السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191807 / تحميل: 8560
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

السيدة زينب (عليها السّلام)

رائدة الجهاد في الإسلام

عرضٌ وتحليلٌ

تأليف: باقر شريف القَرَشي

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ )

سورة آل عمران / ٣٣ - ٣٤

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )

سورة الأحزاب / ٣٣

( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ )

سورة الشورى / ٢٣

٤

الإهداء

إلى ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام)، أرفع إلى مقامه الرفيع هذه الدراسة عن شقيقته وشريكته في نهضته، والمطالبة بثأره، حفيدة الرسول السيّدة زينب (عليها السّلام)، راجياً أن يتفضل عليّ بالقبول، ويمنحني السعادة والشفاعة يوم ألقى الله.

٥

٦

تقديم

- ١ -

السيّدة زينب حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، هي أوّل سيّدة في دنيا الإسلام صنعت التأريخ، وأقامت صروح الحقّ والعدل، ونسفت قلاع الظلم والجور، وسجّلت في مواقفها المشرّفة شرفاً للإسلام وعزاً للمسلمين على امتداد التأريخ.

لقد أقامت سيّدة النساء صروح النهضة الفكرية، ونشرت الوعي السياسي والديني في وقت تلبّدت فيه أفكار الجماهير، وتخدّرت وخفي عليها الواقع؛ وذلك من جرّاء ما تنشره وسائل الحكم الاُموي من أنّ الاُمويِّين أعلام الإسلام وحماة الدين وقادة المتّقين، فأفشلت مخطّطاتهم، وأبطلت وسائل إعلامهم، وأبرزت بصورة إيجابية واقعهم الملوّث بالجرائم والموبقات وانتهاك حقوق الإنسان، كما دلّلت على خيانتهم وعدم شرعيّة حكمهم، وأنّهم سرقوا الحكم من أهله، وتسلّطوا على رقاب المسلمين بغير رضاً ومشورة منهم.

لقد أعلنت ذلك كلّه بخطبها الثورية الرائعة التي وضعت فيها النقاط على الحروف، وسلّطت الأضواء على جميع مخطّطاتهم السياسيّة وجرّدتها من جميع المقوّمات الشرعيّة.

٧

- ٢ -

وتجسّدت في حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) جميع الصفات الكريمة والنزعات الشريفة؛ فكانت أروع مثلٍ للشرف والعفاف والكرامة، ولكلّ ما تعتزّ به المرأة وتسمو به في دينا الإسلام.

لقد ورثت العقيلة من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومن أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) جميع ما امتازوا به من المثل الكريمة، والذي كان من أبرزها الإيمان العميق بالله تعالى، فقد ضارعتهما العقيلة في هذه الظاهرة.

وقد روى المؤرّخون عن إيمانها صوراً مذهلة، كان منها أنّها صلّت ليلة الحادي عشر من محرّم، وهي أقسى ليلة في تأريخ الإسلام، صلاة الشكر لله تعالى على هذه الكارثة الكبرى التي حلّت بهم، والتي فيها خدمة للإسلام ورفع لكلمة التوحيد.

وكان من عظيم إيمانها وإنابتها إلى الله تعالى أنّها في اليوم العاشر من المحرّم وقفت على جثمان أخيها، وقد مزّقته سيوف الكفر، ومثّلت به العصابة المجرمة، فقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه قائلةً: «اللّهمّ تقبّل هذا القربان، وأثبه على عمله...».

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه.

- ٣ -

وأقسى كارثة مدمّرة مُني بها العالم الإسلامي في جميع مراحل تأريخه

٨

إقصاء أهل بيت النبوة ومعدن الرحمة عن المسرح السياسي، وتسليم قيادة الاُمّة ومقدّراتها إلى غيرهم؛ فقد اندفع قادة الانقلاب بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) - فيما أجمع عليه المؤرّخون - رافعين عقيرتهم قائلين: «لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيتٍ واحدٍ...».

ولم يحفلوا بوصايا النبي (صلّى الله عليه وآله) في حقّ أهل بيته من أنّهم سفن نجاة الاُمّة وأعلام هدايتها وباب حطّتها، وقال فيهم:«لا تتقدّموهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» .

وقرنهم بمحكم التنزيل فقال مكرّراً:«إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما...» (١) .

إنّ الإمعان والتدبّر في الوثائق السياسيّة التي ذكرها المؤرّخون بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) تبدو فيها بصورة واضحة حقيقة المؤامرة ودوافعها التي دُبّرت ضدّ أهل البيت (عليهم السّلام)، والتي كان من أظهرها الحسد لعترة النبي (صلّى الله عليه وآله) على ما منحهم الله من الفضل، وما خصّهم من المنزلة والكرامة، مضافاً إلى التهالك على السلطة والاستيلاء على مقدّرات الدولة.

وتُلقي هذه الدراسة الأضواء على ذلك بصورة أمينة وبعيدة عن المؤثّرات التقليديّة.

- ٤ -

وحُرمت الاُمّة بجميع شرائحها من الانتهال من نمير علوم أهل البيت (عليهم السّلام) الذين

____________________

(١) المراجعات / ٤٩، نقلاً عن كنز العمّال ١ / ٤٤، والترمذي، وحفلت مصادر الحديث بتخريج الرواية وتصحيحها.

٩

هم خزنة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وسدنة حكمته، فكان سيّد العترة وعملاق الفكر الإسلامي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بمعزلٍ تام عن الحياة السياسيّة والعملية طيلة حكم الخلفاء، ولمّا آل إليه الأمر وتقلّد زمام الحكم ثارت عليه الرأسمالية القرشية التي ناجزت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، كما ثار عليه الطامعون والمنحرفون عن نهج الحقّ؛ فجرّعوه الغصص والآلام، وشغلوه حتّى عن نفسه، ومُني العالم الإسلامي بخسارة عظمى، فلم يُفسح المجال لهذا الإمام الملهم العظيم أن ينشر علومه بين الناس.

ومن المؤسف حقّاً أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) من بعده واجهوا المصير الذي لاقاه جدّهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقد عمد الاُمويّون والعباسيّون إلى حجبهم عن الأوساط الشعبيّة حتّى لا تعرف قدراتهم العلميّة، وكلّ هذه الضربات القاسية التي عانتها الاُمّة من جراء فصل القيادة العامّة عن أهل البيت (عليهم السّلام).

- ٥ -

ومن النتائج المؤسفة والمحزنة بعد إقصاء العترة الطاهرة عن شؤون الحكم أن آلت الخلافة الإسلاميّة التي هي ظلّ الله في الأرض إلى (بني اُميّة)، الذين هم الشجرة الملعونة في القرآن؛ فاتّخذوا مال الله دِوَلاً، وعباد الله خِوَلاً، وأشاعوا الجور والظلم بين الناس، واستهدفوا المصلحين ورجال الوعي بالإعدام والتنكيل.

فقد أعدم معاوية بن أبي سفيان أعلام الإسلام وحماته، أمثال: حجر بن عدي وأصحابه المجدّدين، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم، وتتبّع أخوه اللاشرعي الإرهابي زياد بن أبيه شيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذين يمثّلون الوعي الديني والسياسي في المجتمع الإسلامي؛ فنفّذ في معظمهم الإعدام، وأخلد الكثيرين منهم

١٠

في ظلمات السجون. وسار على هذه السياسة الخرقاء السوداء عمّاله وولاته، وسائر ملوك بني اُميّة من بعده؛ فأوعزوا إلى رجال أمنهم وأجهزة حكمهم بمطاردة شيعة آل البيت (عليهم السّلام)، وإبادتهم تحت كلّ حجر ومدر.

لقد كانت سياستهم شعلة من النار تحرق المصلحين، وتبيد المؤمنين، وتحمي الفاسقين، وتساند الظالمين.

- ٦ -

وظهر على مسرح السياسة الإسلاميّة بعد هلاك معاوية ولده يزيد، وهو فيما أجمع عليه المؤرّخون: حاكم ظالم، جاهلي، لم يؤمن بالله طرفة عين، قد خلد إلى الفسق والفجور واقتراف كلّ ما حرّم الله من إثم، وقد أعلن كفره وإلحاده ومروقه عن الدين بقوله:

لَعِبَت هاشمُ بالمُلكِ فلا = خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل

وقد تفجّرت سياسته في جميع مراحل حكمه بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه؛ من إشاعة المنكر والفجور، واستعباد المسلمين، وإرغامهم على ما يكرهون...

لقد سلّطه أبوه معاوية على جميع مقدّرات الدولة الإسلاميّة، ومكّنه من رقاب المسلمين مع علمه وإحاطته التامّة بنزعاته الجاهليّة، وتحلّله من جميع القيم والأعراف الإنسانيّة، فهو المسؤول أمام الله وأمام التأريخ والاُمّة عن موبقات هذا الوغد الجاهلي الذي حوّل حياة المسلمين إلى جحيم لا يُطاق.

- ٧ -

وليس في العالم الإسلامي مَنْ يستطيع أن يقول كلمة الحقّ، ويغيّر

١١

مجرى التأريخ غير سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، ووارث علمه الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ ففجّر ثورته الكبرى التي أعزّ الله بها الإسلام، وأوضح بها الكتاب، وجعلها عبرة لأولي الألباب، تمدّ المسلمين على امتداد التأريخ بالعزّة والكرامة، والتمرّد على الظلم، ومصارعة الطغاة، ومناجزة المستبدين.

لقد كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) من أهم الثورات الإصلاحية التي عرفها التأريخ الإنساني؛ فقد هزّت الضمير العالمي وذلك بفصولها المروّعة، ومآسيها الخالدة في دنيا الأحزان، كما أنّها تحمل عطاءً فكرياً ودروساً مشرقة لجميع شعوب العالم لإنقاذها من ويلات الاستعمار والاستعباد، وستبقى حيّةً مشرقةً حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

- ٨ -

وكانت الأحداث المفزعة التي مُني بها العالم الإسلامي في أيام معاوية وولده يزيد بمرأى ومسمع من الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ فقد رأى باطلاً يُحيا، وصادقاً يُكذَّب، وكاذباً يُصدَّق، ومفسداً يُعظّم، وأثرة بغير تُقى.

قد عُطلت حدود الله، وجمدت أحكام الإسلام. لا آمر بمعروف، ولا ناهٍ عن منكر، فلم يستطع سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الصبر على هذه الكوراث التي مُني بها العالم الإسلامي؛ فأعلن (سلام الله عليه) ثورته الكبرى على الحكم الاُموي، مستهيناً بالموت، عازماً على الشهادة، وأعلن كلمته الخالدة التي هي وسام شرف وفخر للإسلام، ونشيد لأحرار العالم في كلّ زمان ومكان قائلاً:«لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً...» .

واستقبل الموت هو وأهل بيته وأصحابه بثغورٍ باسمة، ونفوس

١٢

مطمئنة؛ لإنقاذ المسلمين من استعباد الاُمويِّين وظلمهم، وإعادة الحياة الإسلاميّة إلى مجراها الصحيح.

- ٩ -

وساهمت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيدة زينب (عليها السّلام) في الثورة الحسينيّة، وشاركت في جميع ملاحمها وفصولها مشاركة إيجابيّة وفاعلة؛ فقد وقفت إلى جانب شقيقها في أوّل مرحلة من مراحل جهاده، وهي على علم لا يُخامره أدنى شك من شهادته، وما يجري عليه وعليها من صنوف الكوارث والخطوب.

أخبرها بذلك أبوها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما أسرّ إليها بذلك أخوها الإمام الحسين (عليه السّلام)، فانطلقت (سلام الله عليها) بإرادة وعزم وتصميم إلى مساندة أخيها، ومشاركته في ثورته الكبرى التي غيّرت مجرى التأريخ، وأمدّت العالم الإسلامي بجميع عوامل النهوض والارتقاء.

لقد آمنت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بثورة أخيها أبي الأحرار، وجاهدت جهاداً لم يعرف التأريخ مثله في مرارته وأهواله، وتبنّت جميع مُخطّطات الثورة وأهدافها، وهي التي أبرزت قيمها الأصيلة في خطبها التأريخية في أروقة الحكم الاُموي؛ فبلورت الرأي العام، وأوجدت وعياً أصيلاً كان من نتائجه الثورات الشعبيّة المتلاحقة التي أطاحت بالحكم الاُموي، وأزالت ذلك الكابوس المظلم عن الاُمّة الإسلاميّة.

- ١٠ -

وليس في العالم الإسلامي وغيره امرأة تضارع سيّدة النساء السيّدة زينب

١٣

في قوّة شخصيتها، وصلابة عزيمتها، وعظيم إيمانها؛ فقد رأت ما حلّ بأهلها من الرزايا والكوارث التي تميد من هولها الجبال، وهي صامدة قد تسلّحت بالصبر، وسلّمت أمرها إلى الله تعالى.

رأت حفيدة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشباب الذين هم كالبدور من أبنائها، وأبناء إخوتها وعمومتها، قد تقطّعت أوصالهم على صعيد كربلاء، رأت الأطفال الأبرياء من أهل البيت يُذبحون بوحشية لا مثيل لها بأيدي اُولئك القُساة الممسوخين.

رأت حرائر النبوّة قد أشرفن على الهلاك من ألم العطش القاتل وهنّ يندبن بذوب أرواحهنّ قتلاهنّ، وهي (سلام الله عليها) تسلّيهنّ وتأمرهنّ بالخلود إلى الصبر.

رأت أخاها سيّد الشهداء الذي هو عندها أعزّ من الحياة قد أحاطت به أوغاد البشرية، وهم يوسعونه ضرباً بسيوفهم ورماحهم ونبالهم حتّى احتزّوا رأسه الشريف.

رأت هجوم الكفرة العتاة بعد مقتل أخيها على خيام النساء وقد أضرموا النار فيها، والمخدّرات من بنات الرسول يتراكضن في البيداء خوفاً من الحريق، وقد تكالب على نهبهن أعداء الله... كلّ هذه المصائب والرزايا قد حلّت بحفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فما استكانت ولا وهنت وإنّما زادتها إيماناً وتماسكاً وتسليماً لأمر الله.

- ١١ -

إنّ كارثة كربلاء وما جرى على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من صنوف الأسر والذلّ والتنكيل تستدعي أن ننظر إلى الوثائق السياسيّة، وإلى الأحداث التي

١٤

جرت بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة؛ فإنّها المصدر الأساسي لِما حلّ بأهل البيت (عليهم السّلام) من عظيم الرزايا والخطوب.

إنّ مؤتمر السقيفة ونظام الشورى هما من أهمّ العوامل التي أدّت إلى استيلاء بني اُميّة على كرسي الحكم، وتسلّطهم على رقاب المسلمين، وإبادتهم لعترة النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فلولا السقيفة والشورى لما حلم الاُمويّون بأيّ منصب من مناصب الدولة الإسلاميّة؛ فقد أذلّهم الإسلام منذ فجر تأريخه، واستهان بهم المسلمون لأنّهم من ألدّ أعدائهم الذين ناجزوهم الحرب، وجهدوا على محو دين الله، وحاولوا قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنّ الأجهزة الحاكمة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) قرّبت الاُسرة الاُمويّة، وأزالت عنهم كابوس الذلّ والهوان الذي ضربه عليهم الإسلام؛ فمنحتهم الثراء العريض، وقلّدتهم معظم المناصب في الدولة الإسلاميّة.

وكان من أعظم المنتفعين منهم الذئب الجاهلي معاوية بن أبي سفيان؛ فقد أسندوا إليه ولاية الشام، وزادوا في رقعة سلطانه، ومنحوه كلّ تسديد وتأييد، تتوافد الأخبار إلى الخليفة الثاني أنّ معاوية يسرف في أموال المسلمين، ويُشيّد القصور، ويقترف كلّ ما حرّم الله؛ فيلبس الحرير، ويشرب ويأكل في أواني الذهب والفضة وذلك محرّم في الإسلام، فيعتذر عنه ويقول: ذاك كسرى العرب!

وليس - والحمد لله - في شريعة الإسلام كسروية ولا قيصرية، فجميع المسلمين سواء أمام القانون لا يفضّل بعضهم على بعض إلاّ بالتقوى وعمل الخير، ثمّ هل يُباح لكسرى العرب أن يقترف ما حرّم الله وتنتفي عنه المسؤولية الشرعيّة؟! ومتى كان معاوية كسرى العرب؛ فقد أذلّه الإسلام وأسقطه اجتماعياً، ووسمه وأفراد اُسرته بالشجرة المعلونة في القرآن، كما وسمهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالطلقاء؟!

١٥

وعلى أيّ حال، فإنّ أدنى تأمّل في أحداث كربلاء وما عانته عترة النبي (صلّى الله عليه وآله) من الويلات والكوارث يستند بصورة أوّلية لا تقبل الجدل والشك إلى مؤتمر السقيفة والشورى؛ فهما مصدران لكلّ كارثة جرت على آل البيت (عليهم السّلام)، كما هما السبب في كلّ فتنة مُني بها المسلمون على امتداد التأريخ.

- ١٢ -

إنّ أعظم خدمة تؤدّي للاُمّة، وأكثر عائدة عليها بفضل، هي إبراز القيم الأصيلة والمثل العليا لأهل البيت (عليهم السّلام)، وإشاعة فضائلهم ومآثرهم بين الناس؛ فإنّ لها التأثير المباشر في نشر الفضيلة وتهذيب الأخلاق وتنمية السلوك نحو الأفضل؛ فإنّهم (سلام الله عليهم) أشعة من نور الله في كلامهم وسيرتهم وسلوكهم، وهم سفن نجاة هذه الاُمّة، وعُدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك عن جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنّ حياة أهل البيت (عليهم السّلام) مدرسة من مدارس التقوى والإيمان، والجهاد والكفاح، قد وهبوا حياتهم لله تعالى، وأخلصوا كأعظم ما يكون الإخلاص له؛ فلا تقرأ سيرة أحدٍ منهم إلاّ تجد ملفّ حياته حافلاً بتقوى الله وطاعته، صياماً في النهار، وقياماً بالصلاة وتلاوة الكتاب بالليل.

كما أنّ البارز في سيرتهم إشاعة العلم والحكمة والآداب بين الناس، والبرّ بالفقراء، والعطف على [البائسين]، ومقارعة الباطل، ومناجزة الظلم، ومقاومة حكّام الجور؛ فقد تبنّوا (سلام الله عليهم) قضايا المسلمين، فناجزوا حكّام عصورهم الذين أشاعوا الظلم والفساد في الأرض، فتعرّضوا جميعاً إلى التنكيل والاضطهاد من الحاكمين حتّى استشهدوا

١٦

جميعاً بين مقتول ومسموم.

- ١٣ -

ومن بين أهل البيت (عليهم السّلام) الذين رفعوا كلمة الله عاليةً في الأرض سيّدة النساء السيّدة زينب، فهي أوّل سيّدة مجاهدة في الإسلام، وقد عانت أشقّ وأقسى أنواع المحن والخطوب؛ فقد سُبيت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة، ومعها باقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واُدخلن على ابن مرجانة الذي هو أقذر إرهابي مجرم عرفه التأريخ، فجرت مشادّة بينه وبين السيّدة زينب، فاستهانت به واحتقرته، فاستشاط الخبيث الدنس غضباً، وهمّ بضرب حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه امتنع؛ فقد عذله بعض الحاضرين مخافة الفتنة والاضطراب.

ثمّ حُملن إلى الشام سبايا فاُدخلن على يزيد حفيد أبي سفيان، فخطبت السيّدة زينب في بلد يزيد خطابها التأريخي الخالد الذي نعت فيه قتله لسيّد الشهداء، وأسره لبنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد، وقد بلورت فيه الرأي العام، وأيقظت الجماهير من سباتها، وجرّدت الحكم القائم من كلّ شرعيّة، ودعت المسلمين إلى الإطاحة به.

لقد تجرّعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الغصص والمصائب التي تذوب من هولها الجبال، كلّ ذلك من أجل الإسلام والحفاظ على مبادئه وقيمه، ومناهضة الظلم والاستبداد.

إنّ السيّدة زينب (سلام الله عليها) بمواقفها البطولية وكفاحها المشرّف ضدّ الظلم والطغيان يجب أن تكون قدوة فذّة لجميع السيّدات من نساء العالمين، وأن يتّخذنَّها قائدة لمقارعة الظلم ونشر العدل في الأرض.

١٧

- ١٤ -

وفي ختام هذا التقديم أرجو أن أكون قد أدّيت في هذه الدراسة عن حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بعض فروض المحبّة والولاء لأهل بيت النبوّة الذين فرض الله مودّتهم في كتابه الكريم، وأن أكون قد ساهمت في إبراز بعض قيم هذه السيّدة الجليلة التي هي أسمى وأرفع امرأة في الإسلام بعد اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام). آملاً من الله تعالى أن تنالني شفاعتها يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ مَنْ أتى الله بقلب سليم.

كما أرى أنّ من الحقّ عليّ أن أشيد بسماحة أخي حجة الإسلام والمسلمين العلاّمة الكبير الشيخ هادي شريف القرشي؛ ففي ذرى عطفه ورعايته ألّفت هذا الكتاب وغيره، والله تعالى هو الذي يتولّى جزاءه كما يجازي المحسنين من عباده، إنّه تعالى وليّ التوفيق.

النجف الأشرف

١٨ / شعبان/ ١٤١٤ هـ

باقر شريف القرشي

١٨

النسب الوضّاح

ليس في دنيا الإسلام وغيره نسب أرفع ولا أسمى من نسب السيّدة زينب (سلام الله عليها)؛ فقد تفرّعت من دوحة النبوّة والإمامة، والتقت بها جميع أواصر الشرف والكرامة، فهي فرع زاكٍ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن الإمام علي (عليه السّلام)، وهما من أفضل ما خلق الله من بني الإنسان، فتبارك هذا النسب الوضّاح، وتعالت تلك الاُسرة الكريمة التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين، وجعلها مصدر الوعي والإلهام للمسلمين على امتداد التأريخ.

إنّ الاُسرة العلوية هي أسمى اُسرة عرفها التأريخ بجهادها ونضالها، وتبنّيها لحقوق الإنسان وقضايا مصيره، ومقاومتها للظلم والطغيان، فليس في اُمم العالم وشعوب الأرض مثل اُسرة العلويِّين في دفاعهم عن حقوق المظلومين والمضطهدين، وقد استشهد المئات منهم من أجل حرية الإنسان وكرامته.

وعلى أيّ حال، فهذه لمحة موجزة عن الاُصول الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام).

الجدّ

أمّا جدّ السيّدة زينب فهو سيّد الكائنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي فجّر ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وأسس معالم الحضارة والتطوّر، وبنى مجتمعاً كريماً تسوده

١٩

العدالة والقانون، وسحق خرافات الجاهليّة وعاداتها، ودمّر أصنامها وأوثانها، ودعا إلى توحيد الله خالق الكون وواهب الحياة، وجاء بالخير العميم لاُمّته، ولكلّ ما تسمو به من التقاليد والعادات، فما أعظم عائدته عليها وعلى البشرية جمعاء!

لقد أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، ومنار هداية لخلقه أجمعين، فكان (صلوات الله عليه) كما قال الله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (١) . فهو رحمة للناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، حريص على هدايتهم وإسعادهم، قال تعالى:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (٢) .

لقد تشرّفت الإنسانيّة برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأشرقت الدنيا بدعوته، وتوطّدت أركان العدالة بدينه، فهو (صلّى الله عليه وآله) القائد الملهم لقضايا الفكر والوعي في الأرض.

هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونبي الرحمة جدّ سيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد ورثت منه خصائصه ومميزاته، والتي منها الدفاع عن الحقّ، ورفع كلمة الله عالية في الأرض.

الجدّة

أمّا جدّة السيّدة زينب فهي اُمّ المؤمنين وسيّدة نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) خديجة الكبرى التي نصرت الإسلام في أيام محنته وغربته، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد، وقد بذلت جميع ما تملكه في نصرة الإسلام، وكانت من أثرى قريش، فلم تعد بعد ثرائها العريض تملك ما تجلس عليه سوى حصير بال، فكانت (رضوان الله عليها) من أهم الدعائم لإقامة دين الإسلام، وهي التي أمدّت النبي (صلّى الله عليه وآله) ومَنْ كان

____________________

(١) سورة الأنبياء / ١٠٧.

(٢) سورة التوبة / ١٢٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك، ومن خرجت منهن إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي، إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهن بمثل ما ذكرت في كتابي هذا، وجعلت الله عز وجل عليهن شهيدا(1) .

ويستفاد منها أن الأمر حساس وخطير، وهو يتطلب بصيرة نافذة، ومعرفة تامة بمداخل القضايا ومخارجها، ولذلك أوكل أمر زواج بناتهعليه‌السلام إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهو المعصوم العالم بحقائق الأمور، وكان الظرف ظرف محنة وابتلاء كما يدل عليه حديث الإمام الكاظمعليه‌السلام ليزيد بن سليط الزيدي حيث قال: ثم قال لي أبو إبراهيمعليه‌السلام :

إني أوخذ في هذه السنة، والأمر هو إلى ابني علي، سمي علي وعلي، فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأما الآخر فعلي بن الحسينعليهما‌السلام ، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره(2) ....

____________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث 15 ص 316 - 317.

(2) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث 14 ص 315.

١٠١

وليس في هذه الوصية ما يدل على المنع من التزويج، وإنما تدل على أن الأمر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو الأعرف بمناكح قومه، وهو الأعلم بأحوال زمانه.

فما ذكره اليعقوبي في تاريخه(1) من أن الإمامعليه‌السلام أوصى بعدم تزويج بناته فإن كان مستنده هو وصية الإمامعليه‌السلام التي ذكرناها فقد أخطأ في الاستنتاج، وإن كان غيرها فلم نقف عليه، ولا نستبعد أنه قد التبس عليه الأمر وفهم من الوصية أن الإمام قد منع من تزويج بناته، وليس الأمر كذلك.

ثم إنه من خلال ما تقدم ذكره من الأمور الخمسة يمكننا استفادة السبب وراء عدم زواج بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام .

والذي يترجح من جميع ذلك أن السبب أمران أحدهما يكمل الآخر، وهما:

الأول: عدم وجود الكفؤ.

والثاني: الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام .

أما الأول فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تحديد معنى الكفاءة، ولهم في ذلك أقوال وآراء ذكرها صاحب الجواهر(2) وغيره إلا أنهم اتفقوا على أن المؤمن كفوء المؤمنة.

وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض(3) .

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 415.

(2) جواهر الكلام ج 30 ص 92 - 116.

(3) من لا يحضره الفقيه ج 3 - كتاب النكاح - باب الأكفاء الحديث 5 ص 249.

١٠٢

وخلافهم إنما هو في زواج المرأة الشريفة ممن هو أدنى منها، وأما العكس فلا خلاف بينهم في جوازه، على أن الخلاف في ذلك مما لا يعتد به، كما صرح به صاحب الجواهر حيث قال: (و) كيف كان فلا إشكال ولا خلاف معتد به في أنه (يجوز) عندنا (إنكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي، وبالعكس، وكذا أرباب الصنائع الدنية) كالكناس والحجام وغيرهما (بذات الدين) من العلم والصلاح (والبيوتات) وغيرهم، لعموم الأدلة، وخصوص ما جاء في تزويج جويبر الدلفاء، ومنجح بن رباح مولى علي بن الحسينعليهما‌السلام بنت ابن أبي رافع...(1) .

والحاصل إجمالا: أن سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام كانت على ذلك، مضافا إلى الروايات الكثيرة الواردة عنهمعليهم‌السلام الدالة على الجواز، نعم اختصت الصديقة الزهراءعليها‌السلام بهذا الشأن من دون سائر النساء، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء(2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه(3) .

وأما ما عدا فاطمة الزهراءعليها‌السلام من النساء فليست لها هذه

____________________

(1) جواهر الكلام ج 30 ص 106 - 107.

(2) الفروع من الكافي ج 5 كتاب النكاح باب نوادر الحديث 54 ص 568.

(3) بحار الأنوار ج 43 ص 107.

١٠٣

الخصوصية، وإنما يتبع فيها الشرائط العامة في الزواج من الدين والخلق وغيرهما مما ذكره الفقهاء ورووه عن الأئمةعليهم‌السلام وتفصيل هذه المسألة بجميع أبعادها مبسوطة في كتب الفقه الاستدلالية.

وغرضنا من ذلك الإشارة إلى أنه لا شك في توفر الشرائط في بعض الأشخاص في زمان الإمام الكاظمعليه‌السلام .

ولكن ما جرى على العلويين من الأحداث حال دون ذلك، فإن حملات الإبادة من القتل والتشريد لبني هاشم ما أبقت منهم إلا القليل، فإن المسلسل الدامي بدأ مع بداية عهد المنصور، وقد تتبع العلويين، فمنهم من قتل في ميادين الحروب، ومنهم من قتل تحت الأنقاض حيث أمر المنصور بهدم السجن عليهم أو وضعوا في أساس البناء أحياء فماتوا اختناقا، ومنهم من اغتيل بالسم، ومنهم من قتل صبرا واحتفظ برؤوسهم في خزانة ولم يطلع عليها إلا بعض أهل بيته.

يقول الطبري في تاريخه لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه

١٠٤

المفاتيح، وأخبرته أنه تقدم إليها ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحد حتى يصح عندها موته، فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور، وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل فوقها دكان(1) .

ومنهم من سلم من القتل ولكنه لم يسلم من التشرد فهام في البلدان متنكرا، وقد أخفى اسمه ونسبه، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين من أحوال عيسى بن زيد الذي توارى عن المنصور العباسي زمانا طويلا حتى مات متواريا، ولم يطلع زوجته وابنته على اسمه ونسبه.

روى أبو الفرج بسنده عن محمد بن المنصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى الكوفة، وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية،

____________________

(1) تاريخ الطبري ج 8 ص 104 - 105.

١٠٥

وسترى في وسط السكة دارا لها باب، صفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيدا منها في أول السكة فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (مستور) الوجه، قد أثر السجود في جبهته، عليه جبة صوف، يستقي الماء على جمل [وقد انصرف يسوق الجمل]، لا يضع قدما ولا يرفعها إلا ذكر الله عز وجل، ودموعه تنحدر، فقم وسلم عليه وعانقه، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرفه نفسك، وانتسب له، فإنه يسكن إليك، ويحدثك طويلا، ويسألك عنا جميعا، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه، وودعه، فإنه يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك، وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقة، فقلت: أفعل ما أمرتني، ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي لا يرفع قدما ولا يضعها إلا حرك شفتيه بذكر الله، ودموعه ترقرق في عينيه، وتذرف أحيانا، فقمت فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس، فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمني إليه، وبكى حتى قلت:

قد جاءت نفسه، ثم أناخ جمله وجلس معي، فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا، وامرأة امرأة، وصبيا صبيا، وأنا أشرح له أخبارهم، وهو

١٠٦

يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما أكتسب يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه وأتقوت باقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية، يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته. وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتا، فنشأت، وبلغت وهي أيضا لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت: لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء - لرجل من جيراننا يسقي الماء - فإنه أيسر منا، وقد خطبها، وألحت علي فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز، ولا هو بكفؤ لها، فيشيع خبري، فجعلت تلح علي فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني آسى على شئ من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذكر أبو الفرج أن عيسى بن زيد بقي متواريا إلى أن مات في زمان المهدي العباسي، روى بسنده عن يعقوب بن داود، قال: دخلت مع المهدي في قبة في بعض الخانات في طريق خراسان، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة، فدنا ودنوت معه، فإذا هي هذه الأبيات:

والله ما أطعم طعم الرقاد

خوفا إذا نامت عيون العباد

شردني أهل اعتداء وما

أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنوا

فكان زادي عندهم شر زاد

أقول قولا قاله خائف

مطرد قلبي كثير السهاد

١٠٧

منخرق الخفين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

قال: فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت: لك الأمان من الله ومني، فاظهر متى شئت، حتى كتب ذلك تحتها أجمع، فالتفت فإذا دموعه تجري على خده فقلت له: من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟

قال: أتتجاهل علي؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلا عيسى بن زيد(1) .

ولكن لما بلغه موت عيسى بن زيد اعتبر ذلك بشرى وحول وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله. وكان يجد في طلبه حتى أنه حبس بعض أصحابه ثم قتلهم لأنهم لم يخبروه بموضع اختفائه(2) .

وعهده وإن لم يكن كعهد أبيه شدة وبطشا إلا أنه ورث منه العداء لأهل البيتعليهم‌السلام ، الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم والسلطان إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم.

حتى إذا جاء عهد ابنه موسى الهادي الذي اتصف بنزعات الشر والطيش والتمادي في سفك الدماء، فنقم عليه القريب والبعيد وبغضه الناس جميعا، وقد حقدت عليه أمه الخيزران، وبلغ بها الغيظ والكراهية له أنها هي التي قتلته(3) .

وفي زمانه حدثت واقعة فخ التي ضارعت مأساة كربلاء في آلامها

____________________

(1) مقاتل الطالبيين ص 408 - 412.

(2) مقاتل الطالبيين ص 422 وص 427.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 1 ص 457.

١٠٨

وشجونها، وقد تحدث الإمام الجوادعليه‌السلام عن مدى أثرها البالغ على أهل البيتعليهم‌السلام بقوله: لم يكن لنا بعد الطف - يعني كربلاء - مصرع أعظم من فخ(1) .

فقد حملت فيها رؤوس العلويين وتركت جثثهم في العراء، وسيقت الأسرى من بلد إلى بلد، وقد قيدوا بالحبال والسلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلوا على الهادي العباسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا على باب الجسر ببغداد(2) .

ولم يكن عهد الرشيد بأحسن حالا، يقول الشيخ القرشي: وورث هارون من جده المنصور البغض العارم والعداء الشديد للعلويين، فقابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصب عليهم جام غضبه، وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنهم - أي العلويين - ولأقتلن شيعتهم.

وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام، ودفن قسما منهم وهم أحياء، وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون، إلى غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبها عليهم...

لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم

____________________

(1) سر السلسلة العلوية ص 14 - 15.

(2) تاريخ الطبري ج 8 ص 198 - 200 والكامل في التاريخ ج 6 ص 93.

١٠٩

في القرى والأرياف، متنكرين لئلا يعرفهم أحد(1) .

وقد أمر الرشيد حميد بن قحطبة أن يقتل ستين علويا في ليلة واحدة، روى الصدوق بسنده عن أبي الحسين أحمد بن سهل بن ماهان، قال: حدثني عبيد الله البزاز النيسابوري، وكان مسنا قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعلي ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة وذهب عني أني صائم، وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علة توجب الإفطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك، أو علة توجب الإفطار، فقال: ما بي علة توجب الإفطار وإني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إلي هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفا أخضر مسلولا، وبين يديه خادم واقف، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت:

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 74 - 75.

١١٠

بالنفس والمال، فأطرق، ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، وإنه لما رآني استحى مني، قعدت بين يديه فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسم ضاحكا، ثم أذن لي في الانصراف، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إلي الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيت بابه مغلق، ففتحه، وإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منه فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضا عشرون نفسا من العلوية، من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر، حتى

١١١

أتيت على آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمى به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفسا منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمةعليهما‌السلام ؟ فارتعشت يدي وارتعدت فرايصي، فنظر إلي الخادم مغضبا وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضا فقتلته، ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار(1) .

وقيل: إن هذه الواقعة حدثت في زمان المنصور، ولعلها تكررت، ولذا قال الصدوق: للمنصور مثل هذه الفعلة في ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وعلى أي تقدير فإنها إحدى الشواهد على ما نقول.

وبعد: فإذا كان هكذا حال العلويين، فهل يبقى لأحدهم مجال للاقتران بواحدة من بنات الإمامعليه‌السلام ويستقر في حياة زوجية هانئة، وهو يعلم أن حياته في خطر؟!

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 108 - 111.

(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 111.

١١٢

إن ما ذكرته بعض المصادر(1) من أن عدم تزويج الإمامعليه‌السلام بناته إنما هو لعدم وجود الكفؤ لم يكن على خلاف الواقع، فإن ما حل بأهل البيتعليهم‌السلام من الكوارث وحملات الإبادة قد أفنتهم ولم تدع منهم إلا القليل.

وربما يقال: إذا كان هذا حال العلويين ففي رجالات الشيعة من توفرت فيه سائر الشرائط، فلم لم يزوج الإمام الكاظمعليه‌السلام بناته من الشيعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الزوج علويا ما دامت الكفاءة من الإيمان والخلق في غير العلوي متحققة؟

ونقول: إننا قد ذكرنا أن هناك أمرا آخر نعتبره مكملا للأمر الأول وهو الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام ، فلم يكن الشيعة آمنين على أرواحهم، وقد بلغهم أن هارون الرشيد قد أقسم على أن يقتل الشيعة كما أقسم على إبادة العلويين.

وقد عانى الشيعة من الشدائد ما لا يخفى، وكانوا يعيشون التقية في أمورهم كما أمرهم أئمتهمعليهم‌السلام بذلك، وأصبحت حياتهم آنذاك مهددة بالأخطار، وكان الحكام لهم بالمرصاد.

ومما يدل على ذلك ما ورد في أحوال محمد بن أبي عمير، حيث روي عن الفضل بن شاذان أنه قال: سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن

____________________

(1) تاريخ قم ص 221 ومنتهى الآمال ج 2 ص 280 - 281.

١١٣

يسميهم فامتنع، فجرد وعلق بين القفازين (العقارين) وضرب مائة سوط، قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضرب مائة سوط، أبلغ الضرب الألم إلي فكدت أن أسمي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد ابن أبي عمير أذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقويت بقوله فصبرت ولم أخبر، والحمد لله.

وقال: ضرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله، تولى ضربه السندي بن شاهك على التشيع...(1) ويدل على ذلك أيضا ما جاء في أحوال هشام بن الحكم، فإنه عاش في آخر أيامه مشردا حتى مات من الخوف في قصة طويلة ذكرها علماء الرجال(2) .

وغيرها من القضايا التي كان الشيعة فيها كأئمتهمعليهم‌السلام في المعاناة والخوف.

وإذا كان هذا حال الشيعة فهل ترى أن أحدا منهم يقدم على مصاهرة الإمامعليه‌السلام وقد تربصت العيون بهم الدوائر، والحكام في طلبهم وراء كل حجر ومدر؟

على أنه لم يثبت أن أحدا من العلويين أو من الشيعة تقدم لخطبة إحدى بنات الإمامعليه‌السلام فقوبل بالرفض.

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 15 ص 294 - 295.

(2) معجم رجال الحديث ج 20 ص 301 - 306.

١١٤

هذا ما نرجحه من الأسباب وراء عدم تزويج بنات الإمامعليه‌السلام ، ومنهم السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام .

وهناك احتمالان آخران يختصان بها، وقد يشاركها بعض أخواتها فيهما.

أحدهما: أنها وأباها وأخاها يعلمون أن عمرها قصير، فإن وفاتهاعليها‌السلام كانت سنة 201 هـ فيكون عمرها على أكثر الاحتمالات أقل من ثلاثين عاما، وهو عمر قصير بالقياس إلى الأعمار المتعارفة.

وحيث كانت تعلم بذلك فلم يكن لديها ما يرغبها في الزواج.

وثانيهما: أنها لما كانت تشاهد ما يجري على أهل بيتها وبني عمومتها من حكام بني العباس من القتل والسجن والتشريد، وما يلاقيه أبوها وأخوها من الإيذاء عزفت نفسها عن الزواج، ومن الطبيعي أن في عدم الاطمئنان في الحياة صارفا قويا عن الزواج.

هذا ولعل هناك سببا أو أسبابا أخرى وراء ذلك لم ندركها، وكما ذكرنا أن الأمر شأن خاص قد أريد إخفاء سره عن الناس.

المآسي والآلام:

إن من أقسى ما مر على أهل البيتعليهم‌السلام في تاريخهم الحافل بالمآسي والآلام أن الأيدي الآثمة قد تجاوزت الحد في خصومتها وعدوانها عليهم، فامتدت لتهتك حرماتهم، وتكشف أستارهم،

١١٥

وتعتدي على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهير.

وليس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع مما جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحي، وإذا كان المتآمرون في السقيفة قد وضعوا الأساس حيث استطالت أيديهم فضربوا الزهراءعليها‌السلام ، وهي بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووكزوها بالسيف وأسقطوا حملها في وحشية عدم فيها الضمير، وإذا كان الأمويون قد ساقوا بنات الزهراء أسارى بعد السلب والنهب، فإن بني العباس جاؤوا ليكملوا ما تبقى من حلقات هذا المسلسل، بل زادوا على أولئك في التعدي والعدوان، فقد مر علينا أن أسرى واقعة فخ لما جئ بهم إلى الهادي العباسي وأدخلوا عليه وهم مقيدون بالحبال والسلاسل ووضعوا أيديهم وأرجلهم في الحديد أمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا بباب الجسر ببغداد(1) .

وقد اعترف المأمون بأن بني العباس فاقوا بني أمية في عدوانهم وظلمهم للعلويين، فقال: فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.

ويحكم إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت؟

ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء(2) ....

____________________

(1) تاريخ الطبري ج 8 ص 198 - 200 والكامل في التاريخ ج 6 ص 93.

(2) الطرائف ج 1 ص 278.

١١٦

وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا مما لاقاه العلويون من بني العباس، والغرض في المقام أن نذكر شيئا مما لاقاه العلويات، ونكتفي بما يرتبط بالسيدة المعصومةعليها‌السلام وما نالها من عدوان بني العباس.

اتفق الرواة على أن محمد بن جعفر خرج في زمان الرشيد أو المأمون، وأعلن الدعوة إلى نفسه، - وقد حذره الإمام الرضاعليه‌السلام من مغبة ذلك وأخبره بأنه أمر لا يتم وأن حركته فاشلة -، فأرسل العباسيون جيشا بقيادة عيسى بن يزيد الجلودي وأمروه إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضاعليه‌السلام (و) هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسنعليه‌السلام : لا بد من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضاعليه‌السلام : أنا أسلبهن لك، وأحلف أني لا أدع عليهن شيئا إلا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضاعليه‌السلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير(1) .

ترى ما حال تلك النسوة آنذاك؟! وما حال الإمام علي بن موسى

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 161.

١١٧

الرضاعليهما‌السلام وهو يرى بنات الرسالة وقد سلبن كل شئ؟

وهل تظن أن الجلودي اكتفى بالهجوم على بيت الإمام الرضاعليه‌السلام دون بقية دور آل أبي طالب؟

والذي ذكرته الروايات أن الجلودي أمر بالغارة على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، والجلودي كان خادما مخلصا لبني العباس، ولا أظن أنه اكتفى بذلك، بل هجم على بقية الدور، وربما سلب النساء بنفسه، وإن لم تفصح الروايات عن ذلك.

والذي يؤيد ما ذكرنا ما جاء في نفس هذه الرواية، من أنه لما أدخل الجلودي على المأمون، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام حاضرا وأراد الإمام أن يشفع فيه، فقالعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ، فقال المأمون: يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعل من سلبهن(1) .

فإن فيه إشعاراً بذلك.

وإذا كانت الخصومة بين الرجال فما بال النسوة؟ وما هي جنايتهن ليفعل بهن ذلك؟ وهن بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وودائع النبوة!!!

وإذا لم يكن الدين رادعا ولا الضمير وازعا فلا أقل أن النسب يكون صارفا فإن لهن رحما قريبة بأولئك المتسلطين ولكن...

وعلى أي حال فقد نال السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من الخوف

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 161.

١١٨

والترويع والظلم ما جعل أيام حياتها القصيرة تمتزج بالآلام والأحزان والمآسي.

لوعة الوداع:

قد يتوهم البعض بأن الإمام الرضاعليه‌السلام عاش حياة مستقرة آمنة، ولا سيما أنه أمضى السنوات الأخيرة من عمره في البلاط العباسي، فكان في مأمن من ملاحقة السلطة، بل في موقع الزعامة حيث بويع بولاية العهد، فكان الرجل الثاني في دولة واسعة مترامية الأطراف، ولم يكن هناك ما يخشاه.

ولكن الحقيقة أمر آخر غير هذا الظاهر، فإن أقسى السنوات التي مرت عليه هي السنوات الأخيرة من عمره، وعاش في حصار قد فرض عليه لم يستطع الخلاص منه، حتى قيل إن الإمام الرضاعليه‌السلام كان أكثر الأئمةعليهم‌السلام عملا بالتقية، لشدة ما عاناه من سلطة بني العباس.

وتؤكد الدلائل والشواهد التاريخية على أن السياسة العباسية جعلت من الإمام وسيلة لتحقيق أهدافها، حتى إذا بلغت ما أرادته نكبت به، كما نكبت بآبائه من قبله، وبأبنائه من بعده.

إن ما فعله هارون الرشيد وأسلافه من قبله بالعلويين من القهر والبطش والإبادة والتشريد، وما تمخض عن ذلك من الثورات العلوية في أطراف البلاد، ومن النقمة العامة على الحكم العباسي حتى قال

١١٩

أحد الشعراء:

يا ليت ظلم بني مروان دام لنا

وكان عدل بني العباس في النار

كما أن الصراع الدامي بين المأمون وأخيه الأمين الذي أسفر عن مقتل الأخير، وانتقال إدارة الحكم من بغداد العاصمة العباسية إلى منطقة أخرى، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب في إدارة شؤون الحكم، الذي أثار نقمة العباسيين وغضبهم عليه، مضافا إلى شعوره بالنقص لكونه ابن أمة فارسية وغير ذلك من الأمور(1) .

جعلت من المأمون ابن الرشيد - وكان ذا نباهة وفطنة وحنكة ودهاء - أن يتنبه ويتخذ سياسة جديدة تخالف في ظاهرها سياسة سلفه، يخمد بها غضب الناقمين، ويحتوي تلك الحركات المناوئة، ويحقق لحكومته استقرارا سياسيا، ويضمن لسلطته قوة تحميه من العباسيين، فيما لو فكروا في مناهضته كما يحقق أغراضا أخرى، ليتمتع بسلطة لا يشعر معها باضطراب، كما كان آباؤه يشعرون بذلك.

وكان الموقف يتطلب منه جرأة في اتخاذ القرار، وحزما في تنفيذه، ومضيا في عزمه.

وأول إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخيه الأمين أنه أظهر ميله للعلويين، وكانت هذه البادرة غريبة لم تعهد من حاكم عباسي، الأمر الذي أثار التوجس عند سائر بني العباس، ودفعهم إلى الاعتراض بل

____________________

(1) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص 149.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343