السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192008 / تحميل: 8562
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

معه طوال المدّة التي اعتقلتهم فيها طغاة قريش في (الشِّعب)، وكانت تهوّن على النبي (صلّى الله عليه وآله) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأوغادها.

وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشكر أياديها البيضاء، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل؛ فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترحّم عليها، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها؛ وفاءً لها.

وكانت عائشة يثقل عليها ذلك، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها؟! فيردّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ويقول:«ما أبدلني الله خيراً منها؛ آمنت بي حين كفر بي الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزقتُ منها الولد وقد حُرمته من غيرها» .

لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى. إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام، هي جدّة الصدّيقة زينب (عليها السّلام).

وقد ورثت صفات جدّتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ، والذبّ عن المثل العليا، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة؛ فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام)، فهي شريكته في نهضته وجهاده، وهي التي أمدّت ثورته الجبّارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود.

الاُمّ

أمّا اُمّ السيدة زينب فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، سيّدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس، وهي بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، وأعزّ أبنائه وبناته عنده.

وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلها آخر مَنْ يودّعها؛ لتكون صورتها ماثلة أمامه، كما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل مَنْ يستقبلها(١) ؛ وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها.

وقد عنى بها عناية بالغة، فغذّاها

____________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٧٥، مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦، سنن البيهقي ١ / ٢٦.

٢١

بمكرماته، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله، فكانت صورة تحكيه ومثالاً صادقاً عنه، ويقول الرواة: إنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً(١) .

وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به؛ فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة.

ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة، قال: قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة له المسجد، فصلّى فيه ركعتين - وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلّي فيه ركعتين - ثمّ خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام)، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«ما يبكيك؟» .

قالت:«أراك قد شحب لونك» .

فقال لها:«يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبقَ على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً (٢) ، حيث سطع الليل» (٣) .

تكريم وتعظيم

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم؛ إظهاراً لعظيم شأنها، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك، كان منها ما يلي:

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ رواه بسنده عن عائشة، ورواه الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عنها ٣ / ١٥٤، ورواه البخاري في الأدب المفرد / ١٤١، ورواه أبو عمرو في الاستيعاب ٢ / ٧٥١.

(٢) معنى الحديث أنّ البيوت التي دخلها العزّ هي التي آمنت بالإسلام، وأمّا البيوت التي دخلها الذلّ فهي التي لم تؤمن بالإسلام وبقيت على كفرها وضلالها.

(٣) حلية الأولياء ٢ / ٣٠، كنز العمّال ١ / ٧٧، مجمع الزوائد ٨ / ٢٦٢.

٢٢

١ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» (١) .

٢ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة:«إنّ الربّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» (٢) .

٣ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«يا فاطمة، إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (٣) .

ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤدّاها أنّ لسيّدة النساء (سلام الله عليها) منزلة سامية عند الله؛ فقد أناط رضاه برضاها، وأناط غضبه بغضبها، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله. لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى؛ وذلك لِما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتّى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها.

٤ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بضعة منّي، فمَنْ أغضبها أغضبني» (٤) .

٥ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويصيبني ما أصابها» (٥) .

٦ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بعضة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما

____________________

(١) ذخائر العقبى / ٣٩، ومثله رواه الحاكم في مستدرك الصحيحين وعلّق عليه: (هذا حديث صحيح الإسناد) كما جاء في اُسد الغابة ٥ / ٥٢٢، الإصابة ٨ / ١٥٩.

(٢) ميزان الاعتدال - الذهبي ٢ / ٧٢.

(٣) كنز العمال ٦ / ٢١٩.

(٤) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق في باب مناقب قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ٣ / ١٣٦١، ح ٣٥١٠، ط ٥.

(٥) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩، مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٥.

٢٣

آذاها» (١) .

٧ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«إنّ فاطمة شجن منّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها» (٢) .

وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ مَنْ يخدش عاطفة الزهراء (عليها السّلام)، أو يُسيء إليها بأيّ لون من ألوان الإساءة فقد واجه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك؛ لأنّها كنفسه، وأنّها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها.

٨ - روت عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة (عليها السّلام):«يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الاُمّة، وسيّدة نساء المؤمنين؟» (٣) .

٩ - روى عمران بن حصين أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«ألا تنطلق بنا نعود فاطمة؛ فإنّها تشتكي؟».

فقلت: بلى. فانطلقنا حتّى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن، فقال:«أدخل أنا ومَنْ معي؟» .

قالت:«نعم. ومَنْ معك يا أبتاه، فوالله ما عليّ إلاّ عباءة؟» .

فقال:«اصنعي بها كذا» . فعلّمها كيف تستتر، فقالت:«والله ما على رأسي من خمار» . فأخذ ملاءة كانت عليه فقال:«اختمري بها» .

ثمّ أذنت لهما فدخلا، فقال:«كيف تجدينك يا بُنيّة؟» . قالت:«إنّي لوجعة، وإنّه ليزيدني أنّه ما لي طعام آكله» .

قال:«يا بُنيّة، أما ترضين إنّك سيدة نساء العالمين؟» .

قالت:«يا أبتِ، فأين مريم ابنة عمران؟» .

قال:«تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيّدة نساء العالمين. أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة» (٤) .

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩. صحيح مسلم.

(٢) كنز العمّال ٦ / ٢١٩. مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٤.

(٣) مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦.

(٤) حلية الأولياء ٢ / ٤٢. مشكل الآثار ١ / ٥٠. ذخائر العقبى / ٤٣.

٢٤

١٠ - روى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة (سلام الله عليها):«ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنّة؟» (١) .

١١ - روى أنس بن مالك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«خير نساء العالمين أربع؛ مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله)» (٢) .

وكثير من أمثال هذه الروايات دُوّنت في الصحاح والسنن وغيرهما، وهي تشيد بفضل سيّدة النساء، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف، وفضّلها على جميع نساء العالمين.

وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي اُمّ السيّدة زينب (سلام الله عليها)، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها؛ فغذّتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها، فلم يُرَ مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها.

الأب

أمّا أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) فهو الإمام أمير المؤمنين، رائد الحكمة والعدالة في الإسلام، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى، وهو - فيما أجمع عليه الرواة - أوّل مَنْ آمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واعتنق مبادئه

____________________

(١) كنز العمّال ٧ / ١١١.

(٢) تفسير ابن جرير ٣ / ١٨٠.

٢٥

وأهدافه، وقام إلى جانبه قوّة ضاربة يحمي دعوته ويصون رسالته، ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله، وتقضي على الإسلام في مهده، فوهب (سلام الله عليه) روحه لله تعالى، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشيّين وأنصارهم المشركين.

لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد، وأنزل بها الخسائر حتّى فُلّت وشُلّت جميع فعاليتها العسكرية، وباءت بالهزيمة والخسران. ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع، مفتول الساعد، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين!

وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقايته له بنفسه حينما أجمعت قريش على قتله، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام؛ فقد نجا النبي (صلّى الله عليه وآله) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله، فقد فشلت وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض.

لقد صحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) منذ نعومة أظفاره النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتخلّق بطباعه وأفكاره، وتغذّى بحِكَمه وعلومه، فكان باب مدينة علمه، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول.

يقول العقاد: إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله؛ كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها، وهو القائل:«سلوني قبل أن تفقدوني» . ولم يفه أحدٌ بمثل هذه الكلمة غيره.

وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء، فقال:«سلوني عن طرق السماء، فإنّي أعرف بها من طرق الأرض» . كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماويّة من أحكام قائلاً:«لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل الفرقان بفرقانهم،

٢٦

وأهل القرآن بقرآنهم)) .

لقد كان الإمام (عليه السّلام) أعظم عملاق في الميادين العلميّة عرفته الإنسانيّة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ على طاقاته العلميّة الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانيّة من تراثٍ بعد القرآن الكريم.

ومن مظاهر شخصيّة الإمام (عليه السّلام) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زينة الحياة، فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلاميّة بقيادته، فزهد في جميع مظاهر السلطة، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته والظفر بالثراء العريض.

ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد عنى بالصالح العام، وتجرّد عن كلّ منفعة شخصية له، وهو القائل لابن عباس، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف:«يابن عباس، ما قيمة هذا النعل؟» .

[ قال ابن عباس: ] لا قيمة له يا أمير المؤمنين.

[ فقال الإمام (عليه السّلام) ]:«والله، لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن اُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً» .

لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه؛ فالقريب والبعيد عنده سواء، والقوي عنده ضعيف حتّى يأخذ منه الحقّ، والضعيف عنده قوي حتّى يأخذ له بحقّه. وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم، ومقارعة الجبابرة والطغاة.

وكان أبرز مَنْ تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام)، وبطلة الإسلام ابنته سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وكوكبة من مشاهير أصحابه؛ كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وميثم التمّار، وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين.

وعلى أي حال، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام)، فقد غذّاها بمثله ومكوّناته النفسية، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلم

٢٧

والطغيان، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته، فقارعت الظالمين، وناجزت الطغاة المستبدّين، وأذلّت الجبابرة المتكبّرين وألحقت بهم الخزي والدمار.

لقد وقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني. وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) حينما أعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر، وإنارته بالعلوم والعرفان، ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته.

لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخطّطاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته.

وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظلّ الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه، وإعادة الحياة الجاهليّة بأوثانها وأصنامها، ولكنّها مع أخيها (سلام الله عليها) قد أفسدت مخطّطات الاُمويِّين، وأعادت للإسلام نضارته ومجده.

جدّها لأبيها

أمّا جدّ السيدة الزكية زينب لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها.

لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين

٢٨

التوحيد، وهو القائل:

ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ = من خيرِ أديانِ البريةِ دينا

وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبي (صلّى الله عليه وآله) من خير أديان البرية؛ ولهذا اندفع كأعظم قوّة ضاربة إلى حماية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته.

لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو القائل:

واللهِ لن يصلوا إليكَ بجمعهم = حتى أُوسّد في الترابِ دفينا

وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت حراسة أبي طالب وحمايته ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مُهاباً، وقد جنّد أولاده لخدمة النبي (صلّى الله عليه وآله) وألزمهم بالذبّ عنه، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أقوى حرسه، ومن أكثرهم دفاعاً عنه، فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته ونشر مبادئه وأهدافه.

ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن؛ فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن)(١) .

وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله)،

____________________

(١) من العجيب ما ذكره بعض السذّج من المؤلّفين أنّ أبا طالب حامي الإسلام مات غير مسلم، وليس ذلك إلاّ من وضع الاُمويّين الذين كادوا للإسلام وطعنوا في أعظم حماته ورجاله. ولو مات غير مسلم لما حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّه لا يخضع بأيّ حالٍ من الأحوال لأي مؤثّر لا يمتّ إلى الحقّ والواقع بصلة. فحزنه عليه مع كونه غير مسلم موجب للطعن بشخصيّة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولولاه لأقبرت قريش الدعوة الإسلاميّة من أوّل بزوغها، فجزاه الله عن الإسلام خيراً، وأجزل له المزيد من رحمته.

٢٩

فاضطر (صلّى الله عليه وآله) إلى [الخروج] من مكّة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في فراشه، فرحم الله أبا طالب، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (صلّى الله عليه وآله)!

إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) لأبيها، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات.

جدّتها لأبيها

وجدّة السيدة زينب (عليها السّلام) لأبيها هي السيدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها، وقد برّت بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وتولّت تربيته، وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها، وقدّمت له أعظم الخدمات.

وقد قطع (صلّى الله عليه وآله) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكانت من أعزّ الناس عنده، ولمّا فُجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها، فبُهر أصحابه وقالوا له: يا رسول الله، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه؟!

فأخبرهم النبي (صلّى الله عليه وآله) عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً:«إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنّة، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها» (١) .

هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة، وبكلّ ما

____________________

(١) توجد ترجمتها في طبقات ابن سعد، الاستيعاب، أعيان الشيعة، أعلام النساء، تنقيح المقال، وغيرها.

٣٠

يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ زينب (عليها السّلام)، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم حتّى صارت صورة مشرقة عنهم.

إخوانها

ويجدر بنا بعد هذا العرض الموجز لشؤون الاُسرة الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) أن نذكر - بإيجاز - إخوانها الذين عاشرتهم، وهم الذين ملؤوا فم الدنيا بفضائلهم ومآثرهم، وفيما يلي ذلك:

١ - الإمام الحسن (عليه السّلام)

هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة وسبطه الأوّل، وكانت ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك للسنة الثالثة من الهجرة(١) ، وقد شوهدت في طلعته شمائل النبوّة وأنوار الإمامة، وهو أوّل مولود سعدت به الاُسرة النبوية، فقد عمّها السرور بهذا المولود المبارك.

وقد سارع النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بيت بضعته وحبيبته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) فهنّأها بوليدها، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعيّة فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فكان أوّل صوت اخترق سمعه صوت جدّه العظيم داعية الله في الأرض، واُنشودة ذلك الصوت:«الله أكبر، لا إله إلاّ الله» .

وهل في دنيا الوجود كلمات هي أسمى وأعظم من هذه الكلمات، وقد غرسها النبي (صلّى الله عليه وآله) في قلب وليده لتكون منهجاً له في حياته؟

وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه النبي (صلّى الله عليه وآله) بكبش، وحلق رأسه،

____________________

(١) الإصابة ١ / ٣٣٨، الاستيعاب ١ / ٣٦٨، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٩.

٣١

وتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين(١) ، وكان ذلك سنّة في الإسلام لكلّ وليد.

تسميته

وأقبل النبي (صلّى الله عليه وآله) على الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال له:«هل سمّيت الوليد المبارك؟» .

فأجابه الإمام بأدبٍ واحترام قائلاً:«ما كنت لأسبقك يا رسول الله..» . وانبرى النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً:«ما كنت لأسبق ربّي» .

وهبط الوحي على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يحمل تسميته من السماء، قائلاً:«سمّه حسناً» (٢) .

وكفى بهذا الاسم جمالاً وعظمةً أنّ الخالق العظيم هو الذي اختاره لسبط النبي وريحانته.

كنيته وألقابه

وكنّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) (أبا محمّد)، ولا كنية له غيرها. أمّا ألقابه فهي: السبط، الزكي، المجتبى، السيّد، التقي(٣) .

ملامحه

أمّا ملامحه فكانت تحكي ملامح جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، تقول عائشة: مَنْ أحبّ

____________________

(١) حياء الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٤.

(٢) تأريخ الخميس ١ / ٤٧.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٥.

٣٢

أن ينظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلينظر إلى هذا الغلام، يعني الحسن (عليه السّلام)(١) .

ويقول أنس بن مالك: لم يكن أحد أشبه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من الحسن بن علي(٢) .

لقد كان الإمام الحسن (عليه السّلام) صورة مشرقة عن جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لا في ملامحه وصورته فحسب، وإنّما كان يحكيه في نزعاته وصفاته، ومعالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين.

مظاهر شخصيّته

ونتحدّث - بإيجاز - عن بعض مظاهر شخصية الإمام الحسن (عليه السّلام)، وهي:

الحلم: من ذاتيات الإمام السبط (الحلم)، فقد كان من أحلم الناس، وقد تعرّض لموجات عاتية من الإساءة من الاُسرة الاُمويّة التي اُترعت نفوسها بالحقد والكراهية لآل النبي (صلّى الله عليه وآله)، فما قابل الإمام أحداً بإساءة، وإنّما كظم غيظه.

وقد شهد مروان بن الحكم وهو من أخبث الناس وأشدّهم عداوة للإمام الحسن (عليه السّلام) بعظيم حلمه، فقد أسرع بعد وفاته إلى حمل جثمانه، فقيل له: أتحمل جثمانه وكنت تجرّعه الغصص؟! فأجاب: إنّي أحمل جثمان مَنْ كان يوازي حلمه الجبال.

لقد كان الحلم من أبرز عناصره النفسيّة، وقد أجمع الرواة على أنّه كان من أوسع الناس صدراً، وأنّه ما جازى مَنْ أذنب في حقّه، وإنّما قابله بالبرّ والإحسان؛ شأنه في ذلك [شأن] جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي وسع الناس جميعاً بمعالي أخلاقه.

الجود: وكان الإمام السبط من أندى الناس كفاً، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً للفقراء، وكان لا يرى للمال قيمة سوى ما يرد به جوع جائع أو يكسو عريانَ.

وقد حفلت مصادر التأريخ والتراجم بذكر بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد لُقّب (عليه السّلام)

____________________

(١) الفتوح ٢ / ٣٤٠.

(٢) فضائل الأصحاب / ١٢٦، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٦.

٣٣

بـ (كريم أهل البيت)، وهم من معادن الكرم والجود.

سمو الأخلاق: ومن عناصر الإمام الحسن (عليه السّلام) سمو الأخلاق، فكان آية من آيات الله العظام في هذه الظاهرة الفذة.

ومن معالي أخلاقه أنّه كان يوقّر ويحترم كلّ مَنْ قصده، ولا يُفرّق بين القريب والبعيد، وكان يواسي الناس في مصائبهم، ويشاركهم في مسرّاتهم، ويوقّر الكبير، ويحنو على الصغير، ويعطف على الضعيف، وكان للمسلمين أباً رؤوفاً، وكهفاً حصيناً، يلجأ إليه غارمهم، ويفزع إليهم مظلومهم.

وقد شابه جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في سموّ أخلاقه التي مدحه الله تعالى بها، قال الله عزّ وجلّ:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

هذه بعض صفات الإمام الحسن (عليه السّلام)، وقد ألمحنا إلى الكثير منها في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

مع السيدة زينب (عليها السّلام)

نشأت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) مع أخيها الإمام الحسن (عليه السّلام)، وقطعت شوطاً من حياتها مع هذا الإمام العظيم ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة، وتطبّعت بأخلاقه وآدابه، وكان يجلّها كثيراً، ويحدب عليها ويقابلها بمزيد من الرعاية والعناية؛ فقد رأى جدّه وأبويه قد أحاطوها بكلّ تبجيل واحترام، وأشادوا بمواهبها وفضائلها، وقدّموها على بقيّة السيّدات من نساء أهلها وقومها.

هذه لمحة موجزة عن علاقة الإمام الحسن بشقيقته السيدة زينب (عليها السّلام).

٢ - الإمام الحسين (عليه السّلام)

أمّا الإمام الحسين فهو الشقيق الثاني لسيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد نشأت معه وتطبّعت بطباعه، وكانت بينهما أعمق المودّة، وهو عندها أعزّ من الحياة، وكانت تشاركه في آماله وآلامه، وهي من أبرّ أهله به، وقد احتلت عواطفه

____________________

(١) سورة القلم / ٤.

٣٤

ومشاعره؛ وذلك بما تملكه من أصالة الرأي، وسمو الآداب، ومعالي الأخلاق؛ فقد تجسّدت فيها مواريث النبوّة والإمامة، وكانت صورة صادقة لاُمّها بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسيّدة نساء العالمين السيدة الزكية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

لقد كانت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) موضع أسرار أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام)، والعالمة بجميع شؤونه، وكان يستشيرها في جميع اُموره. وقد رافقته في ثورته الخالدة وأمدّتها بعناصر البقاء والخلود، ولولا جهادها وجهودها ومواقفها المشرّفة في أروقة بلاط الحكم الاُموي لضاعت ثورة أخيها وذهبت أدراج الرياح.

وبلغ من سموّ مكانتها عند الحسين (عليه السّلام) أنّه لمّا ودّعها الوداع الأخير يوم الطفّ طلب منها أن لا تنساه من الدعاء في نافلة الليل(١) .

٣ - العباس (عليه السّلام)

هو (قمر بني هاشم)، وفخر الإسلام، ومجد المسلمين، وهو أخو سيّدة النساء زينب لأبيها، واُمّه: اُمّ البنين، وهي من سيّدات نساء المسلمين في فضلها وشرفها وطهارتها، تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

وقد قامت بدور إيجابي في خدمة السبطين وشقيقتهما السيّدة زينب؛ فكانت تقدّمهم في الرعاية والعطف على أبنائها؛ لأنّهم ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي ألزم الله المسلمين بمودّتهم ومحبّتهم.

وكان أوّل مولود لها أبو الفضل العباس (عليه السّلام)، وقد ترعرع ونشأ مع أخويه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فغذّياه بالفضائل والآداب، وغرسا في نفسه تقوى الله، فكان من أروع أمثلة الإيمان.

وكانت علاقته مع أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وثيقة للغاية؛ فكان منذ نعومه أظفاره يتسابق لخدمته، ويبادر لقضاء حوائجه، ولا يُفارقه في حلّه وترحاله، وكان من أشفق الناس عليه وأبرّهم به.

____________________

(١) زينب الكبرى / ٦٠.

٣٥

وكان العباس (عليه السّلام) من أحبّ الناس لاُخته العقيلة زينب (عليها السّلام)؛ فقد وجدت فيه من الرعاية والبرّ والعطف ما لم تجده في السادة من إخوتها لأبيها؛ فقد كان ملازماً لخدمتها كما كان ملازماً لخدمة أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام)، وقد قدّم لها جميع ألوان البرّ والإحسان.

ولمّا ارتحلت مع أخيها أبي الشهداء من المدينة إلى مكة ثمّ إلى كربلاء كان العباس (عليه السّلام) هو الذي يقوم بخدمتها، ولم يدع أحداً من السادة العلويِّين أن يتولّى رعايتها سواه. ولمّا استشهد (سلام الله عليه) في كربلاء ذابت نفسها عليه أسىً وحسرات، وودّت أنّ المنية قد وافتها قبله، وشعرت بالوحدة والضياع من بعده.

٤ - محمّد بن الحنفيّة

ومحمد ابن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) هو المعروف بـ (ابن الحنفيّة)(١) ، وكان من أفذاذ العلويِّين ومن ساداتهم، وكان يجلّ ويعظّم السيدة زينب (عليها السّلام)؛ لأنّها حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، و [ابنة] سيّدة نساء العالمين، كما كانت تُكنّ له أعظم الودّ والإخلاص.

وكان محمّد من المعارضين لابن الزبير والناقمين عليه، ولا يراه أهلاً لقيادة الاُمّة، فامتنع عن بيعته، وتبعه على ذلك بقيّة الهاشميّين، فأمر بحبسهم في (قبة زمزم)، وضرب لهم أجلاً مسمّى فإن لم يبايعوه فيه وإلاّ أحرقهم بالنار. ودلّ ذلك على تجرّده من كلّ نزعة إسلاميّة وإنسانيّة، وقد شابه بذلك قرينه يزيد بن معاوية، ولو تمّ له الأمر لزاد على جرائمه.

وأرسل محمّد رسالة إلى المجاهد العظيم بطل الإسلام المختار الثقفي عرّفه

____________________

(١) اسم اُمّه خولة بنت جعفر بن حنفيّة، ولد في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر. يُكنّى أبا القاسم. روى عن أبيه وعن جماعة من الصحابة، وذهب فريق من المسلمين إلى إمامته، كان منهم كثير عزّة، وله فيه أشعار. وقال بإمامته السيد الحميري، إلاّ أنه عدل عنه وقال بإمامة الإمام الصادق (عليه السّلام). توفّي سنة ٧٣ هـ، وقيل: سنة ثمانين، وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب ٩ / ٣٥٤.

٣٦

فيها بما جرى عليه من ابن الزبير، وكتب في آخرها: يا أهل الكوفة، لا تخذلونا كما خذلتم حسيناً.

ولمّا انتهت إليه أجهش بالبكاء وقرأها على أهل الكوفة وخاطبهم قائلاً: هذا كتاب مهديّكم وسيّد أهل بيت نبيّكم، وقد تركهم الرسول ينتظرون القتل والحريق. وأخذ يتهدّد ابن الزبير قائلاً: لستُ أبا إسحاق إن لم أنصرهم، وأسرب الخيل إثر الخيل كالسيل حتّى يحلّ بابن الكاهلية الويل.

وجهّز جيشاً قوامه ألف فارس بقيادة عبد الله الجدلي، ثمّ أتبعه بثلاثة آلاف فارس، وأخذوا يجدّون السير حتّى انتهوا إلى (مكة) وهم ينادون: (يا لثارات الحسين).

وهجموا على (قبة زمزم)، فرأوا الحطب قد وضع عليها، ولم يبق من الأجل الذي حدّده الطاغية لإحراقهم سوى يومين، فأخرجوهم من القبّة وطلبوا من محمّد أن يناجزوا ابن الزبير الحرب، فأعرب له محمّد عن سموّ ذاته وطهارة نفسه قائلاً: لا أستحلّ القتال في حرم الله.

ويقول كثير عزّة - وهو من الكيسانيّة - يخاطب ابن الزبير:

يخبّرُ مَنْ لاقيت أنّك عائذٌ = بل العائذُ المظلومُ في حبسِ عارمِ

ومَنْ يرَ هذا الشيخَ في الخيفِ من منى = من الناسِ يعلم أنّه غيرُ ظالمِ

سميُّ نبي اللهِ وابنُ وصيِّهِ = وفكّاكُ أغلالٍ وأقضى المغارمِ

وتعتقد الكيسانيّة إمامته، وأنّه مقيم بجبل (رضوى). [و] إلى هذا أشار كثير عزّة بقوله:

وسبط لا يذوق الموتَ حتّى = يقود الخيلَ يقدمها اللواءُ

تغيّب لا يُرى فيهم زماناً = برضوى عندهُ عسلٌ وماءُ

توفي سنة (٨١ هـ)، وقيل غير ذلك(١) . وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض أشقّاء العقيلة.

____________________

(١) وفيات الأعيان ٣ / ١١٠ - ١١٣، طبقات ابن سعد، حلية الأولياء، الأعلام - الزركلي.

٣٧

٣٨

ولادتها ونشأتها

ازدهرت حياة الاُسرة النبويّة بالسبطين الكريمين الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه. وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه، ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.

لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول:«هما ريحانتي من الدنيا» (١) .

وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران، فنزل عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، وقال:«صدق الله إذ يقول: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) . لقد نظرت إلى هذين الصبيِّين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما» (٣) .

____________________

(١) كنز العمّال ٧ / ١١٠، صحيح البخاري - كتاب الأدب، مجمع الزوائد ٩ / ١٨١. تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٣٩.

(٢) سورة الأنفال / ٢٨.

(٣) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٦، مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٥٤، اُسد الغابة ٢ / ١٢، صحيح النسائي ١ / ٢٠١، سنن البيهقي ٣ / ٢١٨.

٣٩

وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام):«ادعي ابنيَّ» . فيشمّهما، ويضمّهما إليه(١) .

وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبويّة وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام). أمّا ذلك الحمل فهو:

الوليدة المباركة

ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على وليدته المراسيم الشرعيّة؛ فأذّن في أذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.

لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو:«الله أكبر، لا إله إلا الله» ، وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.

وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوّماً من مقوّماتها.

وجوم النبي (صلّى الله عليه وآله) وبكاؤه

وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها،

____________________

(١) تيسير الوصول - ابن الدبيغ ٣ / ٢٧٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة(١) .

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفيّة هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف(٢) .

٨. قال الطبرسي في تفسيره: إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة، وان اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال: « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) .

وقال أيضاً: أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة، فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

__________________

(١ و ٢) العقائد النسفية: ١٤٨.

(٣) مجمع البيان: ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٨١

الأمّة: بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته(١) .

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت: نعم، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة(٣) .

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها، لأنّ قوله:( يَوْماً ) في قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً، ولا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) مع قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (٥) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له، وكذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الكشاف: ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

(٤) المؤمنون: ١٠١.

(٥) الصافات: ٢٧.

١٨٢

الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، ورزقنا الله الشفاعة »(١) .

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل(٣) .

وقال صاحب الانتصاف: أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة، وهم جديرون أن يُحرموها، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى، وما أنكرها القدرية إلّا لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة(٤) .

وعلى أي تقدير، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلاميّة على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٥) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

__________________

(١) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢١٤، المطبوع عام ١٣٦٧.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٤) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٥) البقرة: ٤٨.

١٨٣

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم(١) .

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة، إلّا أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا: مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها: إسقاط المضار والعقوبات(٢) .

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم »: إنّ شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة(٣) .

١٤. قال الرازي في تفسير قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة في الآخرة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة، واتفقوا على أنّها ليست للكفار(٥) .

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ١ / ١٥٢.

(٢) روضة الواعظين: ٤٠٦.

(٣) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

(٤) البقرة: ١٢٣.

(٥) مفاتيح الغيب: ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

١٨٤

١٥. قال المحقق الطوسي: والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع، ويبطل منّا في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

يريد بقوله: « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب، والتالي باطل، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٢) .

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليه قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق(٣) .

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين »: يجوز العفو عن الفاسق، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة(٤) .

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي: للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار، وهذه الشفاعة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

__________________

(١) وقوله يبطل أي: لا يقع منّا في حق النبي.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٤) نهج المسترشدين: ٢٠٥.

١٨٥

ويشفع في من دخلها.

ثم قال: وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف، وهو إسقاط العقوبة، أهل ضلال وبدعة، وقال: وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة(٢) .

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٣) ـ: هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده، إلّا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة »(٤) .

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها(٥) .

__________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٨١.

(٣) البقرة: ٢٥٦.

(٤) تفسير ابن كثير: ١ / ٣٠٩.

(٥) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

١٨٦

٢٠. قال الفاضل المقداد: في شرحه منهج المسترشدين: وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه: الأوّل: الإجماع، والثاني قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي(١) .

٢١. قال المحقق الدواني: الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياءعليهم‌السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .(٣)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات، ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها(٤) .

٢٣. قال العلّامة المجلسي: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل، قائلين: بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وان كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك(٥) .

__________________

(١) إرشاد الطالبين: ٢٠٦.

(٢) طه: ١٠٩.

(٣) شرح العقائد العضدية: ٢ / ٢٧٠.

(٤) اليواقيت والجواهر: ٢ / ١٧٠.

(٥) راجع بحار الأنوار: ٨ / ٢٩ ـ ٦٣، وحق اليقين: ٤٧٣.

١٨٧

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي: وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال: إنّ الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء، إلّا أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلّا من الله لا من الشفعاء(١) .

٢٥. وقال السيد شبّر: اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته، بل في سائر الأمم الماضين، بل ذلك من ضروريات الدين، قال الله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة: أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة: على أنّها لا تكون إلّا في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع(٢) .

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده: ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

__________________

(١) راجع الهدية السنية الرسالة الثانية: ٤٢.

(٢) حق اليقين: ٢ / ١٨٦.

١٨٨

التخاطب العرفي، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا(١) .

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. أللّهمّ(٢) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة، التي هي دون شأن الأستاذ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده، أو حكم به، كأن

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة: ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

١٨٩

كان قد أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات(١) .

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق: المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، ومنها الشفاعة الكبرى، ولا تكون إلّا لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون، ويظهر بذلك فضله على العالمين، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها، وقد ذكر بعض شروط قبولها(٢) .

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي: إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢، والمؤمن الآية ١٨، والزمر الآية ٤٤، والمدثر الآية ٤٨، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى:( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) العقائد الإسلامية: ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

١٩٠

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ،( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ،( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ،( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ،( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ،( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ،( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦، ويونس الآية ٦، ومريم الآية ٩٠، وطه الآية ١٠٨، والأنبياء الآية ٢٩، وسبأ الآية ٢٢، والزخرف الآية ٨٦، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا(١) .

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا: والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي: إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثمّ ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات(٣) .

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ: وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر

__________________

(١) آلاء الرحمان: ١ / ٦٢.

(٢) محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين: ٢ / ٦٢٨.

(٣) الميزان: ١ / ١٥٦.

١٩١

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة(٢) .

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلّا أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ: والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة(٣) .

هذا نزر من كثير، وغيض من فيض، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية(٤) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه: الشفاعة هي السؤال في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: ٢٠٦، ط. مصر.

(٣) البيان: ١ / ٣٤٢.

(٤) مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول: إنّه يجوز أن يقال: أللّهمّ شفّع رسول الله في حقي، ولا يجوز أن يقال: اشفع يا رسول الله في حقي، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

١٩٢

التجاوز عن الذنوب، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة، فذكر الشفاعة ثم قال:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية(١) .

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة، حيث قال: وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر، غير أنّه ليس لنا إلّا أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال: فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلّا الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية، وليس من

__________________

(١) دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع.

١٩٣

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسّرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال: ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً، فبذورها العلم، ونباتها العمل، وثمرها النجاة في الآخرة، فالأنبياء: علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة(١) .

وقد نسب هذا المقال إلى محي الدين بن العربي، والإمام الغزالي، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٤ ـ ٦٥، بتلخيص منا.

١٩٤

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية، والثانية بالشفاعة العملية، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

١٩٥

٢

الشفاعة في القرآن الكريم

قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة، والإثبات أُخرى، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد، حتى يفسر بعضها ببعض، ويكون البعض قرينة على الأخرى، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية، أو بنص نبويّ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى، وهذا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً: « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً: « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه »(١) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٢ / ٦.

١٩٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض »(١) .

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة، ولذلك نقول: إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص، فنقول :

الصنف الأوّل: الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلّا آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق، وهي قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس(٣) .

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٤) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

__________________

(١) نهج البلاغة شرح عبده: ٢ / ٣٢ الخطبة ١٤٩.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفصل السابق: ص ١٩٣.

(٤) البقرة: ٢٥٥.

١٩٧

بتاتاً وننسبها إلى القرآن، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه:( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (١) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلّا أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف: تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتاً، إلّا خلّة المتصادقين في الله فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله تعالى والتباغض في الله(٢) .

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه الله كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٣) .

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي: « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلّا الاخوة في الله، وذلك قوله:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) »(٤) .

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٠٢.

(٣) الفرقان: ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الميزان: ١٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

١٩٨

وعلى الجملة: إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه:( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال:( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه، قال سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ ) (١) .

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم، حيث قالوا:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ) (٢) .

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلّا أياماً معدودة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

__________________

(١) المائدة: ١٨.

(٢) البقرة: ١١١.

١٩٩

بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (١) .

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله:( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارى )أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٣) .

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ،( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

__________________

(١) البقرة: ٨٠.

(٢) البقرة: ١١١ ـ ١١٢.

(٣) البقرة: ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) البقرة: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343