السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192193 / تحميل: 8571
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

الأذان شعار اسلامي كبير :

إنّ لكل أمّة ـ في أي عصر أو زمان كانت ـ شعار خاص بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ، ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع.

فالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.

والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين ، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى ، فقد ذكر صاحب تفسير (المنار) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ، وينقل صاحب المنار ـ أيضا ـ أنّ بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي.

فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ، وينتهي ـ كذلك ـ بذكر الله!! فبدايته اسم «الله» وختامه اسم (الله) في جمل موزونةمتناغمة ، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء.

ولذلك أكّدت الرّوايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان ، فقد ورد

__________________

أشير إليها سابقا ـ صحة الاحتمالين ، لأنّ المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصّلاة معا ، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال الأوّل ، أي أن الضمير يعود على الصّلاة.

٦١

عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث معروف في هذا المجال ، أنّه قال : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة(1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة.

إنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ، ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ، ويعتبر رمزا من رموز بقاء الإسلام ، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين : ما دام اسم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع على المآذن ، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية(2) .

وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار الإسلامي العظيم ـ الذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصور ـ من إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ، نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.

ومن الطبيعي أنّ الأذان ـ لفحواه ومحتواه الجميل البديع ـ يحتاج أدائه إلى صوت مقبول ، لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.

نزول الأذان وحيا على النّبي :

وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي ، وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سأله أصحابه عن إيجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،

__________________

(1) الوسائل : ج 5 ، ص 376 ، باب 2 ، ح 21.

(2) صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

٦٢

استشار الصحابة ، فقدم كل منهم اقتراحا ، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو إشعال نار ، أو دق ناقوس ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصا يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصّلاة ، وعلمهما كيفية هذا الأذان ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك(1) .

إنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفيعة ، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام من أن الأذان نزل وحيا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحدثنا الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واضعا رأسه في حجر عليعليه‌السلام حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة ، فعلّمهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب ، فسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ثانية إن كان قد حفظ ذلك ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب أيضا ـ ثمّ طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليعليه‌السلام أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإقامة ، فاستدعى عليعليه‌السلام بلالا وعلمه الأذان والإقامة(2) .

وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي.

(2) الوسائل ، ج 4 ، ص 612.

٦٣

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(60) )

سبب النّزول

نقل عن عبد الله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد ، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله ، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته ، ثمّ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّا على هؤلاء الحاقدين.

٦٤

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين ، وهل أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد ، حيث تقول الآية :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) (1) .

وتشير هذه الآية ـ أيضا ـ إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر ، ونظرتهم الضيقة الآحادية الجانب التي دفعت بهم إلى الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم ، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّا.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة ، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه ، ما هو إلّا لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب ، ولذلك فهم ـ لانحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية :( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) .

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق ، تنقلب ـ أحيانا ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقا ، ويصبح العمل الصالح والإعتقاد النزيه شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد ، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا جديرا بالاستحسان والمديح ، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب ، وواضح أنّها

__________________

(1) إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شيء معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

٦٥

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع ، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل هؤلاء : هل أنّ الإيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض ، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء : إن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال ، حيث تقول :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ) (1) .

ولا شك أنّ الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود ، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب ، هي من باب الكناية ، كما ينتقد انسان فاسد إنسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا الفاسد : أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع ، فتبيّن أنّ أولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قرودا وخنازير ، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام ، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع ، لأنّهم ابتعدوا كثيرا عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب ، تقول الآية الكريمة :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

__________________

(1) إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى ، كما تطلقان ـ أيضا ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن ، وأحيانا تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

٦٦

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (1) .

وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان ، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية ، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟

وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف ، وبصورة مفصلة بإذن الله.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية :( سَواءِ السَّبِيلِ ) لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان ، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالاعتدال وتخلو من الانحراف ، ويجب الانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارة( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) عطف على جملة( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أهل الكتاب ، إمّا أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود ، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

٦٧

الآيات

( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) )

التّفسير

الآية الاولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة :( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإيمان ،

٦٨

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم ، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيرا من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية :( وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ كلمة «إثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا ، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين : أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط ، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين ، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية ، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص ، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين ، أوّلا لكل ذنب اقترفوه ، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة ، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب ، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

__________________

(1) لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة ، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضا ، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة ، في المجلد الأوّل.

٦٩

وأكل المال الحرام ، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وتدل عبارة( كانُوا يَعْمَلُونَ ) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة ، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق إصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول :( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله ، لكنّها قد أطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين ، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثارا حسنة في المجتمع ، لكنّها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها ، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة( قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة ، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول ، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء ، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إلى إصلاح أي مجتمع فاسد ، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع ، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية ، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

٧٠

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل إصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبح صمتهم هذا ، كما تقول الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله : بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه ، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله ، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك الأقوام(1) .

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام عليعليه‌السلام في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قولهعليه‌السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649.

٧١

ويلفت الانتباه هنا أيضا أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة ، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة ، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذما أكبر ، وذلك لأنّ سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا يكون ارتكابهم هذا ـ غالبا ـ بسبب جهلهم ، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير ، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

٧٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )

التّفسير

تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

٧٣

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية :( قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك(1) .

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله :( غُلَّتْ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649 ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 486.

٧٤

أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال :( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلىذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة :( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة( الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

٧٥

والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول :( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) وتؤكّد أيضا قائلة :( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

٧٦

أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم.

* * *

٧٧

الآيتان

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) )

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت :( وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

٧٨

ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) .

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة( ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

٧٩

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي( مِنْ فَوْقِهِمْ ) و( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المأساة الخالدة

ولم تبقَ كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم في كربلاء؛ فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً؛ فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الانتهال منه، وقد عجّت أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ، وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم؟!

وقد زحفت جيوش الاُمويِّين نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) في ليلة التاسع من المحرّم، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها، فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته، وقالت له: إنّ العدو قد دنا منّا.

فقال لها:«إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال: إنّك تروح إلينا» .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة، فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب، فلطمت وجهها وقالت: يا وليتاه(١) !

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٨٤.

٢٤١

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) إلى جانب أخيه لا يفارقه، فقال له: يا أخي، أتاك القوم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يتعرّف على خبرهم، فقال له:«اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟» .

وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم، وفيهم حبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، فسألهم العباس عن زحفهم، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(١) .

وقفل أبو الفضل (عليه السّلام) إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم، فقال (عليه السّلام) له:«ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار» . وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام (عليه السّلام) في هذه الحياة(٢) .

وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة، فعرض عليهم مقالة أخيه، وتردّد القوم في إجابته، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم، وقال: سبحان الله! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، ولم يقل: إنّه ابن رسول الله؛ خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان. وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج، فقال له ابن سعد:

____________________

(١) أنساب الأشراف / ١٨٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٢

أجبهم إلى ما سألوا، فلعمري ليصبحنك بالقتال غداً.

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين (عليه السّلام)، فدنا منه وقال رافعاً صوته: يا أصحاب الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإن أبيتم ناجزناكم.

واُرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرّم.

الإمام (عليه السّلام) يأذن لأصحابه بالتفرّق

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل، وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده، فقال لهم:«اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً، فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري» (١) .

لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع، وهي الشهادة التي لا بدّ

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٣

منها في مصاحبته، وليس شيء آخر غيرها، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كلّ عين، كما عرّفهم أنّه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره، فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره.

وعلى أيّ حال، فإنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكد ينتهي من خطابه حتّى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) قائلاً: لِمَ تفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً(١) .

وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً.

لوعة السيدة زينب (عليها السّلام)

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يُعالج سيفه ويصلحه، وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه:

يا دهرُ أُفّ لكَ من خليلِ = كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ = والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ = ما أقربُ الوعد إلى الرحيلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكان مع الإمام (عليه السّلام) في خيمته الإمام زين العابدين (عليه السّلام) والعقيلة؛ أمّا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت، وعلم أنّ البلاء قد نزل، وأمّا العقيلة (عليها السّلام) فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت، فأمسكت قلبها الرقيق

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٦٧.

٢٤٤

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع، فقالت لأخيها: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة. يا حسيناه! يا سيّداه! يا بقيّة أهل بيتاه! استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة؟! اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء، وأبي عليّ المرتضى، وأخي الحسن الزكيّ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين(١) !

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) أسىً وحزناً، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان:«يا اُخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان» .

وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة: أتغتصب نفسك اغتصاباً؟! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي.

ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة، فعمدت إلى جيبها فشقّته، ولطمت وجهها، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(٢) .

وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام (عليه السّلام) فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها.

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام (عليه السّلام) مع أهل بيته وأصحابه على العبادة؛ فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم، ولم يذق أيّ واحد منهم طعم الرقاد؛ فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه، ويتلون كتابه، ويقيمون الصلاة، ويسألونه العفو والغفران.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١٣.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٣.

٢٤٥

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر؛ ليكونوا قرابينَ للإسلام، وفداءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان حبيب بن مظاهر، وهو من ألمع أصحاب الحسين (عليه السّلام)، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له: يا حبيب، ما هذه ساعة ضحك! فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(١) .

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري، فاستغرب من مداعبته قائلاً: ما هذه ساعة باطل!

انظروا إلى جواب برير فقد قال: لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(٢) .

أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين (عليه السّلام)؛ فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد.

رؤيا الإمام الحسين (عليه السّلام)

وخفق الإمام الحسين (عليه السّلام) خفقة ثمّ انتبه، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم:«أتعلمون ما رأيت في منامي؟» .

- ما رأيت يابن رسول الله؟

«رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني، وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ، وأظنّ

____________________

(١) رجال الكشي / ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

٢٤٦

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجّل ولا تؤخّر. هذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا» (١) .

وخيّم على أهل البيت (عليهم السّلام) حزن عميق، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة.

فزع عقائل الوحي

وفزعت عقائل الوحي، وخيّم عليهنَّ الذعر والخوف، ولم يهدأن في تلك الليلة؛ فقد طافت بهنَّ موجات من الهواجس وتمثّل أمامهنَّ المستقبل المليء بالخطوب والكوارث، وقد خلدنَ إلى الدعاء والبكاء، وكان من أشدّهنَّ عقيلة النبوّة السيّدة زينب؛ فقد كانت تراقب الأحداث وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين (عليه السّلام) إليها لو قُتل، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها.

العقيلة (عليها السّلام) مع الهاشميّين والأصحاب

ولم تهدأ عقيلة الرسالة؛ فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرّم هي آخر ليلة لأهلها وهم على قيد الحياة، وقد وجلت على أخيها، فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب لتسمع ما يدور عندهم من حديث.

فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع بها فتيان بني هاشم، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل، فسمعته يخاطب

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٧.

٢٤٧

الهاشميّين قائلاً: إخوتي وبني إخوتي وأبناء عمومتي، إذا كان الصباح فما تصنعون؟

فهبّوا جميعاً قائلين: الأمر إليك.

- إنّ أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح كنتم أوّل مَنْ يبرز للقتال، فنسبق أنصارنا إلى الموت؛ لئلاّ يقول الناس: قدّموا أصحابهم.

ولم ينتهِ من مقالته حتّى هبّوا قائلين: نحن على ما أنت عليه.

ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام وقد أحاط به الأصحاب، فسمعت يحدّثهم قائلاً: يا أصحابي، إذا كان الصباح ماذا تفعلون؟

- الأمر إليك.

إذا صار الصباح كنّا أوّل مَنْ يبرز إلى القتال، نسبق بني هاشم إلى الموت، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه؛ لئلاّ يقول الناس: قد بدؤوهم إلى القتال، وبخلنا عليهم بأنفسنا.

واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب، وراحوا يقولون: نحن على ما أنت عليه.

وسُرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها والذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه، وحمايته من كلّ سوء ومكروه.

وأخبرها الإمام (عليه السّلام) أنّهم من أنبل الناس، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام.

٢٤٨

يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب (عليها السّلام) وعلى أهل البيت (عليهم السّلام)، فلم تبقَ رزيّة من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم، ونتحدّث - بإيجاز - عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان.

خطاب الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام، فرأى (عليه السّلام) من الواجب أن يعظهم ويرشدهم حتّى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً، وقد نشر كتاب الله العظيم، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولبس لامته، فقال لهم:«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين (١) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم (٢) علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً (٣) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم.

مهلاً - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم(٤) ، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا(٥) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.

____________________

(١) موجفين: أي مسرعين في السير إليكم.

(٢) حششتم النار التي توقد.

(٣) إلباً: أي مجتمعين.

(٤) مشيم السيف: غمده.

(٥) الدّبا: الجراد قبل أن يطير.

٢٤٩

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الأثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن!

أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت إليه اُصولكم، وتأزّرت(١) عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجر شجى للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(٢) والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر» . ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإن نُهزم فهزّامون قدماً = وإن نُُغلَب فغيرُ مغَلّبينا

وما إن طِبُّنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن أُناس = كلاكله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي = كما أفنى القرونَ الأوّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا = ولو بقي الكرامُ إذاًً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا = سيلقى الشامتونَ كما لقينا

«أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتّى يدور

____________________

(١) تأزّرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٢) السلّة: استلال السيوف.

٢٥٠

بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ) ، ( إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ».

ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسِنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» (١) .

لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله؛ فقد استهان بالموت، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ، وكانوا سوءة عار لمجتمعهم.

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) أسرع نحو ابن سعد فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال له الحرّ برنّة المستريب:

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ - ٧٥.

٢٥١

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه ابن سعد: لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك.

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمضى يشقّ الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس، وهو من شرطة ابن زياد، فقال له: والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك.

وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له: إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت واُحرقت. ولوى بعنان فرسه صوب الإمام (عليه السّلام)(١) ، وهو مُطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً: اللّهمّ إليك اُنيب؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك. يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟

ونزل عن فرسه ووقف قبال الإمام (عليه السّلام) ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً: جعلني الله فداك يابن رسول الله!أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

٢٥٢

وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

واستبشر به الإمام (عليه السّلام)، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:«نعم، يتوب الله عليك ويغفر» (١) .

وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام (عليه السّلام) العفو وقبل توبته، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حقّ مشاع للجميع، ولم يستجيبوا له، ورموه بالنبال.

الحرب

وارتبك ابن سعد من التحاق الحرّ بالإمام (عليه السّلام)، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين (عليه السّلام)، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام، وقد رفع صوته قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين.

وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل مَنْ رمى معسكر ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام)، فلم يبقَ أحد منهم إلاّ أصابه سهم، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً:«قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم» .

وتقدّمت طلائع الحقّ من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٢٨٩.

٢٥٣

الجنّة، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه.

ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض؛ فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الاُلوف، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.

مصارع أصحاب الإمام (عليه السّلام)

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وخاضوا معهم معركة رهيبة، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام (عليه السّلام)، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام (عليه السّلام).

ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويُقاتل ثمّ يُقتل، وهكذا حتّى فنوا عن آخرهم، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء؛ فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ولم تضعف لأيّ رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته.

وإنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق (عليه السّلام) عملاق الفكر الإسلامي في حقّهم، قال مخاطباً لهم:«بأبي أنتم واُمّي! طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً» .

مصارع أهل البيت (عليهم السّلام)

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) هبّ أبناء الاُسرة النبويّة شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار؛ حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كلّ جانب جيوش الاُمويِّين

٢٥٤

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت (عليهم السّلام):

عليّ الأكبر (عليه السّلام)

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، وكانت الاُسرة النبويّة والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى وجه عليّ الأكبر، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات؛ فقد تسلّح بكلّ فضيلة وأدب، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين (عليه السّلام) لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه.

وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(١) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) ذابت نفسه أسى وحسرات، وأشرف على الاحتضار؛ فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه:«اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:«ما لك؟! قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك مَنْ يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وتلا قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٤.

٢٥٥

وشيّع الإمام (عليه السّلام) ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب وقد امتلأ قلبه حزماً وعزماً، ووجهه الشريف يتألق نوراً؛ فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوسّط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً:

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي = نحن وربُّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة فيكم.

والتحم عليّ الأكبر (عليه السّلام) مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كلّ وصف؛ فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ومحطّم أوثان القرشيّين، وقد قتل مئة وعشرين فارساً(١) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش وأضرّ به، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً: يا أبتِ، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء؟

والتاع الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:«واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً» .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٦.

٢٥٦

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:

يشكو لخيرِ أبٍ ظمأه وما اشتكى = ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كلٌّ حشاشته كصاليةِ الغضا = ولسانُه ظمأ كشقةِ مبردِ

فانصاعَ يؤثرهُ عليهِ بريقهِ = لو كانَ ثمةَ ريقه لم يجمدِ

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رُزئ به أبو الأحرار؛ فقد رأى ولده الذي هو من أنبل وأشرف ما خلق الله، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدّة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه.

وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر (عليه السّلام) راجعاً إلى حومة الحرب، قد فتكت الجراح بجسمه، وفتّت العطش فؤاده، وجعل يُقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتّى ضجّ العسكر من كثرة مَنْ قتل منهم.

ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه. وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره، وضربه ضربة منكرة على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه، إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كلّ جانب، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول:«إنّ لك كأساً مذخورة» .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطّعت قلبه، ومزّقت أحشاءه، ففزع إليه وهو خائر القوى، منهدّ الركن، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه وهو جثة هامدة، قد قطّعت شلوه السيف إرباً إرباً، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله، وجعل يلفظ شظايا قلبه

٢٥٧

بهذه الكلمات:«قتل الله قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا» (١) .

وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتّى هرعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب من خدرها، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها، وجعلت تضمّخه بدموعها وقد انهارت قواها، وانبرى إليها الإمام (عليه السّلام) وجعل يعزّيها بمصابها الأليم، وهو يردّد هذه الكلمات:«على الدنيا بعدك العفا» .

وأخذ الإمام (عليه السّلام) بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط.

لقد كان علي بن الحسين (عليه السّلام) الرائد والزعيم لكلّ حرّ شريف مات أبيّاً على الضيم في دنيا الإباء، فسلام الله عليه غادية ورائحة، ونودعه بالأسى والحزن، ونردّد كلمات أبيه:«على الدنيا بعدك العفا» .

مصارع آل البيت (عليهم السّلام)

وبرزت الفتية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار، وكان من بينهم القاسم بن الحسن، وكان كالقمر في بهائه وجماله، وقد ربّاه عمّه وغذّاه بمواهبه وآدابه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتّى صار صورة عنه، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه.

وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وجعل يردد:

____________________

(١) العفا: التراب.

٢٥٨

لا يُقتل عمّي وأنا أنظر إليه(١) .

واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً، وجعل القاسم يُقبّل يديه طالباً منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة، ولم يضف على جسده لامة الحرب، وإنّما صحب معه سيفه.

والتحم مع اُولئك القرود، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وبينما هو يُقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سليل النبوّة أن تكون أحد رجليه بلا نعل، فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي، فقال: والله لأشدنَّ عليه.

فأنكر عليه حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم. فلم يعن به، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم، ونادى رافعاً صوته: يا عمّاه!

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) وأسرع إليه، فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه، إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها.

وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله والفتى يفحص بيديه ورجليه، وهو يعاني آلام الاحتضار، فخاطبه الإمام (عليه السّلام):«بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته. والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره» .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٥.

٢٥٩

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(١) ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت (عليهم السّلام)، وأخذ يطيل النظر إليهم، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» .

وكلّ هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم (عليها السّلام)، فكانت تستقبل في كلّ لحظة فتى من الاُسرة النبويّة وهو مضرّج بدمائه، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال.

مصرع عون (عليه السّلام)

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام)، فجعل يُقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدِ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من معشرْ

أنت أيّها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قُطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلاميّة، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى.

وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال، فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله، وحُمل إلى المخيّم فاستقبلته اُمّه الصدّيقة الطاهرة، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله.

وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام، وفداءً لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343