السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191960 / تحميل: 8560
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فانبرت قائلةً:«ما يبكيك يا أبتي، لا أبكى الله لك عيناً؟» .

فأجابها بصوت خافت حزين النبرات:«يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا» (١) .

لقد استشفّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تُمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء.

ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبويّة يُهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة، فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(٢) ، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.

تسميتها

وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:«سمّ هذه المولودة» .

فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع:«ما كنت لأسبق رسول الله» .

وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال:«ما كنت لأسبق ربّي» .

____________________

(١) الطراز المذهّب / ٣٨.

(٢) بطلة كربلاء / ٢١.

٤١

وهبط رسول السماء على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم. وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث، فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(١) .

كُنيتها

وكُنّيت الصديقة الطاهرة زينب بـ (اُمّ كلثوم)، وقيل: إنّها تُكنى بـ (اُمّ الحسن)(٢) .

ألقابها

أمّا ألقابها فإنّهم تنّم عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة، وهي:

عقيلة بني هاشم

و(العقيلة): هي المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها. والسيّدة زينب أفضل امرأة وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذريّتها؛ فكانوا يلقّبون بـ (بني العقيلة).

العالمة

وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيدات العالمات في الاُسرة النبويّة، فكانت - فيما يقول بعض المؤرّخين - مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين، يرجعنَ إليها في شؤونهنَّ الدينية.

عابدة آل علي

وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٦ - ١٧.

(٢) المصدر السابق / ١٧.

٤٢

الإسلاميّة إلاّ أتت بها.

ويقول بعض الرواة: إنّها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرّم.

الكاملة

وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها، وطهارتها من الرجس والزيغ.

الفاضلة

وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله.

هذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.

سنة ولادتها

أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرّخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:

١ - السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الأولى.

٢ - السنة السادسة من الهجرة.

٣ - السنة التاسعة من الهجرة.

وفنّد هذا القول [الأخير] الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح؛ لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها، فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم؟ ومتى حملت بالمحسن واسقطته لستة أشهر؟

وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة. وذكر مؤيدات اُخرى لِما ذهب إليه(١) .

نشأتها

نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٨.

٤٣

غذّتها اُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفّظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مُثُلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها.

لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشارك أمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره.

وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله، وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام؛ فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.

لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلاميّة؛ فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) يعظّم أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه، ولم يجلس إلى جانبه.

وشاهدت إخوتها من أبيها وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام)، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذّات موضع احترام إخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً، وأجلسها في مكانه.

وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين، وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن (عليه السّلام) عن ذلك، فقال له:«أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك الحوراء» (١) .

____________________

(١) زينب الكبرى / ٢٢.

٤٤

لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وإخوتها؛ فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: روى أبو الحسنين؛ وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها(*) .

قدرتها العلميّة

كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها؛ فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.

قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: أتحبّنا يا أبتاه؟ فأسرع الإمام قائلاً:«وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي؟!» .

فأجابته بأدب واحترام: يا أبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا(١) .

وعجب الإمام (عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى.

____________________

(*) لا يخفى ما في هذا الرأي والتحليل من مسامحة؛ ذلك أنّ الرواة حينما يطلقون كنية (أبو زينب) بدلاً من (أبو الحسَنين) هو تمويهاً منهم أمام السلطة الاُمويّة الحاكمة التي منعت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوعّدت بمعاقبة الراوي بأقسى العقوبات وأشدّها إذا ما علمت أنّه يروي عنه (عليه السّلام). انظر في ذلك: الإرشاد للشيخ المفيد ١ / ٣١٠، أمالي المرتضى ١ / ١١٢ وغيرهما من اُمّهات المصادر المعتبرة.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) زينب الكبرى / ٣٥.

٤٥

وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده؛ ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمَنْ حمده؟ فخف الله لقدرته عليك، واستحِ منه لقربه منك(١) .

وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه، فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام).

ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات، فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه.

ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي.

وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله).

وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة، وقد قال (عليه السّلام) في حقها:«إنّها عالمة غير معلّمة» .

وكانت ألمع خطيبة في الإسلام؛ فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.

لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجلّ العالمات، ومن أكثرهنَّ

____________________

(١) أعيان الشيعة ٧ / ١٤٠.

٤٦

إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.

اقترانها بابن عمّها

ولمّا تقدّمت سيّدة النساء زينب في السن، انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه (عبد الله بن جعفر)، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به.

ونعرض - بإيجاز - إلى بعض شؤونه:

أبوه جعفر

أمّا جعفر فقد كان - فيما يقول الرواة - من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(١) . يقول فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(٢) .

وهو من السابقين للإسلام، وقد رآه أبوه أبو طالب يُصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره. وكان علي يصلّي عن يمينه(٣) . وله هجرتان؛ هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة(٤) .

وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني.

وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب؛ كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته، حتّى كان ليخرج

____________________

(١) الاستيعاب ١ / ٢٤٢، وجاء فيه: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له:((أشبهت خَلقي وخُلُقي يا جعفر)) .

(٢) الاستيعاب ١ / ٢٤٣.

(٣، ٤) اُسد الغابة ١ / ٢٨٧.

٤٧

إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(١) .

وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة، فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفرح؛ فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال (صلّى الله عليه وآله):«ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟» (٢) .

واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده؛ لا لأنّه ابن عمّه فحسب، وإنّما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه. بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها.

ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى، فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«وإنّ الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء» (٣) ؛ ولهذا لقّب بـ (ذي الجناحين)، وبـ (الطيار).

وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصابهم الأليم، فقال لزوجته أسماء:«ائتيني ببني جعفر» . فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها، فقالت له: يا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء.

فأجابها بنبراتٍ تقطر أسىً وحزناً قائلاً:«نعم، اُصيب هذا اليوم» .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الاستيعاب ١ / ٢٤٢، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة.

(٣) الاستيعاب ١ / ٢٤٢.

٤٨

وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يُصنع طعام لآل جعفر(١) ، وأقبلت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة:«وا عمّاه!» .

وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:«على مثل جعفر فلتبك البواكي» (٢) .

لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.

الاُمّ أسماء

أمّا اُمّ عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً، ثمّ هاجرت إلى المدينة. ولمّا استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً، وهو من أعلام الإسلام، ثمّ توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فولدت له يحيى(٣) .

وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم، ولها علاقة وثيقة مع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام)؛ فقد قامت بخدمتها، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر، فجاءت عائشة عائدة لها فمنعتها أسماء، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر، فعاتبها، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(٤) .

لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل

____________________

(١) (٢) اُسد الغابة ١ / ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ٥ / ٣٩٥.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٧١.

٤٩

بيت النبوّة، كما كانت من الراويات للحديث، ويقول المؤرّخون: إنّها روت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ستّين حديثاً.

وعلى أيّ حال، فإنّ أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين واُختهما زينب (عليها السّلام)، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً، ترعاهم كما ترعى أبناءها؛ لأنّهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص، وشكروا لها رعايتها وعطفها.

عبد الله

ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر، فقد كان فذّاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم، يقول فيه معاوية: هو أهلٌ لكلّ شرفٍ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(١) .

وكان يُسمّى (بحر الجود)(٢) ، ويُقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه(٣) . مدحه نصيب فأجزل له في العطاء، فقيل له: تُعطي لهذا الأسود مثل هذا؟! فقال: إن كان أسود فشِعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر ممّا نال. وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى(٤) !

وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: إنّ الله عوّدني عادة، وعوّدت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قُطعت عني(٥) . وأنشد:

لستُ أخشى قلّةَ العدمِ = ما اتّقيتُ اللهَ في كرمي

كلّما أنفقتُ يخلفهُ = ليَ ربُّ واسعُ النعمِ(٦)

ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد وسع الله عليه لدعاء

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٧١.

(٢) اُسد الغابة ٣ / ١٣٤.

(٣ - ٥) الاستيعاب ٣ / ٨٨١، ٨٨٢، ٢٨٨.

(٦) عمدة الطالب / ٣٧ - ٣٨.

٥٠

النبي (صلّى الله عليه وآله) له، فكان من أثرى أهل المدينة، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام).

أبناؤه

ورُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء، وهم:

١ - عون

وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله، صحب خاله الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما هاجر من يثرب إلى العراق، ولازمه في رحلته، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم، اليوم الخالد في دنيا الأحزان، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من محشرْ(١)

لقد عرّف نفسه بهذا الرجز؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(٢) .

ورثاه سليمان بن قتّة بقوله:

واندبي إن بكيتِ عوناً أخاهُ = ليس فيما ينوبهم بخذولِ

فلعمري لقد أصبتِ ذوي القر = بى فبّكي على المصابِ الطويلِ(٣)

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٨، نقلاً عن الفتوح.

(٢) الإرشاد / ٢٦٨.

(٣) مقاتل الطالبيّين / ٩١.

٥١

٢ - علي الزينبي

٣ - محمّد

٤ - عباس

٥ - السيدة اُمّ كلثوم(١)

وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم، ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه:

أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة، ويسلّ السخيمة، ويصل الرحم؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب إليه في الصداق...

وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر.

ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر، ويطالبه بالإسراع فيه؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين، واجتماعاً للكلمة.

ولم يخف عن عبد الله الأمر، فقال لمروان: إنّ خالها الحسين في ينبع(٢) ، وليس لي من سبيل أن

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٢٦.

(٢) ينبع: تبعد عن المدينة بسبع مراحل، فيها عيون ماء عذب غزيرة، قيل: إنّها لبني الحسن، وقيل: إنّها حصن به نخيل وزرع، وبها وقوف الإمام عليّ (عليه السّلام) يتولاّها ولده، جاء ذلك في معجم البلدان ٥ / ٤٥.

٥٢

أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته.

ولمّا رجع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً، فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان، فالتاع الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة، حفيد أبي سفيان!

فانطلق الإمام (عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم، فلمّا مثلت أمامه قال لها: إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق.

واستجابت الفتاة لرأي خالها، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً.

وكتم الإمام الأمر، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة، وكان من جملة المدعوين مروان، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر.

ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً، وفقد صوابه، فقد أفشل الإمام رغبته، فرفع عقيرته قائلاً: أغدراً يا حسين!(١)

وخرج مروان يتعثّر بأذياله، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (عليه السّلام)، وساءه ذلك؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة.

____________________

(١) زينب عقيلة بني هاشم / ٢٧.

٥٣

٥٤

عناصرها النفسيّة

وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم. وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميّزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.

لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام؛ فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه.

فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام)؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام).

وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي

٥٥

استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي؛ فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته، وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.

وعلى أي حال، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:

الإيمان الوثيق

وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.

لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم.

ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه:«ما عبدتك طمعاً (*) في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» ؟

____________________

(*) ورد كلام الإمام (عليه السّلام) هنا بهذا النحو (عبدتك لا طمعاً في...)، وما أثبتناه فهو من جلّ المصادر الاُخرى.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٥٦

وهو القائل:«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» .

أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبّته، وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى.

فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة. لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال:«لك العتبى يا ربّ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل» .

ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال:«هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله» (١) . أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله؟

وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(٢) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٧٦.

(٢) المصدر السابق / ٣٠٤.

٥٧

إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها. لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل؟

لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله. لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان.

لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.

٥٨

الصبر

من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر.

وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها.

إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى، وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (١) .

____________________

(١) سورة البقرة / ١٥٥ - ١٥٧.

٥٩

وقال تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) ، وقال تعالى:( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.

يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

للهِ صبرُ زينبَ العقيلهْ = كم شاهدت مصائباً مهولهْ

رأت مِنَ الخطوبِ والرزايا = أمراً تهونُ دونهُ المنايا

رأت كرامَ قومِها الأماجد = مجزّرينَ في صعيدٍ واحد

تسفي على جسومِها الرياحُ = وهي لذؤبانِ الفلا تُباحُ

رأت رؤوساً بالقنا تُشالُ = وجثثاً أكفانُها الرمالُ

رأت رضيعاً بالسهامِ يفطمُ = و صبيةً بعدَ أبيهم اُيتموا

رأت شماتةَ العدو فيها = وصنعهُ ما شاءَ في أخيها

وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ = وقوفها بين يدي يزيدِ

وقال السيد حسن البغدادي:

يا قلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ = فيكَ الرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا

لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ = في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا

يكفيكَ صبراً قلوبَ الناسِ كلّهمُ = تفطّرت للذي لاقيتهُ جزعا

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي.

____________________

(١) سورة الزمر / ١٠.

(٢) سورة النحل / ٩٦.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى ويَبعِد الفقرُ

كان الثريَّا عُلُقت بجبينه

وفي خدّهِ الشعرا وفي جبينه البدرُ

نشوب القتال بين الفريقين

قال المسعودي(١) : وذكره ابنُ ابي الحديد ، ان اصحاب الجمل حملوا على ميمنة عسكر امير المؤمنينعليه‌السلام حتى كشفوها على الميسرة ، فأتى بعض ولد عقيل الى امير المؤمنينعليه‌السلام فوجده [ يخصف نعلاً ](٢) ، فقال له : يا أمير المؤمنين !

فقالعليه‌السلام : « اسكت يا ابن اخي ، انّ لِعمّكَ يوماً لا يعدوه(٣) ، والله لا يبالي عمّك [ وقع على الموت ام الموت وقع عليه ](٤) ،

قال : جعلت فداك ، ان القوم قد بلغت من القوم مرادها من ميمنتك حتى كشفتها على الميسرة بحيث لم تر ، [ وانت جالس تخصف نعلاً ](٥) .

فقالعليه‌السلام : اُسْكُت يا ابن اخي ، انّ لعمك يوماً لا يتعداه ، والله لا

__________________

(١) مروج الذهب م ٢ : ٣٧٥.

(٢) في مروج الذهب : يخفق نعاساً على قربوس فرسه.

(٣) في النسخة الخطية : لا بعده والصواب كما اثبت من مروج الذهب.

(٤) في النسخة : على فرسه من سرجه ، وهذا تصحيف ربما من الناسخ والصواب كما ذكره المسعودي.

(٥) في مروج الذهب : وانت تخفق نعاساً.

١٤١

يبالي عمك أوقع على الموت أو الموت وقع عليه.

ثم انهعليه‌السلام بعث الى صاحب الراية ، وهو ولده محمّد بن الحنفية(١) ، يأمره ان يحمل على القوم ، فأبطأ بالحملة عليهم ، وكان بأزائه [ قومٌ من الرماة قد نفذت سهامهم ](٢) .

فأتاهعليه‌السلام وقال له : « لِمَ لا حملت على القوم ؟ ».

قال : لم أجد متقدماً [ إلا الرماة ، وقد نفدت سِهامهم ](٣) .

فضربه بقائِم سيفهِ ، وقال : [ ما ادركك عِرقٌ من ابيك ](٤) .

أحمل بين الاسنة ، [ فإنّ الموت عليك جنة ](٥) ...

فحمل حتى شبك بين الرماح والسّهام ، وقد اخذ منه الراية وحمل عليّعليه‌السلام على القوم.

وطاف بنو ضبّة بالجمل وهم يرتجزون بهذه الابيات(٦) :

__________________

(١) كان لمحمد يوم البصرة عشرون سنة لان ولادته سنة ١٦ للهجرة ، وتوفي سنة احدى وثمانين عن خمس وستين سنة.

اُنظر : تذكرة الخواص : ١٦٩ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٨.

(٢) في مروج الذهب : قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم.

(٣) في مروج الذهب : الا على سهم أو سنان ، واني منتظر نفاد سهامهم واحمل.

(٤) في مروج الذهب : ادركك عِرق من امك.

(٥) في مروج الذهب : فإنّ الموت أحب اليك من.

(٦) ذكر المسعودي في مروج الذهب م ٢ : ٣٧٥ ، وطافت بنو ضبة بالجمل واقبلوا يرتجزون ويقولون :

نحن بنو ضبة اصحاب الجمل

ننازل الموت إذا الموت نزل

رُدُّوا علينا شيخنا ثمّ بَجَلْ

ننعي ابْنَ عفان بأطراف الاسل

والموت أحلى عندنا من العسلِ

١٤٢

نحن بنو ضبة اصحاب الجمل

ردوا علينا شيخنا ثمّ حبل

عثمان ردوه علينا بأطراف الاسل

الموت أحلى عندنا من العسل

وكانوا بنو ضبّة سبعين رجلاً ، فكلّما لزم خطامَ الجمل رجل منهم قطعت يداه(١) ، حتى لم يبق منهم أحد وعرقب الجمل ، ولم يقع حتى قطعت قوائمه الاربع ، فأخذوه بالسيوف قطعاً ، وكان المعرقب له أبو جعدة بن غوبة الانصاري.

فمن قتل عنده محمد بن طلحة السجّاد(٢) ، قتله عاصمُ بن الغيث ،

__________________

(١) قال المسعودي : قطع على خطام الجمل سبعون يداً ، من بني ضبة منهم سعد بن سود القاضي متقلداً مصحفاً ، كُلما قطعت يد واحد منهم فصُرع قام آخر فأخذ الخطام وقال : انا الغلام الضبي.

وذكر ابن الاثير : ربيعة العقيلي من اصحاب الامام علي عليه‌السلام برز الى العدوي بعد ان تولى زمام الجمل ، فبرز له العقيلي وهو يقول :

يا اُمّنا أعقَّ أمٍ نعلمُ

والأمُّ تغذو ولداً وترحمُ

ألا ترين كم شجاعٍ يُكلمُ

وتُحتلى منه يدٌ ومعصمُ

انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤٨.

(٢) ذكر ابن الاثير في الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤٩ ، وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة ، وقال : يا امّتاه مريني بأمرك. قالت : آمرك ان تكون خير بني آدم ان تركت ، فجعل لا يحمل عليه احد الا حمل عليه ، وقال : حاميم لا ينصرون ، واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله ، المكعبر الاسدي ، والمكعبر الضبي ، ومعاوية بن شداد ، وعفار السعدي النّصري ، فأنفذه بعضهم بالرمح ، ففي ذلك يقول :

وأشعَثَ قوّامٍ بآياتِ رَبّهِ

قليل الاذى فيما ترى العينُ مسلمِ

هتكتُ له بالرمح جيبَ قميصهِ

فخرّ صريعاً لليدينِ وللفمِ

يذكّرني حاميم والرّمحُ شاجرٌ

فهلا تلا حاميم قبل التقدمِ

على غير شيءٍ غير ان ليس تابعاً

علياً ومن لا يتبعِ الحقّ يندمِ

١٤٣

وطلحةُ بن عبد الله.

قال [ المصنف; ] :

فجاء خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الى امير المؤمنينعليه‌السلام ، وقال : جعلتُ فداك ، لا تنكس رأس محمد ، فأردد الراية إليه ، فدعاه وردها عليه ، فأخذها وقال :

أطعن بها طعن ابيك تحمدِ

لا خير في الحرب إذ لم توقدِ

بالمشرفي والقنا المسددِ

قال : والذي قتل من اصحاب الجمل ستة عشر الف وسبعمائة وسبعون رجلاً(١) ، والذي قتل من أصحاب امير المؤمنين أربعة آلاف رجل وقيل ان عبدالله بن الزبير قبض على خطام الجمل ، فصرخت به عائشةرضي‌الله‌عنه تقول : واثكل اسماء !

__________________

(١) ذكر المدائني أنه رأى بالبصرةِ رجلاً مصطلم الاذن ، فسألته عن قصته ، فذكر أنه خرج يوم الجمل ينظر الى القتلى ، فنظر الى رجل منهم يخفض رأسه ويرفعه وهو يقول :

لقد أوردتنا حومة الموتِ أُمُّنا

فلم تنصرف إلا ونحن رَواءُ

أطعنا بني تيمٍ لشقوة جدنا

وما تيم إلا أعبدٌ وإماءُ

فقلت : سبحان الله ! أتقول هذا عند الموت ؟ قل لا اله الا الله ، فقال : يا ابن اللخناء ، إياي تأمر بالجزع عند الموت ؟ فوليت عنه متعجباً منه ، فصاح لي ادنُ مني ولقّنّي الشهادة ، فصرتُ إليه ، فلما قربت منه استدناني ، ثمّ التقم أذني فذهب بها ، فجعلت ألعنه وأدعو عليه ، فقال : إذا صرت الى امك فقالت مَنْ فعل هذا بك ؟ فقل : عمير بن الاهلب الضبي مخدوع المرأة التي أرادت ان تكون امير المؤمنين.

انظر : مروج الذهب م ٢ : ٣٧٩.

١٤٤

خلِّ عن الخطام ودونك القوم ، خلاه والتقى بمالك النخعي الاشتر ، فاعتركا ملياً حتى سقطاً الى الارض ، فعلاه مالك بالسيف ، فلم يجد له سبيلاً الى قتلهِ ، وعبدالله ينادي من تحته :

اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي.

فلم يجبه أحد ، ولا احد يعلم من الذي يعنيه لشدة اختلاط الناس ببعضهم ، وثور النقع ، فلو قال اقتلوني ومالك الاشتر ، لقتلا جميعاً(١) ، فقال مالك هذه الابيات(٢) :

أعايشُ لَوْلا أنني كُنتُ طاوياً

ثلاثاً لالفَيتِ ابْنَ أختِكِ هالِكاً

غداة يُنادي والرماحُ تنُوشُهُ

كوقعِ الضَياحي اُقتُلُوني ومالِكاً

فنجاه منّي أكلُه(٣) وشبابُهُ

وأنّي شيخٌ لم اكُنْ مُتماسَكاً

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥١.

(٢) ذكره الشيخ المجلسي في بحار الانوار ٣٢ : ١٩٢ ، وزاد فيه

فلم يعرفوه إذْ دعاهم وغمّهُ

خدبٌّ عليه في العَجاجَةِ باركاً

وذكر المناسبة التي قال فيها مالك الاشتر هذه الابيات ، قال :

فلما وضعت الحرب أوزارها ، ودخلت عائشة الى البصرة ، دخل عليها عمّار بن ياسر ومعه الاشتر ، فقالت : من معك يا ابا اليقظان ؟ فقال : مالك الاشتر.

فقالت : انت فعلت بعبدالله ما فعلت ؟ فقال : نعم ولولا كوني شيخاً كبيراً وطاوياً لقتلته وأرحت المسلمين منه. قالت : أوما سمعت قول النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : ان المسلم لا يقتل إلا عن كفر بعد ايمان ، أو زنى بعد أحصان ، أو قتل النفس التي حرم الله قتلها ؟

فقال : يا ام المؤمنين على أحد الثلاثة قاتلناه ، ثمّ انشد الشعر.

انظر : بحار الانوار ٣٢ : ١٩١.

(٣) في الاصل : سيفه والصواب كما ورد في بحار الانوار.

١٤٥

ولمّا سقط الجمل بالهودج ، انهزم القوم عنهُ ، فكانوا كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف(١) .

فجاء محمدُ بنُ ابي بكررضي‌الله‌عنه وادخل يده الى اختهِ ، فقالت له : من هذا المتهجم على حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ؟

قال : انا اقرب الناس اليك ، وابغضهم لكِ ، انا أخوك محمد بعثني اليك أمير المؤمنين ، يقول لك ، هل اصابك شيء من السلاح ؟

__________________

(١) قال الشيخ المفيد; : ولمّا رأى أمير المؤمنينعليه‌السلام جُرأة القوم على القتال وصبرهم على الهلاك ، نادى أصحاب ميمنته ان يميلوا على ميسرة القوم ، ونادى اصحاب ميسرته ان يميلوا على ميمنتهم ، ووقفعليه‌السلام في القلب فما كان بأسرع من ان تضعضع القوم ، واخذت السيوف من هاماتهم مأخذها ، فأنكشفوا وقد قتل منهم ما لا يحصى كثرة ، واصيب من اصحاب امير المؤمنين نفرٌ كثير ، وأحاطت الازَدُ بالجمل يقدُمُهُم كعبُ بن سُور ، وخطام الجمل بيده ، واجتمع إليه من كان أنفل بالهزيمة ونادت عائشة :

يا بنيَّ الكرَّة الكرةَّ ! اصبروا فإنّي ضامنةٌ لكم الجنّة ؛ فحفُّوا بها من كل جانب واستقدموا بُردة كانت معها ، وقلبت يمينها على منكبها الايمن الى الايسر ، والايسر الى الايمن ، كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ يصنع عند الاستسقاء ؛

ثم قالت : ناولوني كفاً من تُرابٍ ؛ فناولوها ، فحثت به وجُوه أصحاب امير المؤمنينعليه‌السلام وقالت : شاهت الوُجُوهُ ! كما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بأهل بَدْرٍ ، قال : وجرَّ كعبُ بنُ سُورٍ بالخطام ، وقال : اللهم إن تحقن الدِماءَ وتُطفي هذه الفتنة فاقْتُلْ علياً ، ولما فعلت عائشة ما فعلت من قلب البرد وحصبِ اصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام بالتراب ، قالعليه‌السلام :

« ما رَمَيْتِ إذ رَمَْتِ يا عائشةُ ولكنّ الشيطانَ رمى وليعُودنَّ وبالُكِ عليك إنْ شاء الله ».

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٢٨ ، الفتوح م ١ : ٤٨٤.

١٤٦

قالت : ما اصابني إلا سهم لم يضرّني(١) .

ثم جاء إليها امير المؤمنينعليه‌السلام بذاته ، حتى وقف عليها ، وضرب الهودج بالقضيب ، وقال :

« يا حميراء ! هل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ أمرك بهذا الخروج عليّ ؟ ألم يأمرك ان تقري في بيتك ؟ والله ما انصفكِ الذين أخرجوكِ من بيتكِ ، إذ صانوا حلائلهم وابرزوكِ !! »

ثم انهعليه‌السلام أمر اخاها محمداً ان يُنزلها في دار آمنة بنت الحارث [ ابن طلحة الطلحات ] ، فرفع الهودج وجعل يضرب الجمل بسيفهِ.

[ امير المؤمنينعليه‌السلام يأمر بأعادة عائشة الى المدينة ]

قال المسعودي(٢) : ثمّ انّ اميرَ المؤمنينعليه‌السلام بعث عبدالله بن العبّاس الى عائشة يأمرها بالذهاب الى المدينة المنورة ، فدخل عليها بغير اذنها ، فاجتذب وسادةً وجلس عليها.

فقالت له : يا ابن عباس ، لقد أخطأت السُّنة المأمور بها بدخولك

__________________

(١) روى بن ابي سبرة عن علقمه ، عن امه ، قال : سمعت عائشة تقول : لقد رأيتني يوم الجمل وانّه على هودجي الدروع الحديدية ، والنبل يخلص اليّ منها وانا في الهودج ، فهوّن ذلك عليّ ما صنعنا بعثمان ، ألبنا عليه حتى قتلناه ، وجرينا عليه الغواة ، فنعوذ بالله من الفرقة بين المسلمين.

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨١.

(٢) مروج الذهب م ٢ : ٣٧٦.

١٤٧

علينا بغير اذنٍ منّا ، وجلوسك على رَحْلِنا بغير إذننا(١) !

فقال : نعم ، لو كُنْتِ في البيتِ الذي تَرَكَكِ فيهِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لما دخلتُ(٢) عَلَيكِ إلا بأذنِكِ ، ولا جلستُ(٣) على رَحْلِكِ إلا بأمركِ ، بعثني امير المؤمنينعليه‌السلام إليك يَأمُركِ بسُرعة الاوبة ، والتأهب للذهاب الى المدينة.

قالت : أبَيتُ عمّا قلت ، وخالفتُ امرَ من وصفت(٤) ، فمضى إليه واخبره بأمتناعها ، [ فبعثهعليه‌السلام إليها ثانية ](٥) ، وقال : ان امير المؤمنين يعزم عليك ان ترجعي(٦) .

فأمنعت بالاجابة للامر فجهزهاعليه‌السلام ، واتاها في اليوم الثاني ، ومعه بنوه الحسنُ والحسين واولاده جميعاً واخوته وبنو هاشم(٧) ، فدخلوا عليها فلما [ ابصرته صاحت مع من عندها من النسوة ](٨) في وجههعليه‌السلام ، يا قاتل الاحبة !

فقالعليه‌السلام : « لو كنت قاتل الاحبةِ لقتلتُ من في هذا البيت ».

__________________

(١) في مروج الذهب : وجلست على رحلنا بغير امرنا.

(٢) في مروج الذهب : دخلنا.

(٣) في مروج الذهب : جلسنا.

(٤) في مروج الذهب : وخالفت ما من وصفت.

(٥) في مروج الذهب : فرده إليها.

(٦) في مروج الذهب : وقال : قل لها : ان أبيتِ عمّا قلتُ لكِ ، ما تعلمين.

(٧) في مروج الذهب : وغيرهم وشيعته من همدان.

(٨) وفيه أيضاً : ابصرت به النسوان صحن.

١٤٨

وهو يشير الى احدِ تلك البيوت ، قد اختلى فيه مروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عامر ، [ وجماعة من بني اميّة ](١) ، فضرب كل من كان معه على قائم سيفهِ ، لما علموا منهعليه‌السلام ، مخافة من خروجهم عليهم فيغتالونهم.

فقالت عائشة [ بعد كلام بينهما ](٢) : قد صار ما صار ، فأحب الآن ان اقيمَ معك لعلي اسيرُ لقتال عدوك.

فقال : « بل ارجعي الى البيت الذي ترككِ فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

فسألته ان يؤمن ابن اختها عبدالله بن الزبير ، فأمنه ، وتكلم الحسن والحسين8 في مروان ، فأمنه(٣) .

فقالت : والله ، اني قد ازددت يا ابن ابي طالب كرباً ، ووددت اني

__________________

(١) سقطت من مروج الذهب.

(٢) في مروج الذهب : بعد خطب طويل كان بينهما.

(٣) في مروج الذهب م ٢ : ٣٧٨ وأمن الوليد بن عقبة وولد عثمان وغيرهم من بني اميّة ، وأمّن الناس جميعاً ، وقد كان نادى يوم الوقعة ، من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن.

وخرجت امرأة من عبد القيس تطوف في القتلى ، فوجدت ابنين لها قد قتلا ، وقد كان قُتل زوجها وأخوان لها فيمن قتل قبل مجيء عليّ البصرة ، فأنشأت تقول :

شهدت الحروب فشيبتني

فلم أر يوماً كيوم الجمل

أضرّ على مؤمنٍ فتنةً

وأقتله لشجاع بطل

فليت الظعينة في بيتها

وليتك عسكر لم ترحل

مروج الذهب م ٢ : ٣٧٨.

١٤٩

لم اخرج هذا المخرج ، ولقد علمت بما قد اصابني فيه.

وقال له مروان بن الحكم : يا امير المؤمنين ، اني احبّ ان ابايعَكَ ، واكون في خدمتك !

فقالعليه‌السلام : « اولم تبايعني ، بعد ان قتل عثمان ، ثمّ نكثت ، فلا حاجة لي ببيعتك ، انها كف يهودية.

لو بايعني بيده لغدر بأسته ، اما ان له امرةً كلعقة الكلب انفه ، وهو ابن الاكبش الاربعة ، وستلقى الامة منه ، ومن ولده يوماً احمر ».

قال المسعودي : ولمّا توجهت عائشةرضي‌الله‌عنه الى المدينة ، بعث امير المؤمنينعليه‌السلام معها اخاها عبد الرحمن بن ابي بكر(١) ، وثلاثين رجلاً ، وعشرين امرأةً من ذوات الدّين من آل عبد قيس وهمدان ، ولزم عليهم بخدمتِها(٢) ، فلما وصلت المدينة ، قيل لها : كيف رأيت مسيرك وما صنع معكِ عليّعليه‌السلام ؟

قالت : والله ، لقد كنت بخير ، ولقد اجاد ابن ابي طالب واكثر بالعطاء(٣) ، [ ولكنّه بعث معي رجالاً انكرتهم ، فعرفها النسوة امرهن ،

__________________

(١) مروج الذهب م ٢ : ٣٧٩.

(٢) في مروج الذهب : ألبسهن العمائم وقلدهن السيوف ، وقال لهن : لا تعلمن عائشة أنكن نسوة وتلثمن كأنكن رجال.

(٣) في مستدرك احقاق الحقّ وبالاسناد عن العوام بن حوشب قال : حدثني ابن عمّ لي من بني الحارث بن تيم الله يقال له مجمع قال : دخلت مع أمي على عائشة.

١٥٠

فسجدت وقالت : ما ازددت والله يابن ابي طالب الا كرماً ، ووددت اني لم اخرج ، وان اصابتني كيت وكيت من امور ذكرتها ](١) .

قال [ المصنف; ] ؛ ومن كلام امير المؤمنينعليه‌السلام ، لما أظفره الله تعالى على اصحاب الجمل ، بعد ان حمد الله عزّوجلّ واثنى عليه ، صلى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، قال : « اما بعدُ ، ايّها الناسُ :

انّ الله عزّوجلّ ، ذو رحمةٍ واسعةٍ ، ومغفرةٍ دائمة ، وعفوٍ جم ، وعقابٍ اليمٍ ، قضى ان رحمتهُ وسعت كل شيء ، ومغفرتهُ لأهل طاعتهِ من خلقه ، وبرحمتهِ اهتدى المهتدون ، وقضى ان نقمتهُ وسطواته وعقابهُ على اهل معصيته من خلقه ، وبعد الهُدى والبينات ما ضلّ الضّالُّون ، فما ظنكم يا اهل البصرة وقد نكثتُم بيعتي ، وظاهرتُم على عدوِّي(٢) ». « وقمتُ بالحجةِ واقلتُ العثرة ، والزلة من اهل الردة ،

__________________

فسألتها امي قالت : كيف رأيت خروجك يوم الجمل ؟ قالت : انه كان قدراً من الله تعالى. فسألتها عن علي قالت : سألتني عن أحب الناس كان الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ . لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقد جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لفوعاً عليهم ثمّ قال : هؤلاء اهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

انظر : احقاق الحقّ ٢ : ٥٤٦.

(١) نص ما ذكره المسعودي في مروج الذهب وقد سقط من النسخة.

(٢) الارشاد ١ : ٢٥٧ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٣٠ ، « خطبة الامامعليه‌السلام المحصورة بين الاقواس كما جاء في الارشاد وبحار الانوار ».

اما ما زاده المصنف وقد حصرناه أيضاً بين قوسين فهو ما ورد في كتاب الامام عليّ عليه‌السلام الى اهل الكوفة عندما تحقق النصر على اصحاب الجمل وفتح البصرة ، وربما وقع المصنف في وهمٍ ، فنبهنا عنه ».

١٥١

فأستتبت من نكث فيهم بيعتي ، فلم يرجع عمّا اصرّ عليه ، فقَتل الله تعالى من قتل منهم الناكث ، وولى الدبر الى مصيرهم بشقائِهم ، فكانت المرأة عليها اشأم من ناقة الحجر ، فخذلوا وأدبروا دبراً ، فقطعت بهم الاسباب فلما حَل بهم ما قدروا سألوني العفو ، فقبلتُ منهم القول وغمدتُ عنهم السيف ، واجريت الحقّ والسنّة بينهم ، واستعملت عبدالله بن العبّاس عليهم »(١) .

فقام إليه رجل منهم ، وقال : نظُنُّ خيراً ، ونراك قد ظفرت وقدرت ، فإنّ عاقبت فقد اجترمنا ذلك ، وان عفوت [ فأنت محلُ العفو ، والعفو أحبُّ الى الله عزّوجلّ ، والينا ](٢) .

فقالعليه‌السلام : « قد عفوتُ عنكم ، فإيّاكم والفتنة فأنها أشدّ من القتل ، فأنّكم اوّل الرّعيةِ لنكث البيعة ، وشقَّ عصا هذه الامة »(٣) .

__________________

(١) لم تردك تكملة الخطبة في الارشاد أو في بحار الانوار.

(٢) في الارشاد : وإن عفوت فالعفو أحبُّ الى الله.

(٣) قال الواقدي : ولما فرغَ امير المؤمنينعليه‌السلام من أهل الجمل جاءهُ قومٌ من فتيان قريش يسألونه الامان وأن يقبل منهم البيعة ، فأستشفعوا إليه بعبدالله بن عباس ، فشفعه وأمرهم في الدخول عليه ، فلما مثلوا بين يديه قال لهم : « ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني ! على أنْ حكمت فيكم بغير عدلٍ ! أو قسمت بينكم بغير سويّةٍ ! أو استأثرت عليكم ! أو تبعدي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، أو لقلة بلاءٍ في الاسلام ! ». فقالوا : يا امير المؤمنين نحن إخوة يوسفعليه‌السلام فأعفُ عنّا ، واستغفر لنا ، فنظر الى أحدهم فقال له : « من انت ؟ ». قال : أنا مساحق بن مخرمة معترف بالزلة ، مقرٌّ بالخطيئة ، تائب من ذنبي. فقالعليه‌السلام : « قد صفحت عنكم ». وتقدم إليه مروان بن

١٥٢

ثم جلس ، فأتاه الناس وبايعوه.

من كلامهعليه‌السلام حين قتل طلحة وانفضّ اهل البصرة

ومن كلامهعليه‌السلام ، لمّا طاف على القتلى يوم الجمل ، قال الشيخ المفيد; في ارشاده(١) :

قال امير المؤمنينعليه‌السلام : « بنا [ تسنّمتم ](٢) الشرف ، وبنا [ انفجرتم ](٣) عن السّرار ، وبنا اهتديتم في الظلماءِ ، [ وقر ](٤) سمعٌ لم يفقهِ الواعية للنبأة كيف يُراعُ من أصمَّتهُ الصَّيحةُ ، رُبط جنانُ لم يُفارقهُ الخَفَقان ، ما زَلتُ أتوقعُ بكم عواقِبَ الغدْر ، وأتوسَّمكم بحيلةِ المغترِّين ، سترني عنكم جلبابُ الدّينِ ، وبصَّرنيكم صدق النية ، اقمت لكم الحقّ حيث تعرفون ، ولا دليل وتحتفرون ولا تُميهون(٥) اليوم ،

__________________

الحكم وهو متكئ على رجل ، فقالعليه‌السلام : « أبك جراحة ؟ ». قال : نعم يا امير المؤمنين وما أراني لما بي إلا ميتاً ! فتبسم أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال : « لا والله ما انت لِما بك ميّتٌ ، وستلقى هذه الامة منك ومن ولدك يوماً أحمر ».

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٤١٣.

(١) الارشاد ١ : ٢٥٣ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٣٦ ح ١٩٠.

(٢) في النسخة : اكتسبتم ، والصواب كما جاء في الارشاد.

(٣) في النسخة : افتخرتم من السراء.

(٤) في النسخة : وقرع.

(٥) أماه الحافر يميه : إذا أنبط الماء ووصل إليه عند حفره البئر.

انظر : الصحاح ـ موه ـ ٦ : ٢٢٥.

١٥٣

نطق لكم العجماء ذات البيان ، عزبَ فهمّ امرءٍ تخلف عني ، ما شككت في الحقّ منذ أريته ](١) ، كان بنو يعقوب على المحجة العظمى حتى عقوا اباهم ، وباعوا أخاهم ، وبعد الاقرار كانت توبتهم ، وباستغفار ابيهم واخيهم غُفِرَ لهم ».

من كلامهعليه‌السلام عندما طاف بالقتلى (٢)

« هذه قُرَيْشٌ ، جَدَعْتَ أنفي ، وشَفَيْتَ نَفْسي ؛ لقد تقدَّمتُ اليكم(٣) احذِّرُكم عضَّ السّيوفِ ، فكُنتُم أَحداثاً لا عِلمَ لكم بما تَرونَ ، [ فَناشَدتُكم العهدَ والميثاق ، فتماديتُمْ في الغي والطُغيان ، وأبيتُمْ إلا القتالَ ، فناهضتُكمْ بالجهادِ ](٤) .

ولكنَّه الحَيْنُ(٥) وسُوء المَصرع ، فأَعوذُ بالله مِن سوء المصرع ».

فمرَّعليه‌السلام [ بمعبد بن المقداد ](٦) ، فقالعليه‌السلام :

« رَحِمَ الله أبا هذا ، أَمَا إنّه لو كان حيّاً لكانَ رأيُهُ أحسن من رأي هذا ».

__________________

(١) في النسخة : رأيته.

(٢) انظر : الارشاد ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٦ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٠٧ ح ١٦٣. مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٩١ ، ٣٩٢ ، ٣٩٤.

(٣) سقطت من النسخة الخطية واثبتناها من الارشاد.

(٤) سقطت من الارشاد.

(٥) الحين : الهلاك.

(٦) في الاصل : سعيد ، وصوابه كما في الارشاد.

١٥٤

فقال عمّار بن ياسر : الحمدُللهِ الذي [ رَفَعَكَ ](١) يا امير المؤمنين(٢) ، وجَعَلَ خدَّهُ الأسفلَ ، إنّا واللهِ يا أميرَ المؤمنين [ ما نُبالي مَنْ عَنَدَ عَنِ الحقِّ مِنْ ولَدٍ ووالدٍ. فقال أميرُ المؤمنين ](٣) : « رحمِكَ اللهُ وجَزاكَ عنِ الحقِّ خيراً ».

ثم انهعليه‌السلام مرّ بعبدِاللهِ بن رَبْيعَة بن دَرَّاجٍ ، فقالعليه‌السلام : « هذا البائسُ ما كانَ أخرجَهُ ؟ أدينُ أخرجهُ أمْ نَصْرٌ لعُثمان ؟! واللهِ ما كان رأيُ عُثمان فيهِ ولا في [ ابيه ](٤) لحسنٍ ».

ثمَّ إنهُعليه‌السلام مرّ بمَعْبدِ بن زُهَير بن أبي اميّة(٥) ، فقالعليه‌السلام : « لو كانت الفتنةُ برأسِ الثريّا لَتَنَاولها هذا الغُلامُ ، واللهِ ما كان فيها بذي نحيزة(٦) ، ولقد أخبرني مَنْ أَدركهُ إنّه لَيُولْولَ فرقاً من السَّيف ».

ثم مرّعليه‌السلام بمسلمة بن قَرَظَةَ ، فقالعليه‌السلام : « البرُّ أخرجَ هذا ! والله لَقد كلَّمني أن أكلِّمَ له عُثمانَ في شيءٍ كان يدَّعيه قَبلَهُ بمكة ، [ فأعطاهُ

__________________

(١) في الارشاد : أوقعه.

(٢) سقط من الارشاد.

(٣) سقطت من النسخة واثبتناها من الارشاد.

(٤) في النسخة : ابنه.

(٥) في الاصل ( اميّة ) ، والصواب هو : معبد بن زهير بن ابي اُميّة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخي ام سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

انظر : اسد الغابة ٤ : ٣٩١ ، الاصابة ٣ : ٤٧٩/٤٣٢٧.

(٦) النحيزة : الطبيعة. الصحاح ـ نحز ـ ٣ : ٨٩٨.

١٥٥

ايّاه ](١) ، ثمّ قال [ لي ](٢) لَولا أنتَ ما اعطيتهُ [ اياه ](٣) ، إنّ هذا [ ما علمت ](٤) بئسَ أخو العشِيرةِ ، ثمّ جاءَ المشُومُ لِلحَين(٥) ، [ ناصراً يُطالب دم عُثمان ] »(٦) .

ثمَّ مرّعليه‌السلام بعبدِاللهِ بن حميدِ بن زُهَير ، فقالعليه‌السلام : « إنّ هذا أيضاً ممّن أوضَعَ في قتالنا ، [ ثمّ أنَّه يزعمُ إنّهُ يطلبُ رِضاءَ اللهِ بذلك ](٧) ، ولقد كَتَبَ اليَّ كتاباً يُؤذي عُثمان فيه ، فأعطاهُ شيئاً فَرضِي عنه ».

ثمَّ مَرّعليه‌السلام بعبداللهِ بن حَكيم بنِ حزام ، فقالعليه‌السلام : « إنَّ هذا قد خَالفَ أباه في الخروج ، وأبوهُ حيثُ لم ينصُرنا وقد أَحسن في بيعته لنا ، وإن كان قد كَفَّ وجَلسَ حيثُ شكَّ في القتال ، وما ألوم اليوم مَنْ كفَّ عنّا وعن غيرنا ، ولكنَّ [ اللوم على ](٨) الذي قاتلنا ».

ثمَّ مرّعليه‌السلام بعبدالله بنِ المغيرةِ بن الأخْنَس بن [ شريق ](٩) ،

__________________

(١) في الارشاد : فأعطاه عثمان.

(٢) سقطت من الارشاد.

(٣) سقطت من الارشاد.

(٤) في النسخة الخطية : اما علمت ان هذا ، والصواب كما اثبت من الارشاد.

(٥) في النسخة الخطية : لحينه.

(٦) في الارشاد : ينصر عثمان.

(٧) في الارشاد : زعم يطلب الله بذلك.

(٨) في الارشاد : المليم.

(٩) سقطت من الارشاد.

١٥٦

فقالعليه‌السلام : « وأما هذا [ فقتل ابوه ](١) يَوم قُتِلَ عُثمان [ في الدار ](٢) خَرَجَ مُغْضَباً لقتلَ أبيهِ ، وهو غُلامٌ حَدَثٌ [ حينَ قتله ](٣) ».

ثم مرَّعليه‌السلام [ بعبدالله بن عُثمان ](٤) بن الأخْنَس بن شريق ، فقالعليه‌السلام : « وأمَّا هذا فكأنّي أنظُرُ إليه ، وقد أخذ القومَ السُّيوفُ هارباً يغدو من الصَّفِّ ، [ فَنْهنَهْتُ ](٥) عنهُ فلم يَسمعْ مَنْ [ نَهْنَهْتُ ](٦) ، حتى قتل ، وكان هذا ممّا خَفِيَ على فتيان قُريش ، أغمار لا عِلمَ لهم بالحربِ ، خُدِعوا [ واستُزِلُّوا ](٧) ، فلمّا وقفوا [ وَقَعوا ](٨) فقتلوا ».

ثمَّ مرَّعليه‌السلام [ بكَعبِ بن سُور ](٩) ، فقالعليه‌السلام : « وأمّا هذا الَّذي خَرَجَ علينا ، وفي عُنُقِه المُصحَفُ ، يزعُمُ أنّه ناصرُ [ أمِّهِ ](١٠) ، يدعو الناسَ الى ما فيه وهو لا يعلَمُ بما فيهِ ، ثمَّ استفتح [ وخابَ كُلّ ](١١) جبّار عَنيدٍ ، أمَّا

__________________

(١) سقطت من المخطوطة واثبتناها من الارشاد.

(٢) سقطت أيضاً واثبتناها من الارشاد.

(٣) في النسخة : حين قتل ، والصواب كما في الارشاد.

(٤) في النسخة الاصلية : عبدالله بن ابي عثمان ، وهذا تصحيف ربما من الناسخ واثبتت الصواب من الارشاد.

(٥) في النسخة الاصلية : فنهيت.

(٦) في النسخة كلمة مبهمة ويحتمل من تصحيفات الناسخ.

(٧) في النسخة : يستنبزوا.

(٨) في النسخة الكلمة غير واضحة واثبتناها من الارشاد.

(٩) في النسخة : كعب بن ثور ، وهو تصحيف والصواب كما في الارشاد.

(١٠) سقطت من النسخة واثبتت من الارشاد.

(١١) في النسخة [ وجاء معه ] وهو تصحيف والصواب كما في الارشاد.

١٥٧

إنه دعا الله أَن يقتُلني فقتلهُ اللهُ تعالى ».

أجلِسُوا [ كَعبَ بن سُورٍ ](١) فأجلسَ ، فقالَ لَهُعليه‌السلام : « يا كعبُ ، قد وَجدْتُ ما وَعَدَني ربي حَقّاً ، فَهَل وَجدْتَ ما وَعَدَك ربُّكَ حقّاً ؟ ».

ثم قالعليه‌السلام : « أضجعُوهُ ».

ثمَّ مرّعليه‌السلام بطلحة بن عُبيدِاللهِ(٢) ، فقالعليه‌السلام : « وأمَّا هذا فَهو النّاكثُ لبيعتي ، والمُنْشئ الفِتنَة في الأمّةِ ، والمُجلُبِ عَلَيَّ ، والدّاعي إلى قَتْلي وقتل عترتي ».

اجلسوا [ طلحة بن عبيدالله ](٣) فأُجلِس ، ثمَّ قالَعليه‌السلام له : « يا طلحة ، قد وجدْتُ ما وَعَدَني ربّي حقّاً ، فهلْ وجدْتَ ما وَعَدَك ربُّكَ حقّاً ؟! » ثمّ قالعليه‌السلام : « أضجعُوه » ، فأُضجع.

وسارَعليه‌السلام ، فقالَ لهُ بعضَ أصحابه : يا امير المؤمنين ، رأيتك تُكلّمُ كعباً وطلحة بعد أنْ قُتِلا ، فَهل يفْقَهان ما قلت لهُما ؟!

فقالعليه‌السلام : « [ أمَ ](٤) وَاللهِ ، إنّهما لقد سَمِعا كلامي ، كما سَمِعَ أهلُ

__________________

(١) سقطت من الاصل.

(٢) هو طلحة بن عبيدالله بن عثمان بن عبيدالله بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، وهو ابن عمّ أبي بكر الصديق ، ويكنى ابا محمد ، وأمه الصعبة ، وكانت تحت ابي سفيان بن حرب ، وقتل وهو ابن اربع وستين ، وقيل غير ذلك ، ودفن بالبصرة ، وقبره فيها الى هذه الغالية ، وقبر الزبير بوادي السباع.

انظر : مروج الذهب م ٢ : ٣٧٤.

(٣) سقطت من الاصل.

(٤) في النسخة : ايم.

١٥٨

القَلِيب كلامَ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ يومَ بَدْرِ »(١) .

قال المسعودي : ولمّا ان مَنَّ الله تعالى عليهِ بما هو اهله من الظفرِ على أصحاب الجمل ، دخل عليه بجماعةٍ من اصحابه الى بيت مالَ المسلمين بالبصرة ، فنظر الى ما فيه من العينِ والورق ، فأدام انظر إليه ، فجعل يقول : « يا صفراء ويا بيضاء ، غُرِّي غيري »(٢) .

ثم قالعليه‌السلام : « اقسموه بين اصحابي ، خمسمائة خمسمائة » ،

__________________

(١) عن محمد بن الحنفية; ، قال : فوالله لقد رأيتُ أوّل قتيل من القوم كعب بن سُور بعدَ ان قُطِعت يمينهُ التي كان الخِطام بها ، فأخذه بشماله وقُتل بعد ذلك ، وقُتِلَ معه أخوهُ وابناه. ثمّ اخذ خطام الجمل بعده رجل منهم وهو يقول :

يا اُمَّنا عائِشَ لا تُراعِي

كُلُّ بَنيكِ بَطَلٌ شُجاعُ

فما بَرَحَ حتى قطعت يداهُ وطُعِنَ فهلك ؛ فقام مقامه آخر منهم فقطعت يمينه وضُرِبَ على رأسه فهلَكَ ؛ فما زال كل منّ اخذ بخطام الجمل قُطِعتُ يداهُ أو جُذَّ ساقه حتى هلَكَ منهم ثمانمائةِ رجلٍ ، وقبل ذلك قُتِلَ حول الجمل سبعون رجلاً من قريش.

مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٤٩ ، تاريخ الطبري ٤ : ٥١٨.

(٢) قال الشيخ المفيد ( رضي الله تعالى عنه ) : ورجع طلحة والزبير ، ونزلا دار الاماره ، وغلبا على بيت المال ، فتقدمت عائشة وحملت مالاً منه لتفرقه على انصارها فدخل عليها طلحة والزبير في طائفة معهما واحتملا منه شيئاً كثيراً ، فلما خرجا جعلا على ابوابه الاقفال ، ووكلا به من قبلهما قوماً ، فأمرت عائشة بختمه ، فبرز لذلك طلحة يختمه فمنعه الزبير ، وأراد ان يختمه الزبير دونه فتدافعا ! فبلغ عائشة ذلك فقالت : يختمها عني ابن اختي عبدالله بن الزبير ، فختم يومئذٍ بثلاثة ختوم.

وقال أيضاً : ولمّا خرج عثمان بن حنيف من البصرة ، وعاد طلحة والزبير الى بيت المال ، فتأملاً الى ما فيه من الذهب والفضة قالوا : هذه الغنائم التي وعدنا الله بها ، واخبرنا انه يجعلها لنا !!

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٢٨٤ ، ٢٨٥.

١٥٩

فقسموه فأصابَ كل رجل منهم خمسمائة ، فلم يزد درهماً ولا نقص درهماً !

فكان عدد اصحابه اثني عشر الفاً ، وقبضعليه‌السلام على ما اصابه في معسكرهم ، فباعه وقسمه أيضاً عليهم ، ولم يزد لنفسه ولا لأولاده واهل بيته عن اصحابه بشيء ابداً.

ثم اتاه رجلٌ من اصحابه لم يكن حاضر القسمة ، فقال : يا امير المؤمنين ، اني لم آخذ شيئاً لعدم حضوري عند القسمة ، فالسبب الموجب لغيابي عنها هو كيت وكيت ، فأعطاه ما اصابه من القسمة(١) .

ومن كلامهعليه‌السلام حين قدم الكوفة من البصرة

ثم توجهعليه‌السلام الى الكوفة. قال [ المسعودي ] : فقال حين قدومه إليها ؛ بعد ان حمد الله واثنى عليه ، وصلى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ :

« أمَّا بعدُ ، فالحمدُ للهِ الّذي نَصرَ وَليه ، وخَذلَ عدوَّه ، وأعزَّ الصَادِق المُحِقَّ ، وأذلَّ الكاذِب المُبطِلَ.

ايّها الناس عليكم(٢) بتقوى الله حقَّ تقاتِهِ ، واطاعةِ مَن اطاعَ اللهَ من اهلِ بيتِ نبيِّكم ، الذين هم أَولى بطاعتِكم من المُنتَحِلينَ المُدَّعين القَائلينَ الينا ، يتفضَّلون بفضلنا ، ويُجاحِدونا في أمرِنا ، وينازعونا حقّنا

__________________

(١) مروج الذهب م ٢ : ٣٨٠.

(٢) في الارشاد : يا اهل هذا المصر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343