السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191805 / تحميل: 8560
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

  

المطلب الثالث :

في أنّ بغض عليعليه‌السلام نفاق

أخرج مسلم في صحيحه عن عليعليه‌السلام قال : « والذي فَلَقَ  الحَبَّةَ وبرأ النَسَمة ، إنّه لعهد النبي الاُمّي إليّ [ وهل يكون التأكيد  بأكثر من هذا ؟ ] أنْ لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ».

تجدون هذا الحديث بهذا اللفظ أو بمعناه عند : النسائي ،  والترمذي ، وابن ماجة ، وفي مسند أحمد ، وفي المستدرك ، وفي  كنز العمال عن عدة من كبار الأئمّة(1) .

وفي مسند أحمد وصحيح الترمذي عن أُم سلمة : كان رسول  الله يقول [ هذه الصيغة تدل علىٰ الاستمرار ] كان رسول الله يقول : 

__________________

(1) مسند أحمد 1 / 84 ، 128 ، صحيح مسلم كتاب الايمان ، كنز العمال 13 / 120  رقم 36385.

٢١

« لا يحب عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن »(1) .

نستفيد من هذه الأحاديث في هذا المطلب : إنّ حبّ علي  وحبّ المنافقين لا يجتمعان ، لو أنّ أحداً يعتقد حتّى بإمامة علي  وولايته بعد رسول الله ، إلاّ أنّه لا يبغض المنافقين ، هذا الشخص هو  أيضاً منافق ، وهو مطرود من الطرفين ، أي من المؤمنين ومن  المنافقين ، لأنّالمنافقين لا يعتقدون بولاية علي وهذا يعتقد ، ولأنّ  المؤمنين لا يحبّون المنافقين وهذا يحب.

ولا يمكن الجمع بينهما بأيّ حال من الأحوال ، وبأيّ شكلٍ من الأشكال.

         

__________________

(1) مسند أحمد 6 / 292.

٢٢

  

المطلب الرابع :

في إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام

بأنّ الأُمّة ستغدر به

قال عليعليه‌السلام : « إنّه ممّا عهد إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الأُمّة ستغدر بي  بعده ».

قال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال الذهبي في تلخيصه :  صحيح(1) ، وقد قرّروا أنّ كلّ حديث وافق الذهبي فيه الحاكم  النيسابوري في التصحيح فهو بحكم الصحيحين.

ومن رواة هذا الحديث أيضاً : ابن أبي شيبة ، والبزّار ،  والدارقطني والخطيب البغدادي ، والبيهقي ، وغيرهم.

 

__________________

(1) المستدرك علىٰ الصحيحين 3 / 140 ، 142.

٢٣
٢٤

  

المطلب الخامس :

ضغائن في صدور أقوام

أخرج أبو يعلىٰ والبزّارـبسند صحّحه : الحاكم ، والذهبي ،  وابن حبّان ، وغيرهمـعن عليعليه‌السلام قال : « بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم آخذ  بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة ، إذ أتينا علىٰ حديقة ،  فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ! فقال : إنّ لك في الجنّة  أحسن منها ، ثمّ مررنا بأُخرىٰ فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من  حديقة ! قال : لك في الجنّة أحسن منها ، حتّى مررنا بسبع حدائق ،  كلّ ذلك أقول ما أحسنها ويقول : لك في الجنّة أحسن منها ، فلمّا  خلا لي الطريق اعتنقني ثمّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ما  يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي ،  قال : قلت يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من  دينك ».

٢٥

هذا اللفظ في : مجمع الزوائد عن : أبي يعلىٰ والبزّار(1) ، ونفس  السند موجود في المستدرك وقد صحّحه الحاكم ) والذهبي(2) ،  فيكون سنده صحيحاً يقيناً ، لكن اللفظ في المستدرك مختصر  وذيله غير مذكور ، والله أعلم ممّن هذا التصرف ، هل من الحاكم أو  من الناسخين أو من الناشرين ؟ فراجعوا ، السند نفس السند عند  أبي يعلىٰ وعند البزّار وعند الحاكم ، والحاكم يصحّحه والذهبي  يوافقه ، إلاّ أنّ الحديث في المستدرك أبتر مقطوع الذيل ، لأنّه إلىٰ  حدّ « إنّ لك في الجنّة أحسن منها » لا أكثر.

وهناك أحاديث أيضاً صريحة في أنّ « الأقوام » المراد منهم  في هذا الحديث « هم قريش » ، وفي المطلب السادس أيضاً بعض  الأحاديث تدلّ علىٰ ذلك ، فلاحظوا.

      

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 118.

(2) المستدرك علىٰ الصحيحين 3 / 139.

٢٦

  

المطلب السادس :

في أنّ قريشاً هم سبب هلاك الناس بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « يهلك أُمّتي هذا الحي من  قريش » ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : « لو أنّ الناس اعتزلوهم ».

وعن أبي هريرة أيضاً قال : سمعت الصادق المصدوق يقول :  « هلاك أُمّتي علىٰ يدي غلمة من قريش » ، فقالوا : مروان غلمة ؟  قال أبو هريرة : إن شئت أنْ أُسمّيه ، بني فلان ، بني فلان.

والحديثان في الصحيحين(1) .

   

__________________

(1) وأخرجه أحمد 2 / 324 ، 288 ، 299 ، 520.

٢٧
٢٨

  

المطلب السابع :

لم يروَ من الضغائن والغدر إلاّ القليل

وهذا المطلب مهم جدّاً ، فالغدر الذي كان ، والضغائن التي  بدتـالتي سبق وأنْ أخبر عنها رسول اللهـلم يروَ منها في الكتب  إلاّ القليل ، والسبب واضح ، لأنّهم منعوا من تدوين الحديث ،  وعندما دُوّن ، فقد دوّن علىٰ يد بني أُميّة وفي عهدهم ، وهذا حال  السنّة ، أي السنّة عند أهل السنّة.

ثمّ إنّ من كان عنده شيء من تلك الأمور التي أشار إليها رسول  اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يروه ، وإذا رواه لم ينقلوه ولم يكتبوه ومنعوا من نشره ،  ومن نقله إلىٰ الآخرين ، حتّى أنّ من كان عنده كتاب فيه شيء من  تلك القضايا ، أخذوه منه ، أو أخفاه ولم يظهره لأحد ، أذكر لكم  موارد من هذا القبيل :

قال ابن عدي في آخر ترجمة عبد الرزاق بن همّام الصنعاني

٢٩

في كتاب الكامل : ولعبد الرزاق بن همّام [ هذا شيخ البخاري ]  أصناف حديث كثير ، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمّتهم  وكتبوا عنه ، ولم يروا بحديثه بأساً ، إلاّ أنّهم نسبوه إلىٰ التشيّع ، وقد  روىٰ أحاديث في الفضائل ممّا لا يوافقه عليها أحد من الثقات ،  فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث ، ولما رواه في  مثالب غيرهم ممّا لم أذكره في كتابي هذا ، وأمّا في باب الصدق  فأرجو أنّه لا بأس به ، إلاّ أنّه قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل  البيت ومثالب آخرين مناكير(1) .

وبترجمة عبد الرحمن بن يوسف بن خراشـالحافظ الكبيرـ يقول ابن عدي : سمعت عبدان يقول : وحمل ابن خراش إلى بندار  جزئين صنّفهما في مثالب الشيخين فأجازه بألفي درهم.

فأين هذا الكتاب الذي هو في جزئين ؟

قال ابن عدي : فأمّا الحديث فأرجو أنّه لا يتعمّد الكذب(2) .

فالرجل ليس بكاذب ، ولو راجعتم سير أعلام النبلاء للذهبي  أو راجعتم تذكرة الحفّاظ للذهبي ، لرأيتم الذهبي ينقل هذا  المطلب ، ويتهجّم علىٰ ابن خراش ويشتمه ويسبّه سبّ الذين

__________________

(1) الكامل في الضعفاء 6 / 545.

(2) الكامل في الضعفاء 5 / 519.

٣٠

كفروا(1) .

ولا يتوهمنّ أحد أنّ هذا الرجلـابن خراشـمن الشيعة ،  وذلك ، لأنّهذا الرجل من كبار علماء القوم ومن أعلامهم في  الجرح والتعديل ، ويعتمدون علىٰ آرائه في ردّ الراوي أو قبوله ،  أذكر لكم مورداً واحداً ، يقول ابن خراش بترجمة عبدالله بن شقيق ،  وعند ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب يقول : قال ابن  خراش : كانـعبدالله بن شقيق ـ ثقة وكان عثمانياً يبغض عليّاً(2) .

فابن خراش ليس بشيعي ، لأنّه يوثق هذا الرجل مع تصريحه  بأنّه كان عثمانيّاً يبغض عليّاً.

فلا يتوهّم أنّ هذا الرجلـابن خراشـمن الشيعة ، بل هو من  أعلام أهل السنّة ومن كبار حفّاظهم ، إلاّ أنّه ألّف جزئين في مثالب  الشيخين.

مورد آخر في كتاب العلل لأحمد بن حنبل ، قال أحمد : كان  أبو عوانة [ الذي هو من كبار محدّثيهم وحفّاظهم ، وله كتاب في  الصحيح اسمه : صحيح أبي عوانة ] وضع كتاباً فيه معايب أصحاب 

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 13 / 509 ، تذكرة الحفاظ 2 / 684 ، ميزان الإعتدال 2 / 600.

(2) تهذيب التهذيب 5 / 223.

٣١

رسول الله ، وفيه بلايا ، فجاء سلاّم بن أبي مطيع(1) فقال : يا أبا  عوانة ، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه ، فأخذه سلاّم فأحرقه(2) .

ويروي أحمد بن حنبل في نفس الكتاب عن عبدالرحمن بن  مهدي(3) قال : فنظرت في كتاب أبي عوانة وأنا أستغفر الله(4) .

فهذا يستغفر الله من أنّه نظر في هذا الكتاب ، والشخص الآخر  جاء إليه وأخذ الكتاب منه وأحرقه بلا إذن منه ولا رضا.

مورد آخر : ذكروا بترجمة الحسين بن الحسن الأشقر : أنّ  أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال : لم يكن عندي ممّن يكذب [ فهو  حدّث عنه وقال : لم يكن عندي ممّن يكذب ] فقيل له : إنّه يحدّث  في أبي بكر وعمر ، وإنّه صنّف باباً في معايبهما ، فقال : ليس هذا  بأهلٍ أنْ يحدَّث عنه(5) !

أوّلاً : أين ذاك الباب الذي اشتمل علىٰ هذه القضايا ؟ ولماذا لم  يصل إلينا؟

وثانياً : إنّه بمجرَّد أنْ علم أحمد بن حنبل بأنّ الرجل يحدّث

__________________

(1) الإمام الثقة القدوة ، من رجال الصحيحين. سير أعلام النبلاء 7 / 428.

(2) كتاب العلل والرجال 1 / 60.

(3) الإمام الناقد المجوّد سيد الحفاظ. سير أعلام النبلاء 9 / 192.

(4) كتاب العلل والرجال 3 / 92 الطبعة الحديثة.

(5) تهذيب التهذيب 2 / 291.

٣٢

في الشيخين ، وبأنّه صنّف مثل هذه الأحاديث في كتاب ، سقط من  عين أحمد وأصبح كذّاباً لا يعتمد عليه ولا يروىٰ عنه !

مورد آخر : في ميزان الإعتدال بترجمة إبراهيم بن الحكم بن  زهير الكوفي : قال أبو حاتم : روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما  كتبنا عنه(1) .

روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه ، فراحت تلك  الروايات.

وهذا بعض ما ذكروا في هذا الباب.

ثمّ إنّهم ذكروا في تراجم رجال كثيرين من أعلام الحديث  والرواة الذين هم من رجال الصحاح ، ذكروا أنّه كان يشتم أبا بكر  وعمر ، لاحظوا هذه العبارة بترجمة إسماعيل بن عبدالرحمن  السُدّي(2) ، وبترجمة تليد بن سليمان(3) ، وبترجمة جعفر بن  سليمان الضبعي(4) ، وغير هؤلاء.

ولماذا كان هؤلاء يشتمون ؟ هل بلغهم شيء أو أشياء ، ممّا

__________________

(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 27.

(2) تهذيب التهذيب 1 / 274.

(3) تهذيب الكمال 4 / 322.

(4) تهذيب التهذيب 2 / 82 ـ 83.

٣٣

أدّىٰ وسبّب في أنْ يجوّزوا لانفسهم أن يشتموا ويسبّوا ؟ وأين تلك  القضايا وماهي ؟

وأمّا ما ذكروه بترجمة الرجال وكبار علمائهم وحفّاظهم من  شتم عثمان وشتم معاوية ، فكثير جدّاً ، وأعتقد أنّه لا يحصىٰ لكثرته.

ولقد فشىٰ وكثر اللعن أو الطعن في الشيخين في النصف الثاني  من القرن الثالث ، يقول زائدة بن قدامةـووفاته في النصف الثاني  من القرن الثالث ـ : متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر ؟!(1) .

وكثر وكثر حتى القرن السادس من الهجرة ، جاء أحدهمـوهو  الحافظ المحدّث عبد المغيث بن زهير بن حرب الحنبلي البغدادي ـفألّف كتاباً في فضل يزيد بن معاوية وفي الدفاع عنه والمنع عن  لعنه ، فلمّا سئل عن ذلك ، قال بلفظ العبارة : إنّما قصدت كفّ  الألسنة عن لعن الخلفاء(2) .

حتى جاء التفتازاني في أواخر القرن الثامن من الهجرة وقال  في شرح المقاصد ما نصّه : فإن قيل : فمن علماء المذهب من لم  يجوّز اللعن علىٰ يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو علىٰ ذلك

__________________

(1) تهذيب التهذيب 3 / 264.

(2) سير أعلام النبلاء 21 / 161.

٣٤

ويزيد ؟ قلنا : تحامياً عن أن يرتقىٰ إلىٰ الأعلىٰ فالأعلىٰ(1) .

حتّى جاء كتّاب عصرنا ، فألّفوا في مناقب يزيد ، وألّفوا في  مناقب الحجّاج ، وألّفوا في مناقب هند !!

وإنّي أعتقد أنّهم يعلمون بأنّ هذه المناقب والفضائل ، والذي  يذكرونه في الدفاع عن هؤلاء وأمثالهم ، كلّه كذب ، وإنّ هؤلاء  يستحقّون اللعن ، إلاّ أنّ الغرض هو إشغال الكتّاب والباحثين  والمفكّرين وسائر الناس بمثل هذه الأُمور ، ولكي لا يبقىٰ هناك  مجال لأن يرتقىٰ إلىٰ الأعلىٰ فالأعلىٰ.

ومن هنا نفهم : إنّ محاربتهم لقضايا الحسينعليه‌السلام ومحاربتم  لمآتم الحسينعليه‌السلام ولقضايا عاشوراء ، كلّ ذلك ، لئلاّ يلعن يزيد ،  ولئلاّ ينتهىٰ إلىٰ الأعلىٰ فالأعلىٰ.

      

__________________

(1) شرح المقاصد 5 / 311.

٣٥
٣٦

 

المطلب الثامن :

أحقاد قريش وبني أُميّة علىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأهل بيتهعليهم‌السلام

وهنا ننقل بعض الشواهد علىٰ أحقاد قريش وبني أُميّة  بالخصوص ، وضغائنهم علىٰ النبي وأهل البيت ، حتّى أنّهم كانت  تصدر منهم أشياء في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا لم يتمكّنوا من الإنتقام  من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذات ، انتقموا من أهل بيته لينتقموا منه.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ،  فإنّهم أضمروا لرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا  عنها ، وحُلت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عليّ ، اللهمّ  احفظ حسناً وحسيناً ، ولا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّاً ،  فإذا توفّيتني فأنت الرقيب عليهم وأنت علىٰ كلّ شيء شهيد »(1) .

فيقول أمير المؤمنين : إنّ قريشاً أضمروا لرسول الله ضروباً من

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 20 / 298.

٣٧

الشر والغدر وعجزوا عنها ، والله سبحانه وتعالىٰ حال بينه وبين تلك  الشرور أن تصيبه ، إلى أنْ توفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت الوجبة بأمير  المؤمنين والدائرة عليه ، كما أنّه في هذا الكلام يشير بأنّ قريشاً  ستقتل الحسن والحسين أيضاً انتقاماً من النبي.

وقالعليه‌السلام في خطبة له : « وقال قائل : إنّك يا ابن أبي طالب على  هذا الأمر لحريص ، فقلت : بل أنتمـواللهـأحرص وأبعد ، وأنا  أخص وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه ،  وتضربون وجهي دونه ، فلما قرّعته بالحجة في الملأ الحاضرين  هبّ كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به.

اللهم إني استعديك علىٰ قريش ومن أعانهم ، فانهم قطعوا  رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا علىٰ منازعتي أمراً هو  لي ، ثم قالوا : ألا إنَّ في الحق أنْ تأخذه وفي الحق أن تتركه »(1) .

وفي كتاب لهعليه‌السلام إلى عقيل : « فدع عنك قريشاً وتركاضهم في  الضلال ، وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنّهم قد  أجمعوا علىٰ حربي إجماعهم على حرب رسول الله قبلي ، فجزت  قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن 

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة : 172.

٣٨

أُمّي »(1) .

وروىٰ ابن عدي في الكامل في حديثٍ : فقال أبو سفيان : مثل  محمّد في بني هاشم مثل ريحانة وسط نتن ، فانطلق بعض الناس إلىالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروا النبي ، فجاءصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـيعرف في وجهه الغضبـ  حتّى قام فقال : « ما بال أقوال تبلغني عن أقوام » إلىآخر الحديث.

هذا في الكامل لابن عدي(2) بهذا النص ، والقائل أبو سفيان.

وهو بنفس السند واللفظ موجود أيضاً في بعض المصادر  الاُخرىٰ ، إلا أنّهم رفعوا كلمة : « فقال أبو سفيان » ، ووضعوا كلمة :  « فقال رجل ».

لاحظوا مجمع الزوائد(3) .

وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال :  أتىٰ ناس من الأنصار إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنّا نسمع من قومك ، حتّى  يقول القائل منهم إنّما مثل محمّد مثل نخلة نبتت في الكبا(4) .

والكبا الأرض غير النظيفة.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 16 / 151.

(2) الكامل في الضعفاء 3 / 28.

(3) مجمع الزوائد 8 / 215.

(4) مجمع الزوائد 8 / 215.

٣٩

لكن هذا الحديث أيضاً في بعض المصادر محرّف.

ثمّ إنّ السبب في هذه الضغائن ماذا ؟ ليس السبب إلاّ أقربية  أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فينتقمون منه انتقاماً من النبيّ ،  مضافاً إلى مواقف أمير المؤمنينعليه‌السلام في الحروب وقتله أبطال  قريش ، وهذا ما صرّح به عثمان لأمير المؤمنين في كلام له معه  عليه الصلاة والسلام ، أذكر لكم النص الكامل.

ذكر الآبي في كتاب نثر الدررـوهو كتاب مطبوع موجودـ وعنه أيضاً ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن عباس  قال : وقع بين عثمان وعلي كلام ، فقال عثمان : ما أصنع إن كانت  قريش لا تحبّكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأنّ وجوههم  شنوف الذهب(1) .

هذه هي الأحقاد والضغائن ، ولم يتمكّنوا من الإنتقام من  رسول الله ، فانتقموا من أهل بيته كما أخبر هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهكذا توالت القضايا ، انتقموا من الزهراء وأمير المؤمنين ،  وانتقموا ، وانتقموا ، إلىٰ يوم الحسينعليه‌السلام وبعد يوم الحسينعليه‌السلام  وإلىٰ اليوم .

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 9 / 22.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مصرع أبي الفضل (عليه السّلام)

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) من أحبّ الناس وأخلصهم للإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد ربّاه وغذّاه بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته، وعلّمه أحكام الدين حتّى صار من أفاضل العلماء. وكان ملازماً لأخيه في حلّه وترحاله، وواساه في أقسى المحن والخطوب، وكانت أُخوّته لأبي عبد الله مضرب المثل عند جميع الناس.

وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتّى لُقّب بقمر بني هاشم، وكان من الأبطال البارزين في الإسلام، فكان إذا ركب الفرس المطهّم تخطّان رجلاه في الأرض، وقد أسند إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) يوم الطفّ قيادة جيشه ودفع إليه رايته.

وكان أبو الفضل هو المتعهّد لرعاية الصدّيقة سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد احتلّ قلبها فكانت تكنّ له أعمق الودّ والولاء. ولمّا رأى قمر بني هاشم وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين قدّموا أرواحهم قرابين للإسلام انبرى يطلب الرخصة من أخيه ليلاقي مصيره المشرق، فقال له الإمام (عليه السّلام) بصوت خافت:«أنت صاحب لوائي» .

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والمنعة ما دام أبو الفضل حيّاً، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً: لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، واُريد أن آخذ ثأري منهم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش، فانعطف فخر بني هاشم نحو اُولئك الأنذال فجعل يعظهم ويطلب منهم أن يرفعوا الحصار عن الماء؛ فقد أشرفت عائلة آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الموت.

فأجابه الرجس الأثيم شمر بن ذي الجوشن قائلاً:

٢٦١

يابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد.

وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وإجماعهم على حرمان أهل البيت (عليهم السّلام) من الماء، وسمع الأبيّ الشهم صراخ الأطفال وهم ينادون: العطش، العطش! الماء، الماء!

وذاب قلب أبي الفضل حينما رأى الأطفال قد ذبلت شفاههم وأشرفوا على الهلاك، فسرى الألم العاصف في محيّاه، واندفع ببسالة لإغاثتهم، فركب جواده وأخذ معه القربة، فاقتحم الفرات غير حافل بالقوى المكثفة التي تقدّر بأربعة آلاف جندي مسلّح قد احتلّوا حوض الفرات، فانهزموا من بين يديه؛ فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطّم أوثان القرشيّين.

وانتهى إلى الماء وكان قلبه الشريف قد تفتّت من العطش، فاغترف من الماء ليشرب منه إلاّ أنّه تذكّر عطش أخيه ومَنْ معه من النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، فامتنع أن يروي غليله من الماء.

وقد سجّل بذلك شرفاً للعلويّين تردّده الأجيال مقروناً بالإكبار والتعظيم لهذه الأُخوّة النادرة التي لم يحدّث التأريخ بمثلها. لقد رمى أبو الفضل الماء من يده وهو يقول:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني = وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ = وتشربينَ باردَ المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني

إنّ الإنسانيّة بكلّ إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الإسلام وهي تلقي على الأجيال أسمى أمثلة للكرامة الإنسانيّة. أي إيثار أنبل من هذا الإيثار؟ أيّ اُخوّة أسمى من هذه الاُخوّة؟

٢٦٢

واتّجه فخر هاشم بعد أن ملأ القربة نحو المخيّم والتحم مع الأرجاس؛ فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد أشاع فيهم بطل الإسلام القتل وهو يرتجز:

لا أرهب الموتَ إذا الموتُ زقا = حتى أوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقى = إنّي أنا العباس أغدوا بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

لقد أعلن قمر الهاشميّين عن بطولاته النادرة، فهو لا يرهب الموت، ويسخر من الحياة دفاعاً عن الحقّ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وانهزمت جيوش الاُمويِّين أمامه، ولكن الوضر الجبان زيد بن الرقّاد الجهني كمن له من وراء نخلة، ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يده فقطعها، فلم يحفل بها أبو الفضل وراح يرتجز:

واللهِ إن قطعتمُ يميني = إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ = نجلِ النبيّ الطاهرِ الأمينِ

ودلّل بهذا الرجز عن الأهداف العظيمة التي ناضل من أجلها وهي الدفاع عن الدين، والدفاع عن إمام المسلمين وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يبعد قمر بني هاشم وفخر عدنان حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس المجرمين، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي، فضربه على يساره فبراها، وحمل الشهم النبيل القربة بأسنانه، وجعل يركض بالماء إلى عطاشى آل النبي غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وآلام الجروح وشدّة الظمأ.

وهذا منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة في جميع أدوارها من الرحمة والحنان والوفاء، وبينما هو يركض إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها، ووقف البطل حزيناً؛ فقد كان إراقة الماء أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح.

٢٦٣

وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على هامة رأسه ففلق هامته فهوى إلى الأرض، وهو يؤدي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً: عليك منّي السّلام أبا عبد الله.

وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فمزّقت أحشاءه، وانطلق وهو خائر القوى، منهدّ الركن حتّى انتهى إلى أخيه وهو يعاني آلام الاحتضار، فألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلاً قائلاً:«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي» .

وجعل أبو الأحرار يطيل النظر في أخيه وهو شاحب اللون وتمثّلت أمامه مُثل أبي الفضل التي لا ندّ لها في جميع مراحل التأريخ؛ فليس هناك اُخوّة تضارع اُخوّة أبي الفضل لأخيه أبي الأحرار؛ فقد أبدى من الوفاء والولاء لأخيه ما يفوق حدّ الوصف. وقام الثاكل الحزين عن أخيه بعد ما فارقته الحياة وهو لا يتمكّن أن يقلّ قدميه من الأسى والحزن، وقد بان عليه الانكسار، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه، فاستقبلته سكينة بلهفة قائلة: أين عمي؟

فأجابها بنبرات مشفوعة بالبكاء والعبرات بشهادته، وذعرت حفيدة الرسول سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، فوضعت يدها على قلبها الذي مزّقته كوارث كربلاء، وصاحت: وا أخاه! وا عباساه! وا ضيعتنا بعدك!

وشارك الإمام (عليه السّلام) شقيقته في النياحة على أخيه، ورفع صوته:«وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل!» . لقد شعر الإمام وشقيقته بالضياع والغربة بعد أن فقد أبا الفضل، وكانت هذه الكارثة من أفجع الكوارث التي رُزئت بها حفيدة الرسول.

٢٦٤

فسلام عليك يا أبا الفضل يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيّاً.

مصرع الرضيع (عليه السّلام)

ومن الفجائع التي مُنيت بها سيدة النساء مصرع الرضيع؛ فقد اُغمي عليه من شدّة الظمأ، فجاءت به اُمّه إلى السيّدة زينب مستجيرة بها، وعرضته على أخيها فأخذه وجعل يوسعه تقبيلاً، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه من شدّة العطش، فحمله الإمام (عليه السّلام) إلى الجيش الاُموي لعلّهم يسقونه جرعة من الماء، فلم ترقَّ قلوب اُولئك الممسوخين، وانبرى إليه الرجس الخبيث حرملة بن كاهل، فسدّد له سهماً وجعل يفتخر أمام أصحابه قائلاً: خذ هذا فاسقه.

واخترق السهم - يالله - رقبة الطفل، فلمّا أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وجعل يُرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى رافعاً رأسه إلى السماء فمات على ذراع أبيه.

أيّ صبر كان صبر أبي عبد الله! كيف استطاع أن يتحمّل هذه الرزايا والكوارث التي تميد من هولها الجبال؟!

والتفت الإمام إلى شقيقته فناولها ولده المذبوح(١) ، ورفع الإمام (عليه السّلام) يديه وكانتا مملوءتين من دم طفله، فرمى به إلى السماء وقال:«هوّن ما نزل بي إنّه بعين الله» . ولم تسقط من ذلك الدم الطاهر قطرة واحدة إلى الأرض كما روى ذلك الإمام الباقر (عليه السّلام).

الفاجعة الكبرى

ووقف أبو الأحرار في الميدان وقد أحاطت به جيوش الاُمويِّين، وهو ثابت الجنان،

____________________

(١) اللهوف / ٥٠.

٢٦٥

لم يوهن عزيمته مصارع أصحابه وأهل بيته، وكان كالطود الشامخ، وقد روى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) صمود أبيه قال:«كان كلّما يشتدّ الأمر يشرق لونه، وتطمئن جوارحه» .

فقال بعضهم: انظروا كيف لا يُبالي بالموت! وقال عبد الله بن عمّار: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً منه! ووالله ما رأيت قبله ولا بعده مثله(١) .

وحمل أبيّ الضيم على أرجاس البشرية فجعل يُقاتلهم أعنف قتال وأشدّه، وحمل على الميمنة وهو يرتجز:

القتل أولى من ركوبِ العارِ = والعارُ أولى من دخولِ النارِ

وحمل على الميسرة وهو يرتجز:

أنا الحسين بن علي = آليت أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي = أمضي على دين النبي

أجل أنت الحسين (عليه السّلام)، وأنت ملأت فم الدنيا شرفاً ومجداً، فلم تُشاهد اُمم العالم وشعوب الأرض مثلك يا مفخرة الإسلام؛ فقد صمدت أمام الأهوال والكوارث التي لا يطيق حملها أيّ مصلح على وجه الأرض، وقد مضيت على دين جدّك الرسول مُجدداً له، ولولاك لما أبقى الاُمويّون والقرشيون أيّ ظلّ لدين الله.

وداعه لعقائل الوحي

ومضى الحسين (عليه السّلام) يودّع عقائل النبوّة، وسيّدات نساء الدنيا، ويأمرهنَّ بالخلود إلى الصبر، ونظر إلى شقيقته زينب وهي غارقة بالدموع فعزّاها وأمرها بالصبر، وأن

____________________

(١) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٨٨.

٢٦٦

تقوم برعاية أطفاله، ولمّا أراد الخروج أحطنَ به السيدات ليتزوّدن منه، وهنّ يذرفن أحرّ الدموع، والتفت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عمّته زينب، فقال لها:«عليَّ بالعصا والسيف» .

- ما تصنع بهما؟

-«أمّا العصا فأتوكّأ عليها، وأمّا السيف فأذبّ به عن ابن رسول الله» . وكانت الأمراض قد ألّمت به، فنهاه الإمام الحسين (عليه السّلام) وأمسكته عمّته زينب.

وأمر الإمام (عليه السّلام) حرم الرسالة بلبس الاُزر، والاستعداد للبلاء، والتسليم لقضاء الله، وقال لهن:«استعدوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم» .

إنّه هذا الإيمان، وهذا الصبر أجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه. إنّ هذه الرزايا تتصدّع من هولها الجبال، وتميد بحلم أيّ مصلح كان، وقد تجرّعها أبيّ الضيم من أجل رفع كلمة التوحيد التي جهدت الاُسر القرشيّة على إطفاء نورها.

مناجاته مع الله

واتّجه الإمام العظيم في تلك اللحظات الحاسمة من حياته إلى الله تعالى، فأخذ يناجيه ويتضرّع إليه، ويشكو إليه ما ألمّ به من الخطوب قائلاً:«صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين ما لي ربّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك. يا غياث مَنْ لا غياث له، يا دائماً

٢٦٧

لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (١) .

أرأيتم هذا الإيمان الذي تفاعل مع شعور الإمام وعواطفه؟ فقد صبر على قضائه، وفوّض إليه جميع ما نزل به من الخطوب. يقول الدكتور الشيح أحمد الوائلي:

يا أبا الطفّ و ازدهى بالضحايا = من أديمِ الطفوفِ روضٌ خميلُ

نخبةٌ من صحابةٍ و شقيقٌ = و رضيعٌ مطوّقٌ وشبولُ

والشبابُ الفتيان جفّ ففاضت = طلعةٌ حلوةٌ ووجهٌ جميلُ

و توغلتَ تستبينَ الضحايا = وزواكي الدماءِ منها تسيلُ

و مشت في شفاهكَ الغرِّ نجوى = نمَّ عنها التحميدُ والتهليلُ

لكَ عتبي يا ربّ إن كانَ يرضيـ = ـك فهذا إلى رضاكَ قليلُ

الهجوم عليه

وهجمت على سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام، فحملوا عليه من كلّ جانب ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح.

ويقول بعض المؤرخين: إنّه لم يُضرب أحد في الإسلام كما ضُرب الحسين؛ فقد وجد به مئة وعشرون جراحة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم(٢) .

ومكث أبو الأحرار مدّة من الزمن على وجه الأرض وقد فتكت الجراحات بجسمه، وقد هابه الجميع ونكصوا من الإجهاز عليه.

يقول السيّد حيدر:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٨٨.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٦.

٢٦٨

فما أجلت الحربُ عن مثله = صريعاً يُجبِّن شجعانَها

خروج العقيلة (عليها السّلام)

وخرجت حفيدة الرسول من خبائها وهي تندب أخاها بأشجى ما تكون الندبة، وتقول بذوب روحها: ليت السماء وقعت على الأرض! وصاحت بالخبيث الدنس عمر بن سعد قائلة: يا عمر، أرضيت أن يُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشؤومة(١) .

ولم تعد العقيلة الطاهرة تقوى على النظر إلى أخيها وهو بتلك الحالة، فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال.

الإجهاز على الإمام (عليه السّلام)

أحاط أعداء الله بالإمام من كلّ جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالحجارة، فصاح بهم:«أعلى قتلي تجتمعون؟! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله. وأيم الله، إنّي لأرجو أن يُكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون» .

والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال: انزل فجئني برأسه. فامتنع وقال: أنا بايعته ثمّ غدرت به، ثمّ أنزل فأحتز رأسه! لا والله لا أفعل ذلك. فأنكر ابن سعد كلامه وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٩٠.

٢٦٩

إذاً أكتب إلى ابن زياد. ولم يعتن شبث بذلك، وقال: اكتب له(١) .

وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن، وكان من أعدى المجرمين على الإمام (عليه السّلام)، فاحتز رأسه الشريف كما في بعض الروايات(٢) .

لقد استشهد الإمام العظيم من أجل أن يرفع كلمة الله في الأرض ويطيح بدولة الظلم والبغي التي أقامتها الأحقاد القرشيّة على الإسلام. لقد قدّم الإمام (عليه السّلام) روحه ثمناً للقرآن، وثمناً لكلّ ما تسمو به الإنسانيّة من شرف وعزّ وإباء.

لقد رفع الإمام (عليه السّلام) راية الإسلام عالية خفّاقة وهي ملطّخة بدمه ودم الشهداء من أهل بيته وأصحابه الممجّدين، وهي تضيء في رحاب الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم واُمم الأرض.

العقيلة (عليها السّلام) أمام الجثمان المقدّس

وانبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها، وقد رأت - ويا لهول ما رأت - رأت الجثمان المقدّس وقد مزّقته سيوف البغاة ورماحهم، وقد مُثِّل به كأفظع وأقسى ما يكون التمثيل، لقد كان منظراً تلجم منه الألسن، وتجمد منه الدماء، وتهلع منه القلوب.

لقد وقفت العقيلة أمامه بجلال وحشمة وقد أحاط بها الأعداء، فرمقت السماء بطرفها وقالت هذه الكلمات التي ارتسمت مع الفلك ثمّ دارت فيه، وهي تشعّ بروح الإيمان والإخلاص إلى الله تعالى قائلة: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٩١.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٦، وغيره.

٢٧٠

لقد رضيت بما عانته حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أهوال هذه الكارثة التي تذوب من هولها الجبال؛ لأنّها في ذات الله تعالى الذي هامت في الإنابة إليه.

لقد تجلّت معاني الوراثة النبويّة في سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وبرزت في شخصيتها معالم شخصية جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ووصيّة أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

حرق الخيام

وأوعزت القيادة العامة إلى الجند بحرق خيام آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، فحملوا أقبسة من النار وهم ينادون: احرقوا بيوت الظالمين(١) .

لقد كان بيت الإمام (عليه السّلام) - حسب ما يزعمون - بيت الظلم، وبيت ابن مرجانة وسيده يزيد حفيد أبي سفيان بيت العدل! فيالله أمام هذا الظلم الذي لم يقع نظيره في تأريخ الاُمم والشعوب!

وتنصّ بعض المصادر إلى أنّ عمر بن سعد أمر بحرق الخيام بما فيها من النساء والأطفال، وقد حاول الشمر ذلك، إلاّ أنّ شبث بن ربعي عذله ومنعه عن ذلك.

وعلى أيّ حال، فحينما التهبت النار في خيم آل النبي فررن بنات الرسالة وعقائل الوحي من خباء إلى خباء، أمّا اليتامى فقد علا صراخهم وتعلّق بعضهم بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النار، وهام بعضهم على وجهه لا يلوي على شيء.

لقد كان ذلك المنظر من أفجع وأقسى ما مرّ على آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يغب عن

____________________

(١) التاريخ المظفري / ٢٢٨.

٢٧١

ذهن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) طيلة المدّة التي عاشها بعد أبيه، وكان يذكره مشفوعاً بالأسى والحزن، وهو يقول:«والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهنَّ يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: احرقوا بيوت الظالمين» .

سلب حرائر الوحي

وعمد أراذل أهل الكوفة، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الوحي؛ فسلبوا ما عليهنَّ من حلي وحلل، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُمّ كلثوم فسلب قرطيها، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي، فقالت له السيدة: ما لك تبكي؟

- كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه، وطلبت منه أن لا يسلبها، فأجابها: أخاف أن يأخذه غيري(١) .

وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكعوب رماحهم وهنَّ يلذن بعضهنَّ ببعض من الرعب، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها(٢) .

إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال.

____________________

(١) مسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٤.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٠٢.

٢٧٢

إنقاذ العقيلة لزين العابدين (عليه السّلام)

وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، وكان مريضاً قد أنهكته العلّة، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله، فنهره حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! أتقتل الصبيان؟ إنّما هو مريض.

فلم يعنَ به الخبيث، ورام قتل الإمام (عليه السّلام) إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه فتعلّقت به، وقالت: لا يُقتل حتّى اُقتل دونه(١) .

فكفّ اللئيم عنه، ولولا السيدة زينب لمُحيت ذرّية أخيها الحسين (عليه السّلام).

ليلة الحادي عشر

وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) هي ليلة الحادي عشر من المحرّم؛ فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام؛ فقد تسلّحت بالصبر وقامت برعاية أيتام أخيها؛ فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء، واُحرقت أخبيتها، وقد أحاط بها أرجاس البشرية ووحوش الأرض.

العقيلة تؤدّي صلاة الشكر

وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب، طالبة من الله أن يتقبّل ما مُنيت به من الرزايا، وأن

____________________

(١) تاريخ القرماني / ١٠٨.

٢٧٣

يثيبها على ذلك، ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب(١) . كما أدّت وردها من صلاة الليل، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس(٢) .

العقيلة (عليها السّلام) تندب أخاها

ونظرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها وهو مقطّع الأعضاء قد فُصل عنه الرأس الشريف، فلم تملك نفسها، وصاحت بصوت يُذيب القلوب: يا محمّداه! هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة(٣) .

ووجم القوم مبهوتين، وفاضت دموعهم، وبكى العدو والصديق(٤) ؛ فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها، وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم.

العقيلة (عليها السّلام) تخفّف لوعة زين العابدين (عليه السّلام)

وجزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء، لم ينبرِ أحد إلى مواراتها، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه، فقالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المُقطّعة والجسوم

____________________

(١) زينب الكبرى / ٦٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٠٩.

(٣) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٠، البداية والنهاية ٨ / ١٩٣.

(٤) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب / ١٤٠.

٢٧٤

المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علوّاً(١) .

وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق؛ فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة، وسينصب لها علم لا يُمحى أثره حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويِّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علوّاً، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض.

لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانيّة في جميع أدوارها.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٢١.

٢٧٥

٢٧٦

سبايا آل البيت (عليهم السّلام) في الكوفة

وحُملت عقائل النبوّة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهنَّ الأيتام، وقد ربطوا بالحبال، وحملوا على جمال بغير وطاء، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم، وكان منظراً رهيباً تهلع منه القلوب.

وقد وصفه مسلم الجصّاص يقول: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أُجصص الأبواب، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة، فقلت لأحد خدام القصر: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟

- الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد.

- مَنْ هذا الخارجي؟

- الحسين بن عليّ.

وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه؛ فقد أخذ يلطم على وجهه حتّى خشي على عينيه أن تذهبا، وغسل يديه من الجص وخرج من القصر.

يقول: فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو يبكي ويقول:

يا اُمةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ = يا اُمةً لم تراعِ جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول اللهِ يجمعنا = يوم القيامة ما كنتم تقولونا

٢٧٧

تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً = كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا(١)

وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم، [حيث] يقول: قدمت إلى الكوفة سنة (٦١هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود، وقد خرج الناس ينظرون إليهم، وكانوا على جمال بغير غطاء، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن، ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه، وهو يقول بصوت ضعيف:«إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا، فمَنْ قتلنا؟!» .

وانبرت إحدى السيدات، فسألت إحدى العلويات وقالت لها: من أيّ الأسارى أنتن؟ فأجابتها العلوية: نحن اُسارى أهل البيت.

وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها، فصرخت وصرخت اللاتي كنّ معها، ودوّى صراخهن في أرجاء الكوفة، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترنَ بها عن أعين الناس، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب: إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت(٢) .

ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كلّ واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام، وراح يقول لمَنْ معه: إنّ عمّتي تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) - عبد الله نور الله، (مخطوط).

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٥.

٢٧٨

خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام)

وحينما رأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة، وقد أحاطت بها، اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء؛ فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) والذبّ عنه، ولكنّهم خسروا ذلك، وقتلوه ثمّ راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم.

وهذا نصّ خطابها: الحمد لله، والصلاة على جدّي محمّد وآله الطيّبين الأخيار. أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل(١) والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف، والصدر الشيف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضّة على ملحودة، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار

____________________

(١) في نسخة: (الغدر).

٢٧٩

حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم، وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيّ دم له سفكتم، وأيّ حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء - وفي بعضها: خرقاء شوهاء - كطلاع الأرض وملء السماء. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون؟ فلا يستخفنّكم المهل؛ فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(١) .

لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ، وعرّفتهم زيف إسلامهم، وكذب دموعهم، وأنّهم من أحطّ المجرمين؛ فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض؛ فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير، وفروا بقتله كبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وانتهكوا حرمته، وسبوا عياله، فأيّ جريمة أبشع من هذه الجريمة؟!

اضطراب الرأي العام

واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوّة، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها، يقول:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٥.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343