السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام22%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192502 / تحميل: 8581
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

السلام ، فان الفاظ القصة لا تدل على التأويل الذي ذكره الخضر لموسى. كما انه في آية( وأوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ) لا تدل هاتان الجملتان دلالة لفظية على وضع اقتصادي خاص هو التأويل للأمر الوارد فيها. وفي آية( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ) لا تدل الآية دلالة لفظية على تأويله الذي هو الوحدة الإسلامية وهكذا دواليك في الآيات الاخرى لو امعنا النظر فيها.

بل في الرؤيا تأويله حقيقة خارجية رآها الراؤون في صورة خاصة ، وفي قصة موسى والخضر تأويل الخضر حقيقة تنبع منها اعماله التي عملها ، والامر في آية الكيل والوزن تأويله مصلحة عامة تنبع منه ، وآية رد النزاع الى الله والرسول ايضاً شبيهة بما ذكرناه.

فتأويل كل شيء حقيقة خارجية يتراءى ذلك الشيء منها وهو بدوره يحقق التأويل ، كما ان صاحب التأويل بقاؤه بالتأويل وظهوره في صاحبه.

وهذا المعنى جار في القرآن الكريم ، لان هذا الكتاب المقدس يستمد من منابع حقائق ومعنويات قطعت اغلال المادية والجسمانية ، وهي اعلى مرتبة من الحس والمحسوس واوسع من قوالب الالفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية.

٦١

ان هذه الحقائق والمعنويات لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة ، وانما هي الفات للبشرية من عالم الغيب الى ضرورة استعدادهم للوصول الى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقة والاعمال الصالحة ، ولا طريق للوصول الى تلك السعادة الا بهذه الظواهر ، وعندما ينتقل الإنسان الى العالم الاخر تتجلى له الحقائق مكشوفة ، وهذا ما يدل عليه آيتا سورتي الاعراف ويونس المذكورتان.

والى هذا يشير ايضا قوله تعالى :( حّم *والكتاب المبين *انا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون *وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) (١) .

انطباق الآية على « التأويل » بالمعنى الذي ذكرناه واضح لا غبار عليه ، وخاصة لانه قال( لعلكم تعقلون ) ولم يقل « لعلكم تعقلونه » ، لان علم التأويل خاص بالله تعالى كما جاء في آية المحكم والمتشابه( وما يعلم تأويله الا الله ) ، ولهذا عندما تريد الآية ان تذكر المنحرفين الذين يتبعون المتشابهات ، تصفهم بأنهم يبتغون الفتنة والتأويل ولم تصفهم بأنهم يجدون التأويل.

فاذاً « التأويل » هو حقيقة او حقائق مضبوطة في ام

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

٦٢

الكتاب ولا يعلمها الا الله تعالى وهي مما اختص بعالم الغيب.

وقال تعالى ايضاً في آيات اخرى :( فلا اقسم بمواقع النجوم *وانه لقسم لو تعلمون عظيم *انه لقرآن كريم *في كتاب مكنون *لا يمسه الا المطهرون *تنزيل من رب العالمين ) ؟(١) .

يظهر جلياً من هذه الآيات ان للقرآن الكريم مقامين : مقام مكنون محفوظ من المس ، ومقام التنزيل الذي يفهمه كل الناس.

والفائدة الزائدة التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة ، هي الاستثناء الوارد في قوله( الا المطهرون ) الدال على ان هناك بعض من يمكن ان يدرك حقائق القرآن وتأويله. وهذا الاثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى( وما يعلم تأويله الا الله ) ، لان ضم احداهما الى الاخرى ينتج الاستقلال والتبعية ، اي يعرف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق ولا يعرفها احد الا باذنه عز شأنه وتعليم منه.

وعلم التأويل شبيه فيما ذكرنا بعلم الغيب الذي اختص بالله تعالى في كثير من الآيات ، وفي آية استثنى العباد

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الواقعة : ٧٥ ـ ٨٠.

٦٣

المرضيون فأثبت لهم العلم به ، وهي قوله تعالى :( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احداً *الا من ارتضى من رسول ) (١) . فمن مجموع الكلمات في علم الغيب نستنتج انه بالاستقلال خاص بالله تعالى ولا يطلع عليه احدا الا باذنه عز وجل.

نعم ، المطهرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية ويصلون الى غور معارف القرآن ـ كما تدلنا عليه الآيات التي ذكرناها. ولو ضممنا هذه الى قوله تعالى( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (٢) .

الوارد حسب احاديث متواترة في حق اهل البيتعليهم‌السلام نعلم ان النبي واهل بيته هم المطهرون العالمون بتأويل القرآن الكريم.

القرآن والناسخ والمنسوخ :

بضمن آيات الاحكام الواردة في القرآن الكريم آيات احتلت احكامها مكان احكام كانت موضوعة في آيات سابقة ، فأنهت الآيات اللاحقة مفعول الآيات السابقة ولم تعد

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الجن : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سور الاحزاب : ٣٣.

٦٤

تلك الاحكام معمولاً بها. وتسمى الآيات السابقة بـ « المنسوخ » والآيات اللاحقة بـ « الناسخ ».

فمثلاً في بداية مبعث الرسول أمر المسلمون بمداراة اهل الكتاب في قوله تعالى :( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) (١) . وبعد مدة انهي هذا الحكم وامروا بالقتال معهم في قوله( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب ) (٢) .

والنسخ الذي يدور على السنتنا حقيقته هي : وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه.

لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل والخطأ الى الله تعالى المنزه عن كل جهل وخطأ ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود اي اختلاف بينها.

بل النسخ في القرآن معناه : انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ. ونعني بهذا ان للحكم الاول كانت مصحلة زمنية محدودة واثر موقت بوقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ١٠٩.

(٢) سورة التوبة : ٢٩.

٦٥

ذلك الزمن المحدود وزوال الاثر. ونظراً الى ان الآيات نزلت في مناسبات مختلفة خلال ثلاث وعشرون سنة ، من السهولة بمكان تصور اشتمالها على هكذا احكام.

ان وضع حكم موقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم ، ثم وضع الحكم الدائم وابدال الحكم الموقت به ، شيء ثابت لا اشكال فيه. كما يفهم هذا ايضا مما ورد في القرآن الكريم حول فلسفة النسخ. قال تعالى :( واذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون *قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين ) (١) .

الجري والانطباق في القرآن :

القرآن الكريم كتاب دائم لكل الازمان وتسري احكامه على كل الناس ، فيجري في الغائب كما يجري في الحاضر وينطبق على الماضي والمستقبل كما ينطبق على الحال. فمثلاً الآيات النازلة في حكم ما على احد المؤمنين بشروط خاصة في عصر النبوة يسري ذلك الحكم على غيره لو توفرت تلك الشروط في العصور التالية ايضاً ، والآيات التي تمدح او تذم

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ١٠١ ـ ١٠٢.

٦٦

بعض من يتحلى بصفات ممدوحة او مذمومة تشمل من يتحلى بها ممن لم يعاصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فاذاً مورد نزول آية من الآيات لا يكون مخصصاً لتلك الآية نفسها. ونعني بذلك انه لو نزلت في شخص او اشخاص معينين آية لا تكون تلك الآية جامدة في ذلك الشخص او اولئك الاشخاص ، بل يسري حكمها في كل من يشترك مع اولئك في الصفات التي كانت مورداً لتلك الآية.

هذا هو الذي يسمى في السنة الاحاديث بـ « الجري ». قال الامام الباقرعليه‌السلام ، في حديثه للفضيل بن يسار ، عندما سأله عن هذه الرواية « ما في القرآن آية الا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف الا وله حد ولكل حد مطلع » ما يعني بقوله « ظهر وبطن »؟ قالعليه‌السلام : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع. الحديث(١) .

وفي بعض الاحاديث يعتبر بطن القرآن ـ يعني انطباقه بموارد وجدت بالتحليل ـ مثل الجري(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) تفسير العياشي ١ / ١٠.

(٢) انظر المصدر السابق ١ / ١١.

٦٧

التفسير وظهوره وتطوره :

بدأ التفسير للآيات وبيان معاني الفاظ القرآن وعباراته من عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان هو المعلم الاول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده وحل ما غمض من عباراته ، قال تعالى( وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ) (١) .

وقال :( هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (٢) .

وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه ، وهم الذين يسمون بـ « القراء ». وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولا زال حتى الان فيهم مفسرون.

علم التفسير وطبقات المفسرين :

اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد ان ارتحل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الى الرفيق الاعلى ، ومنهم

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة الجمعة : ٢.

٦٨

أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الانصاري وابو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وانس وابو هريرة وابو موسى ، وكان اشهرهم عبد الله بن عباس.

كان منهج هؤلاء في التفسير انهم ينقلون ما سمعوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في معاني الآيات بشكل احاديث مسندة(١) وبلغت هذه الاحاديث كلها الى نيف واربعين ومائتي حديث اسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لا يمكن الركون اليها.

وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على انه تفسير منهم بدون اسناده الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعد المفسرون من متأخري اهل السنة هذا القسم ايضا من جملة الاحاديث ، بحجة ان الصحابة اخذوا علم القرآن من النبي ويبعد ان يفسروا من عند انفسهم.

ولكن لا دليل قاطع على كلامهم هذا ، بالاضافة الى ان كمية كبيرة من الاحاديث المذكورة واردة في اسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية ، كما ان فيها احاديث غير مسندة منقولة عن بعض علماء اليهود الذين اسلموا ككعب الاحبار وغيره.

ــــــــــــــــــ

(١) آخر كتاب الاتقان ، طبع القاهرة سنة ١٣٧٠ هـ.

٦٩

وكان ابن عباس في اكثر الاوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات ، كما نرى ذلك جلياً في مسائل نافع بن الازرق ، فان ابن عباس عند الاجابة عليها استشهد بالشعر في اكثر من مائتي مورد من الآيات ، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جواباً منها في كتابه الاتقان(١) .

ومن هنا لا يمكن اعتبار الاحاديث المنقولة عن الصحابة احاديث نبوية كما لا يمكن القول بأنهم لم يفسروا مطلقاً برأيهم.

ومفسرو الصحابة هم الطبقة الاولى من المفسرين.

( الطبقة الثانية ) هم التابعون ، وهم تلامذة مفسري الصحابة ، وهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وضحاك. ومن هذه الطبقة ايضا الحسن البصري وعطاء بن ابي رباح وعطاء بن ابي مسلم وابي العالية ومحمد بن كعب القرظي وقتادة وعطية وزيد بن اسلم وطاوس اليماني(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) الاتقان ص ١٢٠ ـ ١٣٣.

(٢) مجاهد ، مفسر مشهور ، توفي سنة ١٠٠ او سنة ١٠٣ ( تهذيب الاسماء للنووي ).

سعيد بن جبير مفسر معروف تلميذ ابن عباس ، قتله الحجاج الثقفي سنة ٩٤ ( التهذيب ).

عكرمة ، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير ،

٧٠

( الطبقة الثالثة ) تلامذة الطبقة الثانية ، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابو صالح الكلبي ونظرائهم(١) .

ــــــــــــــــــ

توفي سنة ١٠٤ ( التهذيب ).

ضحاك ، من تلامذة عكرمة ( لسان الميزان ).

الحسن البصري ، زاهد ومفسر معروف ، توفي سنة ١١٠ ( التهذيب ).

عطاء بن ابي رباح ، فقيه ومفسر مشهور ، من تلامذة ابن عباس ، توفي سنة ١١٥ ( التهذيب ).

عطاء بن ابي مسلم ، من اكابر التابعين ، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة ، توفي سنة ١٣٣ ( التهذيب ).

ابو العالية ، من ائمة التفسير واكابر التابعين ، كان في المائة الاولى من الهجرة ( التهذيب ).

محمد بن كعب القرظي ، مفسر معروف ، وهو من اسرة يهودية من بني قريظة ، كان في المائة الاولى من الهجرة.

قتادة ، اعمى ، كان من اكابر المفسرين ، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة ، توفي سنة ١١٧ ( التهذيب ).

عطية ، ينقل عن ابن عباس ( لسان الميزان ).

زيد بن اسلم ، مولى عمر بن الخطاب ، فقيه ومفسر ، توفي سنة ١٣٦ ( التهذيب ).

طاوس اليماني ، من اعلام عصره ، وهو تلميذ ابن عباس ، توفي سنة ١٠٦ ( التهذيب ).

(١) عبد الرحمن بن زيد ، يعد من علماء التفسير.

٧١

وكان منهج التابعين في التفسير انهم ينقلونه احيانا بصورة احاديث عن الرسول الكريم او الصحابة ، واحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها الى احد ، فعامل متأخرو المفسرين مع هذه الاقوال معاملة الاحاديث النبوية واعتبروها احاديث موقوفة(١) .

ويطلق على الطبقتين الاخرتين لفظة « قدماء المفسرين ».

( الطبقة الرابعة ) اوائل المؤلفين في علم التفسير ، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم. ومن هذه الطبقة ايضا ابن جرير الطبري صاحب التفسير المشهور(٢) .

ــــــــــــــــــ

ابو صالح الكلبي ، النسابة المفسر ، وهو من اعلام القرن الثاني.

(١) الاحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه.

(٢) سفيان بن عيينة ، مكي من طبقة التابعين الثانية ، وهو من علماء التفسير توفي سنة ١٩٨ ( التهذيب ).

وكيع بن الجراح ، كوفي من طبقة التابعين الثانية ، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة ١٩٧ ( التهذيب ).

شعبة بن الحجاج البصري ، من طبقة التابعين الثانية ، وهو من مشاهير المفسرين ، توفي سنة ١٦٠ ( التهذيب ).

عبد بن حميد ، صاحب تفسير ، من طبقة التابعين الثانية ، كان في القرن الثاني من الهجرة.

٧٢

ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل اقوال الصحابة والتابعين بشكل احاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة. الا ان ابن جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الاحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها. ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين.

( الطبقة الخامسة ) المفسرون الذين نقلوا الاحاديث في تفاسيرهم بحذف الاسانيد واكتفوا بنقل الاقوال والآراء.

قال السيوطي : فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل(١) .

الا ان المتدبر في الاحاديث المسندة يرى ايضا كثيرا من الوضع والدس ، ويشاهد الاقوال المتناقضة تنسب الى صحابي واحد ، ويقرأ قصصاً وحكايات يقطع بعدم صحتها ، ويمر على احاديث في اسباب النزول والناسخ والمنسوخ لا تتفق مع سياق الآيات. ومن هنا نقل ان الامام احمد بن حنبل قال : ثلاثة لا اصل لها المغازي والملاحم واحاديث التفسير. ونقل عن الامام الشافعي ان الثابت من الاحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط.

ــــــــــــــــــ

ابن جرير الطبري ، محمد بن جرير بن يزيد ، من مشاهير علماء السنة ، توفي سنة ٣١٠ ( لسان الميزان ).

(١) الاتقان ٢ / ١٩٠.

٧٣

( الطبقة السادسة ) المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها ، فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي اتقنه : فالنحوي ادرج المباحث النحوية كالزجاج والواحدي وابي حيان(١) ، والاديب اورد المباحث البلاغية كالزمخشري في كشافه(٢) ، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير(٣) ، والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما(٤) ، والاخباري ملأ كتابه بالاحاديث كالثعلبي في تفسيره(٥) ، والفقيه جاء بالمسائل الفقهية

ــــــــــــــــــ

(١) الزجاج ، من علماء النحو ، توفي سنة ٣١٠ ( ريحانة الادب ).

الواحدي ، نحوي مفسر ، توفي سنة ٤٦٨ ( الريحانة ).

ابو حيان الاندلسي ، نحوي مفسر قارىء توفي في مصر سنة ٧٤٥ ( الريحانة ).

(٢) الزمخشري ، من مشاهير علماء الادب ، مؤلف تفسير الكشاف ، توفي سنة ٥٣٨ ( كشف الظنون ).

(٣) الامام فخر الدين الرازي ، متكلم مفسر مشهور ، صاحب تفسير مفاتيح الغيب ، توفي سنة ٦٠٦ ( كشف الظنون ).

(٤) عبد الرزاق الكاشاني ، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري ( ريحانة الادب ).

(٥) احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي ، صاحب التفسير المشهور ، توفي سنة ٤٢٦ او ٤٢٧ ( الريحانة ).

٧٤

كالقرطبي في تفسيره(١) . وقد خلط جماعة آخرون في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني(٢) وروح البيان(٣) وتفسير النيسابوري(٤) .

والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة الى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس والبحث ، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيراً من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على القرآن حملاً ولا تدل عليها الآيات.

أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم :

الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ، وقد رأينا ان لهم منهجاً خاصا في التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته ، فجعلوه احاديث نبوية واقوال للصحابة والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لانه يكون من قبيل الاجتهاد

ــــــــــــــــــ

(١) محمد بن احمد بن ابي بكر القرطبي ، توفي سنة ٦٦٨ ( الريحانة ).

(٢) تأليف الشيخ اسماعيل حقي ، توفي سنة ١١٣٧ ( ذيل كشف الظنون ).

(٣) تأليف شهاب الدين محمود الالوسي البغدادي ، توفي سنة ١٢٧٠ ( ذيل كشف الظنون ).

(٤) غرائب القرآن ، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري ، توفي سنة ٧٢٨ ( ذيل كشف الظنون ).

٧٥

 مقابل النص. ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رأيها فيها وتجتهد.

أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة ، ولذا يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة.

تعتقد الشيعة ـ بنص من القرآن الكريم حجية اقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في التفسير ، وترى ان الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في اقوالهم الا ما ثبت انه حديث نبوي. وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين ان اقوال العترة الطاهرة من اهل بيتهعليهم‌السلام هي تالية لاقوال الرسول ، فهي حجة ايضا. ومن هنا اخذت الشيعة في التفسير بما اثر عن النبي واهل بيتهعليهم‌السلام ، فكانت طبقات المفسرين منهم كما يلي :

( الطبقة الاولى ) : الذين رووا التفسير عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وائمة اهل البيتعليهم‌السلام ، وادرجوا الاحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة ، كزرارة ومحمد بن مسلم ومعروف وجرير واشباههم(١) .

ــــــــــــــــــ

(١) زرارة بن اعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

معروف بن خربوذ وجرير من خواص اصحاب الامام الصادق عليه الصلاة والسلام.

٧٦

( الطبقة الثانية ) : اوائل المؤلفين في التفسير ، كفرات بن ابراهيم الكوفي وابي حمزة الثمالي والعياشي وعلي بن ابراهيم القمي والنعماني(١) .

وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري اهل السنة ، فقد رووا الاحاديث المأثورة عن الطبقة الاولى وادرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم الخاصة في الموضوع.

ومن الواضح ان الزمن الذي كان يمكن الاخذ فيه عن الائمةعليهم‌السلام كان طويلاً بلغ نحواً من ثلاثمائة سنة ،

ــــــــــــــــــ

(١) فرات بن ابراهيم الكوفي ، صاحب التفسير المشهور ، من مشايخ علي بن ابراهيم القمي ( ريحانة الادب ).

ابو حمزة الثمالي ، من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامام السجاد والباقرعليهما‌السلام ( الريحانة ).

العياشي ، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي ، من اعيان علماء الامامية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ( الريحانة ).

علي بن ابراهيم القمي ، من مشائخ الحديث الشيعي في اواخر القرن الثالث واوائل القرن الرابع الهجري.

النعماني ، محمد بن ابراهيم ، من اعيان علماء الامامية ، وهو تلميذ ثقة الإسلام الكليني ، كان في اوائل القرن الرابع الهجري ( الريحانة ).

٧٧

فكان من الطبيعي ان لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين بصورة دقيقة ، بل كانتا متداخلتين ومن الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما.

وقد قل عند اوائل مفسري الشيعة نقل احاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم ، وكنموذج لنقل الاحاديث مروية بدون اسانيد نلفت الانظار الى تفسير العياشي الذي حذف بعض تلامذته اسانيده اختصاراً ، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الاصل.

( الطبقة الثالثة ) اصحاب العلوم المختلفة ، كالشريف الرضي في تفسيره الادبي والشيخ الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره الفلسفي والميبدي الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي(١) .

ــــــــــــــــــ

(١) الشريف الرضي ، محمد بن الحسين الموسوي ، من اجلاء فقهاء الامامية ، اعلم اهل زمانه في الشعر والادب ، ومن تآليفه كتاب « نهج البلاغة » توفي سنة ٤٠٤ او ٤٠٦ ( ريحانة الادب ).

شيخ الطائفة ، محمد بن الحسن الطوسي ، من اعلام علماء الامامية ، من تآليفه « التهذيب » و « الاستبصار » اللذين هما اصلان من الاصول الاربعة الحديثية عند الشيعة ، توفي سنة ٤٦٠ ( الريحانة ).

٧٨

وهناك جماعة جمعوا في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة ، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره « مجمع البيان » الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها(١) .

كيف يتقبل القرآن التفسير؟

الاجابة على هذا السؤال تتوضح من الفصول الماضية ، فان القرآن الكريم ـ كما ذكرنا ـ كتاب دائم للجميع ،

ــــــــــــــــــ

صدر المتألهين ، محمد بن ابراهيم الشيرازي ، الفيلسوف المشهور ، مؤلف كتاب « اسرار الآيات » و « مجموعة تفاسير » ، توفي سنة ١٠٥٠ ( روضات الجنات ).

الميبدي.

السيد هاشم البحراني ، صاحب تفسير « البرهان » في اربعة اجزاء كبار توفي سنة ١١٠٧ ( الريحانة ).

الفيض الكاشاني ، المولى محمد محسن بن المرتضى ، مؤلف كتاب « الصافي » و « الاصفى » ، توفي سنة ١٠٩١ ( الريحانة ).

الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي ، مؤلف كتاب « نور الثقلين » في خمسة اجزاء ، توفي سنة ١١١٢ ( الريحانة ).

(١) أمين الإسلام ، الفضل بن الحسن الطبرسي ، من اعيان علماء الامامية ، صاحب « مجمع البيان » في عشرة اجزاء ، توفي سنة ٥٤٨ ( الريحانة ).

٧٩

يخاطب الكل ويرشدهم الى مقاصده وقد تحدى في كثير من آياته على الاتيان بمثله واحتج بذلك على الناس ، ووصف نفسه بأنه النور والضياء والتبيان لكل شيء ، فلا يكون مثل هذا الكتاب محتاجا الى شيء اخر.

يقول محتجاً على انه ليس من كلام البشر :( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) (١) .

ليس فيه اي اختلاف ، ولو وجد فيه اختلاف بالنظرة البدائية يرتفع بالتدبر في القرآن نفسه.

ومثل هذا الكتاب لو احتاج في بيان مقاصده الى شيء اخر لم تتم به الحجة ، لانه لو فرض ان احد الكفار وجد اختلافا في شيء من القرآن لا يرتفع من طريق الدلالة اللفظية للايات لم يقنع برفعه من طرق اخرى ، كأن يقول النبي مثلاً يرتفع بكذا وكذا ، ذلك لان هذا الكافر لا يعتقد بصدق النبي ونبوته وعصمته ، فلم يتنازل لقوله ودعاويه.

وبعبارة اخرى : لا يكفي ان يكون النبي رافعا للاختلافات القرآنية بدون شاهد لفظي من نفس القرآن لمن لا يعتقد نبوته وعصمته ، والآية الكريمة( أفلا يتدبرون

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٨٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لم أرَ والله خفرة أنطق منها، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى، واضعي أيديهم على أفواههم، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم واُمّي! كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(١) .

ورأى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب، فقطع عليها خطبتها قائلاً:«اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة، وفهمة غير مفهمة» (٢) .

خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)

وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فخطبت أبلغ خطاب وأروعه، وكانت طفلة، وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة، فقالت: الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات، بغير ذخل ولا ترات.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، المسلوب حقّه، المقتول بغير ذنب - كما قُتل ولده بالأمس - في بيتٍ من بيوت الله، فيه معشر مسلمة بألسنتهم.

تعساً لرؤوسهم!

____________________

(١) نور الأبصار / ٢٧٦.

(٢) الاحتجاج - الطبرسي ٢ / ٣٠٤ - ٣٠٥.

٢٨١

ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل.

هديته يا ربّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده؛ أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً.

فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت؛ لحقد متقدّم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين.

فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

٢٨٢

تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون.

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلكم، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم؟!

وافتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي = بسيوف هنديّة ورماحِ

وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ = و نطحناهم فأيّ نطاحِ

بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(١) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظم واقع كما

____________________

(١) الكثكث: التراب. الأثلب: فتات الحجارة والتراب.

٢٨٣

أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه. أحسدتمونا - ويلاً لكم! - على ما فضّلنا الله!

فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا = وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) (١) .

تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

صدى خطابها

وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير؛ فقد وجلت منه عيونهم، ووجلت قلوبهم، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم، فاندفعوا ببكاء قائلين: حسبك يابنة الطاهرين؛ فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضمرت أجوافنا.

وأمسكت السيدة عن الكلام، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم.

خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)

وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(٢) إلى الخطابة، فأومأت إلى الناس

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٩.

(٢) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام).

٢٨٤

بالسكوت، فلمّا سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله والثناء عليه، ثمّ قالت: مه يا أهل الكوفة، سوءاً لكم! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً!

ويلكم! أتدرون أيّ دواه دهتكم، وأيّ وزر على ظهوركم حملتم، وأيّ دماء سفكتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الغالبون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

واضطرب الكوفيّون من خطابها، فنشرت النساء شعورهن، ولطمن الخدود، ولم يرَ أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم.

خطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى إلى الخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:«أيّها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا أُعَرِّفه بنفسي؛ أنا علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات (١) ، أنا ابن مَنْ انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن مَنْ قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً.

أيّها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي

____________________

(١) الترات: هو مَنْ ظلم حقّه.

٢٨٥

وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم، وسوءاً لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أُمّتي؟!» .

وجرّدهم بهذه الكلمات من الإسلام، ودلّهم على جرائمهم وآثامهم التي سوّدت وجه التأريخ، وقد علت أصواتهم بالبكاء، ونادى مناد منهم: هلكتم وما تعلمون.

واستمر الإمام في خطابه قائلاً:«رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته؛ فإنّ لنا في رسول الله أُسوة حسنة» .

فهتفوا قائلين: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله؛ فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا.

وردّ الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً:«هيهات هيهات أيّتها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلا وربّ الراقصات (١) ؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنس ثكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي،

____________________

(١) الراقصات: هي النجوم.

٢٨٦

وغصصه تجري في فراش صدري» (١) .

وأمسك الإمام (عليه السّلام) عن الكلام، وتركهم حيارى يندبون حظّهم التعيس.

في مجلس ابن زياد

وأُدخلت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة وهنَّ في ذلّ الأسر، قد شُهرت على رؤوسهنَّ سيوف الكافر ابن مرجانة سليل الأرجاس والخيانة، وهو في قصر الإمارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده، وهم يهنّئونه بالظفر، ويحدّثونه بجرائمهم التي اقترفوها يوم الطفّ، وهو جذلان مسرور يهزّ أعطافه فرحاً وسروراً، وبين يديه رأس زعيم الاُمّة وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فجعل الخبيث يعبث بالرأس الشريف وينكته بمخصرته، وهو يقول متشمّتاً: ما رأيت مثل هذا الوجه قطّ.

إنّه وجه النبوة والإمامة، ووجه الإسلام بجميع مبادئه وقيمه.

ولم ينه ابن مرجانة كلامه حتّى سدّد له الصحابي أنس بن مالك سهماً، فقال له: إنّه كان يشبه النبي(٢) .

والتاع الخبيث من كلامه، ولم يجد أيّ مجال للردّ عليه.

الطاغية مع عقيلة الوحي (عليها السّلام)

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، التفت إلى عائلة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فرأى سيدة منحازة في ناحية من مجلسه، وعليها أرذل

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٢.

(٢) أنساب الأشراف / ٢٢٢.

٢٨٧

الثياب، وقد حفّت بها المهابة والجلال، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها، فقال: مَنْ هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فانبرت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له، واندفع يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل اُحدوثتكم.

فثارت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأجابته بشجاعة أبيها، محتقرة له قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة(١) .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس هذا الوضر الخبيث، لقد قالت هذا القول الصارم وهي مع بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قيد الأسر، قد نُصبت فوق رؤوسهنَّ حراب الظالمين، وشُهرت عليهن سيوف الشامتين.

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يُجيب به سوى التشفّي قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟

فأجابته حفيدة الرسول ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينكم وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣.

٢٨٨

وفقد الحقير الدنس إهابه من هذا التبكيت والاحتقار اللاذع، فهمّ أن يضرب العقيلة، فنهاه عمرو بن حريث وقال له: إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.

يالله! يا للمسلمين! ابن مرجانة يروم أن يعتدي على عقيلة بني هاشم وحفيدة الرسول! إنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الصارخ على الأُسرة النبويّة وعلى عقائل الوحي مؤتمر السقيفة والشورى؛ فهم الذين سلّطوا على المسلمين الاُمويِّين، خصوم الإسلام وأعداء البيت العلوي، وحجبوا آل البيت عن القيادة الروحية لهذه الاُمّة.

وعلى أيّ حال، فإنّ ابن مرجانة التفت إلى العقيلة مظهراً لها التشفّي بقتل أخيها قائلاً: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.

وغلب الأسى والحزن على العقيلة (عليها السّلام) من هذا التشفّي الآثم، وتذكّرت حماتها الصفوة من الاُسرة النبويّة، فأدركتها لوعة الأسى، وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

وتهافت غيظ ابن مرجانة، وراح يقول: هذه سجّاعة، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فردّت عليه العقيلة: إنّ لي عن السجاعة لشغلاً، ما للمرأة والسجاعة(١) !

ما أخسّ هذه الحياة وما ألأمها التي جعلت حفيدة الرسول أسيرة عند

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٤.

٢٨٩

ابن مرجانة، وهو يبالغ في احتقارها!

إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت (عليهم السّلام)، فوقع بصره على الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، وقد أنهكته العلّة، فسأله: مَنْ أنت؟

-«عليّ بن الحسين» .

فصاح به الرجس الخبيث: أوَ لم يقتل الله علي بن الحسين؟

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بأناة:«قد كان لي أخ يُسمّى عليّ بن الحسين قتلتموه، وإنّ له منكم مطالباً يوم القيامة» .

فثار ابن مرجانة، ورفع صوته قائلاً: الله قتله.

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بكلّ شجاعة وثبات:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه ) .

ودارت الأرض بابن مرجانة ولم يعرف ما يقول، وغاظه أن يتكلّم هذا الغلام الأسير بقوّة الحجّة، والاستشهاد بالقرآن الكريم، فرفع عقيرته قائلاً: وبك جرأة على ردّ جوابي! وفيك بقية للردّ عليّ! والتفت إلى بعض جلاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه.

وطاشت أحلام العقيلة (عليها السّلام)، وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها وقالت لابن مرجانة:

٢٩٠

حسبك يابن زياد ما سفكت من دمائنا! إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه.

وبُهر الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً للرحم ودّت أن تُقتل معه!

ولولا موقف العقيلة (عليها السّلام) لذهبت البقيّة من نسل أخيها التي هي مصدر الخير والفضيلة في دنيا العرب والإسلام. لقد أنجا الله زين العابدين (عليه السّلام) من القتل المحتّم ببركة العقيلة (عليها السّلام)؛ فهي التي أنقدته من هذا الطاغية الجبّار(١) .

حبس عقائل الوحي

وأمر ابن مرجانة بحبس مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي فاُدخلنّ في سجن يقع إلى جانب المسجد الأعظم، وقد ضيّق عليهنَّ أشدّ التضييق، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتّى بان عليها الضعف فلم تتمكّن من النهوض، وكانت تُصلّي من جلوس، وفزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من حالتها، فأخبرته بالأمر.

ورفضت عقيلة بني هاشم مقابلة أيّة امرأة من الكوفيات، وقالت: لا يدخلنّ علينا إلاّ أُمّ ولد، أو مملوكة؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا.

واُلقي على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه: إنّ البريد قد سار بأمركم إلى يزيد، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك، وإن لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان. وحدّدوا لمجيء الكتاب وقتاً، وفزعت العلويات وذُعرن، وقبل قدوم البريد بيومين اُلقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب

____________________

(١)

٢٩١

وصول البريد. وبعد انتهاء المدّة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق(١) .

وصرّح بعض المؤرّخين أنّ يزيد كان عازماً على استئصال نسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إلاّ أنّه بعد ذلك عدل عن نيّته.

وبقيت العائلة النبويّة في السجن، فلمّا جاءت أوامر يزيد بحملهم إلى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة فقد حُملت السبايا، وأمّا رؤوس العترة الطاهرة الذين أرادوا أن يقيموا في هذا الشرق حكومة الإسلام والقرآن فقد حُملت ليراها أهل الشام، ويتلذّذ بمنظرها يزيد.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٧.

٢٩٢

سبايا آل النبي (عليهم السّلام) في دمشق

وعانت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهنَّ في الكوفة؛ فقد عانينَ مرارة السجن، وشماتة الأعداء، وذلّ الأسر. وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتُعرض على الشاميّين كما عرضت على الكوفيّين؛ حتّى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً، وتظهر مقدرة الاُمويِّين وغلبتهم على آل الرسول.

وقد سُيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي، كما سُيّرت العائلة النبويّة مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش، وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأُركبت على أقتاب الجمال، وهنَّ بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد لها فرائص كلّ إنسان(١) .

وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى القرب من دمشق، فاُقيمت هناك حتّى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح.

ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوّة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت، فلم يطلبوا أيّ شيء من اُولئك الأنذال الموكّلين بهم؛ وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأيّ شيء من مطالبهنَّ.

____________________

(١) تحفة الأنام في مختصر الإسلام / ٨٤.

٢٩٣

تزيين الشام

وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله).

ووصف بعض المؤرّخين تلك الزينة بقوله: ولمّا بلغوا - أي أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) - ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتّى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتّى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل، والحرير والديباج، والفضة والذهب وأنواع الجواهر، على صفة لم يرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده.

ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل إلى التفرّج، ومعهم الطبول والدفوف، والبوقات والمزامير، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد كحّلوا العيون وخضّبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا أحسن الزينة، ولم يرَ الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتّى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق(١) .

لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت (عليهم السّلام) جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوّة.

وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين (عليه السّلام)، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟!

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٦٩.

٢٩٤

- نراك يا شيخ غريباً؟

- أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

- يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!

- وما ذاك؟

- هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق.

- وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟

وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء.

وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: مَنْ أنتِ؟

- أنا سكينة بنت الحسين.

- ألك حاجة؛ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله؟

- قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمئة درهم فباعد الرأس عن النساء(١) .

الشامي مع زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فرفع عقيرته قائلاً:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٠.

٢٩٥

الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.

وبصر به الإمام (عليه السّلام) فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُمويّة، فقال له:«يا شيخ، أقرأت القرآن؟» .

فبُهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى!

-«أقرأت قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقوله تعالى: ( وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟» .

وبُهر الشيخ وتهافت فقال: نعم، قرأت ذلك!

فقال له الإمام (عليه السّلام):«نحن والله القربى في هذه الآيات. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟» .

- بلى.

-«نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير» .

ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام (عليه السّلام) ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام (عليه السّلام) بنبرات مرتعشة: بالله عليكم أنتم هم؟!

-«وحقّ جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ» .

وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممّن قتكلم.

٢٩٦

وطلب من الإمام (عليه السّلام) أن يمنحه العفو والرضا، فعفا الإمام عنه(١) .

سرور يزيد (لعنه الله)

وغمرت يزيد موجات من الفرح حينما جيء له بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان مطلاّ على منظر في جيرون، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال:

لمّا بدت تلكَ الحمول وأشرقتْ = تلكَ الرؤوس على شفا جيرونِ

نعبَ الغرابُ فقلت قل أو لا تقل = فقد اقتضيت من الرسولِ ديوني(٢)

لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش؛ فقد أباد العترة الطاهرة، وسبى ذراريها؛ تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الاُمويِّين.

رأس الإمام (عليه السّلام) عند يزيد (لعنه الله)

وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية، فسرّ بذلك سروراً بالغاً؛ فقد استوفى ثأره وديون الاُمويِّين من ابن رسول الله، وقد أذن للناس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموي وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنّئون يزيد بهذا النصر الكاذب(٣) ، وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفهما، وجعل يقول: لقد لقيت بغيك يا حسين(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧١.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) - المقرّم / ٤٣٧.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٩٨.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٤.

٢٩٧

ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: ما كنت أظنّ أبا عبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود(١) .

وتأمّل في وجه الإمام (عليه السّلام) فغمرته هيبته، وراح يقول: ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ(٢) !

أجل، إنّه كوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي تحنو له الوجوه والرقاب، والذي يشعّ بروح الإيمان.

وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام (عليه السّلام) بالضرب وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:

أبى قومنا إن ينصفونا فانصفت = قواضب في إيماننا تقطر الدما

نُفلِّقنَ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ = علينا و هم كانوا أعقّ وأظلما

ولم يتم الخبيث كلامه حتّى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي، فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه.

ثمّ قام منصرفاً عنه(٣) .

السبايا في مجلس يزيد (لعنه الله)

وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية، فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عنق العقيلة زينب (عليها السّلام) وباقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا كلّما قصّروا عن

____________________

(١) تاريخ الإسلام - الذهبي ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ القضاعي / ٧٠.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٩٨.

٢٩٨

المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط، وجاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدّع من هولها الجبال، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.

وأوقفت مخدّرات الرسالة بين يدي يزيد (لعنه الله)، فالتفت إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له:«ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو رآنا على هذه الصِفة؟» .

فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد (لعنه الله): قبّح الله ابن مرجانة! لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.

إنّه لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد، وإرضاءً لعواطفه ورغباته، واستجابة لعواطف القرشيّين الذين ما آمنوا بالإسلام، وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له: إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

فأجابه شبل الحسين بكلّ طمأنينة وهدوء بقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

وثار الطاغية وقال للإمام:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

فردّ عليه الإمام (عليه السّلام):«هذا في حقّ مَنْ ظلم لا في حقّ مَنْ ظُلِم» .

٢٩٩

وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه؛ استهانة به(١) .

خطاب العقيلة (عليها السّلام)

وأظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد صفا له الملك، واستوسقت له الاُمور، وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر؛ ليريهم كيف أخذ بثارهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذرّيته، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع:

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا = جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

فأهلّوا واستهلّوا فرحاً = ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشلْ

قد قتلنا القومَ من ساداتهمْ = و عدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا = خبرٌ جاءَ و لا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندف إن لم أنتقمْ = من بني أحمدَ ما كان فَعَلْ

ولمّا سمعت العقيلة (عليها السّلام) هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر، وثبت كالأسد، فسحقت جبروته وطغيانه، فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة، والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينيّة.

قالت (عليها السّلام): الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا

____________________

(١) الإرشاد / ٢٧٦.

(٢) سورة الروم / ١٠.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343