان في واحد خصلة وفي آخر أخرى فالمتقدم أقوى(2) .

وشرط في قول له رابعاً ، وهو أن لا يزيد القوي والضعيف على ثلاثين يوماً ، فإن زاد سقط حكم التمييز ، لأنّ الثلاثين لا تخلو عن حيض وطهر في الغالب(3) .

يب ـ لو رأت بعد الأسود حمرة ، ثم صفرة ، فإن انقطع على العشرة فالجميع حيض ، وإن تجاوز فالصفرة استحاضة ، ثم الاولان إن زادا على العشرة فالحمرة استحاضة ، وهو أحد وجهي الشافعي ، والثاني : إلحاقها بالسواد ، فتكون فاقدة التمييز(4) ، وإن لم يتجاوزا ففي إلحاق الحمرة بالسواد أو الصفرة احتمال ، أقربه الثاني احتياطاًً للعبادة وللقوة والاولوية ، وأقوى الوجهين للشافعي الأول(5) لأنّهما قويان بالنسبة إلى ما بعدهما.

يج ـ قد بيّنا أن الاعتبار عندنا باللون لا بالتقدم ، فلو رأت خمسة حمرة وخمسة سواداً ثم استمرت الحمرة ، فالأسود حيض والطرفان استحاضة ، وهو

__________________

1 ـ المجموع 2 : 404 ، فتح العزيز 2 : 451 ، مغني المحتاج 1 : 113 ، شرح النووي لصحيح مسلم 2 : 391.

2 ـ المجموع 2 : 403 ـ 404.

3 ـ المجموع 2 : 404.

4 ـ المجموع 2 : 406 ـ 407.

5 ـ المجموع 2 : 407.

٣٠١

أظهر وجوه الشافعي ، والثاني : الجمع بين الحمرة والسواد ، فالعشرة حيض للقوة بالأولوية ، والثالث : سقوط التمييز(1) .

البحث الثاني : في المعتادة

و هي قسمان :

الأول : الذاكرة لعادتها عدداً ووقتاً. فإذا تجاوزت العادة ، فإن لم يتجاوز الأكثر فالجميع حيض ، سواء تقدمت العادة أو توسطت أو تأخرت إجماعاً ، وإن تجاوز العشرة ولاتمييز لها رجعت إلى عادتها عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي وأبوحنيفة وأحمد(2) ـ لقولهعليه‌السلام :(دعي الصلاة قدر الايام التي كنت تحيضهن ثم اغتسلي وصلي)(3) .

وقول الصادقعليه‌السلام : « المستحاضة تنظر أيامها أولا ، فلا تصلّي فيها »(4) وقال الباقرعليه‌السلام : « المستحاضة تقعد أيام قرئها ثم تحتاط بيوم أو يومين »(5) .

وقال مالك : تستظهر بعد أيامها بثلاثة إن لم يتجاوز خمسة عشر ، ثم هي بعد ذلك مستحاضة(6) ، وهو يناسب ما ذكرناه إلّا في زيادة يوم الاستظهار وفي عدد الاكثر.

__________________

1 ـ المجموع 2 : 407.

2 ـ المجموع 2 : 415 ـ 416 ، المغني 1 : 362 ، فتح العزيز 2 : 471 ، المبسوط للسرخسي 3 : 178.

3 ـ صحيح مسلم 1 : 264 / 334 ، سنن ابن ماجة 1 : 204 / 623 ، سنن النسائي 1 : 182 ، سنن أبي داود 1 : 72 / 279 ، سنن البيهقي 1 : 330 و 331 ، سنن الدارقطني 1 : 212 / 35 و 38.

4 ـ الكافي 3 : 88 / 2 ، التهذيب 1 : 106 / 277.

5 ـ التهذيب 1 : 171 / 488 ، الاستبصار 1 : 149 / 512.

6 ـ المدونة الكبرى 1 : 50 ، بداية المجتهد 1 : 51 ، المنتقى للباجي 1 : 124 ، بُلغة السالك 1 : 80.

٣٠٢

وإن كانت مميزة ، فإن اتفق زمانا التمييز والعادة فلا بحث ، وإن اختلف ، إمّا بالزمان ، كما لو كانت عادتها ( الخمسة الاُولى ، فرأت في شهر الاستحاضة صفة الحيض في )(1) الخمسة الثانية ، أو بالعدد ، كما لو رأت الستة الاُولى بصفة دم الحيض أو أربعة ، فللشيخ قولان : الرجوع إلى العادة(2) ـ وهو الاشهر ـ وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وبعض الشافعية(3) ، لما تقدم في الأحاديث.

وقال مالك : الاعتبار وبالتمييز(4) ، وهو القول الثاني للشيخ(5) ، وظاهر مذهب الشافعي(6) ، لقولهعليه‌السلام لفاطمة بنت أبي حبيش : ( ان دم الحيض أسود يعرف ، فإذا أقبلت فاتركي الصلاة )(7) وهو محمول على المبتدأة ، ولأن العادة أقوى فإنها لا تبطل دلالتها ، والتمييز لو زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته.

__________________

1 ـ بين القوسين ساقط من نسخة ( م ).

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 48.

3 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 178 ، المجموع 2 : 431 ، فتح العزيز 2 : 476 ، المغني 1 : 366 ، الشرح الكبير 1 : 367 ، بداية المجتهد 1 : 55 ، مغني المحتاج 1 : 115 ، السراج الوهاج : 32.

4 ـ بداية المجتهد 1 : 54 ، فتح العزيز 2 : 478.

5 ـ المبسوط للطوسي 1 : 49.

6 ـ المجموع 2 : 431 ، فتح العزيز 2 : 476 ، مغني المحتاج 1 : 115 ، المغني 1 : 366 ، الشرح الكبير 1 : 367 ، بداية المجتهد 1 : 55.

7 ـ سنن النسائي 1 : 123 و 185 ، سنن أبي داود 1 : 82 / 304 ، سنن البيهقي 1 : 325 ، سنن الدارقطني 1 : 207 / 3 ـ 6 ، المستدرك للحاكم 1 : 174.

٣٠٣

فروع :

أ ـ لو رأت العادة وقبلها وبعدها أو أحدهما ، فإن لم يتجاوز فالجميع حيض ، وإلّا العادة.

ب ـ العادة قد تتقدم وقد تتأخر ، فالضابط العدد مع النقاء.

ج‍ ـ العادة قد تتفق بأن يتساوى عددها في كلّ شهر ، وقد تختلف إمّا على نهج واحد كثلاثة في الأول ، وأربعة في الثاني ، وخمسة في الثالث ، وثلاثة في الرابع ، وأربعة في الخامس ، وخمسة في السادس ، وهكذا.

فاذا استحيضت في شهر ، فإن عرفت نوبته عملت عليه ، ثم على الذي بعده على العادة ، وان نسيت نوبته ، فإن جهلت بالكلية تحيضت بالاقل ، ثم تعمل إلى الاقصى ما تعمله المستحاضة وتغتسل في كلّ وقت يحتمل انقطاع دم الحيض فيه ، ثم تعمل باقي الشهر ما تعمله المستحاضة ، وإن عرفت أنّه أكثر حيضناها بأقل المحتمل كالاربعة ، ثم تعمل ما تقدم أولا على نهج واحد ، كأن تحيض من شهر ثلاثة ، ومن الثاني خمسة ، ومن الثالث أربعة ، وأشباه ذلك ، فإن أمكن ضبطه ويعتاد على وجه لا يختلف فكالأول ، وإن كان غير مضبوط جلست الأقل من كلّ شهر.

د ـ قد بيّنا أن العادة قد تحصل بالتمييز ، فلو رأت المبتدأة خمسة أسود في أول الشهر والباقي أحمر أو أصفر ، ثم في أول الثاني كذلك ، ثم استحيضت في الثالث ردت إلى الخمسة ، سواء رأت الخمسة بصفة دم الحيض أو لا ، وللشافعي وجه آخر : عدم النظر إلى التمييز السابق بعد بطلانه(1) .

__________________

1 ـ اُنظر المجموع 2 : 431.

٣٠٤

هـ ـ لو قصرت العادة عن العشرة فرأت العشرة صفرة أو كدرة ثم انقطع فالجميع حيض عندنا ـ وهو أظهر وجوه الشافعية ، وبه قال مالك ، وربيعة ، وسفيان ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، ومحمد ، وأحمد ، وإسحاق(1) ـ لقوله تعالى :( ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى ) (2) والصفرة والكدرة أذى ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض وفي أيام الطُهر طهر »(3) .

وله آخر ـ وبه قال أحمد في رواية ـ أنّه ليس لهما حكم الحيض لأنّهما ليسا على لون الدماء ، وإنّما الصفرة شيء كالصديد يعلوه صفرة ، والكدرة شيء كدر(4) ، ولمّا روي عن اُم عطية ـ وكانت قد بايعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قالت : كنا لا نعد الصفرة والكدرة حيضاً(5) والأول أصح نقلاً.

وله ثالث : إنّ سبق دم قوي من سواد أو حمرة فهما بعده حيض ، وإلّا فلا ، لأنّ الدم يظهر قويا ثم يرق ويضعف(6) .

وله رابع : إنّ تقدمه وتأخره دم قوي فالوسط حيض وإلّا فلا(7) .

وله قولان في المتقدم والمتأخر ، أحدهما : قدر يوم وليلة ، والثاني :

__________________

1 ـ المجموع 2 : 392 و 395 ، فتح العزيز 2 : 486 ، الوجيز 1 : 27 ، بُلغة السالك 1 : 78 ، بداية المجتهد 1 : 53 ، المغني 1 : 383 ، الشرح الكبير 1 : 383 ، المبسوط للسرخسي 3 : 150 ، شرح العناية 1 : 144 ، الهداية للمرغيناني 1 : 30 ، المحلى 2 : 168 ـ 169.

2 ـ البقرة : 222.

3 ـ أورده نصاً في المبسوط 1 : 44 ، وفي الكافي 3 : 78 / 1 و 3 ، والتهذيب 1 : 396 / 1230 بمعناه.

4 ـ المجموع 2 : 389 و 392 ، فتح العزيز 2 : 487 ، الوجيز 1 : 27.

5 ـ صحيح البخاري 1 : 89 ، سنن أبي داود 1 : 83 / 307 ، المستدرك للحاكم 1 : 174 ، سنن الدارمي 1 : 214.

6 ـ المجموع 2 : 392 ، الوجيز 1 : 27 ، فتح العزيز 2 : 488.

7 ـ المجموع 2 : 393 ، فتح العزيز 2 : 488.

٣٠٥

لحظة واحدة(1) .

و قال أبو يوسف : الصفرة حيض ، والكدرة ليست حيضاً إلّا أن يتقدمها دم(2) ، وقال أبو ثور : إنّ تقدمها دم أسود فهما حيض ، واختاره ابن المنذر(3) ، وقال داود : ذلك ليس بحيض(4) .

أما المبتدأة فلو رأت صفرة أو كدرة في أيام ردها إلى عادة أهلها فالوجه أنّه حيض ، وهو أحد قولي الشافعي ، والآخر : إنّ فيه الاقوال الاربعة(5) .

ا لقسم الثاني : الناسية وأقسامها ثلاثة :

الأول : نسيت العدد والوقت معاً ، وتسمى المتحيرة ، فللشيخ قولان :

أحدهما : أنها تترك الصلاة والصوم في كلّ شهر سبعة أيام ، وتفعل في الباقي ما تفعله المستحاضة وتغتسل ، ولا قضاء عليها في صلاة ولا صوم ، واستدل بإجماع الفرقة(6) .

والثاني : قال في المبسوط : تفعل ما تفعله المستحاضة ثلاثة أيام من أول الشهر ، وتغتسل فيما بعد لكلّ صلاة يحتمل الانقطاع عندها إلى آخر الشهر ، وتصوم الشهر كله ، ولا تُطلَّق هذه(7) .

____________

1 ـ المجموع 2 : 393 ، فتح العزيز 2 : 489.

2 ـ المبسوط للسرخسي 2 : 18 ، الهداية للمرغيناني 1 : 30 ، شرح العناية 1 : 144 ، المجموع 2 : 395 ـ 396 ، عمدة القارئ 3 : 298 ، بداية المجتهد 1 : 53 ، المحلى 2 : 169 ، حلية العلماء 1 : 220.

3 ـ المجموع 2 : 396 ، المغني 1 : 383 ، المحلى 2 : 169 ، حلية العلماء 1 : 220.

4 ـ حلية العلماء 1 : 221.

5 ـ المجموع 2 : 393 ـ 394.

6 ـ الخلاف 1 : 242 مسألة 211.

7 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

٣٠٦

وقال بعض علمائنا : تجلس عشرة أيام ـ وهو أكثر الحيض ـ لأنّه زمان يمكن أن يكون حيضاً(1) .

وللشافعي قولان ، أصحهما : أنّه لا حيض لها في زمان بعينه ، اذ جميع زمانها مشكوك فيه ، فتغتسل لكلّ صلاة وتصوم ، ولا يأتيها زوجها ما دامت مستحاضة(2) ـ وهو القول الثاني للشيخ ـ لأنّه ما من زمان إلّا ويحتمل الحيض والطهر ، وليس هنا أصل يرد إليه ، ولا يمكن إثبات أحكام الحيض بالشك ، فأمرناها بالاحتياط.

الثاني : أنها تُردّ إلى يوم وليلة كالمبتدأة التي لا عادة لها ، وهو رواية عن أحمد(3) .

وله قول ثالث : أنها تُردّ إلى ستة أو سبعة ، وبه قال أحمد كالمبتدأة(4) ، وهو الاشهر عندنا لقولهعليه‌السلام لحمنة : ( تحيضي في علم الله ستة أو سبعة أيام ثم اغتسلي )(5) الحديث.

فروع :

أ ـ إذا قلنا بالقول الأول للشيخ ، فالوجه أنها تتخير في الستة أو السبعة أيهما شاء‌ت بالاجتهاد جعلتها الحيض لعدم التنصيص ، فلولا

__________________

1 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 55.

2 ـ المجموع 2 : 433 ، الوجيز 1 : 28 ، فتح العزيز 2 : 491 ـ 492 و 494 ـ 495 ، مغني المحتاج 1 : 116.

3 ـ المجموع 2 : 434 ، الوجيز 1 : 27 ، فتح العزيز 2 : 491 ، المغني 1 : 370 ، مغني المحتاج 1 : 116.

4 ـ المجموع 2 : 434 ، فتح العزيز 2 : 393 ، مغني المحتاج 1 : 116 ، المغني 1 : 370 ، الشرح الكبير 1 : 375.

5 ـ سنن ابي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 222 ـ 223 / 128 ، مسند أحمد 6 : 381 ـ 382 ، المستدرك للحاكم 1 : 172 ـ 173 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

٣٠٧

التخيير لوجب البيان.

ويحتمل أن يكون أول الشهر حيضاً ، لأنّ الحيض جبلة والاستحاضة عارضة.

ب ـ كما أنها تجتهد في الزمان فكذا تجتهد في العدد بين ستة وسبعة لقوله : ( ستاً أو سبعاً )(1) ويحتمل التخيير ، وعلى قول بعض علمائنا تتعين السبعة(2) ، ولها أن تتحيض في الشهر الأول بثلاثة ، وفي الثانية بعشرة كالمبتدأة.

ج‍ ـ الناسية إنّ كانت جاهلة بشهرها ، رددناها إلى الشهر الهلالي ، فحيضناها في كلّ شهر حيضة ، لحديث حمنة(3) ، ولأنّه الغالب.

وإن كانت عالمة بشهرها حيضناها في كلّ شهر من شهورها حيضة ، لأنّها عادتها فترد إليها كما ترد المعتادة إلى عادتها في عدد الايام وزمانها.

د ـ لو جلست أياماً ثم ذكرت أن عادتها غيرها رجعت إلى عادتها وقضت ما تركت أيام جلوسها ، فلو كانت عادتها ثلاثة من آخر الشهر فجلست السبعة السابقة ، ثم ذكرت قضت ما تركت من الصلاة والصيام في السبعة ، وقضت ما صامت من الفرض في الثلاثة.

هـ ـ الناسية إنّ كانت ذات تمييز عملت عليه ، لتعذر العمل بالعادة ، وهو أظهر قولي الشافعي ، وفي الآخر : لا حكم للتمييز ، لأنّ العادة مقدمة(4) .

__________________

1 ـ سنن أبي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 223 / 128 ، مسند أحمد 6 : 382 ، المستدرك للحاكم 1 : 173 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

2 ـ هو المحقق في المعتبر : 55.

3 ـ سنن أبي داود 1 : 76 / 287 ، سنن ابن ماجة 1 : 205 / 627 ، سنن الترمذي 1 : 222 / 128 ، مسند أحمد 6 : 381 ، المستدرك للحاكم 1 : 172 ، سنن الدارقطني 1 : 214 / 48.

4 ـ المجموع 2 : 433 و 434 ، فتح العزيز 2 : 490.

٣٠٨

و ـ قال القفال : إذا كانت مجنونة فأفاقت فابتداء حيضها من وقت الافاقة لتوجه التكليف حينئذ(1) .

مسألة 97 : المتحيرة إن قلنا بالقول الثاني للشيخ(2) ، فطريق معرفة حكمها أن تنظر في أوقاتها ، فإن كانت تذكر شيئاً من أمر حيضها وطُهرها فكل زمان لا يحتمل أن يكون حيضاً فهو طُهر بيقين ، وكل زمان لا يحتمل أن يكون طُهراً فهو حيض بيقين ، وكل زمان يحتملهما ولم يحتمل الانقطاع تعمل ما تعمله المستحاضة ، وكل زمان يحتملهما ويحتمل الانقطاع أضافت إلى فعل المستحاضة الغُسل عند كلّ صلاة لاحتماله.

ينبغي اعتماد الاحتياط في اُمور ثمانية :

أ ـ الاستمتاع ، فيحرم على الزوج وطؤها قُبلا طول الشهر ، وفي وجه للشافعي : جواز الوطء خوفاً من الوقوع في الفساد(3) .

ب ـ الطلاق ، قال الشيخ : لا يصح طلاق هذه(4) ، ولو قيل : إنّ الطلاق يحصل بإيقاعه في أول يوم ، وأول الحادي عشر أمكن ، وعدتها تنقضي بثلاثة أشهر.

ج‍ ـ تُؤدي كلّ صلاة بغسل ووضوء ، ولا تقضي الصلاة المؤداة في أوقاتها ـ وهو أحد وجهي الشافعي(5) ـ لأنّها إنّ كانت طاهراً صحّ الاداء ، وإلّا سقط القضاء ، ولأن فيه حرجاً عظيماً. ويحتمل الوجوب لاحتمال انقطاع الحيض في خلال الصلاة ، أو في آخر الوقت ، وربما ينقطع قبل غروب

__________________

1 ـ المجموع 2 : 436 ، فتح العزيز 2 : 493.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

3 ـ المجموع 2 : 437 ، الوجيز 1 : 28 ، فتح العزيز 2 : 494 ، مغني المحتاج 1 : 116.

4 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51. المجموع 2 : 442 ، فتح العزيز 2 : 495 ، الوجيز 1 : 28.

٣٠٩

الشمس فيلزمها الظهر والعصر ، وقبل نصف الليل فيلزمها المغرب والعشاء فتغتسل في أول وقت الصبح وتصليها ، ثم تغتسل بعد طلوع الشمس وتعيدها ، لاحتمال أنّه انقطع بعدما صلّت المرة الاُولى ، ولزمها الصبح فتخرج عن العهدة بالثانية ، لأنّها إنّ كانت طاهرة في الاُولى وإلّا فإن انقطع في الوقت صحت الثانية وأجزأت ، فإن لم ينقطع فلا شيء عليها.

ولا يُشترط المبادرة إلى المرة الثانية بل متى اغتسلت وصلّت الصبح قبل انقضاء أكثر الحيض من أول وقت الصبح خرجت عن العهدة ، لأنّ الدم لو انقطع في الوقت لم يعد إلّا بعد انقضاء الأكثر ، وتُصلّي العصر والعشاء مرتين كذلك.

ولا تكتفي بأن تُعيد الظهر المرة الثانية في أول وقت العصر ، ولا أن تُعيد المغرب في أول وقت العشاء ، بل تُعيد الظهر في الوقت الذي يجوز إعادة العصر فيه وهو ما بعد الغروب ، والمغرب في الوقت الذي يجوز إعادة العشاء فيه وهو ما بعد نصف الليل لجواز انقطاعه في آخر وقت العصر بقدر ما يلزم به الظهر ، وكذا المغرب ، ثم إنّ أعادت الظهر والعصر بعد الغروب قبل أن تُؤدي المغرب كفاها للظهر والعصر غسل واحد ، ثم تغتسل للمغرب والعشاء ، لأنّه إنّ انقطع الدم قبل الغروب فقد اغتسلت ، والانقطاع لا يتكرر ، وإن لم ينقطع قبل الغروب فليس عليها ظهر ولا عصر ، وإنّما اغتسلت للمغرب لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر ، أو العصر ، أو عقيبهما ، وإن أخرتهما عن المغرب كفاها غسل المغرب لهما ، لعدم تكرر الانقطاع ، وتتوضأ لما لا تغتسل لها من هذه الصلوات ، كالمستحاضة ، وهو الثاني للشافعي(1) .

__________________

1 ـ المجموع 2 : 443 ، فتح العزيز 2 : 496 ، مغني المحتاج 1 : 117.

٣١٠

د ـ إذا وجب عليها قضاء فائتة قضتها ثلاث مرات ، كلّ مرّة بغسل ووضوء ، وأقل زمان يتصور فيه سقوط الفرض بيقين عشرة أيام ولحظتان ، فيقدر كأنها تغتسل وتُصلّي في زمان يبقى بينه وبين طلوع الشمس غسل وصلاة ، ثم يحتسب من وقت طلوع الشمس عشرة أيام ، فتغتسل وتقضي الصلاة في العشرة أي وقت شاء‌ت.

ثم إذا كملت العشرة اغتسلت وقضت الثالثة ، لأنّها إنّ كانت طاهراً في جميع المدة فالأول صحيح وما بعده زيادة ، وإن قدر ابتداء حيضها كان في صلاتها الاُولى فقد تمت لها عشرة أيام قبل الفعل الأخير ، فصح غسلها وصلاتها في الانتهاء ، وإن قدر أنها كانت في ابتداء الاُولى في آخر حيض فانقطع في أثنائها وفي الثالثة عاودها الحيض صحت الثانية.

هـ ـ إذا كان عليها طواف كان طريق أدائه كطريق قضاء الفائتة ، وتُصلّي بعد كلّ طواف ركعتين ، وليس عليها لاجل الركعتين غسل ، لأنّه مع الطواف كالعصر مع الظهر ، ويجب الوضوء ـ خلافاً للشافعي(1) ـ لتعدد الوضوء بتعدد الصلاة ، وكذا عنده إلّا هنا ، لأنّ الركعتين من توابع الطواف ، فجعلهما تبعا في الطهارة.

و ـ إذا كان عليها قضاء صوم يوم صامت يوماً متى شاء‌ت وتفطر الثاني ، ثم تصوم آخر قبل العاشر ، ثم الثاني عشر ، لأنّها إمّا طاهر في الأول فصح القضاء فيه أو غير طاهر ، فإما أن تكون فيه حائضاً في جميعه فينقطع حيضها قبل الثاني عشر ، فيُجزئها الثاني عشر ، أو ما قبل العاشر ، أو في بعضه ، فإن كان في أوّله وانقطع في أثنائه كانت طاهراً في العشرة فصح الثاني ، وإن كانت حائضاً في آخره وابتدأ به فغايته إلى الحادي عشر ، وتكون طاهراً في الثاني عشر.

__________________

1 ـ المجموع 2 : 476.

٣١١

ولو كان عليها قضاء يومين فصاعداً ضعفت ما عليها وتزيد عليه يومين وتصوم نصف المجموع متى شاء‌ت ، والنصف الآخر من أول الحادي عشر ، فلو كان عليها يومان تضعّف وتزيد يومين يكون المجموع ستة ، تصوم منها ثلاثة متى شاء‌ت ، وثلاثة من الحادي عشر من صومها الاول.

فإن كانت الثلاثة الاُولى في الطُهر فذاك ، وإن كانت في الحيض فغايته الانتهاء إلى الحادي عشر بتقدير أن يكون الابتداء في اليوم الأول ، فيقع اليومان الآخران في الطُهر ، وإن كان بعضها في الحيض دون بعض فإن وقع الأول في الطُهر صحّ مع الثالث عشر ، وإن وقع اليومان الاولان في الطُهر أجزأ ، وإن وقع اليوم الأخير في الطُهر أجزأ مع الحادي عشر.

ولو صامت ما عليها ولاء بلا زيادة ، وأعادته من الثاني عشر ، وصامت بينهما يومين متواليين أو غير متواليين ، متصلين بأحد النصفين أو غير متصلين أجزأ.

ز ـ يجب عليها صوم جميع شهر رمضان لاحتمال دوام الطُهر ، ثم تقضي عشرين يوماً عندنا لاحتمال أن تكون العشرة الاُولى حيضاً ، والثانية طُهراً ، والثالثة حيضا.

ولو علمت اتحاد الحيض ، قال علماؤنا : تقضي صوم عشرة احتياطاً ، والوجه قضاء أحد عشر لاحتمال ابتداء الحيض من نصف يوم وانقطاعه في نصف الحادي عشر.

ومن جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوماً ـ كالشافعي(1) ـ أوجب قضاء ستة عشر يوماً فتصوم شهراً آخر بالايام ، فيحصل لها أربعة عشر يوماً ويبقى

__________________

1 ـ الاُم 1 : 67 ، المجموع 2 : 481 ، فتح العزيز 2 : 499 ، الوجيز 1 : 28 ، مغني المحتاج 1 : 117.

٣١٢

عليها يومان ، فتصوم ستة أيام في مدة ثمانية عشر ، فيحصل لها صوم رمضان بأن تصوم ستة وستين يوماً في مدة ثمانية وسبعين يوماً.

قالت الشافعية : لو وجب عليها صوم شهرين متتابعين صامت مائة وأربعين يوماً ، لأنّها تصوم أربعة أشهر بالايام تحصل لها من كلّ شهر أربعة عشر يوماً وتبقى عليها أربعة أيام ، فتصوم عشرين يوماً ، فيحصل لها أربعة أيام فقد خرجت عن الفرض بيقين(1) .

ح ـ منعها عن المساجد وقراء‌ة العزائم ، والغُسل عند كلّ صلاة.

القسم الثاني : ناسية الوقت دون العدد

فإن كان العدد نصف الزمان الذي وقع الشك فيه أو قصر عنه لم يكن لها حيض بيقين ، مثل أن تعلم أن حيضها خمسة أيام من كلّ شهر ولا تعرف عينها ، قال الشيخ : تعمل في جميع الوقت ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل بعد انتهاء العدد في كلّ وقت يحتمل انقطاع دم الحيض فيه ، فتغتسل هذه آخر الخامس ، ثم عند كلّ صلاة إلى آخر الشهر ، إلّا أن تعلم أن الانقطاع في وقت بعينه فتكرر غسل الانقطاع عنده(2) ـ وبه قال الشافعي(3) ـ أخذاً بالاحتياط وتقضي صوم العدد ، ويحتمل أن تتخير في تخصيص الحيض ، كالمتحيرة ، فتجعله حيضاً ، والباقي طهراً.

وللحنابلة وجهان ، أحدهما : التحري بالاجتهاد ، والثاني : جعله في أول الشهر(4) .

____________

1 ـ المجموع 2 : 468.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51.

3 ـ المجموع 2 : 481 و 483.

4 ـ المغني 1 : 374 ، الشرح الكبير 1 : 373.

٣١٣

وإن زاد العدد على نصف الزمان ، مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول ، فالزائد وضعفه حيض بيقين ، وهو الخامس والسادس لدخولهما فيه على كلّ تقدير ، ثم إمّا أن تتخير في الاربعة الاُولى أو الثانية أو تجتهد وتجعل المتقدمة حيضاً ، أو تحتاط فتعمل ما تعمله المستحاضة فيهما.

ولو كان الحيض سبعة منها فالرابع والسابع وما بينهما حيض بيقين ، ولو كان خمسة وعلمت طهر الأول ، فالزيادة بنصف يوم ، فالسادس حيض بيقين ، ولو علمت طُهر العاشر ، فالخامس حيض بيقين.

وقد فرع الشيخ هنا فروعاً كثيرة(1) تدخل تحت هذا الضابط :

أ ـ لو قالت : كنت أحيض إحدى العشرات وجهلت التعيين ، فليس لها حيض بيقين ، لنقص العدد عن نصف الزمان ، فتعمل ما تعمله المستحاضة جميع الشهر ، وتغتسل آخر كلّ عشرة لاحتمال الانقطاع.

فإن قالت : كنت أحيض عشرة في كلّ شهر وجهلت التعيين فكالأول ، إلّا أنها بعد العشرة الاُولى تغتسل عند كلّ صلاة إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع ، وفي الاُولى تغتسل في آخر كلّ عشر.

ب ـ لو قالت : حيضي عشرة ، وكنت العشر الأوسط طاهراً بيقين وقع الشك في الأول والآخر ، ولا حيض بيقين لمساواة نصف الزمان العدد ، فتعمل فيهما ما تعمله المستحاضة وتغتسل في آخر كلّ منهما لاحتمال الانقطاع. أما لو قالت : كنت العشر الأول طاهراً ، فإن الشك يقع في الأوسط والاخير ، فتعمل فيهما ما تعمله المستحاضة ، ثم تغتسل آخر العشر الأول ، وعند كلّ صلاة إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع ، وكذا لو علمت الطُهر في العشر الأخير.

____________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 51 ـ 57.

٣١٤

ج ـ لو قالت : كان حيضي خمسة أيام وكنت يوم الثاني طاهراً فلها يومان ، الأول والثاني طُهر بيقين ، والسادس والسابع حيض بيقين.

وإن قالت : كنت في الثالث طاهراً فالثلاثة الاُولى طُهر بيقين ، والسادس والسابع والثامن حيض بيقين. ولو قالت : كنت يوم الخامس طاهراً فالحيض الخمسة الثانية.

د ـ لو قالت : كان حيضي عشرة من كلّ شهر وكنت يوم السادس طاهراً فالستة الاُولى طُهر بيقين ، ومن السابع إلى آخر السادس عشر طهرُ مشكوك فيه لا يمكن الانقطاع فيه ، تتوضأ فيه لكلّ صلاة ، وبعد السادس عشر إلى آخر الشهر طهرُ مشكوك فيه تغتسل لكلّ صلاة لاحتمال الانقطاع.

فإن قالت : كنت يوم الحادي عشر طاهراً فهو الطُهر بيقين ، والعشر الاُولى مشكوك فيها تغتسل في آخرها لاحتمال الانقطاع ، ومن الثاني عشر إلى آخر الحادي والعشرين مشكوك فيه تتوضأ لكلّ صلاة ، ثم تغتسل عند انقضائه إلى آخر الشهر لاحتمال الانقطاع.

هـ ـ لو قالت : كان لي في كلّ شهر حيضتان بينهما طهرُ صحيح ولا أعلم موضعهما ولا عددهما ، فليس لها حيض ولا طُهر بيقين عندنا.

أما [ عند ](1) الشافعي(2) ومن وافقه في أقل الحيض وأكثره وأقل الطُهر ، فإن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أوّله ويوما من آخره ، وما بينهما طهر.

وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أوّله ، وأربعة عشر من آخره بينهما خمسة عشر يوماً ، أو بالعكس ، ويُحتمل ما بين ذلك ، فتتوضأ لليوم الأول لأنّه طهرُ مشكوك فيه ، وتغتسل في آخره ، وتغتسل لكلّ صلاة إلى انقضاء الرابع عشر ، وأما الخامس عشر والسادس عشر فطُهر بيقين ، ثم

__________________

1 ـ زيادة يقتضيها السياق.

2 ـ المجموع 2 : 488.

٣١٥

تغتسل في انقضاء السابع عشر إلى آخر الشهر ، لإمكان انقطاع الدم في كلّ وقت.

و ـ لو قالت : حيضي خمسة في كلّ شهر وكنت في الخمسة الأخيرة طاهراً ولي طهرُ صحيح غيرها ، احتمل أن يكون حيضها الخمسة الاُولى ، والباقي يكون طُهراً ، وكذا الخمسة الثانية والثالثة عندنا.

وقال الشافعي : لا يحتمل الثالثة لأنّه لا يمكن قبلها طهر كامل ولا بعدها سوى الخمسة الأخيرة ، ويحتمل الرابعة أو الخامسة(1) .

فالخمسة الاُولى طهرُ مشكوك فيه ، تتوضأ لكلّ صلاة ، وتغتسل عند انقضائها إلى آخر العاشر لأنّه طهرُ مشكوك فيه.

وكذا من الحادي عشر إلى الخامس عشر ـ وعنده أنّه طُهر بيقين(2) ـ ومن السادس عشر إلى آخر العشرين طهرُ مشكوك فيه ، تتوضأ لكلّ صلاة ، وتغتسل عند انقضائه إلى آخر الخامس والعشرين.

ز ـ لو قالت : حيضي عشرة أيام وكنت اليوم العاشر حائضاً فقد تجاوز العدد نصف الزمان بنصف يوم ، لوقوع الشك في تسعة عشر ، فتعمل من أول الشهر ما تعمله المستحاضة ، ثم تغتسل آخر العاشر لاحتمال أنّه آخره وتفعل ما تفعله المستحاضة إلى آخر التاسع عشر ، وتغتسل عند كلّ صلاة لاحتمال الانقطاع عندها والباقي طهر بيقين.

فإن قالت : الحيض يوم الثاني عشر ، فالاولان طُهر بيقين ، وكذا من الثاني والعشرين إلى آخره ، والباقي مشكوك فيه ، لكن لا تغتسل للأنّقطاع إلّا في آخر الثاني عشر ، وعند كلّ صلاة منه إلى آخر الحادي والعشرين ،

__________________

1 ـ المجموع 2 : 486.

2 ـ المجموع 2 : 486.

٣١٦

فلها يومان من أول الشهر طُهر بيقين ، وكذا تسعة من آخره ، والشك وقع من أول الثالث إلى آخر الحادي والعشرين ، فقد قصر نصف الزمان عن العدد بنصف يوم فالثاني عشر حيض بيقين.

وغلط قلم الشيخ هنا فجعل لها مع اليومين ثمانية أيام من آخره طُهراً(1) ، والحق أنّه تسعة.

ح ـ ولو قالت : حيضي خمسة من الشهر لا أعرفها إلّا أني إن كنتُ يوم السادس طاهراً كنت السادس والعشرين حائضاً ، وإن كنت في السادس حائضاً كنت في السادس والعشرين طاهراً.

وتحقيقه أنها تحيض أحد هذين ، فالأول طُهر بيقين ، وكذا من الحادي عشر إلى آخر الحادي والعشرين ، والباقي مشكوك فيه ، وتغتسل لاحتمال الانقطاع آخر السادس إلى آخر العاشر ، وكذا آخر السادس والعشرين إلى آخر الشهر ، وتفعل في جميع الايام ما تفعله المستحاضة.

فروع ، في الامتزاج :

أ ـ إذا قالت : حيضي عشرة في كلّ شهر ، وكنت أمزج إحدى العشرات بالاُخرى بيوم ، فالأول والثلاثون طُهر بيقين ، والشك وقع بينهما ، فلا حيض لها بيقين ، تعمل ما تعمله المستحاضة جميع الشهر ، وتغتسل آخر الحادي عشر ، وآخر التاسع عشر ، والحادي والعشرين ، والتاسع والعشرين لاحتمال الانقطاع.

قال الشيخ : ويسقط قضاء صوم الأول والثلاثين ، لأنّهما طُهر بيقين ، وتقضي ما عداهما لأنّها صامت مع الشك في الطهارة ، فوجب القضاء.

ثم قال : ولو قلنا : إنّه لا يجب إلّا قضاء عشرة أيام كان صحيحاً ، لأنّه

__________________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 56.

٣١٧

من المعلوم أن الحيض لا يزيد عليها ، وصوم المستحاضة صحيح ، ولا حاجة إلى تجديد النيّة عند كلّ ليلة ، وهذا هو المعول عليه دون الأول ، والأول مذهب الشافعي(1) .

والحكم صحيح ، لكن لا مدخل للتحديد هنا ، والشافعي وافقنا على قضاء أكثر الحيض وهو خمسة عشر في أحد القولين ، وفي الآخر : ستة عشر(2) .

ب ـ لو قالت : كان حيضي عشرة وأمزج العشرة بالاُخرى بيومين ، فيومان من أول الشهر ويومان من آخره طُهر بيقين ، والشك في الباقي تعمل في الجميع ما تعمله المستحاضة ، ولا حيض بيقين لقصور العدد عن نصف الزمان ، وتغتسل آخر الثاني عشر ، والثامن عشر ، والثاني والعشرين ، والثامن والعشرين لاحتمال الانقطاع.

ولو كان المزج بخمسة فلا حيض بيقين ، لمساواة العدد نصف الزمان ، فخمسة من أول الشهر وخمسة من آخره طُهر بيقين ، لكن غسل الانقطاع في آخر الخامس عشر والخامس والعشرين خاصة.

وفرع الشيخ المزج بستة إلى المزج بالتسعة عقيب تفريعه المزج بيوم إلى المزج بستة(3) وهما واحد.

ج ـ لو قالت : حيضي عشرة وأمزج النصف بالنصف بيوم فيومان حيض بيقين واثنا عشر طُهر بيقين ، لزيادة العدد على نصف الزمان بيوم ، هما الخامس عشر والسادس عشر ، ومن السابع إلى الرابع عشر مشكوك فيه ، وكذا من السادس عشر إلى آخر الرابع والعشرين تعمل ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل لاحتمال الانقطاع آخر السادس عشر والرابع والعشرين.

__________________

1 ـ المبسوط للطوسي 1 : 60.

2 ـ فتح العزيز 2 : 496.

3 ـ المبسوط للطوسي 1 : 59 ـ 63.

٣١٨

د ـ لو قالت : حيضي تسعة ونصف ، وكنت أمزج أحد النصفين بالآخر بيوم ، والكسر من أوّله ، واليوم الكامل في النصف الثاني ، فستة ونصف من أول الشهر طُهر بيقين ، وتمام السابع إلى آخر السادس عشر حيض بيقين ، ولو كان الكسر من الثاني فبالعكس ، من أول الشهر إلى آخر الرابع عشر طُهر بيقين ، ومن الخامس عشر إلى النصف الأول من الرابع والعشرين حيض بيقين.

ولو قالت : أمزج العشر بالعشر بيوم والكسر من الأول ، فالأول ونصف الثاني طُهر بيقين ، ثم إلى آخر الحادي عشر مشكوك فيه ، فتغتسل في آخره لاحتمال الانقطاع ، ونصف الثاني عشر طُهر بيقين ، ومن النصف الثاني إلى آخر الحادي والعشرين مشكوك فيه ، تغتسل في آخره لاحتمال الانقطاع.

ولو كان الكسر في العشر الثاني فإلى آخر التاسع طُهر بيقين ، ثم يحتمل ابتداء الحيض من أول العاشر ، فآخره النصف الأول من التاسع عشر ، ومن أول التاسع عشر ، فآخره النصف الأول من التاسع والعشرين ، ولا يحتمل أن يكون المزج بين العشرين بيوم والكسر فيهما ، لأنّ العشرين لا تختلط بيوم.

ا لقسم الثالث : ناسية العدد دون الوقت.

فإن ذكرت أول الحيض أكملته ثلاثة بيقين ثم تغتسل في آخر الثالث لاحتمال الانقطاع وتعمل إلى العاشر ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل في كلّ وقت يحتمل الانقطاع.

وإن ذكرت آخره جعلته نهاية الثلاثة ، واغتسلت عنده لاحتمال الانقطاع ، وتعمل فيما بعده عمل المستحاضة لأنّها طاهرة فيه قطعاً وما قبله ثلاثة أيام حيض بيقين ، وما زاد إلى تمام العشرة طهرُ مشكوك فيه ، تعمل ما تعمله المستحاضة ، وتقضي صوم عشرة أيام احتياطاً.

٣١٩

وإن لم تذكر الأول والآخر فذلك الوقت الذي عرفت حيضها فيه إن لم يزد على أقل الحيض فحيضها معلوم ، كما لو قالت : أعلم أني كنت ثاني الشهر حائضاً ورابعه طاهراً.

وإن زاد من غير تداخل كما لو قالت : كنت حائضاً يوم الخامس وطاهرا يوم العاشر ، فالزمان مشكوك فيه تعمل ما تعمله المستحاضة.

وإن تداخل كما لو قالت : كنت حائضاً يوم الثالث وطاهراً يوم السادس فالمتداخل حيض بيقين ، وهو الثالث ، وما عداه مشكوك فيه ، فيحتمل جعل الثالث آخر الحيض تغليبا للسبق ، وأوله إنّ أدى اجتهادها إليه ، وعملنا بالاجتهاد والتخيير ، وأوسطه ، فيكون العشرة حيضاً.

و لو قالت : إنّ حيضي كان في النصف الأول من الشهر ولا أعرف قدره ولا وقته ، فالنصف الثاني طُهر بيقين ، ومن أول الشهر ثلاثة أيام يحتمل الحيض والطهر ولا يحتمل الانقطاع ، فتعمل ما تعمله المستحاضة ، وبعد ذلك إلى تمام النصف يحتمل الحيض والطهر والانقطاع ، فتعمل عمل المستحاضة ، وتغتسل لكلّ صلاة.

مسألة 98 : قد بيّنا أن أقل الحيض ثلاثة أيام ، واختلف علماؤنا في اشتراط التوالي ، فالأكثر عليه(1) ، وقال آخرون : بعدمه(2) ، فإذا رأت ثلاثة أيام متوالية فهو حيض قطعاً ، فإذا انقطع وعاد قبل العاشر وانقطع فالدمان وما بينهما حيض ، ذهب إليه علماؤنا ـ وبه قال أبو حنيفة(3) ـ لأنّ أقل الطُهر عشرة

____________

1 ـ منهم : السيد المرتضى كما في المعتبر : 53 ، وابنا بابويه في الفقيه 1 : 50 ، والهداية : 21 ، والشيخ الطوسي في الجمل : 163 ، والمبسوط 1 : 42 ، وابن حمزة في الوسيلة : 56 ، وابن إدريس في السرائر : 28.

2 ـ قال به الشيخ الطوسي في النهاية : 26 ، وابن البراج في المهذب 1 : 34.

3 ـ شرح فتح القدير 1 : 153 و 154 ، شرح العناية 1 : 153 ، اللباب 1 : 44 ، أحكام القرآن للجصاص 1 : 345.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343