السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192483 / تحميل: 8579
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لقد اشتد الصراع بين موسىعليه‌السلام وأصحابه من جانب ، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة ، لا يذكر القرآن عنها كثيرا في هذه الفقرة ، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسىعليه‌السلام لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها ، لكنّ المستشارين من «الملأ» من القوم عارضوا الفكرة.

يقول تعالى :( وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) .

نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشارية أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى ، لخوفهم أن يطلبعليه‌السلام من ربّه نزول العذاب بساحتهم ، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية ، إلّا أنّ فرعون ـ بدافع من غروره ـ يصير على قتله مهما تكن النتائج.

وبالطبع ، فإنّ سبب امتناع «الملأ» عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم ، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة

فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب.

وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسىعليه‌السلام بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة ، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته ، خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم.

وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين (العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسىعليه‌السلام بالساحر ، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان يأمل الإنتصار على موسىعليه‌السلام عن هذا الطريق ، لذا بقي في انتظار هذا اليوم.

وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل

٢٤١

موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر(١) .

خلاصة القول : إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسىعليه‌السلام مجرّد حادث صغير ومحدود ، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار تيار كبير يصعب السيطرة عليه.

البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه ، كان يرغب ببقاء موسىعليه‌السلام حيا حتى يشغل فكر فرعون دائما ، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيدا عن عيون فرعون ، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته.

وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة» في بلاط السلاطين ، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم ، وليأمنوا هم من رقابته عليهم ، كي يفعلوا ما يريدون!

وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسىعليه‌السلام بدليلين ، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي ، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي ، فقال الأول ، كما يحكي القرآن ذلك :( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) .

وفي الثّاني :( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ) .

فإذا سكتّ أنا وكففت عن قتله ، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر ، وستتبدل عبادة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم ، وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسىعليه‌السلام وأتباعه ، وهو أمر تصعب معه مجاهدته في المستقبل ، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد ، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.

بالطبع ، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئا سوى عبادته أو عبادة الأصنام ،

__________________

(١) ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (٣٦) من سورة الشعراء :( قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ) إنّ الآية دليل على أنّ هناك مجموعة منعت فرعون من قتل «موسى»عليه‌السلام إلّا أنّ التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنّه لم تكن هناك نية لقتله في ذلك الوقت ، وإنّما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب ، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة وانتصار موسىعليه‌السلام عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر ، حيث خشي فرعون العواقب.

٢٤٢

وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته ، يستهدف منه السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته.

أمّا الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد ، ومحو آثار عبادة الأصنام ، وإحياء معالم التوحيد ، وتشييد الحياة على أساسها.

إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته ، وكذلك «التدليس» على المصلحين بالاتهامات ، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر ، وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول!

والآن لنر كيف كان رد فعل موسىعليه‌السلام والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس؟ يقول القرآن في ذلك :( وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) .

قال موسىعليه‌السلام هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى ، وأثبت بذلك بأنّه لا يهتز أو يخاف أمام التهديدات.

ويستفاد من قول موسىعليه‌السلام أيضا أنّ من تحل فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر ، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده.

فالتكبر يصبح سببا لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره ، فهو يعتبر كما في حال فرعون ـ الآيات والمعجزات الإلهية سحرا ، ويعتبر المصلحين مفسدين ، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفا في النفس.

أمّا عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حرا طليقا في أعماله وبرامجه ، لا يفكر بالعواقب ، ولا يرى لنفسه حدودا يقف عندها ، وسيقوم بسبب

٢٤٣

انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كلّ دعوة صالحة ويحارب الأنبياء.

ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون؟

الآيات القادمة تنبئنا بذلك ، وتكشف كيف استطاع موسىعليه‌السلام أن يفلت من مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور.

* * *

٢٤٤

الآيتان

( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) )

التّفسير

أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!

مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسىعليه‌السلام وفرعون ، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون ، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا ، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه.

٢٤٥

من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفا بحماية موسىعليه‌السلام من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعند ما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون ، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.

يقول تعالى :( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) .

أتقتلوه في حين أنّه :( وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه ، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة ، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة ، ولم يرضحوا لا لتهديدات فرعون ووعيده ، ولا لإغراءاته وأمنياته ، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق ، في سبيل دعوة موسى ، وإله موسى هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟

فكروا جيدا ، لا تقوموا بعمل عجول ، تحسّبوا لعواقب الأمور وإلّا فالندم حليفكم.

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين :( وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) .

إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذبا ، وينال جزاء الكاذبين ، وإذا كان صادقا ومأمورا من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم ، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب.

ثم تضيف الآيات :( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

فإذا كان موسى سائرا في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية ، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

٢٤٦

ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلّا أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.

والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون ، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله ، وإلّا فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسىعليه‌السلام وتعاونه مع بني إسرائيل ، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه ، ولا يناسب أيضا مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.

وبالنسبة للتعبير الآنف الذكر( وَإِنْ يَكُ كاذِباً ) فقد طرح المفسّرون سؤالين :

الأوّل : إذا كان موسىعليه‌السلام كاذبا ، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه وحسب ، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.

الثّاني : أما لو كان صادقا ، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها ، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟

بالنسبة للسؤال الأول ، نقول : إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلّا فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله ، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سببا لإضلال الناس وإغوائهم؟

وبالنسبة للسؤال الثّاني ، من الطبيعي أن يكون قصد موسىعليه‌السلام من التهديد بالعذاب ، هو العذاب الدنيوي والأخروي ، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي ، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.

وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسىعليه‌السلام .

ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي :

٢٤٧

أوضح لهم أولا أنّ عمل موسىعليه‌السلام لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.

ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة ، ويظهر أنّها أدلة معتبرة ، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطرا واضحا.

والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم ، فإذا كان كاذبا فسينال جزاءه من قبل الله ، ولكن يحتمل أن يكون صادقا ، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر ، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة ، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي.

( يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا ) .

ويحتمل أن يكون غرضه : إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة ، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسىعليه‌السلام ، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة ، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأمور.

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته ، فقلّل من غضبهم وغيظهم ، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع ، فقطع الكلام بالقول :( قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ) وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثمّ إنني :( وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبّارين على طول التأريخ ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره ، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون ، فهم يظنون أن عقلهم كامل ، وأن الآخرين لا يملكون علما ولا عقلا وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.

* * *

٢٤٨

بحوث

أوّلا : من هو مؤمن آل فرعون؟

نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسىعليه‌السلام ، ويظلّ يتكتم على إيمانه ، ويعتبر نفسه مكلفا بالدفاع عنهعليه‌السلام .

لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكيا ولبقا ، يقدّر قيمة الوقت ، ذا منطق قوي ، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسىعليه‌السلام وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافا أخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.

البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون ، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء ، بالرغم من أنّها تستخدم أيضا للأصدقاء والمقربين.

والبعض قال : إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل»(١) .

فيما قال البعض الآخر : إنّه خازن خزائن فرعون ، والمسؤول عن الشؤون المالية(٢) .

وينقل عن ابن عباس أنّه قال : إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسىعليه‌السلام ، وهم آل فرعون ، وزوجة فرعون ، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله ، حينما أقدم موسى على قتل القبطي ، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت :( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا

__________________

(١) يستفاد هذا المعنى من روآية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تلاحظ في أمالي الصدوق طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥١٩) ولكن بما أن الشائع أن «حزقيل» هو أحد أنبياء بني إسرائيل ، فعندها سيضعف هذا الاحتمال ، إلا إذا كان «حزقيل» هذا غير النبي المعروف في بني إسرائيل. ثم إن الروآية ضعيفة السند.

(٢) ورد هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم ، كما نقل صاحب نور الثقلين في المجلد الرابع ، صفحة ٥١٨.

٢٤٩

مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) .

لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسىعليه‌السلام بعد مواجهة موسى مع السحرة ، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.

والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل ، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف جدا ، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضا نداء «يا قوم».

ولكن يبقى دوره مؤثرا في تأريخ موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.

ثانيا : التقية أداة مؤثّرة في الصراع

(التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض ، بل غالبا ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين والجبارين والطغاة ، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلّا عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.

وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو ، لا تتمّ إلّا عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.

لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسىعليه‌السلام ، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو ، ويحصل على المعلومات والأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته ، ويخبر بها أصحابه وقد تقضي الضرورة النفوذ في ذهنية العدو أيضا وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

__________________

(١) القصص ، الآية ٢٠.

٢٥٠

الآن نسأل : هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسىعليه‌السلام لو لم يستخدم أسلوب التقية؟

لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قولهعليه‌السلام : التقية ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية ترس الله في الأرض ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(١) .

إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق ، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة ، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.

إنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التزم بنفسه هذا المبدأ ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات ، وحينما ازداد أتباعه وتشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره تعالى أمام القوم.

ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيمعليه‌السلام الذي استخدم أسلوب التقية ، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام ، وإلّا فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبدا.

كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله ودعوته الناشئة ، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلّا في فترات ومواقف خاصّة ، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.

من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأسلوب ، تختص

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢١.

٢٥١

بالشيعة دون غيرهم ، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن ، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.

ولمزيد من التوضيح ، باستطاعة القارئ الكريم أن يرجع إلى بحثنا في تفسير الآية ٢٨ من آل عمران والآية ١٠٦ من النحل.

ثالثا : من هم الصدّيقون؟

في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الصديقون ثلاثة : (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول :( اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) و (حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب وهو أفضلهم».

والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين(١) .

إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل ، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات ، وكانوا في المقدمة ، فاستحقوا لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد رحلته وذابا عن الدعوة الجديدة ، واستمرّ في كلّ المراحل والأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الإخلاص.

* * *

__________________

(١) يلاحظ الصدوق في «الأمالي» وابن حجر في الفصل الثّاني الباب التاسع من «الصواعق».

٢٥٢

الآيات

( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) )

التّفسير

التحذير من العاقبة!

كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبيا بمواصفات التمدّن والثقافة ، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة ، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيرا ، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.

لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم ، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسىعليه‌السلام يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه :( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ) .

٢٥٣

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة.( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان ، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم ، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة ، وبعضهم بالصواعق المحرقة ، ومجموعة بالزلازل المخرّبة.

واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون : ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك ، أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم ، ترى ماذا عمل أولئك حتى أصابهم ما أصابهم ، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين ، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم لذلك كلّه فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) .

لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه ، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة ، وأرسل أنبياءه لهدايتهم ، ولصدّ طغيان العتاة عنهم ، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.

ثم تضيف الآية على لسانه :( وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض ، إلّا أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.

«التناد» مأخوذة أصلا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» (وهي في الأصل (التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلّها) والمشهور بين المفسّرين أنّ

__________________

(١) «داب» على وزن (ضرب) تعني في الأصل الاستمرار في السير ، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثمّ أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على الشرك والطغيان والظلم والكفر.

٢٥٤

(يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة ، وقد ذكروا أسبابا لهذه التسمية متشابهة تقريبا ، فمنهم من يقول : إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النّار لأهل الجنّة ، كما يقول القرآن :( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) فجاءهم الجواب :( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) (١) (٢) . أو أنّ التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلبا للعون والمساعدة.

وهناك من قال : إن سبب التسمية يعود إلى أنّ الملائكة تناديهم للحساب ، وهم يطلبون العون من الملائكة.

أو لأنّ منادي المحشر ينادي :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) .

وقال بعضهم : إنّ السبب يعود إلى أنّ المؤمن عند ما يشاهد صحيفة أعماله ينادي برضى وشوق :( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٤) بينما الكافر من شدة خوفه وهول ما يحلّ به يصرخ وينادي :( يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) (٥) .

ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية ، بحيث يشمل «يوم التناد في هذه الدنيا أيضا ، لأنّ المعنى ـ كما رأينا ـ يعني (يوم مناداة البعض بعض الآخر) وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عند ما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات ، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة ، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيّام التي ينزل فيها العذاب الإلهي ، أو الأيّام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدودة لكثرة ما ارتكب من ذنوب وخطايا ، وقد نستطيع أن نتصور صورا أخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٥٠.

(٢) ورد هذا المعنى أيضا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب «معاني الأخبار» للصدوق.

(٣) هود ، الآية ١٨.

(٤) الحاقة ، الآية ١٩.

(٥) الحاقة ، الآية ٢٥.

٢٥٥

يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!

الآية التالية تفسّر يوم التناد بقولها :( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

ومثل هؤلاء حق عليهم القول :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن الطريق المستقيم ، سيضلّون في الآخرة عن الجنّة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون :( ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

* * *

٢٥٦

الآيتان

( وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) )

التّفسير

عجز المتكبرين عن الإدراك الصحيح!

هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون ، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات ، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع ، كلّ منها اكتسى بلون من المخاطبة ، وشكل من الدليل ، الذي يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به ، بغية محو الصدأ وآثار الكفر السوداء منهاكي تذعن لله ورسالاته وأنبيائه ، وتترك التكبر والطغيان :

المقطع الأوّل : راعى فيه مؤمن آل فرعون الاحتياط ، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة من جهتين : (قال لهم : لو كان موسى كاذبا فسينال جزاء

٢٥٧

كذبه ، أمّا لو كان صادقا فيشملنا العذاب ، إذا عليكم أن لا تتركوا العمل بالاحتياط).

المقطع الثّاني : وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمّل بما حلّ بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء ، كي يأخذوا العبرة من ذلك المصير!

المقطع الثّالث : كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا ، إذ تذكر هم الآيات ـ من خلال خطاب مؤمن آل فرعون ـ بجزء من تأريخهم ، هذا التأريخ الذي لا يبعد كثيرا عنهم ، ولم تمحى بعد أواصر الارتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه ، وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسفعليه‌السلام ، الذي يعتبر أحد أجداد موسى ، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى :( وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ) (١) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم :( فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ) .

وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية ، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.

ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية ، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات ، قلتم :( حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً ) .

بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) .

لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء ، حتى غدا ذلك كلّه سببا لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية ، فسدرتم في وادي الضلال والغي ، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.

واليوم ـ والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم ـ اتبعتم نفس

__________________

(١) تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسفعليه‌السلام ، وإن كنّا لا نعدم إشارات متفرقة لهذه النبوّة في سياق آيات قرآنية اخرى.

٢٥٨

الأسلوب حيال دعوة موسىعليه‌السلام ، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته ، فابتعدت عنكم أنوار الهداية ، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة.

الآية الكريمة التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول الله تبارك وتعالى :( الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ) (١) .

هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل ، بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية ، كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.

وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا ، تقول الآية :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٢) .

ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي ، يعتبر أساسا لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب ، وكذلك في إغواء للآخرين ، حيث تنطفئ أنوار الهداية في تلك الأوساط ، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.

في النهاية ، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق ، تقرّر الآية قوله تعالى :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (٣) .

أجل ، إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستارا مظلما حول فكر الإنسان ، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح ، بحيث ينتهي الأمر إلى أن

__________________

(١) (الذين) هنا بدل عن «مسرف مرتاب» إلّا أنّ المبدل عنه مفرد ، في حين أنّ البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك أنّ الخطاب لا يستهدف شخصا معينا وإنّما يشتمل على النوع.

(٢) فاعل «كبر» هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة ، أمّا «مقتا» فهي تمييز ، فيما يرى بعض المفسّرين أنّ الفاعل هو «مسرف مرتاب» إلّا أنّ الرأي الأوّل أفضل.

(٣) «متكبر جبار» وصف للقلب ، وليست وصفا لشخص ، بالرغم من أنّها مضافة. اشارة الى أنّ أساس التكبر والتجبر إنما ينبع من القلب ، ولأنّ القلب يسيطر على كلّ أعضاء ووجود الإنسان ، فإنّ كلّ الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذيء.

٢٥٩

يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق ، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد ، ولا إدخال المحتوى الهادي الصحيح.

إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق وأهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر والتجبر ، فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مرا في مذاقهم ، والباطل حلوا.

وفي كلّ الأحوال ، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفا ، فانتهى ـ كما سيظهر في الآية اللاحقة ـ إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسىعليه‌السلام ، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا لمخطط إلى أن استطاع موسىعليه‌السلام أن يفلت من الخطر.

لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع ، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم اللهعليه‌السلام : وكما سيتضح لا حقا من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضا في هذا السبيل.

* * *

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لم أرَ والله خفرة أنطق منها، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى، واضعي أيديهم على أفواههم، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم واُمّي! كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(١) .

ورأى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب، فقطع عليها خطبتها قائلاً:«اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة، وفهمة غير مفهمة» (٢) .

خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)

وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فخطبت أبلغ خطاب وأروعه، وكانت طفلة، وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة، فقالت: الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات، بغير ذخل ولا ترات.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، المسلوب حقّه، المقتول بغير ذنب - كما قُتل ولده بالأمس - في بيتٍ من بيوت الله، فيه معشر مسلمة بألسنتهم.

تعساً لرؤوسهم!

____________________

(١) نور الأبصار / ٢٧٦.

(٢) الاحتجاج - الطبرسي ٢ / ٣٠٤ - ٣٠٥.

٢٨١

ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل.

هديته يا ربّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده؛ أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً.

فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت؛ لحقد متقدّم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين.

فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

٢٨٢

تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون.

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلكم، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم؟!

وافتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي = بسيوف هنديّة ورماحِ

وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ = و نطحناهم فأيّ نطاحِ

بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(١) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظم واقع كما

____________________

(١) الكثكث: التراب. الأثلب: فتات الحجارة والتراب.

٢٨٣

أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه. أحسدتمونا - ويلاً لكم! - على ما فضّلنا الله!

فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا = وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) (١) .

تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

صدى خطابها

وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير؛ فقد وجلت منه عيونهم، ووجلت قلوبهم، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم، فاندفعوا ببكاء قائلين: حسبك يابنة الطاهرين؛ فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضمرت أجوافنا.

وأمسكت السيدة عن الكلام، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم.

خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)

وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(٢) إلى الخطابة، فأومأت إلى الناس

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٩.

(٢) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام).

٢٨٤

بالسكوت، فلمّا سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله والثناء عليه، ثمّ قالت: مه يا أهل الكوفة، سوءاً لكم! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً!

ويلكم! أتدرون أيّ دواه دهتكم، وأيّ وزر على ظهوركم حملتم، وأيّ دماء سفكتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الغالبون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

واضطرب الكوفيّون من خطابها، فنشرت النساء شعورهن، ولطمن الخدود، ولم يرَ أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم.

خطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى إلى الخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:«أيّها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا أُعَرِّفه بنفسي؛ أنا علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات (١) ، أنا ابن مَنْ انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن مَنْ قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً.

أيّها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي

____________________

(١) الترات: هو مَنْ ظلم حقّه.

٢٨٥

وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم، وسوءاً لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أُمّتي؟!» .

وجرّدهم بهذه الكلمات من الإسلام، ودلّهم على جرائمهم وآثامهم التي سوّدت وجه التأريخ، وقد علت أصواتهم بالبكاء، ونادى مناد منهم: هلكتم وما تعلمون.

واستمر الإمام في خطابه قائلاً:«رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته؛ فإنّ لنا في رسول الله أُسوة حسنة» .

فهتفوا قائلين: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله؛ فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا.

وردّ الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً:«هيهات هيهات أيّتها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلا وربّ الراقصات (١) ؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنس ثكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي،

____________________

(١) الراقصات: هي النجوم.

٢٨٦

وغصصه تجري في فراش صدري» (١) .

وأمسك الإمام (عليه السّلام) عن الكلام، وتركهم حيارى يندبون حظّهم التعيس.

في مجلس ابن زياد

وأُدخلت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة وهنَّ في ذلّ الأسر، قد شُهرت على رؤوسهنَّ سيوف الكافر ابن مرجانة سليل الأرجاس والخيانة، وهو في قصر الإمارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده، وهم يهنّئونه بالظفر، ويحدّثونه بجرائمهم التي اقترفوها يوم الطفّ، وهو جذلان مسرور يهزّ أعطافه فرحاً وسروراً، وبين يديه رأس زعيم الاُمّة وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فجعل الخبيث يعبث بالرأس الشريف وينكته بمخصرته، وهو يقول متشمّتاً: ما رأيت مثل هذا الوجه قطّ.

إنّه وجه النبوة والإمامة، ووجه الإسلام بجميع مبادئه وقيمه.

ولم ينه ابن مرجانة كلامه حتّى سدّد له الصحابي أنس بن مالك سهماً، فقال له: إنّه كان يشبه النبي(٢) .

والتاع الخبيث من كلامه، ولم يجد أيّ مجال للردّ عليه.

الطاغية مع عقيلة الوحي (عليها السّلام)

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، التفت إلى عائلة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فرأى سيدة منحازة في ناحية من مجلسه، وعليها أرذل

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٢.

(٢) أنساب الأشراف / ٢٢٢.

٢٨٧

الثياب، وقد حفّت بها المهابة والجلال، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها، فقال: مَنْ هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فانبرت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له، واندفع يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل اُحدوثتكم.

فثارت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأجابته بشجاعة أبيها، محتقرة له قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة(١) .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس هذا الوضر الخبيث، لقد قالت هذا القول الصارم وهي مع بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قيد الأسر، قد نُصبت فوق رؤوسهنَّ حراب الظالمين، وشُهرت عليهن سيوف الشامتين.

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يُجيب به سوى التشفّي قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟

فأجابته حفيدة الرسول ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينكم وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣.

٢٨٨

وفقد الحقير الدنس إهابه من هذا التبكيت والاحتقار اللاذع، فهمّ أن يضرب العقيلة، فنهاه عمرو بن حريث وقال له: إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.

يالله! يا للمسلمين! ابن مرجانة يروم أن يعتدي على عقيلة بني هاشم وحفيدة الرسول! إنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الصارخ على الأُسرة النبويّة وعلى عقائل الوحي مؤتمر السقيفة والشورى؛ فهم الذين سلّطوا على المسلمين الاُمويِّين، خصوم الإسلام وأعداء البيت العلوي، وحجبوا آل البيت عن القيادة الروحية لهذه الاُمّة.

وعلى أيّ حال، فإنّ ابن مرجانة التفت إلى العقيلة مظهراً لها التشفّي بقتل أخيها قائلاً: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.

وغلب الأسى والحزن على العقيلة (عليها السّلام) من هذا التشفّي الآثم، وتذكّرت حماتها الصفوة من الاُسرة النبويّة، فأدركتها لوعة الأسى، وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

وتهافت غيظ ابن مرجانة، وراح يقول: هذه سجّاعة، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فردّت عليه العقيلة: إنّ لي عن السجاعة لشغلاً، ما للمرأة والسجاعة(١) !

ما أخسّ هذه الحياة وما ألأمها التي جعلت حفيدة الرسول أسيرة عند

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٤.

٢٨٩

ابن مرجانة، وهو يبالغ في احتقارها!

إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت (عليهم السّلام)، فوقع بصره على الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، وقد أنهكته العلّة، فسأله: مَنْ أنت؟

-«عليّ بن الحسين» .

فصاح به الرجس الخبيث: أوَ لم يقتل الله علي بن الحسين؟

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بأناة:«قد كان لي أخ يُسمّى عليّ بن الحسين قتلتموه، وإنّ له منكم مطالباً يوم القيامة» .

فثار ابن مرجانة، ورفع صوته قائلاً: الله قتله.

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بكلّ شجاعة وثبات:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه ) .

ودارت الأرض بابن مرجانة ولم يعرف ما يقول، وغاظه أن يتكلّم هذا الغلام الأسير بقوّة الحجّة، والاستشهاد بالقرآن الكريم، فرفع عقيرته قائلاً: وبك جرأة على ردّ جوابي! وفيك بقية للردّ عليّ! والتفت إلى بعض جلاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه.

وطاشت أحلام العقيلة (عليها السّلام)، وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها وقالت لابن مرجانة:

٢٩٠

حسبك يابن زياد ما سفكت من دمائنا! إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه.

وبُهر الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً للرحم ودّت أن تُقتل معه!

ولولا موقف العقيلة (عليها السّلام) لذهبت البقيّة من نسل أخيها التي هي مصدر الخير والفضيلة في دنيا العرب والإسلام. لقد أنجا الله زين العابدين (عليه السّلام) من القتل المحتّم ببركة العقيلة (عليها السّلام)؛ فهي التي أنقدته من هذا الطاغية الجبّار(١) .

حبس عقائل الوحي

وأمر ابن مرجانة بحبس مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي فاُدخلنّ في سجن يقع إلى جانب المسجد الأعظم، وقد ضيّق عليهنَّ أشدّ التضييق، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتّى بان عليها الضعف فلم تتمكّن من النهوض، وكانت تُصلّي من جلوس، وفزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من حالتها، فأخبرته بالأمر.

ورفضت عقيلة بني هاشم مقابلة أيّة امرأة من الكوفيات، وقالت: لا يدخلنّ علينا إلاّ أُمّ ولد، أو مملوكة؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا.

واُلقي على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه: إنّ البريد قد سار بأمركم إلى يزيد، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك، وإن لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان. وحدّدوا لمجيء الكتاب وقتاً، وفزعت العلويات وذُعرن، وقبل قدوم البريد بيومين اُلقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب

____________________

(١)

٢٩١

وصول البريد. وبعد انتهاء المدّة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق(١) .

وصرّح بعض المؤرّخين أنّ يزيد كان عازماً على استئصال نسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إلاّ أنّه بعد ذلك عدل عن نيّته.

وبقيت العائلة النبويّة في السجن، فلمّا جاءت أوامر يزيد بحملهم إلى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة فقد حُملت السبايا، وأمّا رؤوس العترة الطاهرة الذين أرادوا أن يقيموا في هذا الشرق حكومة الإسلام والقرآن فقد حُملت ليراها أهل الشام، ويتلذّذ بمنظرها يزيد.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٧.

٢٩٢

سبايا آل النبي (عليهم السّلام) في دمشق

وعانت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهنَّ في الكوفة؛ فقد عانينَ مرارة السجن، وشماتة الأعداء، وذلّ الأسر. وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتُعرض على الشاميّين كما عرضت على الكوفيّين؛ حتّى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً، وتظهر مقدرة الاُمويِّين وغلبتهم على آل الرسول.

وقد سُيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي، كما سُيّرت العائلة النبويّة مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش، وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأُركبت على أقتاب الجمال، وهنَّ بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد لها فرائص كلّ إنسان(١) .

وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى القرب من دمشق، فاُقيمت هناك حتّى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح.

ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوّة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت، فلم يطلبوا أيّ شيء من اُولئك الأنذال الموكّلين بهم؛ وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأيّ شيء من مطالبهنَّ.

____________________

(١) تحفة الأنام في مختصر الإسلام / ٨٤.

٢٩٣

تزيين الشام

وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله).

ووصف بعض المؤرّخين تلك الزينة بقوله: ولمّا بلغوا - أي أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) - ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتّى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتّى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل، والحرير والديباج، والفضة والذهب وأنواع الجواهر، على صفة لم يرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده.

ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل إلى التفرّج، ومعهم الطبول والدفوف، والبوقات والمزامير، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد كحّلوا العيون وخضّبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا أحسن الزينة، ولم يرَ الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتّى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق(١) .

لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت (عليهم السّلام) جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوّة.

وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين (عليه السّلام)، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟!

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٦٩.

٢٩٤

- نراك يا شيخ غريباً؟

- أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

- يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!

- وما ذاك؟

- هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق.

- وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟

وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء.

وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: مَنْ أنتِ؟

- أنا سكينة بنت الحسين.

- ألك حاجة؛ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله؟

- قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمئة درهم فباعد الرأس عن النساء(١) .

الشامي مع زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فرفع عقيرته قائلاً:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٠.

٢٩٥

الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.

وبصر به الإمام (عليه السّلام) فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُمويّة، فقال له:«يا شيخ، أقرأت القرآن؟» .

فبُهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى!

-«أقرأت قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقوله تعالى: ( وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟» .

وبُهر الشيخ وتهافت فقال: نعم، قرأت ذلك!

فقال له الإمام (عليه السّلام):«نحن والله القربى في هذه الآيات. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟» .

- بلى.

-«نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير» .

ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام (عليه السّلام) ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام (عليه السّلام) بنبرات مرتعشة: بالله عليكم أنتم هم؟!

-«وحقّ جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ» .

وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممّن قتكلم.

٢٩٦

وطلب من الإمام (عليه السّلام) أن يمنحه العفو والرضا، فعفا الإمام عنه(١) .

سرور يزيد (لعنه الله)

وغمرت يزيد موجات من الفرح حينما جيء له بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان مطلاّ على منظر في جيرون، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال:

لمّا بدت تلكَ الحمول وأشرقتْ = تلكَ الرؤوس على شفا جيرونِ

نعبَ الغرابُ فقلت قل أو لا تقل = فقد اقتضيت من الرسولِ ديوني(٢)

لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش؛ فقد أباد العترة الطاهرة، وسبى ذراريها؛ تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الاُمويِّين.

رأس الإمام (عليه السّلام) عند يزيد (لعنه الله)

وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية، فسرّ بذلك سروراً بالغاً؛ فقد استوفى ثأره وديون الاُمويِّين من ابن رسول الله، وقد أذن للناس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموي وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنّئون يزيد بهذا النصر الكاذب(٣) ، وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفهما، وجعل يقول: لقد لقيت بغيك يا حسين(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧١.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) - المقرّم / ٤٣٧.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٩٨.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٤.

٢٩٧

ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: ما كنت أظنّ أبا عبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود(١) .

وتأمّل في وجه الإمام (عليه السّلام) فغمرته هيبته، وراح يقول: ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ(٢) !

أجل، إنّه كوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي تحنو له الوجوه والرقاب، والذي يشعّ بروح الإيمان.

وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام (عليه السّلام) بالضرب وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:

أبى قومنا إن ينصفونا فانصفت = قواضب في إيماننا تقطر الدما

نُفلِّقنَ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ = علينا و هم كانوا أعقّ وأظلما

ولم يتم الخبيث كلامه حتّى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي، فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه.

ثمّ قام منصرفاً عنه(٣) .

السبايا في مجلس يزيد (لعنه الله)

وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية، فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عنق العقيلة زينب (عليها السّلام) وباقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا كلّما قصّروا عن

____________________

(١) تاريخ الإسلام - الذهبي ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ القضاعي / ٧٠.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٩٨.

٢٩٨

المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط، وجاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدّع من هولها الجبال، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.

وأوقفت مخدّرات الرسالة بين يدي يزيد (لعنه الله)، فالتفت إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له:«ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو رآنا على هذه الصِفة؟» .

فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد (لعنه الله): قبّح الله ابن مرجانة! لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.

إنّه لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد، وإرضاءً لعواطفه ورغباته، واستجابة لعواطف القرشيّين الذين ما آمنوا بالإسلام، وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له: إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

فأجابه شبل الحسين بكلّ طمأنينة وهدوء بقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

وثار الطاغية وقال للإمام:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

فردّ عليه الإمام (عليه السّلام):«هذا في حقّ مَنْ ظلم لا في حقّ مَنْ ظُلِم» .

٢٩٩

وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه؛ استهانة به(١) .

خطاب العقيلة (عليها السّلام)

وأظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد صفا له الملك، واستوسقت له الاُمور، وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر؛ ليريهم كيف أخذ بثارهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذرّيته، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع:

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا = جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

فأهلّوا واستهلّوا فرحاً = ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشلْ

قد قتلنا القومَ من ساداتهمْ = و عدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا = خبرٌ جاءَ و لا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندف إن لم أنتقمْ = من بني أحمدَ ما كان فَعَلْ

ولمّا سمعت العقيلة (عليها السّلام) هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر، وثبت كالأسد، فسحقت جبروته وطغيانه، فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة، والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينيّة.

قالت (عليها السّلام): الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا

____________________

(١) الإرشاد / ٢٧٦.

(٢) سورة الروم / ١٠.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343