السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192756 / تحميل: 8596
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المحسوسة الدالة على وجوده وقيامه بمهام الإمامة في غيبته(١) .

وتمثل التوقيعات إحدى وسائل اتصال الإمام بالمؤمنين وإيصال توجيهاته إليهم بحكم أوضاع عصر الغيبة التي حددت الاتصالات المباشرة، ومما ساعد على إتباع هذه الوسيلة وقوّة تأثيرها في المؤمنين تمهيد آبائهعليهم‌السلام لذلك باتباع هذا الاسلوب في وقت مبكر خاصةً في عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام الذي قضى شطراً كبيراً من مدة إمامته التي ناهزت خمسة وثلاثين عاماً في سجون العباسيين أو تحت مراقبتهم الشديدة وتعرضهم للأذى الشديد لأصحابه، فكان يتصل بالمؤمنين ويجيب على اسئلتهم الدينية ويتوددهم ويوصل إليهم توجيهاته عبر الرسائل التي لم تنقطع حتى عندما كان في السجن عبر وسائل مبتكرة واشخاص فشلت السلطات العباسية في التعرف على ولائهم للإمام الحقعليه‌السلام .

وقد اشتدّ العمل بهذا الاسلوب في عهد الامامين الهادي والعسكريعليهما‌السلام ، وذلك بسبب ازدياد المراقبة التي فرضتها السلطات العباسية عليهما إذ جعجعت بهما الى (سرّ من رأى) عاصمة الامبراطورية العباسية يومذاك والتي كانت أشبه ما تكون بالقلعة العسكرية، ولذلك كانت تسمى أيضاً «العسكر»، وجعلتهما أشبه ما يكونان بالسجينين في هذه القلعة. وإضافة لذلك فإن تأكيدهما على استخدام هذا الاسلوب جاء كتمهيد مباشر لغيبة ولدهما المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال تعويد المؤمنين على هذا الاسلوب دفعاً للشبهات وإتماماً للحجة ولكي يتقبلوا العمل بما يرد في الرسائل بتسليم إيماني راسخ، خاصةً وأن الإمامعليه‌السلام كان يستخدم الخط نفسه

ـــــــــــ

(١) راجع نماذجها في المجلد الثاني من كتاب معادن الحكمة. لمحمد بن الفيض الكاشاني وكتاب الصحيفة المهدية لوالده وغيرها من كتب الغيبة.

١٢١

الذي كان يستخدمه أبوه في رسائله وذلك تثبيتاً للايمان في قلوب المؤمنين به; وقطعاً للطريق على المستغلين(١) .

وقد جاء قسم من هذه التوقيعات جواباً على أسئلة من المؤمنين عبر السفراء الأربعة، والقسم الآخر كان بمبادرة من الإمام نفسه فيما يرتبط ببعض القضايا المهمة كحمايته للمؤمنين والوكلاء كما رأينا، أو فيما يرتبط بالكشف عن انحراف بعض الوكلاء أو زيف ادعاء منتحلي الوكالة، أو فيما يرتبط بالنص على تعيين السفراء وغير ذلك.

كما اشتملت على ما يحتاجه المؤمنون من معارف الإسلام الحق وأحكامه في مختلف شؤونهم الحياتية عقائدية وفقهية وتربوية وأخلاقية وأدعية وغير ذلك، وما تحتاجه الأمة في عصر الغيبة كالإرجاع الى الفقهاء العدول، والتأكيد على استمرار رعايته في غيبته وتحديد علائم ظهوره وغير ذلك مما سنتعرف على بعض نماذجه في فصل لاحق. كما أن في بعضها نماذج تطبيقية لاستنباط الحكم الشرعي من الأحاديث المروية تعويداً للأمة على العمل الإجتهادي في عصر الغيبة الكبرى(٢) ، وبعبارة جامعة يمكن القول إن هذه التوقيعات كانت من جهة وسيلة لقيادة المؤمنين وحفظ كيانهم; ومن جهة أخرى وسيلة لإكمال ما يحتاجونه في عصر الغيبة الكبرى من حقائق الإسلام وأحكامه.

ـــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي : ٢٢٠.

(٢) راجع مثلاً توقيعاته عليه‌السلام لمحمد بن عبدالله الحميري المروية في كتاب الاحتجاج : ٢ / ٤٨٣ وما بعدها.

١٢٢

لقاء الإمام المهديعليه‌السلام بأتباعه المؤمنين

روت المصادر الروائية المعتبرة الكثير من الروايات التي تتحدث عن التقاء المؤمنين بالإمام المهديعليه‌السلام في غيبته الصغرى، فلايكاد يخلو كتاب من الكتب المصنفة في تواريخ الأئمة أو الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ خاصة، من ذكر مجموعة من هذه الروايات. وقد روى الشيخ الصدوق عن محمد بن أبي عبد الله احصائية لعدد لقاءاته من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، فذكر ثمانية وستين شخصاً(١) وأوصل الميرزا النوري العدد الى (٣٠٤) اشخاص استناداً الى الروايات الواردة في المصادر المعتبرة(٢) وفيها المروية بأسانيد صحيحة، ومعظمهم التقوه في الغيبة الصغرى وبعضهم في حياة أبيهعليهما‌السلام وهذه الروايات تخص الذين رأوه وعرفوه وليس الذين لم يعرفوه.

ويُستفاد من هذه الروايات أنهعليه‌السلام كان يبادر الى الالتقاء بالمؤمنين في الكثير من الحالات ويظهر على يديه المعجزات والدلائل بحيث يجعلهم يؤمنون بأنه هو الإمام ويثبت لهم وجودهعليه‌السلام وإمامته، وهذا ما يصرح به لعيسى الجوهري الذي التقاه في سنة (٢٦٨ هـ) في صابر قرب المدينة المنورة حيث قال له في نهاية اللقاء وبعد ما أراه من الدلائل ما جعله على يقين من هويتهعليه‌السلام :

«يا عيسى ما كان لك أن تراني لولا المكذِّبون القائلون بأين هو؟ ومتى كان؟ وأين ولد؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأيِّ شيء نبّأكم؟ وأيَّ معجز أتاكم؟ أما والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع مارووه وقدَّموا عليه، وكادوه وقتلوه، وكذلك آبائي عليهم السَّلام ولم يصدِّقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجنِّ إلى ما تبيّن.

ياعيسى فخبّر أولياءنا ما رأيت، وإيّاك أن تخبر عدوَّنا فتسلبه. فقلت: يا مولاي ادع لي بالثبات فقال: لو لم يثبّتك الله ما رأيتني، وامض بنجحك راشداً. فخرجت أكثر

ـــــــــــ

(١) كمال الدين : ٢٤٢ .

(٢) النجم الثاقب : ٢ / ٤٤ ـ ٤٨ من الترجمة العربية.

١٢٣

حمداً لله وشكراً»(١) .

ويتضح من روايات التشرف بلقياه في الغيبة الصغرى أنه كان يقوم خلالها أيضاً بقضاء حوائج المؤمنين إقتفاءً لسنّة آبائهِ الطاهرينعليهم‌السلام ، كما كان يقوم خلالها بتوضيح بعض القضايا العقائدية المرتبطة بغيبته الكبرىعليه‌السلام ويقدم لهم الإرشادات التربوية والأدعية المسنونة المرتبطة بغيبته وتوثيق الارتباط بهعليه‌السلام فيها والتي تشتمل أيضاً على توضيح ما سيحققه الله على يديه عند ظهوره.

كما يُستفاد منها أن الكثير من المؤمنين كان يجتهدون في طلب لقياه ويسعون إليه خاصة في موسم الحج لما روي أنه يحضره كل سنة(٢) . وقد دلت بعض الروايات على وقوع الالتقاء به بالفعل في الموسم. كما كان البعض يلجأون الى السفراء الأربعة للفوز بذلك، فكان يسمح للمخلصين منهم بذلك. فمثلاً روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة فقال:

روى محمد بن يعقوب ـ رفعه عن الزُّهريّ ـ قال: طلبت هذا الأمر طلباً شاقاً حتى ذهب لي فيه مال صالح فوقعت إلى العمريّ وخدمته ولزمته وسألته بعد ذلك عن صاحب الزمان فقال لي: ليس إلى ذلك وصول فخضعت فقال لي: بكر بالغداة، فوافيت واستقبلني ومعه شابّ من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة بهيئة التجّار، وفي كمّه شيء كهيئة التجّار.

فلمّا نظرت إليه دنوت من العمريّ فأومأ إليَّ فعدلت إليه وسألته فأجابني عن كل ما أردت ثم مرَّ ليدخل الدار وكانت من الدُّور التي لا نكترث لها فقال العمريُّ: إذ أردت أن تسأل سل فإنّك لا تراه بعد ذا، فذهبت لأسأل فلم

ـــــــــــ

(١) تبصرة الولي : ١٩٧.

(٢) الكافي : ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩، الغيبة للنعماني : ١٧٥ .

١٢٤

يسمع ودخل الدّار، وما كلّمني بأكثر من أن قال: ملعون ملعون من أخّر العشاء الى أن تشتبك النجوم، ملعون ملعون من أخّر الغداة إلى أن تنقضي النجوم ودخل الدار»(١) .

إعلان انتهاء الغيبة الصغرى

قبل ستة أيام من وفاة السفير الرابع أخرج للمؤمنين توقيعاً من الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يعلن فيه انتهاء الغيبة الصغرى وعهد السفراء المعينين من قبل الإمام مباشرة إيذاناً ببدء الغيبة الكبرى ونص التوقيع هو:

«بسم الله الرحمن الرحيم، ياعلي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك ولا توص الى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك. فقد وقعت الغيبة التامة. فلا ظهور إلاّ بإذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وإمتلاء الارض جوراً. وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمَن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم»(٢) .

وكان هذا آخر توقيع صدر عن الإمام في الغيبة الصغرى وهو بمثابة إعلان عن تحقيق تحركه فيها للأهداف المرجوة منها كمرحلة تمهيدية للغيبة الكبرى، فقد ظهر للناس خلالها منهعليه‌السلام مباشرة أو عبر سفرائه من البينات ما يثبت وجوده وإمامته وصحة غيبته الكبرى. وقد تم تدوينها في هذه الفترة من قبل عدد من وجوه العلماء(٣) ، واتضح للاُمة انتفاع الناس من وجوده

ـــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي : ١٦٤، الاحتجاج للطبرسي: ٢ / ٢٩٨، وسائل الشيعة : ٣/١٤٧.

(٢) كمال الدين : ٥١٦، غيبة الطوسي : ٢٤٢.

(٣) يُلاحظ هنا مثلاً أن كتاب الكافي للشيخ الكليني رحمه‌الله وهو من أهم مصادر تراث أهل البيت عليهم‌السلام في المجالات العقائدية والفقهية تم تدوينه خلال فترة الغيبة الصغرى، فقد توفي الشيخ الكليني رحمه‌الله سنة٣٢٩ هـ وهي نفس سنة وفاة الشيخ السمري آخر السفراء أي في نفس سنة انتهاء الغيبة الصغرى.

١٢٥

خلالها ورعايته لمسيرتهم من خلف أستارها، وأمر فيه بالرجوع الى الفقهاء في الحوادث الواقعة وصرح بأن وجوده أمان لأهل الأرض(١) ، كما أن الجيل الذي كان قد عاصر زمان الأئمة كان قد انتهى وظهرت أجيال اعتادت عصر الغيبة وفكرة القيادة النائبة، لذلك فقد تأهلت الأمة للدخول في عصر الغيبة الكبرى(٢) .

ـــــــــــ

(١) كما صرح بذلك عليه‌السلام في توقيعه الذي أجاب فيه على أسئلة إسحاق بن يعقوب، راجع كمال الدين: ٤٨٣، غيبة الطوسي : ١٧٦.

(٢) تأريخ الغيبة الصغرى: ٦٣٠ ـ ٦٥٤ وفيه توضيحات مهمة بشأن نص التوقيع المهدوي الشريف للسمري.

١٢٦

الباب الرابع: وفيه فصول:

الفصل الأول: الغيبة الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام وأسبابها .

الفصل الثاني: إنجازات الإمام المهديعليه‌السلام في الغيبة الكبرى .

الفصل الثالث: تكاليف عصر الغيبة الكبرى .

الفصل الأول: الغيبة الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام وأسبابها

الاطار العام لتحرك الامامعليه‌السلام

إنّ الهدف العام لتحرك الإمام المهديعليه‌السلام في فترة الغيبة الكبرى، هو رعاية مسيرة الأمة الإسلامية وتأهيلها لظهوره والقيام بالمهمة الكبرى المتمثلة بإنهاء الظلم والجور وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كل أرجاء الأرض وتأسيس المجتمع التوحيدي الخالص كما سنفصل الحديث عن ذلك في الفصل الخاص بسيرته بعد ظهورهعليه‌السلام .

وبعبارة أخرى فإن الإطار العام لسيرته ـ عجل الله فرجه ـ في هذه الفترة هو التمهيد لظهوره بما يشتمل عليه ذلك من رعاية الوجود الإيماني وحفظه وتسديد نشاطاته وتطويره عبر الأجيال المتعاقبة التي يعاصرها، وحفظ الرسالة الخاتمة من التحريف إضافة الى القيام بالميسور من مهام الإمامة الأخرى وإن كان ذلك بأساليب أكثر خفاءً مما كان عليه الحال في الغيبة الصغرى، وبذلك يتحقق الانتفاع من وجودهعليه‌السلام كما ينتفع بالشمس إذا غيّبها السحاب.

وهذا الهدف العام لسيرته في هذه الغيبة الكبرى نلاحظه بوضوح فيما ورد بشأن تحركه في هذه الغيبة.

وقبل التطرق لنماذج من هذا التحرك، نلقي نظرة عامة على بعض ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة بشأن علة الغيبة وأسرارها، إذ إن من الواضح أن التمهيد للظهور يكون بإزالة الأسباب التي أدت للغيبة، لذا فإن التعرف على أسباب الغيبة يلقي الأضواء على طبيعة تحرك الإمام المهديعليه‌السلام خلالها.

١٢٧

علل الغيبة في الأحاديث الشريفة

لقد تناولت مجموعة من الأحاديث الشريفة علل وقوع الغيبة. نذكر أولاً نماذج منها استناداً الى العلل التي تذكرها: مشيرين الى أن لكل نموذج نظائر عديدة رواها المحدثون بأسانيد متعددة:

١ ـ روى سدير عن أبيه عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «ان للقائم منّا غيبة يطول أمدها فقلت له: يابن رسول الله ولم ذاك قال: لأن الله عز وجل أبى إلاّ أن يجعل فيه سنن الأنبياءعليهم‌السلام في غيبا تهم، وانه لابدّ له يا سدير من استيفاء مدة غيباتهم، قال الله تعالى: (لتركبنّ طبقاً عن طبق)، أي سنن مَن كان قبلكم(١) .

وروى عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام يقول: «إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له: ولم جُعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدم من حجج الله تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضرعليه‌السلام إلاّ بعد افتراقهما، يابن الفضل ان هذا الأمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا ان الله عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها

ـــــــــــ

(١) اثبات الهداة: ٣ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

١٢٨

حكمة، وان كان وجهها غير منكشف»(١) .

٢ ـ ومنها مارواه زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: «إن للقائم غيبة قبل ظهوره، قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف ـ وأومى بيده الى بطنه، قال زرارة يعني: القتل»(٢) .

ومنها ماروي عن عبد الله بن عطا، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «قلت له إن شيعتك بالعراق كثيرة والله مافي أهل بيتك مثلك; فكيف لا تخرج؟ قال: فقال: يا عبد الله بن عطاء! قد اخذت تفرش اذنيك للنوكى، إي والله ما أنا بصاحبكم، قال: قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من عمى على الناس ولادته; فذاك صاحبكم; إنّه ليس منا احد يشار إليه بالاصبع ويمضغ بالالسن إلاّ مات غيظاً أو رغم أنفه»(٣) .

٣ ـ ومنها ما روي عن الحسن بن محبوب بن ابراهيم الكرخي قال:

«قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام أو قال له رجل: أصلحك الله ألم يكن علي قوياً في دين الله؟ قال: بلى قال: فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يمنعهم ومامنعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل منعته، قال: قلت؟ وأيّ آية هي؟ قال: قول الله عز وجل: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً اليماً). انه كان لله عز وجل ودائع مؤمنون في اصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن عليّ ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرجت الودائع ظهر على مَن ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عز وجل فاذا ظهرت ظهر على مَن ظهر فقاتله»(٤) .

٤ ـ ومنها ماروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «والله لا يكون الذي تمدون

ـــــــــــ

(١) كمال الدين: ٤٨١، علل الشرائع: ١/ ٢٤٥.

(٢) علل الشرائع: ١ / ٢٤٦، غيبة النعماني: ١٧٦، غيبة الطوسي: ٢٠١.

(٣) الكافي: ١ / ٣٤٢، غيبة النعماني: ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٤) علل الشرائع: ١٤٧، كمال الدين: ٦٤١.

١٢٩

إليه أعناقكم حتى تميّزوا وتمحّصوا، ثم يذهب من كل عشرة شيء ولا يبقى منكم إلاّ الأندر، ثم تلا هذه الآية: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين»(١) .

٥ ـ ومنها ماروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال:

«دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا، إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عز وجل: (والعاقبة للمتقين)»(٢) .

٦ ـ ومنها ما روي عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال ـ في جواب من سأله عن علة الغيبة ـ : «لئلا يكون في عنقه بيعة اذا قام بالسيف»(٣) .

وهذا المعنى مروي عن كثير من الأئمة بألفاظ متقاربة، منها ما روي عن المهديعليه‌السلام نفسه أنه قال في توقيعه الى اسحق بن يعقوب في جواب أسئلته: «... وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم). إنه لم يكن أحد من آبائيعليهم‌السلام إلاّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي»(٤) .

٧ ـ ويقول ـ عجل الله فرجه ـ في رسالته الأولى للشيخ المفيد: «نحن، وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، مادامت دولة الدنيا للفاسقين»(٥) .

٨ ـ ويقولعليه‌السلام في رسالته الثانية للشيخ المفيد: «ولو أن أشياعنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالحمد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا،

ـــــــــــ

(١) قرب الأسناد للحميري: ١٦٢ وعنه في بحار الانوار: ٥٢/ ١١٣.

(٢) الآية في سورة الاعراف: ١٢٨، والحديث في غيبة الطوسي: ٢٨٢.

(٣) علل الشرائع: ١/ ٢٤٥، عيون الأخبار الرضا: ١ / ٢٧٣

(٤) كمال الدين: ٤٨٣، غيبة الطوسي: ١٧٦.

(٥) معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٣، بحار الانوار: ٥٣/ ١٧٤.

١٣٠

ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم...»(١) .

هذه نماذج لابرز الأحاديث الشريفة المروية بشأن علل الغيبة، والأسباب التي تذكرها فيها بعض التداخل، نشير إليها ضمن النقاط الثمانية التالية:

١ ـ استجماع تجارب الأمم السابقة

إن الحكمة الإلهية في تدبير شؤون خلقه تبارك وتعالى اقتضت غيبة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ للحكمةِ نفسها التي اقتضت غيبات الأنبياء في الاُمم السابقة، لأن ما جرى في هذه الاُمم مجتمعة يجري على الاُمة الاسلامية صاحبة الشريعة الخاتمة. فمثلما اقتضى تحقيق أهداف الرسالات السماوية غيبة بعض أنبيائها بدليل عدم استعداد الاُمم السابقة لتحقق هذه الأهداف، كذلك الحال مع الأمة الإسلامية فإن تحقق أهداف شريعتها الخاتمة اقتضى غيبة خاتم أوصيائها الإمام المهديعليه‌السلام حتى تتأهل بشكل كامل لتحقق هذه الأهداف، وواضح أن هذا السبب مجمل بل إنه يشكل الإطار العام لعلل الغيبة التي تذكرها الطوائف الأخرى من الأحاديث الشريفة.

والملاحظ في هذه الطائفة من الأحاديث أنّها تعتبر أمر الغيبة من الأسرار الإلهية التي لا تتضح إلاّ بعد انتهاء الغيبة وظهور الإمام والتي لم يُؤذن بكشفها قبل ذلك، الأمر الذي يشير الى أن ما تذكره الأحاديث الشريفة لا يمثل كل العلل الموجبة للغيبة بل بعضها وثمة علل أخرى ليس من الصالح كشفها قبل الظهور ـ للجميع على الأقل ـ، ولكن الإيمان بها فرع الإيمان بحكمة الله تبارك وتعالى وأنه الحكيم الذي لا يفعل إلاّ ما فيه صلاح عباده.

ـــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٢/٣٢٥ وعنه في معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٦ وبحار الأنوار: ٣٥/ ١٧٦.

١٣١

٢ ـ العامل الأمني

مخافة القتل كما جرى مع غيبات أنبياء الله موسى وعيسى وغيرهمعليهم‌السلام ، والأمر في غاية الوضوح مع الإمام المهديعليه‌السلام الذي كانت السلطات العباسية تسعى سعياً حثيثاً لقتله كما رأينا سابقاً. وهذا السبب يصدق بشكل كامل على أصل وقوع الغيبة وفي الغيبة الصغرى على الأقل.

ومعلوم أن المقصود هو حفظ وجود الإمام لكونه حجة الله على خلقه ولكي لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته وهاد بأمره إليه تبارك وتعالى.

أما ما هو سبب اختصاص الغيبة بالإمام الثاني عشر لحفظ وجوده مع أن أباءه الطاهرينعليهم‌السلام كانوا أيضاً حجج الله على خلقه وقد تعرّضوا أيضاً للمطاردة والاغتيال فلم يمت أي منهم إلاّ بالسيف أو السم(١) ؟

فالجواب واضح، فهو ـ عجل الله فرجه ـ آخر الأئمة المعصومينعليهم‌السلام وهو المكلف بإقامة الدولة الإسلامية العالمية وعلى يديه يحقق الله عز وجل وعده بإظهار الإسلام على الدين كله وتوريث الأرض للصالحين، فلابد من حفظ وجوده حتى ينجز هذه المهمة. يُضاف الى ذلك أن السلطات العباسية كانت عازمة على قتله وهو في المهد لعلمها بطبيعة مهمته الإصلاحية العامة.

أما في الغيبة الكبرى فهذه العلة تبقى مؤثرة مالم تتوفر جميع العوامل اللازمة لإنجاز مهمته مثل توفر الأنصار وغير ذلك، لأنه سيبقى غرضاً لسهام مساعي حكام الجور لإبادته قبل أن ينجز هذه المهمة الإصلاحية الكبرى كما جرى على آبائِهِعليهم‌السلام . وهذا الأمر واضح للغاية ويفهم من توضيحات الإمام الباقرعليه‌السلام لعبد الله بن عطاء في الحديث الثاني من هذه الطائفة.

ـــــــــــ

(١) اعتقادات الصدوق: ٩٩ وعنه في اعلام الورى للطبرسي: ٢/٢٩٧ ب٥ المسألة الاُولى من المسائل السبع في الغيبة، الفصول المهمة: ٢٧٢، .

١٣٢

٣ ـ السماح بوصول الحق للجميع لخروج ودائع الله

إنّ إخراج ودائع الله، المؤمنين من أصلاب قوم كافرين يشكّل عاملاً آخر، ولعل المقصود منه إعطاء الفرصة لوصول الدين الحق للجميع كي تتضح لهم أحقية الرسالة الإسلامية التي يحملها الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ وبالتالي تبني أشخاص ينتمون الى المدارس الضالة والأخلاف المنحرفين، للأهداف المهدوية والانتقال بهم الى صفوف أنصار المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ .

وواضح أن هذه العلة تفسر تأخير ظهورهعليه‌السلام ، بصورة واضحة، مباشرة، وبالتالي تفسّر بصورة غير مباشرة ـ غيبته الى حين توفر هذا العامل من العوامل اللازمة لظهوره ـ عجل الله فرجه ـ، باعتبار أنّ ظهوره مقترن بالبدء الفوري في تنفيذ مهمته الإصلاحية الكبرى، التي تتضمن نزول العذاب الأليم على المنحرفين.

٤ ـ التمحيص الاعدادي لجيل الظهور

إنّ التمييز والتمحيص الإعدادي للمؤمنين بهعليه‌السلام يتحقّق من خلال الأوضاع الصعبة الملازمة لغيبتهعليه‌السلام ، ومعلوم أن الإيمان به وبغيبته هو بحدِّ ذاته عامل مهمّ في تمحيص الإيمان وتقوية الثابتين عليه لأنه يمثل مرتبة سامية من مراتب التحرر من أسر التصديق بالمحسوسات المادية فقط. ولذلك كان الإيمان بالغيب اُولى صفات المتقين كما تذكره الآيات الأولى من سورة البقرة، وقد طبقت الأحاديث الشريفة هذه الصفة على الإيمان بالإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في غيبته باعتباره من أوضح مصاديقها لا سيما إذا لاحظنا طول أمدها(١) .

ولذلك نلاحظ في الأحاديث الشريفة مدحاً بالغاً لمؤمني عصر الغيبة الثابتين على الالتزام بالشريعة السمحاء والنهج المهدوي رغم التشكيكات العقائدية الناتجة عن عدم ظهوره المشهود(٢) .

ـــــــــــ

(١) كفاية الأثر ٥٦، ينابيع المودة: ٤٤٢.

(٢) راجع مثل ماروي عن الكاظم عليه‌السلام في وصف المؤمنين الثابتين في عصر الغيبة: «اُولئك منّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم وهم والله معنا في درجتنا يوم القيامة». كمال الدين: ٣٦١، كفاية الأثر: ٢٦٥.

١٣٣

واستناداً الى هذه العلة نفهم أن الغيبة عامل إعداد لأنصار المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال ترسيخ هذا الإيمان بالغيب الذي يتضمن التحرر من أسر الماديات والذي يؤهلهم لنصرة المهدي في إنجاز مهمته الإصلاحية الكبرى.

٥ ـ اتضاح عجز المدارس الاخرى

إنّ إثبات عجز المدارس الأخرى عن تحقيق السعادة والكمال المنشود للمجتمع البشري، فيه تأهيل واضح للمجتمع البشري عموماً للتفاعل الإيجابي مع المهمة الإصلاحية الكبرى للإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ، فهو يزيل العقبات الصادّة عن هذا التفاعل المطلوب لتحقق الأهداف الإلهية خاصة فيما يرتبط بالانخداع بشعارات المدارس الأخرى المادية أو ذات الأصول السماوية والمنحرفة عنها بمرور الزمن .

٦ ـ حفظ روح الرفض للظلم

إنّ الامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فيزيل حكام الجور وحاكمية الفساد بالسيف بعد إتمام الحجة كاملة على المنحرفين خلال الغيبة الكبرى وما قبلها كما أشرنا الى ذلك في النقطة السابقة. فظهورهعليه‌السلام مقترن بالتحرك الجهادي الحاسم، فلا هدنة مع المنحرفين، ومن هنا يلزم توفر هذه الصفة في أتباعه أيضاً، ولعل هذا هو المقصود من تعبير الأحاديث الشريفة «لئلا يكون في عنقه بيعة لطاغية».

وواضح أن هذا الدور الحاسم يجعل تكالب الظالمين عليه أشد إذا كان وجوده ظاهراً قبل تحركه الإصلاحي الشامل وقبل توفر الظروف المناسبة لتحركه والعدد اللازم من الأنصار، فهو في هذه الحالة إما أن يهادن الظلمة ويجمّد أي نشاط له ولو كان غير حاسم كما كان حال آبائهعليهم‌السلام ، وفي ذلك أخطار كثيرة مثل إضعاف روح الرفض للظلم لدى المؤمنين وهم يرون أن إمامهم المكلف بإزالة الظلم بصورة كاملة صامت تجاهه، فضلاً عن أن هذا الموقف السلبي لن يوقف كيد الظالمين ومساعيهم المستمرة لقتله تخلصاً من هاجس دوره المرتقب; وإما أن يتحرك لإنجاز مهمته قبل توفر العوامل اللازمة لنجاحها وهذا الأمر يعني مقتله قبل أن يحقق شيئاً من مهمته الكبرى.

١٣٤

لذا فلابد من تجنب الظهور قبل اكتمال الأوضاع اللازمة لتحركه الإصلاحي الأكبر والاستتار في اسلوب الغيبة بما يمكنه من الاستمرار في نشاطه على صعيد توفير العوامل اللازمة لنجاح مهمته الكبرى عند الظهور.

٧ ـ صلاح أمره وأمر المؤمنين به

إن في الغيبة صلاح أمرهعليه‌السلام وأمر المؤمنين به، وهذه علة مجملة تحدد أحد أوجه الحكمة الإلهية في الأمر بالغيبة بأن في ذلك صلاح أمر الإمامة; ولعله بمعنى أن الغيبة هي أفضل اسلوب ممكن لقيام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ بمهام الإمامة في ظل الأوضاع المضادة لأهداف الثورة المهدوية كما تقدم في الفقرة السادسة، وبأن فيها صلاح شيعته والمؤمنين به; ولعله بمعنى فتح آفاق التكامل والتمحيص في صفوفهم وأجيالهم المتلاحقة كما تقدم في الفقرة الرابعة حتى يُعد الجيل القادر ـ كماً وكيفاً ـ على الاستجابة لمقتضيات الثورة المهدوية الكبرى، أو أن يكون المقصود صلاحهم في حفظ وجودهم من الإبادة قبل تحقق المهمة الإصلاحية المطلوبة أو عجزهم عن نصرة الإمام بالصورة المطلوبة عند قيامه ـ دونما غيبة ـ كما جرى في موقف المسلمين من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام وقبله من خلافة أخيه الإمام الحسن وأبيه أمير المؤمنين ـ سلام الله عليهم ـ .

٨ ـ عدم توفّر العدد المطلوب من الأنصار

والعامل الأخير هو عدم توفر العدد اللازم كماً والمناسب كيفاً من الأنصار لهعليه‌السلام في مهمته الإصلاحية الكبرى التي تحتاج الى عدد كاف من الأنصار وعلى مستويات عالية من الإخلاص للشريعة المحمدية وأهدافها والعلم بها وبمكائد أعدائها بحيث يمتلكون التجربة الجهادية اللازمة لخوض حركة الصراع الحاسمة مع الكفر والشرك والفسق والنفاق. وهذه العلة مكملة للعلة المذكورة في الفقرة الرابعة.

١٣٥

الفصل الثاني: إنجازات الإمام المهديعليه‌السلام في غيبته الكبرى

كما أشرنا في مقدمة الحديث فإن سيرة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ وتحركاته في غيبته الكبرى تتمحور حول هدف التمهيد لظهوره والمساهمة في ازالة العلل الموجبة لغيبته، وعليه يمكننا القول بأنّه يعمل في سبيل ترشيد الأمة واستجماعها لخبرات أجيالها المتعاقبة; وفي سبيل إيصال الحق الى الجميع ودعم وتأييد العاملين من أجل نشر الإسلام النقي وحفظه، وهو يرعى عملية التمييز والتمحيص الإعدادي لجيل الظهور، ويكشف فشل المدارس الأخرى وعجزها عن تحقيق السعادة المنشودة للبشرية، ويساهم في حفظ روح الرفض للظلم ويحبط المساعي لقتلها. إنهعليه‌السلام يقوم بكل ذلك ولكن بأساليب خفية غير ظاهرة قد يتضح الكثير منها عند ظهوره كما يتضح دورهعليه‌السلام في الكثير من الحوادث الواقعة التي تصب في صالح تحقق الأهداف المتقدمة والتي لم تُعرف أسباب وقوعها أو أنّ ما عُرض من الأسباب لم يكن كافياً في تفسيرها.

رعايته للكيان الإسلامي

يقول الإمام المهديعليه‌السلام في رسالته الاُولى للشيخ المفيد: «... فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذ جنح كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء وأصطلمكم الأعداء»(١) .

إن الإمام يتابع أوضاع المؤمنين ويحيط علماً بالتطورات التي تحصل لهم ومحاولات الاستئصال والإبادة التي يتعرّضون لها ويتخذ الإجراءات اللازمة لدفع الأخطار عنهم بمختلف أشكالها، وهذه الرعاية هي أحد العوامل الأساسية التي تفسر حفظ أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام واستمرار وجودهم وتناميه على مدى الأجيال على الرغم من شدة الحملات التصفوية التي عرضوا لها والإرهاب الفكري الحاد الذي مورس ضدهم لقرون طويلة. فهذه التصفيات الجسدية والمحاربة الفكرية الواسعة التي شهدها التأريخ الإسلامي كانت قادرة ولا شك على إنهاء وجودهم جسدياً وفكرياً لولا الرعاية المهدوية.

ـــــــــــ

(١) الاحتجاج: ١/٣٢٣ وعنه في معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٣.

١٣٦

حفظ الاسلام الصحيح وتسديد العمل الاجتهادي

إنّ الإمام المهديعليه‌السلام يقوم أيضاً في غيبته الكبرى بحفظ الإسلام النقي الذي يحمله مذهب أهل البيتعليهم‌السلام . وهذه المهمة من المهام الرئيسة للإمامة، ومن مظاهر قيامهعليه‌السلام بها في غيبته تسديد العمل الاجتهادي للعلماء والفقهاء ومنع إجماعهم على باطل بطريقة أو باُخرى: «لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع مَن لا يستحيل منه الغلط والنسيان، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان. وإذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلاّ بوجود معصوم يكون من ورائهم، شاهد لأحوالهم، عالم بأخبارهم، إن غلطوا هداههم، أو نسوا ذكّرهم أو كتموا، علم الحق من دونهم.

وإمام الزمانعليه‌السلام وإن كان مستتراً عنهم بحيث لا يعرفون شخصه، فهو موجود بينهم، يشاهد أحوالهم ويعلم أخبارهم، فلو انصرفوا عن النقل، أو ضلّوا عن الحق لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ومنع منه الى أن يبين الحق وتثبت الحجة على الخلق»(١) .

والمقصود من الظهور هنا ليس الظهور العام بل المحدود لبعض العلماء وبالمقدار اللازم لتبيان الحق، وهذه من القضايا التي بحثها العلماء في باب الإجماع، فمثلاً يقول العلاّمة السيد محمد المجاهد في كتابه مفاتيح الأصول: «... البناء على قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الإمام فإنها تقضي ردهم لو اتفقوا على الباطل فإنه من أعظم الألطاف، فإن امتنع حصوله بالطرق الظاهرة فبالأسباب )الخفية( إن وجود الإمامعليه‌السلام في زمن الغيبة لطف قطعاً; فيثبت فيه كل ما أمكن; لوجود المقتضي وانتفاء المانع. وإن هذا اللطف قد ثبت وجوبه قبل الغيبة فيبقى بعده بمقتضى الأصل )إضافة الى( أن النقل المتواتر قد دل على بقائه.

وقد ورد ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام بألفاظ ومعان متقاربة، فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لكل بدعة يُكاذب بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه ويعلن الحق ويرد كيد الكائدين«، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أهل البيت «أن فيهم في كل خلف عدولاً ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين«.

ـــــــــــ

(١) كنز الفوائد للعلامة الكراجكي: ٢/ ٢١٩.

١٣٧

وفي المستفيض عنهمعليهم‌السلام «إن الارض لا تخلو إلاّ وفيها عالم اذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم الى الحق وإن نقصوا شيئاً تمم ذلك ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم يفرقوا بين الحق والباطل».

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام في عدة طرق: «اللَّهُمَّ إنك لا تخلي الارض من قائم بحجة إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حججك وبيناتك..»، وفي بعضها: «لابد لأرضك من حجة لك على خلقك يهديهم الى دينك ويعلمهم علمك لئلا تبطل حجتك ولئلا يضل تُبّع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إما ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم أو مترقب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم فإنّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فيهم، بها عاملون».

وفي تفسير قوله تعالى:( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) )ورد (في عدّة روايات: «أن المنذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كل زمان إمام منا يهديهم الى ماجاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »، وفي بعضها )عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في الآية(: «والله ماذهبت منا ومازالت فينا الى الساعة».

وعن أبي عبد الله ) الامام الصادقعليه‌السلام (قال: «ولم تخل الارض مُنذ خلقها الله تعالى من حجة له فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولن تخلو الى أن تقوم الساعة ولولا ذلك لم يعبد الله، قيل: كيف ينتفع الناس بالغائب المستور؟! قالعليه‌السلام : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب».

وعن الحجة القائمعليه‌السلام قال: «وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب، وإني لأمان أهل الارض كما أن النجوم أمان أهل السماء».

والاخبار في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، ومقتضاها تحقق الرد عن الباطل والهداية الى الحق; من الإمام في زمن الغيبة والمراد حصولها بالاسباب

١٣٨

الخفية كما يشعر به حديث السحاب )الانتفاع بالإمام كالانتفاع بالشمس إذا غيبها السحاب( دون الظاهرة فانها منتفية بالضرورة، ولا ينافي ذلك تضمن بعضها الاعلان بالحق فانه من باب الاسناد الى السبب...»(١) .

تسديد الفقهاء في عصر الغيبة

وكما أشرنا عند الحديث عن نظام «السفارة والنيابة الخاصة» في الغيبة الصغرى، فإن هذا النظام كان تمهيداً لإرجاع الأمة في الغيبة الكبرى الى الفقهاء العدول كممثلين لهعليه‌السلام ينوبون عنهم كقيادة ظاهرة أمر بالرجوع إليها في توقيعه الصادر الى إسحاق بن يعقوب: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم».

وقد أشار الأئمةعليهم‌السلام من قبل الى هذا الدور المهم للعلماء في عصر الغيبة الكبرى، فمثلاً روي عن الامام علي الهاديعليه‌السلام أنه قال: «لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمكم عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومَردته، ومِن فخاخ النواصب; لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دينه. ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله»(٢) .

والمستفاد من قولهعليه‌السلام «فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم» أن الفقهاء العدول يمثلون في الواقع واسطة بين الاُمة والإمام ـ عجل الله فرجه ـ الأمر الذي يعني أن يحظى بعضهم ـ وخاصةً الذين يحظون بمكانة خاصة في توجيه الاُمة ودور خاص فكري أو سياسي في قيادتها ـ بتسديد من قبل

ـــــــــــ

(١) مفاتيح الأصول: ٤٩٦ ـ ٤٩٧، باب الاجماع.

(٢) الاحتجاج: ٢/٢٦٠ .

١٣٩

الإمام ـ عجل الله فرجه ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبالخصوص في التحركات ذات التأثير على مسيرة الأمة وحركة الإسلام، فهو يتدخل بما يجعل هذه التحركات في صالح الأمة أو بما يدفع عنها الاخطار الشديدة الماحقة، وقد نقلت الكثير من الروايات الكاشفة عن بعض هذه التدخلات والتي لم تنقل أو لم تدون أكثر بكثير. وقسم منها يكون التدخل من قبل الإمام بصورة مباشرة وقسم آخر يكون بصورة غير مباشرة عبر أحد أوليائه(١) .

أصحاب الإمامعليه‌السلام في غيبته الكبرى

يُستفاد من عدد من الأحاديث الشريفة أن للامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ جماعة من الأولياء المخلصين يلتقون به باستمرار في غيبته الكبرى ومن أهل كل عصر، وتصرح بعض الأحاديث الشريفة بأن عددهم ثلاثين شخصاً، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في الغيبة بأسانيدهما عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولابد له في غيبته من عزلة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة»(٢) ، وروى الكليني بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والاُخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه إلاّ خاصة شيعته والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصة مواليه»(٣) ، وتصرح بعض الأحاديث الشريفة بأن الخضرعليه‌السلام من مرافقيه في غيبته(٤) . ولعلهعليه‌السلام يستعين بهؤلاء الأولياء ـ ذوي المراتب العالية في الاخلاص ـ في

ـــــــــــ

(١) جمع الشيخ كريمي الجهرمي مجموعة من هذه الروايات في كتاب ترجمه للعربية تحت عنوان: «رعاية الامام المهدي للمراجع والعلماء الاعلام» منشورات دار ياسين البيروتية والكتاب مطبوع بالفارسية في قم.

(٢) الكافي: ١/ ٣٤٠، غيبة النعماني: ١٨٨، تقريب المعارف للحلبي: ١٩٠.

(٣) الكافي: ١/ ٣٤٠، غيبة النعماني: ١٧٠، تقريب المعارف: ١٩٠.

(٤) كمال الدين: ٣٩٠ وعنه في اثبات الهداة: ٣/ ٤٨٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الإماء، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟! فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله عزّ وجلّ:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) ؟

أمن العدل يابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوهنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل(٢) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدَّنيّ والشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ؟!

وكيف تُرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟! وكيف لا يُستبطأ في بُغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشنف(٣) والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير مُتأثّم ولا مستعظم:

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٧٨.

(٢) المناهل: جمع منهل، وهو موضع الشرب من العيون، والمراد من يسكن فيها. المعاقل: سكنة الحصون.

(٣) الشنف: البغض والعداء.

٣٠١

لأهَلّوا واستهلّوا فرحاً = ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلْ

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله (عليه السّلام) سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك!

وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب؟! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم! فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمتَ ولم تكن قلتَ ما قلتَ، وفعلتَ ما فعلتَ. اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، وحيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم،( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وحسبك الله حاكماً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً!

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٣.

٣٠٢

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف(١) من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل(٢) ، وتعفّرها اُمّهات الفراعل(٣) . ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربّك بظلاّم للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونّ ذكرنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فنداً، وأيّامك إلاّ عدداً، وجمعك إلاّ بدداً، يوم ينادي المناد: ألا لعنة الله على الظالمين.

فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن

____________________

(١) تنطف: أي تستوفي من دمائنا.

(٢) العواسل: جمع عاسل، وهو الذئب.

(٣) الفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.

٣٠٣

علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل(١) .

وهذا الخطاب من متمّمات النهضة الحسينيّة، ومن روائع الخطب الثورية في الإسلام؛ فقد دمّرت فيه عقيلة بني هاشم وفخر النساء جبروت الاُموي الظالم يزيد، وألحقت به وبمَنْ مكّنه من رقاب المسلمين العار والخزي، وعرّفته عظمة الاُسرة النبويّة التي لا تنحني جباهها أمام الطغاة والظالمين.

وعلّق الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله: أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوه بعطفه، وسروره وجذله باتّساق الاُمور، وانتظام الملك، ولذّة الفتح والظفر، والتشفّي والانتقام بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل؟!

وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب، ويبلغ ما بلغته (سلام الله عليها) بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت، ثمّ لم تقتنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل، وعزّة الحقّ، وعدم الاكتراث واللامبالاة بالقوم والسلطة والهيبة والرهبة؟! أرادت أن تعرّفه خسّة طبعه، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله(٢) .

ويقول المرحوم الفكيكي: تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة وقوّة الاحتجاج وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة! بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنّة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال.

وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف

____________________

(١) أعلام النساء ٢ / ٥٠٤، بلاغات النساء / ٢١، حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٨ - ٣٨٠.

(٢) السياسة الحسينيّة / ٣٠.

٣٠٤

الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني اُميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.

ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال، وفي كلّ ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة(١) .

محتويات الخطاب

وحلّلنا محتويات خطاب العقيلة في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وننقله لما فيه من مزيد الفائدة، وهذا نصّه: وكان هذا الخطاب العظيم امتداداً لثورة كربلاء، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية، وقد حفل بما يلي:

أولاً: إنّها دلّلت على غرور الطاغية وطيشه؛ فقد حسب أنّه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكريّة التي ملأت البيداء، وسدّت آفاق السماء، إلاّ أنّه انتصار مؤقّت. ومن طيشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى، وهوان لأهل البيت (عليهم السّلام)، ولم يعلم أنّ الله إنّما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً، ولهم في الآخرة عذاب أليم.

ثانياً: إنّها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي، فلم يرعَ فيهم قرابتهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو الذي منَّ عليهم يوم فتح مكة فكان أبوه وجدّه من الطلقاء، فلم يشكر للنبي (صلّى الله عليه وآله) هذه اليد، وكافئه بأسوأ ما تكون المكافئة.

ثالثاً: إنّ ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فإنّه مدفوع بذلك؛

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٨١.

٣٠٥

بحكم نشأته ومواريثه، فجدّته هند هي التي لاكت كبد سيّد الشهداء حمزة، وجدّه أبو سفيان العدوّ الأول للإسلام، وأبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين، وانتهك جميع ما حرّمه الله، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.

رابعاً: إنّها أنكرت عليه ما تمثّل به من الشعر الذي تمنّى فيه حضور شيوخه الكفرة من الاُمويِّين؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) بإبادته لأبنائه، إلاّ أنّه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.

خامساً: إنّ الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلاّ دمه، ولم يفرِ إلاّ جلده؛ فإنّ تلك النفوس الزكية حيّة وخالدة، وقد تلفّعت بالكرامة، وبلغت قمّة الشرف، وإنّه هو الذي باء بالخزي والخسران.

سادساً: إنّما عرضت إلى مَنْ مكّن الطاغية من رقاب المسلمين، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات، وقد قصدت (سلام الله عليها) مغزى بعيداً يفهمه كلّ مَنْ تأمّل فيه.

سابعاً: إنّها أظهرت سموّ مكانتها وخطر شأنها؛ فقد كلّمت الطاغية بكلام الأمير والحاكم؛ فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفّعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه. لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّة وأشدّ بأساً منه.

ثامناً: إنّها عرضت إلى أنّ يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، فإنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّهم مع الحقّ، والحقّ لا بدّ أن ينتصر. وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسين (عليه السّلام)، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا يبلغه أيّ إنسان كان، فأيّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام (عليه السّلام)؟

هذا قليل من كثير ممّا جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان، وهي إحدى الضربات التي أدّت إلى

٣٠٦

انهيار الحكم الاُموي(١) .

جواب يزيد (لعنه الله)

ولم يستطع الطاغية الجواب على خطاب العقيلة (عليها السّلام)؛ فقد انهار كبرياؤه وغروره، وتمثّل ببيت من الشعر وهو:

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحْ = ما أهون الموت على النوائحِ

ولا توجد أيّة مناسبة بين ذلك الخطاب الثوري الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد وجرّدته من جميع القيم والمبادئ الإنسانيّة، وبين هذا البيت من الشعر الذي حكى أنّ الصيحة تحمد من الصوائح، وأنّ النوح يهون على النائحات، فأيّ ربط موضوعي بين الأمرين.

اضطراب الطاغية (لعنه الله)

وتلبّدت الأجواء السياسيّة على الطاغية، وحار في أمره؛ فقد فضحته العقيلة بخطابها الخالد، وجرّدته من السلطة الشرعيّة، وأخذت الأوساط الشعبيّة في دمشق تتحدّاه وتنقم عليه جريمته النكراء بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فأخذ يلتمس له المعاذير، فقال لأهل الشام: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، وما الذي أوقعه فيما وقع؟

- لا.

- يزعم أن أباه خير من أبي، واُمّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي، وأنّه

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٨٢ - ٣٨٣.

٣٠٧

خير منّي وأحقّ بهذا الأمر.

فأمّا قوله: أبوه خير من أبي؛ فقد حاجّ أبي أباه إلى الله عزّ وجلّ، وعلم الناس أيّهما حكم له؛ وأمّا قوله: اُمّه خير من اُمّي، فلعمري إنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خير من اُمي؛ وأمّا قوله: جدّه خير من جدّي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فينا عدلاً ولا ندّاً، ولكنّه إنّما أتى من قلّة فقهه، ولم يقرأ قوله تعالى:( وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ) (١) .

لقد حسب الخبيث أنّ منطق الفضل عند الله تعالى إنّما هو الظفر بالملك والسلطان، فراح يبني تفوّقه على الإمام (عليه السّلام) بذلك، ولم يعلم أنّ الله تعالى لا يرى للملك أيّ قيمة؛ فإنّه يهبه للبرّ والفاجر.

لقد تخبّط الطاغية وراح يبني مجده الكاذب على تغلّبه وقهره لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد خاب فكره وضلّ سعيه؛ فقد انتصر الإمام (عليه السّلام) في ثورته انتصاراً لم يحرزه أيّ فاتح على وجه الأرض، فها هي الدنيا تعجّ بذكره، وها هو حرمه يطوف به المسلمون كما يطوفون ببيت الله تعالى، وليس هناك ضريح على وجه الأرض أعزّ ولا أرفع من ضريح أبي الأحرار، فكان حقّاً هذا هو النصر والفتح.

العقيلة (عليها السّلام) مع الشامي ويزيد (لعنه الله)

ونظر شخص من أهل الشام إلى السيدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فقال ليزيد: هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.

وقد ظنّ أنّها من الخوارج فيحق له أن تكون خادمة عنده، ولمّا سمعت العلوية ذلك سرت الرعدة بأوصالها، وأخذت بثياب عمّتها مستجيرة بها، فانبرت العقيلة (عليها السّلام) وصاحت بالرجل:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٦، سورة البقرة / ٢٤٧.

٣٠٨

كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا لأميرك.

واستشاط الطاغية غضباً من استهانة العقيلة به وتحدّيها لشأنه، فقال لها: كذبت، إنّ ذلك لي، ولو شئت لفعلت.

فنهرته العقيلة (عليها السّلام) ووجّهت له سهاماً من منطقها الفياض قائلة: كلاّ والله ما جعل لك ذلك، إلاّ أن تخرج من ملّتنا، وتدين بغير ديننا.

وفقد الطاغية إهابه؛ فقد أهانته أمام الطغمة من أهل الشام، فصاح بالحوراء: إياي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.

ولم تحفل العقيلة (عليها السّلام) بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام، فردّت عليه بثقة: بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً.

وأزاحت العقيلة بهذا الكلام الذي هو أشدّ من الصاعقة الستار الذي تستّر به الطاغية من أنّ الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) من الخوارج؛ فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّية رسول الله، وأنّ يزيد كاذب بادّعائه.

وصاح الرجس الخبيث بالعقيلة: كذبتِ يا عدوّة الله.

ولم تجد العقيلة (عليها السّلام) جواباً تحسم به مهاترات الطاغية، غير أن قالت: أنت أمير مسلّط، تشتم ظلماً، وتقهر بسلطانك.

وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه إلى الأرض، فأعاد الشامي كلامه إلى يزيد طالباً منه أن تكون بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خادمة عنده، فصاح به يزيد: وهب الله لك حتفاً قاضياً(١) .

لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية، وإرادتها الواعية الصلبة التي

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٥.

٣٠٩

ورثتها من جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقابلت الطاغية بهذا الكلام المشرّف الذي حقّقت به أعظم الانتصار.

يقول بعض الكتاب: وقد حقّقت زينب (سلام الله عليها) - وهي في ضعفها واستكانتها - أوّل نصر حاسم على الطغاة وهم في سلطانهم وقوّتهم؛ فقد أفحمته المرّة بعد المرّة، وقد أظهرت للملأ جهله، كما كشفت عن قلّة فقهه في شؤون الدين؛ فإنّ نساء المسلمين لا يصحّ مطلقاً اعتبارهنَّ سبايا ومعاملتهنَّ معاملة السبي في الحروب(١) .

وأكبر الظنّ أن كلام الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد، وبداية لتسرّب الوعي عند الشاميّين؛ وآية ذلك أنّه لم يكن الشامي بليداً إلى هذا الحدّ؛ فقد كان يكفيه ردّ الحوراء عليه وعلى يزيد، ومقابلتها ليزيد بالعنف الذي أخرجته من ربقة الإسلام إن استجاب لطلب الشامي، وهذا ممّا يشعر أنّ طلبه كان مقصوداً لأجل فضح يزيد.

النياحة على الحسين (عليه السّلام)

وطلبنَ عقائل الوحي من الطاغية أن يفرد لهنَ بيتاً ليقمنَ فيه مأتماً على سيّد الشهداء (عليه السّلام)؛ فقد نخز الحزن قلوبهنَّ، فلم يكن بالمستطاع أن يبدينَ ما ألمّ بهنّ من عظيم الأسى؛ خوفاً من الجلاوزة الجفاة الذين جهدوا على منعهنَّ من البكاء على أبي عبد الله (عليه السّلام).

يقول الإمام زين العابدين (عليه السّلام):«كلّما دمعت عين واحد منّا قرعوا رأسه بالرمح» .

واستجاب يزيد لذلك، فأفرد لهنَّ بيتاً، فلم تبقَ هاشمية ولا قرشيّة إلاّ لبسنَ السواد حزناً على الحسين (عليه السّلام). وخلدنَ بنات الرسالة إلى النياحة سبعة أيام، وهنّ يندبنَ سيّد الشهداء (عليه السّلام) بأقسى ما تكون الندبة، وينحنَ على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٩٠.

٣١٠

وقد اهتزت الأرض من كثرة نياحهنَّ وبكائهنَّ(١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ما عانته سيدة النساء زينب (عليها السّلام) من المصائب في دمشق.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٩٢.

٣١١

٣١٢

إلى يثرب

ولم تمكث سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) زمناً كثيراً في دمشق؛ فقد خشي الطاغية من وقوع الفتنة ووقوع ما لا تحمد عقباه؛ فقد أحدث خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام) وخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) انقلاباً فكرياً في جميع الأوساط الشعبيّة والأندية العامة، وأخذ الناس يتحدّثون عن زيف وكذب الدعاية الاُمويّة من أنّ السبايا من الخوارج، وإنّما هم من صميم الاُسرة النبويّة.

وقد جوبه يزيد بالنقد حتّى في مجلسه، ونقم عليه القريب والبعيد، وقد رأى الطاغية أن يسرع في ترحيل مخدّرات الرسالة إلى يثرب ليتخلّص ممّا هو فيه، وقبل ترحيلهم أمر بأنطاع من الأبريسم ففرشت في مجلسه، وصبّ عليها أموالاً كثيرة وقدّمها لآل البيت (عليهم السّلام)؛ لتكون دية لقتلاهم وعوضاً لأموالهم التي نُهبت في كربلاء، وقال لهم: خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.

والتاعت مخدّرات الرسالة، فانبرت إليه العقيلة اُمّ كلثوم - وأكبر الظنّ أنّها زينب (عليها السّلام) - فصاحت به: ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!

وقالت السيدة سكينة: والله، ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه،

٣١٣

ولا أجفا منه!(١) .

وباء الطاغية بالفشل؛ فقد حسب أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) تغريهم المادة، ولم يعلم أنّهم من صنائع الله؛ فقد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

السفر إلى يثرب

وعهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يصحب ودائع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب ويقوم برعايتهنَّ(٢) ، كما أمر بإخراجهنّ ليلاً من دمشق؛ خوفاً من الفتنة واضطراب الرأي العام(٣) .

وصول النبأ إلى يثرب

وانتهى نبأ الكارثة الكبرى بمقتل سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها، وقد حمل النبأ عبد الملك السلمي إليها بأمر من ابن مرجانة، وقد وافى به عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فاهتزّ فرحاً وسروراً، وقال: واعية بواعية عثمان(٤) .

وأمر بإذاعة ذلك بين الناس، فهرعوا وقد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤١٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٠٠.

(٣)(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤١٦.

٣١٤

وأسرع الأشدق إلى الجامع فاعتلى أعواد المنبر، وأظهر أحقاده وسروره بمقتل سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقال: أيّها الناس، إنّها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، كم خطبة بعد خطبة، حكمة بالغة فما تُغني النذر، لقد كان يسبّنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولكن كيف نصنع بمَنْ سلّ سيفه علينا يريد قتلنا إلاّ أن ندفعه عن أنفسنا؟

وقطع عليه عبد الله بن السائب خطابه، فقال له: لو كانت فاطمة حيّة ورأت رأس الحسين لبكت عليه.

وكان هذا أوّل نقد يُجابه به حاكم المدينة، فصاح به: نحن أحقّ بفاطمة منك؛ أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، واُمّها ابنتنا، ولو كانت فاطمة حيّة لبكت عليه، وما لامت مَنْ قتله(١) . لقد زعم الأشدق أنّ سيدة النساء فاطمة (عليها السّلام) لو [رأت] رأس عزيزها لما لامت قاتله، ولباركته؛ لأنّ في ذلك دعماً لحكم الاُمويِّين، وتشييداً لعروشهم، وبسطاً لسلطانهم الذي حمل جميع الاتجاهات الجاهليّة.

إنّ سيدة النساء لو كانت حيّة ورأت فلذة كبدها في عرصات كربلاء وهو يعاني من الخطوب والكوارث التي لم تجرِ على أيّ إنسان منذ خلق الله الأرض لذابت نفسها حسرات. وقد روى عليّ (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:«تُحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم ولدها، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش، فتقول: يا عدل، احكم بيني وبين قاتل ولدي. فيحكم

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) - المقرّم / ٤١٧.

٣١٥

لابنتي وربّ [الكعبة] (*) » (١) .

ويقول الشاعر:

لا بدّ أن تردَ القيامةَ فاطمٌ = وقميصها بدمِ الحسينِ ملطّخُ

فجيعة بني هاشم

وفُجع الهاشميون بقتل زعيمهم، وعلا الصراخ والعويل من بيوتهم، وخرجت السيدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها وهي تصيح: وا محمداه! وا حسيناه! وا إخوتاه! وا اُهيلاه! وجعلت تخاطب المسلمين قائلة:

ماذا تقولونَ إذ قالَ النبي لكمْ = ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُممِ

بعترتي و بأهلي بعدَ مفتقدي = منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ

ما كانَ هذا جزائي إذ نصحتُ لكمْ = أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فأجابها أبو الأسود وهو غارق في البكاء يقول:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، وعلاه الجزع وراح يقول:

أقولُ وزادني حنقاً وغيظاً = أزالَ اللهُ ملكَ بني زيادِ

وأبعدهم كما بعدوا وخافوا = كما بعدت ثمودُ وقومُ عادِ

ولا رجعت ركائبهم إليهمْ = إذا وقفت إلى يومَ التنادِ(٢)

____________________

(*) وردت المفردة هنا (وربِّ الجنة)، وهي مخالفة لجميع ما أوردته المصادر الاُخرى التي ذكرت ما أثبتناه، ولعله من خطأ النساخ.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي (صلّى الله عليه وآله) / ٩٣.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٩، المعجم الكبير - الطبراني ١ / ١٤٠.

٣١٦

مأتم عبد الله بن جعفر

وأقام عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب (عليها السّلام) مأتماً على ابن عمّه سيّد شباب أهل الجنّة، وجعل الناس يفدون عليه زرافات ووحداناً وهم يعزّونه بمصابه الأليم، وكان عنده بعض مواليه يُسمّى أبا السلاسل، فأراد أن يتقرّب إليه؛ لأنّ عبد الله قد استشهد ولداه مع الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقال: ماذا لقينا من الحسين؟!

ولمّا سمع ابن جعفر مقالته حذفه بنعله، وقال له: يابن اللخناء، تقول ذلك في الحسين! والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتّى اُقتل معه، والله إنّه لما يُسخى بنفسي عن ولدي، ويهونّ عليّ المصاب بهما أنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه.

وأقبل على حضّار مجلسه فقال لهم: الحمد لله، لقد عزّ عليّ المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي، فقد واساه ولداي(١) .

رأس الإمام (عليه السّلام) في المدينة

وأرسل الطاغية يزيد رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة إلى المدينة المنوّرة؛ لإشاعة الرعب والخوف والقضاء على كلّ حركة ضدّه، وجيء بالرأس الشريف إلى عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فأنكر ذلك وقال: وددت والله أنّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه.

وكان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم، فهزأ منه وقال:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٧.

٣١٧

بئس ما قلت! هاته.

وأخذ مروان رأس الإمام وهو جذلان مسرور، وجعل يهزّ أعطافه بشراً وسروراً، ويقول بشماتة:

يا حبّذا بردُكَ في اليدينِ = ولونُكَ الأزهرُ في الخدينِ

وجيء برأس الإمام (عليه السّلام) فنصب في جامع الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهرعنّ نساء آل أبي طالب إلى القبر الشريف بلوعة وبكاء، فقال مروان:

عجّت نساءُ بني زبيد عجةً = كعجيجِ نسوتنا غداةَ الأرنبِ

وجعل مروان يبدي سروره، وهو يقول: والله لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان(١) . ثمّ التفت إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) فخاطبه: يا محمّد، يوم بيوم بدر(٢) .

لقد ظهرت الأحقاد الاُمويّة بهذا الشكل الذي ينمّ عن جاهليّتهم وكفرهم، وأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام طرفة عين.

السبايا في كربلاء

وطلب سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الوفد الموكّل بحراستهم أن يعرّج بهم إلى كربلاء ليجدّدوا عهداً بقبر سيد الشهداء، ولبّى الوفد طلبتهم فانعطفوا بهم إلى كربلاء، وحينما انتهوا إليها استقبلنَ السيدات قبر الإمام أبي عبد الله بالصراخ والعويل، وسالت الدموع منهنَّ كلّ مسيل، وقضينَ ثلاثة أيام في كربلاء، ولم تهدأ لهنَّ عبرة

____________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ٥ / ١٠١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٢.

٣١٨

حتى بُحّت أصواتهنَّ، وتفّتت قلوبهنَّ، وخاف الإمام زين العابدين (عليه السّلام) على عمّته زينب (عليها السّلام) وباقي العلويات من الهلاك، فأمرهنَّ بالسفر إلى يثرب، فغادرنَ كربلاء بين صراخ وعويل(١) .

إلى يثرب

واتّجه موكب أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) إلى يثرب، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء، وقد غامت عيون بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالدموع وهنَّ ينحنَ ويندبنَ قتلاهنّ، ويذكرنَ بمزيد من اللوعة ما جرى عليهنَّ من الذلّ.

وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد توفّيت بعد قتل الحسين (عليه السّلام) بشهر كمداً وحزناً عليه(٢) .

نعي بشر للإمام (عليه السّلام)

ولمّا وصل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بالقرب من المدينة نزل وضرب فسطاطه، وأنزل العلويات، وكان معه بشر بن حذلم، فقال له:«يا بشر، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» .

- بلى يابن رسول الله.

-«فادخل المدينة وانع أبا عبد الله» .

وانطلق بشر إلى المدينة، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعاً بالبكاء قائلاً:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤٢٢.

(٢) اللهوف / ١١٦.

٣١٩

يا أهلَ يثربَ لا مقامَ لكم بها = قُتلَ الحسينُ فأدمعي مدرارُ

ألجسمُ منهُ بكربلاء مُضرّجٌ = و الرأسُ منهُ على القناةِ يُدارُ

وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي وهي ما بين نائح وصائح تنتظر من بشر المزيد من الأنباء، وأحاطوا به قائلين: ما النبأ؟

- هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه.

وعجّت الجماهير بالبكاء، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي برّ بدينهم ودنياهم، وساد البكاء وارتفعت أصوات النساء بالعويل، وأحطنَ بالعلويات، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين (عليه السّلام) وهم غارقون بالبكاء، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

خطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وخطب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) خطبة مؤثرة تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت (عليهم السّلام) من القتل والتنكيل والسبي والذلّ، ولم يكن باستطاعة الإمام (عليه السّلام) أن يقوم خطيباً؛ فقد أحاطت به الأمراض والآلام، فاستدعى له بكرسي فجلس عليه، ثمّ قال:«الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السموات العُلا، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة، الفادحة الجائحة.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343