السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192432 / تحميل: 8579
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وقال بعض المفسّرين بأنّ جملة :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) إشارة إلى مقام «الشهود» الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكّنهم الله من النظر إلى جماله وجلاله والالتذاذ من ذلك بأعظم اللذّات. ولكن يظهر أنّ الجملة المذكورة لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب اخرى غير معروفة أيضا.

جملة( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) تدلّل على أنّ أوّل لطف الله معهم ، هو «العفو» عن ذنوبهم وزلّاتهم التي تبدر منهم أحيانا ، لأنّ أشدّ قلق المؤمن يكون من هذا الجانب.

وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة ، فانّه تعالى يشملهم بـ «الشكر» أي انّه يشكر لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب.

نقل تفسير «مجمع البيان» مثلا تضربه العرب وهو «أشكر من بروقة» وتزعم العرب أنّها ـ أي بروقة ـ شجرة عارية من الورق ، تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر(١) . وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر ، ففي قبال أقل الخدمات ، يقدّم أعظم الثواب. بديهي أنّ خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها وأرحم.

* * *

تعليقة

شروط تلك التجارة العجبية :

الملفت للنظر أنّ كثيرا من الآيات القرآنية الكريمة تشبّه هذا العالم بالمتجر الذي تجّاره الناس ، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى ، وبضاعته العمل الصالح ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨١

والقيمة أو الأجر : الجنّة والرحمة والرضا منه تعالى(١) .

ولو تأمّلنا بشكل جيّد فسوف نرى أنّ هذه التجارة العجبية مع الله الكريم ليس لها نظير ، لأنّها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أيّة تجارة اخرى :

١ ـ إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله ، ثمّ كان له مشتريا!.

٢ ـ إنّ الله تعالى مشتر في حال أنّه غير محتاج ـ إلى شيء تماما ـ فلديه خزائن كلّ شيء.

٣ ـ إنّه تعالى يشتري «المتاع القليل» بالسعر «الباهض» «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير» ، «يا من يعطي الكثير بالقليل».

٤ ـ هو تعالى يشتري حتّى البضاعة التافهة( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) .

٥ ـ أحيانا يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر «البقرة ـ ٢٦١».

٦ ـ علاوة على دفع الثمن العظيم فإنّه أيضا يضيف إليه من فضله ورحمته( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (الآية موضوع البحث).

ويا له من أسف أنّ الإنسان العاقل الحرّ ، يغلق عينيه عن تجارة كهذه ، ويشرع بغيرها ، وأسوأ من ذلك أن يبيع بضاعته مقابل لا شيء.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول : «ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها ، إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها»(٢) .

* * *

__________________

(١) سورة الصف : آية ١ والتوبة ـ آية ١١١ والبقرة ٢٠٧ والنساء ـ ٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ٤٥٦ ، صفحة ٥٥٦.

٨٢

الآيتان

( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) )

التّفسير

الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء :

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه ، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّة ، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب ، وبذا يستكمل الحديث الذي افتتحته الآيات السابقة حول التوحيد ، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة.

تقول الآية الكريمة :( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ ) .

مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه ، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى ، لأنّنا

٨٣

كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر انسجاما مع الواقع.

فليس فيه تناقض ، أو كذب أو خرافة ، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات ، وقوانينه تتساوق مع احتياجات البشر ، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.

هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم ، تمّت الاستفادة هنا من كلمة «الحقّ» ، في حال أنّه في آيات اخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ «النور» و «البرهان» و «الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى» ، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده ، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات.

يقول الراغب في (مفرداته) : أصل الحقّ المطابقة والموافقة ، والحقّ يقال على أوجه :

الأوّل : يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة ، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله :( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) .(١)

الثّاني : يقال للشيء الذي وجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولهذا يقال فعل الله تعالى كلّه حقّ ، قال تعالى :( ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ) ،(٢) أي الشمس والقمر وغير ذلك.

الثّالث : في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى :( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ ) .(٣)

والرّابع : يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقا لما يجب ، وبقدر ما يجب ، وفي الوقت المقرّر ، كقولنا : فعلك حقّ ، وقولك حقّ(٤) .

__________________

(١) يونس ، ٣٢.

(٢) يونس ـ ٥.

(٣) البقرة ـ ٢١٣.

(٤) مفردات الراغب ـ مادّة حقّ. «مع تلخيص واختصار».

٨٤

وبناء عليه ، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثا مطابقا للمصالح والواقعيات من جهة ، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة ، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم ، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ.

جملة( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي ، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حاملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

جملة( إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) توضّح علّة حقّانية القرآن وانسجامه مع الواقع والحاجات البشرية ، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة ، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم.

لكن ما هو الفرق بين «الخبير» و «البصير»؟

قال البعض : «الخبير» العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبعد الروحي في الإنسان ، و «البصير» العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

وقال آخرون : «الخبير» إشارة إلى أصل خلق الإنسان ، و «البصير» إشارة إلى أعماله وأفعاله.

وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعدا.

الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم ، أولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور ، وهم يحفظونه ويحرسونه ، فتقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) .

واضح أنّ المقصود من «الكتاب» هنا ، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو

٨٥

«القرآن الكريم» والألف واللام فيه «للعهد». والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية ، وأنّ اللام هنا «للجنس» يبدو بعيد الاحتمال ، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة.

التعبير بـ «الإرث» هنا وفي موارد اخرى مشابهة في القرآن الكريم ، لأجل أنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد ، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد.

لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير عبارة( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) بالأئمّة المعصومينعليهم‌السلام (١) .

هذه الروايات ـ كما ذكرنا مرارا ـ ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاولى. ولكن لا مانع من اعتبار العلماء والمفكّرين في الامّة ، والصلحاء والشهداء ، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي ، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه ، تحت عنوان( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) .

ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص ، فتقول :( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

ظاهر الآية هو أنّ هذه المجامع الثلاثة هي من بين( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) أي : ورثة وحملة الكتاب السماوي.

وبتعبير أوضح ، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي ، بعد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الامّة ، الامّة التي اصطفاها الله سبحانه ، غير أنّ في تلك الامّة مجاميع مختلفة : بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه ، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم ، وهم مصداق( ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

ومجموعة اخرى ، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير ، وإن

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٦١.

٨٦

كان عملها لا يخلو من بعض الزلّات والتقصيرات أيضا ، وهؤلاء مصداق «مقتصد».

وأخيرا مجموعة ممتازة ، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه ، وسبقوا الجميع في ميدان الاستباق ، والذين أشارت إليهم الآية بقولها :( سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) .

وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة «الظالمة» ينافي أنّ هؤلاء جميعا مشمولون بقوله «اصطفينا»؟

وفي الجواب نقول : إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (٥٣) من سورة المؤمن :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) ، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لو يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم.

أو نظير ما ورد في الآية (١١٠) من سورة آل عمران :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

أو ما ورد في الآية (١٦) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضا( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

وكذلك في الآية (٢٦) من سورة الحديد نقرأ :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

وخلاصة القول : إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للامّة بأجمعها فردا فردا ، بل إلى مجموع الامّة ، وإن احتوت على طبقات ، ومجموعات مختلفة(١) .

__________________

(١) أمّا ما احتمله البعض من أنّ التقسيم الوارد في الآية يعود على «عبادنا» وليس على «الذين اصطفينا» ، بحيث أنّ هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب ، بل ضمن مفهوم «عبادنا» و «الذين اصطفينا» فقط المجموعة الثالثة أي «السابقين بالخيرات» ، فيبدو بعيدا ، لأنّ الظّاهر هو أنّ هذه المجموعات ممّن ذكرتهم الآية ، ونعلم أنّ الحديث في الآية لم يكن عن كلّ العباد ، بل عن( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) ، ناهيك عن إضافة «نا» إلى «عباد» وهو نوع من التمجيد والمدح ، ممّا يجعل ذلك غير منسجم مع التّفسير المذكور.

٨٧

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام في تفسير «سابق بالخيرات» بالمعصومعليه‌السلام ، و «ظالم لنفسه» بمن لا يعرف الإمام ، و «المقتصد» العارف بالإمام(١) .

هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما اخترناه لتفسير الآية ، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي.

ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية ، وهم الأئمّة المعصومون ، إذ هم الصفّ الأوّل ، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اخرى.

كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد ، هو أيضا من قبيل بيان المصاديق ، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف.

ومن الجدير بالذكر أنّ جمعا من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الاحتمالات في تفسير هذه المجاميع ، والتي هي في الحقيقة جميعا من قبيل بيان المصاديق(٢) .

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٦١ ، كذلك الكافي ، المجلّد ١ ، باب من اصطفاه الله من عباده.

(٢) ذهب بعض بأنّ السابق بالخيرات هم أعوان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصد طبقة التابعين ، والظالم لنفسه أفرادا آخرون. والبعض الآخر فسّروا «سابق بالخيرات» بالذين يفضّل باطنهم على ظاهرهم و «المقتصد» بالذين يتساوى ظاهرهم وباطنهم ، و «الظالم لنفسه» بالذين يفضّل ظاهرهم على باطنهم. والبعض الآخر قالوا إنّ «السابقين» هم الصحابة ، و «المقتصدين» هم تابعيهم ، و «الظالمين» هم المنافقون. وقال آخرون بأنّ الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة ـ الآيات ٧ إلى ١١.( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) . وفي حديث أنّ «السابق بالخيرات» هم الأئمّة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمّد عليهم الصلاة والسلام ، والمقتصد المتديّنون المجاهدون ، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر غير صالح.

٨٨

وهنا يطرح السؤال التالي : لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اولى ، ثمّ المقتصد ، ثمّ السابقين بالخيرات ، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟

بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال : إنّ الهدف هو بيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل ، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة ، وبعدها مقام التوبة والإنابة ، وأخيرا التوجّه والاقتراب من الله سبحانه وتعالى ، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو «ظالم لنفسه» ، وحين يلج مقام التوبة فهو «مقتصد» ، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام «السابقين بالخيرات»(١) .

وقال آخر : بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار ، فالظالمون يشكّلون الأكثرية ، والمقتصدون في المرتبة التالية ، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة.

الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : (ما مؤدّاه): «قدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله ، وأخّر السابقون بالخيرات لكي لا يأخذهم الغرور بعملهم»(٢) .

ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصودا.

وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ؟

قال البعض ، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي ، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات ، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله ، لكن يبدو أنّ

__________________

وكلّ هذه التّفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق ، وكلّها قابلة للتعقّل ، عدا التّفسير الأوّل الّذي لا يحتوي على مفهوم صحيح.

(١) مجمع البيان ، تفسير الآية مورد البحث.

(٢) تفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلّد ٩ تفسير الآيات مورد البحث.

٨٩

المعنى الأوّل أنسب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية.

* * *

ملاحظة

من هم حرّاس الكتاب الإلهي؟

على ما ذكر القرآن الكريم فإنّ الله سبحانه وتعالى يشمل الامّة الإسلامية بمواهب عظيمة ، من أهمّها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو «القرآن».

وقد اصطفيت الامّة الإسلامية من باقي الأمم ، وتلك نعمة أعطيت لها ، ومسئولية ثقيلة أسندت إليها بنفس النسبة التي فضّلت بها وأصبحت بسببها مشمولة باللطف الإلهي ، وستكون هذه الامّة في صف «السابقين بالخيرات» ما أدّت حقّ حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الأمم في الخيرات ، في تطوير العلوم ، في التقوى والزهد ، في العبادة وخدمة البشرية ، في الجهاد والاجتهاد ، في التنظيم والإدارة ، في الفداء والإيثار والتضحية ، فتتقدّم وتسبق في كلّ هذه الأمور ، وإلّا فإنّها لا تكون قد أدّت حقّ حفظ ذلك الميراث العظيم. خاصّة إذا علمنا أنّ تعبير «السابقين بالخيرات» مفهوم واسع إلى درجة أنّه يشمل التقدّم في جميع الأمور ذات المنحى الإيجابي من امور الحياة.

نعم ، فحملة مثل هذا الميراث هم ـ فقط ـ أولئك الذين يتّصفون بتلك الصفات ، بحيث أنّهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها ، فسيكونون مصداقا لـ «ظالم لنفسه» ، إذ أنّ محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى نجاتهم وتوفيقهم وانتصارهم ، فإنّ من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي كتبها له الطبيب ، فإنّه يساعد على استمرار الألم والعذاب لنفسه. وإنّ من يحطّم مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم ، إنّما يسوق نفسه إلى التيه والضياع ، لأنّ الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع.

٩٠

وعلى المذنبين أيضا أن لا ينسوا حقيقة أنّهم كانوا مشمولين بمضمون الآية الكريمة في زمرة( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) وإنّ لهم ذلك الاستعداد بالقوّة ، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة «الظالم لنفسه» وينتقلوا إلى مرحلة «المقتصد» وليرتقوا من هناك حتّى ينالوا فخر «السابقين بالخيرات» ، حيث أنّهم من جهة الفطرة والبناء الروحي من الذين اصطفاهم الحقّ.

* * *

٩١

الآيات

( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) )

التّفسير

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن :

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية ، يقول تعالى :( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) (١) .

«جنّات» جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.

__________________

(١) «جنّات عدن» : يمكن أن تكون خبرا لمبتدء محذوف تقديره «جزائهم» أو «أولئك لهم جنّات عدن» ، نظير الآية (٣١ ـ سورة الكهف) بعضهم أيضا قال : إنّها (بدل) عن «الفضل الكبير» ، ولكن باعتبار أنّ «الفضل الكبير» إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي ، فلا يمكن أن تكون «جنّات» بدلا عنها ، إلّا إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب.

٩٢

و «عدن» بمعنى الاستقرار والثبات ، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والاستقرار».

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة ، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها ، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة ، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم.

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة ، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني ، وبعض أيضا يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات ، فتقول الآية :( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ) .

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها ، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى لزبرجها ، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر ، والله سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كلّ ذلك ، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

هؤلاء زيّنوا حياتهم الدنيا بالخيرات ، فزيّنهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسّد الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة.

لقد قلنا مرارا بأنّ الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضّح مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم ، فلأجل بيان نعم ذلك العالم الآخر نحتاج إلى حروف اخرى وثقافة اخرى وقاموس آخر ، على أيّة حال ، فلأجل توضيح صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لا بدّ لنا أن نستعين بهذه الألفاظ العاجزة.

بعد ذلك تلك النعمة الماديّة ، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصّة فتقول :وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) .

فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم ، وتلاشت عن حياتهم جميع عوامل الغمّ والحسرة ببركة اللطف الإلهي ، وتبدّدت سحب الهمّ

٩٣

المظلمة عن سماء أرواحهم ، فلا خوف من عذاب إلهي ، ولا وحشة من موت وفناء ، ولا قلق ، ولا أذى الماكرين ، ولا اضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين.

اعتبر بعض المفسّرين ذلك الغمّ والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرّض له في الدنيا ، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم ، ولا تضادّ بين هذين التّفسيرين ، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية.

«الحزن» : (على وزن عدم) ، و «الحزن» ـ على وزن عسر ـ كليهما لمعنى واحد كما ذهب إليه أرباب اللغة ، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ ويضادّه الفرح(١) .

ثمّ يضيف أهل الجنّة هؤلاء( إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) .

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلّات والذنوب ، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغمّ بظلاله المشؤومة. غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من ذنوبنا ، وبشكره أعطانا الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة!

أخيرا تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم ، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقّة والتعب والعذاب ، فتحكى عن ألسنتهم( الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ) .

الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أنّ الإنسان ما أن يألف محيطه ويتعلّق به حتّى يقرع له جرس الرحيل! هذا من جانب ومن جانب آخر فمع أنّ العمر هناك متّصل بالأبد ، إلّا أنّ الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل ، أو التعب أو النصب مطلقا ، لأنّهم في كلّ آن أمام نعمة جديدة ، وجمال جديد.

«النصب» بمعنى التعب ، و «اللغوب» بمعنى التعب والنصب أيضا. هذا على ما تعارف عليه أهل اللغة والتّفسير ، في حين أنّ البعض فرّق بين اللفظتين فقال بأنّ (النصب) يطلق على المشاقّ الجسمانية ، و «اللغوب» يطلق على المشاقّ

__________________

(١) مفردات الراغب.

٩٤

الروحية(١) . أو أنّه الضعف والنحول الناجم عن المشقّة والألم ، وبذا يكون «اللغوب» ناجما عن «النصب»(٢) .

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة ، سواء كانت نفسية أو جسمانية.

* * *

__________________

(١) انظر تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٢ ، صفحة ١٨٤.

(٢) المصدر السابق.

٩٥

الآيات

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) )

التّفسير

ربّنا أخرجنا نعمل صالحا!

القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر «الإنذارات» ، إلى جانب «البشارات» لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في الإنسان ، إذ أنّ الإنسان بمقتضى «حبّ الذات» يقع تحت تأثير غريزتي «جلب المنفعة» و «دفع الضرر».

وعليه فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية

٩٦

العظيمة وصبر «المؤمنين السابقين في الخيرات» ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات الأليمة للكفّار ، والحديث هنا أيضا عن العقوبات المادية والمعنوية.

تبتدئ الآيات بالقول :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ) ، فكما أنّ الجنّة دار المقامة والخلد للمؤمنين ، فإنّ النار أيضا مقام أبدي للكافرين.

ثمّ تضيف( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) (١) ، فمع أنّ تلك النار الحامية وذلك العذاب المؤلم يستطيع القضاء عليهم في كلّ لحظة ، إلّا أنّهم ولعدم صدور الأمر الإلهي ـ وهو المالك لكلّ شيء ـ بموتهم لا يموتون ، يجب أن يبقوا على قيد الحياة ليذوقوا عذاب الله. فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص من العذاب ، لكن الله تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.

يبقى منفذ آخر هو أن يبقوا على قيد الحياة ويخفّف عنهم العذاب شيئا فشيئا ، أو أن يزداد تحمّلهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم ، ولكن تتمّة الآية أغلقت هذا المنفذ أيضا( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ) .

ثمّ تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي( كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) .

فقد كفر هؤلاء في بادئ الأمر بنعمة وجود الأنبياء والكتب السماوية ، ثمّ أتلفوا رصيدهم الذي سخّره الله لمساعدتهم على نيل السعادة ، نعم ، فجزاء الكفّار ليس سوى الحريق والعذاب الأليم ، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.

وبما أنّ كلمة «كفور» صيغة مبالغة ، فإنّ لها معنى أعمق من «كافر» ، علاوة على أنّ لفظة «كافر» تستخدم في قبال «مؤمن» ولكن «كفور» إشارة إلى أولئك الذين كفروا بكلّ نعم الله ، وأغلقوا عليهم جميع أبواب الرحمة الإلهيّة في هذه الدنيا ، لذا فإنّ الله يغلق عليهم جميع أبواب النجاة في الآخرة.

__________________

(١) «لا يقضى عليهم» بمعنى لا يحكم عليهم.

٩٧

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم ، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص ، فتقول الآية الكريمة :( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) (١) .

نعم ، فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة ، يغرقون في ندم عميق ، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال ، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.

التعبير بـ «صالحا» بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح ، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم ، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب ، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضا يمكن أن يكون سببا في نجاتهم.

التعبير بالفعل المضارع «نعمل» أيضا له ذلك الإشعاع ، ويؤيّد هذا المعنى ، وهو تأكيد أيضا على «أنّنا كنّا مستغرقين في الأعمال الطالحة».

قال بعض المفسّرين : إنّ الربط بين وصف «صالحا» واللاحق لها «كنّا نعمل» يثير نكتة لطيفة ، وهي أنّ المعنى هو «إنّنا كنّا نعمل الأعمال التي عملنا بناء على تزيين هوى النفس والشيطان ، وكنّا نتوّهم أنّها أعمال صالحة ، والآن قرّرنا أن نعود ونعمل أعمالا صالحة في حقيقتها غير التي ارتكبناها».

نعم فالمذنب في بادئ الأمر ـ وطبق قانون الفطرة السليمة ـ يشعر ويشخص قباحة أعماله ، ولكنّه قليلا قليلا يتطبّع على ذلك فتقل في نظره قباحة العمل ، ويتوغّل أبعد من ذلك فيرى القبيح جميلا ، كما يقول القرآن الكريم :( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ) (٢) .

وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .(٣)

__________________

(١) «يصطرخون» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للاستغاثة وطلب النجدة ، للتخلّص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.

(٢) التوبة ، ٣٧.

(٣) الكهف ، ١٠٤.

٩٨

على كلّ حال ، ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه أولئك من الله سبحانه وتعالى ، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول :( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) فإذا لم تنتفعوا بكلّ ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كلّ الفرص الكافية المتاحة( فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) .

هذه الآية تصرّح : لم يكن ينقصكم شيء ، لأنّ الفرصة أتيحت لكم بما يكفي ، وقد جاءتكم نذر الله بالقدر الكافي ، وبتحقّق هذين الركنين يحصل الانتباه والنجاة ، وعليه فليس لكم أي عذر ، فلو لم تكن لكم المهلة كافية لكان لكم العذر ، ولو كانت لكم مهلة كافية ولم يأتكم نذير ومرشد ومعلّم فكذلك لكم العذر ، ولكن بوجود ذينك الركنين فما هو العذر؟!

«نذير» عادة ترد في الآيات القرآنية للإشارة إلى وجود الأنبياء ، وبالأخصّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن بعض المفسّرين ذكروا لهذه الكلمة هنا معنى أوسع ، بحيث تشمل الأنبياء والكتب السماوية والحوادث الداعية إلى الانتباه كموت الأصدقاء والأقرباء ، والشيخوخة والعجز ، وكما يقول الشاعر :

رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير(١)

من الجدير بالملاحظة أيضا أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ هناك حدّا من العمر يعتبر إنذارا وتذكيرا للإنسان ، وذلك بتعبيرات مختلفة ، فمثلا

في حديث عن ابن عبّاس مرفوعا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه»(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة»(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤١٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٩٩

وعن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستّين؟ وهو العمر الذي قال الله :( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) (١) .

ولكن ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : إنّ الآية «توبيخ لابن ثماني عشرة سنة»(٢) .

طبعا ، من الممكن أن تكون الرواية الأخيرة إشارة إلى الحدّ الأقل ، والروايات السابقة إشارة إلى الحدّ الأعلى ، وعليه فلا منافاة بينها ، وحتّى أنّه يمكن انطباقها على سنين اخرى أيضا ـ حسب التفاوت لدى الأفراد ـ وعلى كلّ حال فإنّ الآية تبقى محتفظة بسعة مفهومها.

في الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ يرد الجواب على طلب الكفّار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

الجملة الاولى في الحقيقة دليل على الجملة الثانية ، أي إنّه كيف يمكن لعالم أسرار السموات والأرض وغيب عالم الوجود أن لا يكون عالما بأسرار القلوب؟!

نعم ، فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنّم ، وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٨) من سورة الأنعام :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

إضافة إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم ، وأن لا يأخذوا بنظر الإعتبار غير الله سبحانه وتعالى ، لأنّ أقلّ شائبة في نواياهم سيكون معلوما لديه وباعثا لمجازاتهم على قدر ذلك.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٥٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤١٠.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد.

ولاية ابن زياد على الكوفة

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد، وأراد عزله عن ولاية البصرة(١) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده.

وعلى أيّ حال، فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه، وكتب إليه ما يلي: أمّا بعد، فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسّلام(٢) .

وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة، وقد جاء فيها: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(٣) .

وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة، فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة.

ابن زياد في الكوفة

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٣٥٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

٢٠١

فيهم شريك بن الأعور الحارثي، وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)(١) .

وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين (عليه السّلام)، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور؛ مخافة أن يعرفه الناس، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين (عليه السّلام).

وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر، وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته.

فانبرى مخاطباً له: ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله، وما لي في قتالك من إرب.

ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان، فصاح به: افتح لا فتحت! فقد طال ليلك. ولمّا تكلّم عرفه الناس، فصاحوا: إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي، وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها.

وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعتلى المنبر وخطب الناس.

وكان من جملة خطابه: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين يزيد - أصلحه الله - ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٢٠٢

ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(١) .

وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس، ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لمّا أصبح ابن زياد - بعد قدومه إلى الكوفة - صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(٢) .

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد، وقال: أمّا بعد، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي.

فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً: أيّها الأمير، إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، إنّما المرء بجده، والفرس بشدّه، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة.

واُفحم ابن زياد، فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(٣) .

مسلم في بيت هانئ

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٧.

(٢) الفصول المهمّة / ١٩٧.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٦٠.

٢٠٣

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إليهم.

التجسّس على مسلم (عليه السّلام)

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم (عليه السّلام)، ومعرفة نشاطاته السياسيّة، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده.

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه، وكان فطناً ذكياً، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري، وإنّما أمره بالانتساب للموالي؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وقال له: إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له: إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه.

ومضى معقل في مهمّته، فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم، فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً: إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

وخدع مسلم بقوله، فقال له: لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال، والذي تحبّ، وينصر الله بك أهل نبيّه، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة

٢٠٤

وكتمان الأمر(١) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم، فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع.

وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة، ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها.

اعتقال هانئ

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير، وفي بيته مسلم بن عقيل، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج، ولمّا التقوا به قالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنّه قد ذكرك وقال: لو علم أنّه شاكٍ لعدته.

فاعتذر لهم وقال: الشكوى تمنعني. فلم يقنعوا بذلك، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته، فاستجاب لهم على كره وسار معهم، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ، فقال لحسان بن أسماء: يابن الأخ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل، فما ترى؟

فقال له حسان: يا عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، وقال له: أتتك بخائن رجلاه.

وذعر هانئ فقال له:

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩.

٢٠٥

ما ذاك أيها الأمير؟

فصاح به الطاغية: إيه يا هانئ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر هانئ وقال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

- بلى، قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع، فدعا الجاسوس معقلاً، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ: أتعرف هذا؟

- نعم.

وأسقط ما في يدي هانئ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف، فقال لابن مرجانة: قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي(١) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(٢) .

وثار ابن زياد فرفع صوته: والله، لا تفارقني حتّى تأتيني به - أي بمسلم -.

وسخر منه هانئ، وردّ عليه: لا آتيك بضيفي أبداً.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٧.

٢٠٦

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه، فسمح له بذلك، فاختلى به وقال له: يا هانئ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك؛ إنّ هذا الرجل - يعني مسلماً - ابن عمّ القوم، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان.

ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ؟

وقال هانئ: بلى والله، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا حيّ صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً.

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد: أيّها الأمير، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(١) .

والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به: أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فلم يعبأ به هانئ، وقال: إذن تكثر البارقة حولك(٢) .

فثار ابن مرجانة وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٧٥.

(٢) البارقة: السيوف.

٢٠٧

والهفا عليك! أبالبارقة تخوّفني؟

وصاح بغلامه مهران وقال له: خذه. فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح به ابن زياد: أحروري أحللت بنفسك، وحلّ لنا قتلك؟!

ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(١) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها.

وعلى أيّ حال، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة.

ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له: ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ، فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً: يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي! أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له: يا شريح، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢٠٨

[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة، فخاطب مذحج قائلاً: قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل.

وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً: إذا لم يُقتل فالحمد لله(١) .

وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن، وقد صحبوا معهم الخزي والعار، وانطلقت الألسنة بذمّهم. وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم، قال:

فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري = إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّمَ السيفُ وجههُ = وآخر يهوى من طمارِ قتيلِ(٢)

أصابهما فرخُ البغيّ فأصبحا = أحاديثَ مَنْ يسيري بكلّ سبيلِ

ترى جسداً قد غيّرَ الموتُ لونهُ = ونضحُ دمٍ قد سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييَّةٍ = وأقطع من ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً = وقد طلبتهُ مذحجٌ بذحولِ(٣)

تطوفُ حواليهِ مرادٌ وكلّهم = على رقبةٍ من سائلٍ ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ = فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ(٤)

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) الطمار: اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم.

(٣) الهماليج: جمع هملاج، نوع من البرذون.

(٤) مروج الذهب ٢ / ٧٠، والشاعر مجهول.

٢٠٩

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم.

ثورة مسلم (عليه السّلام)

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وقيل: أربعون ألفاً(١) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت).

وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام)، وهم:

١ - عبد الله بن عزيز الكندي، جعله على ربع كندة.

٢ - مسلم بن عوسجة، جعله على ربع مذحج.

٣ - أبو ثمامة الصائدي، جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان.

٤ - العباس بن جعدة الجدلي، جعله على ربع المدينة.

واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(٢) .

وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال: أمّا بعد يا أهل الكوفة، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله، وطاعة أئمّتكم، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا، وتندموا وتُقهروا، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً، وقد اُعذر مَنْ أنذر.

وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت، فسأل عن ذلك فقيل له: الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه.

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢١٠

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف، فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(١) .

وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم، وضاقت الدنيا على ابن زياد، وأيقن بالهلاك؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة، وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(٢) .

حرب الأعصاب

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه، وهم:

١ - كثير بن شهاب الحارثي

٢ - القعقاع بن شور الذهلي

٣ - شبث بن ربعي التميمي

٤ - حجّار بن أبجر.

٥ - شمر بن ذي الجوشن الضبابي(٣)

وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم.

وكان ممّا قاله كثير بن شهاب: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين - يعني يزيد - قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٣) المصدر السابق ٣ / ٢٧٢.

٢١١

- يعني ابن زياد - العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(١) .

وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(٢) .

وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له: الناس يكفونك(٣) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد.

هزيمة جيش مسلم (عليه السّلام)

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية.

ويقول المؤرّخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه، وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين(٤) .

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٨.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٤.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ / ٣٠٠.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٥.

٢١٢

في أثناء الصلاة، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه.

في ضيافة طوعة (رضي الله عنها)

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل، وقد خلت المدينة من المارة؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

وسار مسلم وهو خائر القوى، قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها: (طوعة)، وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس، أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له: بلال، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السّلام، وقالت له: ما حاجتك؟

- اسقني ماءً.

فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس، فارتابت منه، وقالت له: ألم تشرب الماء؟

- بلى.

- اذهب إلى أهلك، إنّ مجلسك مجلس ريبة(١) .

____________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٥١.

٢١٣

وسكت مسلم، فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها، فذعرت منه وقالت له: سبحان الله! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري.

ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزين النبرات: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب، وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها، فقالت له: وما ذاك؟

- أنا مسلم بن عقيل، كذّبني القوم وغرّوني.

فدهشت المرأة وقالت له: أنت مسلم!

- نعم(١) .

وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير، فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها، وقد حازت الشرف والفخر، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل؛ فقد مزّق الأسى قلبه، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالقدوم إلى الكوفة.

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة، فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم، فاستراب من ذلك، فسألها عنه فلم تجبه، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٢.

٢١٤

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ، فأعلمه بمكان مسلم، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته.

وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر، فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لك عبد الرحمن؟

- أصلح الله الأمير، البشارة العظمى.

- ما ذاك؟ مثلك مَنْ بشّر بخير.

- إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة.

وفرح ابن مرجانة، وتمّت بوارق آماله وأحلامه، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً: قم فآتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى.

لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة.

الهجوم على مسلم (عليه السّلام)

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم

٢١٥

من الذلّ والعبودية، ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن.

ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له.

واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(١) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(٢) ، وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوّة الخارقة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(٣) ، وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم؛ فقد أشاع فيهم القتل، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال، فلامه الطاغية وقال: سبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(٤) !

وثقل ذلك على ابن الأشعث، وقال لابن مرجانة: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة

____________________

(١) الدرّ النضيد / ١٦٤.

(٢) المحاسن والمساوئ - البيهقي ١ / ٤٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٤.

(٤) الفتوح ٥ / ٦٣.

٢١٦

الحيرة؟(١) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام(٢) .

وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة، فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه، وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا = وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا

أو يُخلطُ الباردُ سخناً مرّا = ردّ شعاعُ الشمسِ فاستقرا

كلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا = أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(٣)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً: إنّك لا تُكذب ولا تُخدع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك.

فلم يحفل به مسلم، ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم قائلاً: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار؟ ويلكم! أما ترعون حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذريّته؟

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم، فصاح بالجيش: ذروه حتّى اُكلّمه. فدنا منه، وقال له: يابن عقيل، لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي.

ولم يعنَ به مسلم؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم،

____________________

(١) الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.

(٢) الفتوح ٥ / ٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٥، نقلاً عن الطبري / ٦٣، الفتوح ٥ / ٩٤ - ٩٥.

٢١٧

وأجابه: يابن الأشعث، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً.

وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي.

وتكاثرت عليه الجموع، فصاح بهم ابن الأشعث: إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة. فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى الأسفل، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

أسره (عليه السّلام)

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار، وانتزعوا منه سيفه، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة.

وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك، فأجابه أنّه ليس لي بأمير.

فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً، وقال له: سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول.

فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، وجرت مناورات كلامية بينهما، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، وكان يُسبّح الله ويستغفره.

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه،

٢١٨

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة، فأُخرج من السجن في وضح النهار، وجعل يستنجد باُسرته، وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً، فرفع هانئ صوته قائلاً: اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله).

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته.

وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(١) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد.

ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام)، كما أعدم جاعة منهم، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

لقد سمعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها، وأيقنت أنّ شقيقها وبقيّة أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٥٥، القسم الأوّل.

٢١٩

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343