تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد3%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105755 / تحميل: 10797
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تلخيص التمهيد

تأليف:

محمّد هادي معرفة

الجزء الثّاني

مؤسّسة النّشر الإسلامي

التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة

١

تلخيص التمهيد

(ج٢)

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والسلام على عباده الذين المصطفى محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فإنّ مسألة (الإعجاز القرآني) كانت ولا تزال تُشكّل الأهمّ من مسائل أصول العقيدة التي بُنيت عليها رواسيها ودارت عليها رحى الإسلام، فكان جديراً بمَن حاول التحقيق من مباني الشريعة، والبحث عن أُسسها الأُولى القويمة، أن يدرس من جوانب المسألة ويُمعن النظر فيها إمعاناً، بعد أن لم تكن المسألة تقليدية ولا تُغني المتابعة العمياء من غير معرفة أو علم يقين.

أمّا عرب الجاهلية الأُولى فقد كانت تُدرك جانب هذا الإعجاز البيانيّ، بحسّها البدائيّ المرهف وذوقها الفطريّ السليم في سهولة ويسر؛ إذ كان القرآن نزل بلغتهم وعلى أساليب كلامهم، سِوى كونه في مرتبة عُليا وعلى درجة أرقى، كانوا يُدركونه فهماً ولا يكاد يبلغونه في مِثله أداءً وتعبيراً.

كان عصر نزول القرآن أزهى عصور البيان العربي، وقد بلغت العرب من العناية بلغتها والإشادة بمبانيها، مَبلغ الكمال بما لم تبلغه في أيّ عصر من العصور.

كانت لهم أندية وأسواق (١) يجتمع إليها فصحاؤهم، خطباءً وشعراءً، يعرضون

____________________

(١) كانت على مقربة الطائف سوق تجتمع إليها العرب في الأشهر الحرم - حيث الأمان المؤقّت - فينصبون خيامهم بين نخيله في مكان يُسمى (عكاظ) وكانت العرب تقصدها في طريقها إلى الحجّ، فيجتمعون منه في مكان يقال له (الابتداء) وقد اتخذتها العرق سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، أي قبل مبعث النبي (صلّى الله عليه وآله) بخمس وعشرين عاماً (سنة ٥٤٠ =

٣

فيها أَنفس بضائعهم وأجود صنائعهم، أَلا وهي بضاعة الكلام وصناعة الشعر والبيان، كانوا يتبارون فيها، وينقدون ويتفاخرون، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس.

حتى إذا ظهرت فيهم الدعوة ونزل القرآن فما أن تُليت عليهم آياته إلاّ والأسواق قد تعطّلت والأندية قد انفضّت، وقد خَلت الديار إلاّ من رنّة صوت القرآن، وقد زحفهم ببراعته وهزمهم بصولته، فلم يستطيعوا مباراته ولم يقدروا على مجاراته، ففضّلوا الفِرار على القَرار، واستغشوا على رؤوسهم ثوب العار، ذلك على أنّه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، ولم يُمانعهم التنافس فيه، صارخاً ومتحدّياً لهم أفراداً وجماعات، لو يأتوا بحديث مِثله!

وقد عرض عليهم هذا التحدّي الصارخ في جُرأة خارقة وصراحة بالغة، مُكرّراً عليهم ومتهكّماً بهم، أنّهم أعجز من أن تقوم قائمتهم تجاه صوت القرآن المدوّي المدهش، وقد تنازل معهم إلى الأخفّ فالأخفّ؛ تبييناً لموقف عجزهم

____________________

= للميلاد) وكانت وفود العرب تتوافد إليها من كل صوب، وزادت قريش بواعث الاجتماع إليها أنّهم جعلوها مَسرحاً للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل لإظهار نوابغها من شعراء وخطباء، فيتناشدون ويتفاخرون وكانوا يعرضون فيها نُخَب قصائدهم على نَقَدة القريض والكلام، ويكون لذلك احتفال حاشد يشهده جماهير العرب، فتشيع قصائدهم ويترنّم بها الرُكبان في كلّ صقع. وبقيت سوق عكاظ بعد الإسلام مَعرضاً يتبادل فيه السلع، حتّى نهبها الخوارج الحروريّة حين خرجوا بمكّة مع المختار بن عوف سنة (١٢٩ هـ).

وكانت لهم أسواق أُخر تبلغ العشرة كانت تُقام في فواصل معيّنة من السنة في أمكنة متعدّدة، وكانت تحت خفارات مُنتظمة في حمايات معيّنة، ذَكر تفصيلها اليعقوبي في تاريخه: ج١، ص٢٣٩.

وكانت لهم أيضاً مجالس يجتمعون فيها لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والبحث عن بعض شؤونهم العامة، وكانوا يسمّون تلك المجالس بـ (الأندية) ومنها نادي قريش ودار الندوة بجوار الكعبة، وكان لكلّ بيت من بيوت الأشراف فِناء بين يديه للاجتماع، ولكلّ قوم مجتمع عامّ في المضارب، على أنّهم كانوا حيثما اجتمعوا تناشدوا وتفاخروا وتبادلوا سلع الكلام وصناعات القريض والبيان، (انظر تاريخ الآداب العربية: ج١، ص١٩٥، وتاريخ التمدّن الإسلامي: ج١، ص٣٧ كلاهما لجرجي زيدان، ودائرة المعارف لفريد وجدي: ج٦، ص٥٣٥.

٤

وضعف مقدرتهم:

أوّلاً: ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ) (١) ، ثانياً ( فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ ) (٢) ، ثالثاً : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) (٣) ، وأخيراً أَجهز عليهم بحُكمه الباتّ: ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (٤) فقد أَنذرهم بالنار وساوى بينهم وبين الأحجار.

هذا، ولم يكن العرب يومذاك أهل كَسل ومَلل في الكلام والخِصام، وقد تربّوا في أحضان الخصومة وكانوا أهل لَدَد وجَدل، كما وصفهم تعالى: ( وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ) (٥) ، وقال: ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) (٦) ، فلو كانت فيهم قدرة على المعارضة أو لسان لم يخرسه العجز والعيّ لَما صَمتوا على ذل العار أو سكتوا على شَنار الصَغار، وقد أصاب منهم موضع عزّهم ومحلّ فَخارهم، وهزمهم بذات سلاحهم، ولم تكن الهزيمة الشنعاء إلاّ؛ لأنّهم وجدوا من أنفسهم ضآلة وحقارة، تجاه عظمة القرآن وهيمنته وكبريائه، ( فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) (٧) (٨) .

هذا الوليد بن المغيرة المخزومي - كبير قريش ورائدهم وقائدهم - استأمروه

____________________

(١) الطور: ٣٤.

(٢) هود: ١٣.

(٣) يونس: ٣٨.

(٤) البقرة: ٢٤.

(٥) مريم: ٩٧.

(٦) الزخرف: ٥٨.

(٧) الكهف: ٩٧.

(٨) إنّهم حاولوا معارضته ومقابلة فصيح كلامه، غير أنّ الحظّ لم يساعدهم ولم يرافقهم التوفيق، فقد أعوزتهم الكفاءة وتقاعست عنه هِمَمهم لمّا رأوا شموخ طوده الرفيع، قال ابن رشيق في العمدة: ج١، ص٢١١، ولمّا أرادت قريش معارضة القرآن فصحاؤهم الذين تعاطوا ذلك، على لُباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الظأن والخلوة والى أن بلغوا مجهودهم، فلمّا سمعوا قول الله عزّ وجلّ: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) هود: ٤٤، يئسوا ممّا طَمعوا فيه، وعَلموا أنّه ليس بكلام مخلوق، (وراجع مجمع البيان: ج٥، ص١٤٥).

٥

بشأن هذا الكلام الذي جاء به نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله)، فلم يستطع سِوى الاعتراف بأنّه فوق مقدور البشر: فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون، وإنّ قوله من كلام الله... (١) ، وهو القائل: ووالله إنّ لقوله الذي يقول لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنّه لمَثمر أعلاه، مُغدق أسفله، وإنّه ليعلو وما يُعلى (٢) ، وهذا إنذار من رأس الكفر بأنّ الغَلَب سوف يكون مع القرآن.

وقد حاولوا الممانعة دون صيته والحؤول دون شياعه، وقالوا: ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (٣) . وكانوا يستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم خشية سماعه، أو يَحشون مسامع الوفود بالخُرق والكراسف؛ لئلاّ يستمعوا الى حديثه، لماذا؟ إنّهم أدركوا هيمنته ولمسوا من واقعه الناصع، فهابوه وخافوا سطوته، فقد أعجزتهم مقابلته بالكلام وألجأتهم أخيراً إلى ركوب الصعب من مطايا الحتوف بمقارنة الأسنّة والسيوف، لكن ( وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (٤) .

والآية الأغرب، والمعجزة الأعجب، ذلك حُكمه الباتّ على أنهم لن يأتوا بمثله ( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) أبداً، إنّه إعجاز في صراحة وجرأة يفوق سائر الإعجاز، وإخبار عن غيب محتّم، لا يصدر إلاّ عن علاّم الغيوب، ولا يجرأ على النُطق به أحد من البشر مهما أُوتي من علم وقدرة وهيمنة.

بل وحِكمة العامّ الشامل لكافّة طبقات الأُمم عِبر الخلود، لا يستطيعون جميعاً أن يأتوا بمثله ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٥) .

وهذا رَكب البشريّة - وفيهم الجُفاة والعتاة ممّن مارسوا لغة الضاد - قد اُخرِسوا جميعاً عن معارضته وإمكان مقابلته، وليس عن رحمة ولين عريكة،

____________________

(١) تفسير الطبري: ج٢٩، ص٩٨.

(٢) مستدرك الحاكم: ج٢، ص٥٠.

(٣) فصّلت: ٢٦.

(٤) يونس: ٨٢.

(٥) الإسراء: ٨٨.

٦

وإنّما هو عجز وعيّ وضَعف، صار دليلاً على إعجازه وبرهاناً عن خلوده.

وقد بحث العلماء قديماً وفي العصر القريب، عن سرّ هذا الإعجاز وعن سبب خلوده، وحاولوا قُصارى جهدهم لكشف النقاب عن وجهه ولمس أعتابه، فكانت أبحاثاً جَللاً وآراءً ونظرات قيّمة، سجّلتها صحائف التاريخ في سطور مضيئة وكلمات مشرقة، كان تراثنا الثمين في هذا المضمار ورصيدنا الوفير في هذا العرض، أحسن الله جزاءهم، ونحن إذ نسير على منهجهم لا نألو جُهداً في سَبر أغواره والتحقيق من مبانيه، جَرياً مع التطوّر في الأفكار والأنظار، عساه أن يكون خدمةً صالحةً لمباني الدين القويم والترويج من شريعة سيّد المرسلين، عليه وعلى آله الأطيبين صلوات ربّ العالمين.

قم

محمّد هادي معرفة

غرة ربيع الأغر ١٤٠٨هـ

٧

٨

المدخل

إلى دراسة الإعجاز القرآني

تمهيدات أصولية

قبل الورود على دلائل الإعجاز

- الإعجاز القرآني.

- سرّ الإعجاز.

- آراء ونظرات عن إعجاز القرآن.

الإعجاز في دراسات السابقين.

الإعجاز في دراسات اللاحقين.

- حقيقة القول بالصرفة.

- شهادات وإفادات.

- جذبات وجذوات.

- قرعات وقمعات.

- محاججات ومخاصمات.

- مفاخرات ومساجلات.

- سخافات وخرافات.

- محاكاة وتقاليد صبيانية.

- مصطنعات وتلفيقات هزيلة.

- مقارنة عابرة.

٩

١٠

الإعجاز القرآني

الإعجاز في مفهومه:

الإعجاز: مصدر مزيد فيه من (عجز) إذا لم يستطع أمراً، ضدّ (قدر) إذا تمكّن منه، يقال: أَعجزه الأمر، إذا حاول القيام به فلم تسعه قدرته، وأعجزتُ فلاناً: إذا وجدته عاجزاً أو جعلته عاجزاً.

والمُعجزة - في مصطلحهم - تُطلق على كلّ أمر خارق للعادة، إذا قُرن بالتحدّي وسلم عن المعارضة، يُظهره الله على يد أنبيائه؛ ليكون دليلاً على صدق رسالتهم (١) .

____________________

(١) الإعجاز ضرورة دفاعية قبل أن تكون ضرورة دعائية، إنّ رسالة الأنبياء على وضح من الحقّ الصريح، ولا حاجة إلى إقامة برهان ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) ، ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) ، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ) ، ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) ، ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا ) ، نعم، ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) ، ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) ، ومِن ثَمّ وقفوا في سبيل الدعوة إمّا معارضةً بالوساوس والدسائس وعرقلة الطريق فدعت الضرورة إلى الدليل المعجز استيقاناً ودفعاً للشبهة، أو مكافحةً بالسيف فدعت الحاجة إلى القتال والجهاد.

١١

وهي تتنوّع حسب تنوّع الأُمَم المرسل إليهم في المواهب والمعطيات، فتتناسب مع مستوى رقيّهم في مدارج الكمال، فمِن غليظ شديد إلى رقيق مرهف، ومن قريب مشهود إلى دقيق بعيد الآفاق، وهكذا كلّما تقادمت الأُمم في الثقافة والحضارة فإنّ المعاجز المعروضة عليهم من قِبَل الأنبياء (عليهم السلام) ترقّ وتلطف، وكانت آخر المعاجز رقّةً ولطفاً هي أرقاها نمطاً وأعلاها أُسلوباً، أَلا وهي معجزة الإسلام الخالدة، عُرضت على البشرية جمعاء مع الأبد، مهما ارتقت وتصاعدت في آفاق الكمال، الأمر الذي يتناسب مع خلود شريعة الإسلام.

ولقد صَعُب على العرب - يومذاك وهم على البداوة الأُولى - تحمّل عبء القرآن الثقيل، فلم يطيقوه؛ ومِن ثَمّ تمنّوا لو يبدّل إلى قرآن غير هذا، ومعجزة أُخرى لا تكون من قبيل الكلام: ( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) (١) ، إنّها لم تكن معجزةً للعرب فقط، وإنّما هي معجزة للبشرية عِبر الخلود، لكن أنّى لأُمّة جهلاء أن تلمس تلك الحقيقة وأن تُدرك تلك الواقعيّة سوى أنّها اقترحت عن سفه: أن يُفجّر لهم من الأرض ينبوعاً، أو تكون له جَنّة من نخيل وعنب ويُفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، أو يسقط السماء عليهم كِسفاً، أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، ولا يؤمنوا لرقيّه حتى ينزل عليهم كتاباً يقرأونه.

وقد عجب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مقترحهم ذلك التافه الساقط، ممّا يتناسب ومستواهم الجاهلي، ومِن ثَمّ رفض اقتراحهم ذاك ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (٢) . أي ليس هذا من شأنكم وإنّما هي حكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير.

قال الراغب الأصفهاني: المعجزات التي أتى بها الأنبياء (عليهم السلام) ضربان: حسّي

____________________

(١) يونس: ١٥.

(٢) الإسراء: ٩٣.

١٢

وعقلي.

فالحسّي ما يُدرك بالبصر، كناقة صالح، وطوفان نوح، ونار إبراهيم، وعصا موسى (عليهم السلام).

والعقلي: ما يُدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلّم.

فأمّا الحسّي: فيشترك في إدراكه العامّة والخاصة، وهو أَوقع عند طبقات العامّة، وآخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلاّ أنّه لا يَكاد يُفرِّق بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين ما يكون كَهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتفاقياً، أو مواطأة، أو احتيالاً هندسياً، أو تمويهاً وافتعالاً، إلاّ ذو سعة في العلوم التي يعرف بها هذه الأشياء.

وأَمّا العقلي: فيختص بإدراكه كَمَلَةُ الخواص من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، والرويّة المتناهية، الذين يُغنيهم إدراك الحق.

وجعل تعالى أكثر معجزات بني إسرائيل حسّياً؛ لبَلادتهم وقلّة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأُمّة عقلياً؛ لذكائهم وكمال أفهامهم التي صاروا بها كالأنبياء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (كادت أُمتي أن تكون أنبياء) (١) .

ولأنّ هذه الشريعة لمّا كانت باقيةً على وجه الدهر غير معرّضة للنسخ وكانت العقليات باقية غير مُتبدّلة جعل أكثر معجزاتها مثلها باقية، وما أتى به النبي (صلّى الله عليه وآله) من معجزاته الحسّية، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجيء الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاها أصحاب الحديث.

وأمّا العقليات: فمَن تفكّر فيما أورده (عليه السلام) من الحِكم التي قَصُرت عن بعضها أفهام حكماء الأُمَم بأَوجز عبارة اطّلع على أشياء عجيبة.

____________________

(١) مسند أحمد: ج١، ص ٢٩٦.

١٣

وممّا خصه الله تعالى به من المعجزات (القرآن) وهو آية حسّية عقلية صامتة ناطقة باقية على الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) (١) ودعاهم ليلاً ونهاراً مع كونهم أُولي بَسطة في البيان إلى معارضته، بنحو قوله: ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ ) (٢) وفي موضع آخر: ( وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) وقال: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٤) .

فجعل عجزهم علماً للرسالة، فلو قدروا ما أقصروا، إذ قد بذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين أمره، فلمّا رأيناهم تارةً يقولون: ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) (٥) وتارةً يقولون ( لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ) (٦) ، وتارة يصفونه بأنّه ( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) (٧) وتارةً يقولون ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) (٨) وتارةً يقولون: ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) (٩) كلّ ذلك عجزاً عن الإتيان بمثله، عَلِمنا قصورهم عنه، ومحال أن يُقال: إنه عورض فلم يُنقل، فالنفوس مهتزّة لنقل ما دقّ وجلّ، وقد رأينا كتباً كثيرة صُنّفت في الطعن على الإسلام قد نُقلت وتُدوِّلت (١٠) .

* * *

____________________

(١) العنكبوت: ٥٠ و٥١.

(٢) البقرة: ٢٣.

(٣) يونس: ٣٨.

(٤) الإسراء: ٨٨.

(٥) فصّلت: ٢٦.

(٦) الأنفال: ٣١.

(٧) النحل: ٢٤.

(٨) الفرقان: ٣٢.

(٩) يونس: ١٥.

(١٠) عن مقدّمته على التفسير: ص١٠٢ - ١٠٤.

١٤

ويمتاز القرآن على سائر المعاجز بأنّه يضمّ - إلى جانب كونه معجزاً - جانب كونه كتاب تشريع، فقد قُرن بإعجاز ووُحدّ بينهما، فكانت دعوة يرافقها شهادة من ذاتها، دلّ على ذاته بذاته.

قال العلاّمة ابن خلدون: اعلم أنّ أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالةً القرآن الكريم المُنزل على نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقّاه النبيّ ويأتي بالمعجزة شاهدةً بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدّعي، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة؛ لاتّحاد الدليل والمدلول فيه.

قال: وهذا معنى قوله (صلّى الله عليه وآله): (ما مَن نبيّ من الأنبياء إلاّ وأُوتي من الآيات ما مِثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أُوتيته وحياً أُوحي إليّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) يُشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوّة الدلالة - وهو كونها نفس الوحي - كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدّق المؤمن وهو التابع والأُمّة (١) .

التحدّي في خطوات:

لقد تحدّى القرآن عامّة العرب، مذ نشأ بين ظهرانيهم، وهم لمسوه بأناملهم فوجدوه صعباً على سهولته وممتنعاً على يُسره، فحاولوا معارضته ولكن لا بالكلام لعجزهم عنه، بل بمقارنة السيوف وبذل الأموال والنفوس، دليلاً على فشلهم عن مقابلته بالبيان.

وربّما كانوا بادئ ذي بدء استقلّوا مِن شأنه، حيث قالوا: ( لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) (٢) . وقالوا: ( إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) (٣) . وقالوا:

____________________

(١) المقدّمة السادسة: ص٩٥.

(٢) الأنفال: ٣١.

(٣) المدّثر: ٢٥.

١٥

( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (١) ، وقالوا: ( مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) (٢) ، إلى أمثالها من تعابير تنم عن سخف أوهامهم.

لكن سُرعان ما تراجعت العرب على أعقابها، فانقلبوا صاغرين، وقد ملكتهم روعة هذا الكلام وطغت عليهم سطوته، متهكّماً بموقفهم هذا الفاشل، ومتحدّياً في مواضع: ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) (٣) ، وحدّد لهم لو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ ) (٤) .

وتصاغراً من شأنهم تنازل أن لو استطاعوا أن يأتوا بسورة واحدة من مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٥) .

وأخيراً حكم عليهم حكمه الباتّ ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ) (٦) أن ليس باستطاعتهم ذلك مهما حاولوه وأعدّوا له من حولٍ وقوّةٍ؛ لأنّه كلام يفوق كلام البشر كافّة.

والآن وقد حان إعلان التحّدي بصورته العامّة، متوجّهاً به إلى البشرية جمعاء، تحديّاً مستمرّاً عِبر الأجيال: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٧) .

* * *

____________________

(١) النّحل: ١٠٣.

(٢) الأنعام: ٩١.

(٣) الطور: ٣٣ و٣٤.

(٤) هود: ١٣ و١٤.

(٥) يونس: ٣٨ و٣٩.

(٦) البقرة: ٢٤.

(٧) الإسراء: ٨٨.

١٦

وهل وقع التحدّي بجميع وجوه الإعجاز، أم كان يخصّ جانب فصاحته وبلاغته وبديع نَظمه وعجيب أُسلوبه فحسب؟

ولعلّه يختلف حسب اختلاف الخطاب، فحيث كان التحدّي متوجّهاً إلى العرب خاصّة، ولا سيّما ذلك العهد الذي كان مهنة العرب فيه خاصّة بجانب البيان وطلاقة اللسان، فلا جَرم كان التحدّي حينذاك أيضاً خاصّاً بهذا الجانب في ظاهر الخطاب.

أمّا وبعد أن توجّه النداء العامّ إلى كافة البشرية على الإطلاق فإنّه لابدّ أن يقع التحدّي بمجموعة وجوه الإعجاز من حيث المجموع، حيث اختلاف الاستعدادات والقابليّات، والقرآن معجزة الإسلام لجميع الأدوار وعامّة الأجيال ولمختلف طبقات الناس، في الفنون والمعارف، والعلوم والثقافات.

التحدّي في شموله:

وهذا التحدّي في عمومه يشمل كلّ الأُمم وكلّ أدوار التاريخ، سواء العرب وغيرهم، وسواء مَن كان في عهد الرسالة أم في عهود متأخّرة حتى الأبد، اللفظ عامّ والخطاب شامل (١) ؛ ولأنّ التحدّي لم يكن في تعبيره اللفظي فقط ليخصّ لغة العرب، وإنّما هو بمجموعه من كيفيّة الأداء والبيان والمحتوي جميعاً، كما أنّه لم يخصّ جانب فصاحته فحسب، ليكون مقصوراً على العهد الأَوّل، حيث العرب في ازدهار الفصاحة والأدب، على أنّ الفصاحة والبلاغة لم تختصّ بلغة دون أُخرى ولا بأُمّة دون غيرها.

لكن هناك من حاول اختصاص التحدّي بالعهد الأَوّل وإن كان الإعجاز باقياً

____________________

(١) وبتعبير اصطلاحي أصولي أنّ هذا الخطاب يضمّ إلى جانب عمومه الأفرادي إطلاقاً أحوالياً وإطلاقاً زمانياً معاً، إذاً فللخطاب شمول من النواحي الثلاث: الأفراد الموجودين والأقوام الذين يأتون من بعد وأيّاً كانت حالتهم وعلى أيّ صفةٍ كانوا.

١٧

مع الخلود زعماً بأنّ عجز ذلك الدور يكفي دليلاً على كونه مُعجزاً أبداً، هكذا زعمت الكاتبة بنت الشاطئ قالت: مناط التحدّي هو عجز بُلغاء العرب في عصر المبعث، وأمّا حجّة إعجازه فلا تخصّ عصراً دون عصر، وتعمّ العرب والعجم، وكان عجز البُلغاء من العصر الأَوّل، وهم أصل الفصاحة برهاناً فاصلاً في قضية التحدّي... (١) .

قلت: ولعلّها في ذهابها هذا المذهب خَشيت أن لو قلنا بأنّ التحدّي قائم ولا يزال، أن سوف ينبري نائرة الكفر والإلحاد، مِمَّن لا يقلّ عددهم في الناطقين بالضاد، فيأتي بحديث مِثله، وبذلك ينقض أكبر دعامة من دعائم الإسلام!

لكنّها فلتطمئن أنّ هذا لن يقع ولن يكون؛ لأنّ القرآن وُضع على أُسلوب لا يدانيه كلام بشر البتة، ولن يتمكن أحد أن يجاريه لا تعبيراً وأداءً ولا سبكاً وأُسلوباً، مادام الإعجاز قائماً بمجموعة اللفظ والمعنى، رِفعةً وشموخاً في المحتوى، وجمالاً وبهاءً في اللفظ والتعبير، فأيّ متكلم أو ناطق يمكنه الإتيان بهكذا مطالب رفيعة، لم تسبق لها سابقة في البشرية وفي هكذا قالب جميل! اللّهمّ إلاّ أن يفضح نفسه.

وفي التاريخ عِبَرٌ تؤثر عن أُناس حاولوا معارضة القرآن، لكنّهم أَتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضَربٍ من السخف والتفاهة، بادٍ عاره، باقٍ وشناره، فمَن حدّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة فلينظر في تلك العبر، ومَن لم يستحِ فليصنع ما شاء.

وتلك شهادات من أهل صناعة الأدب، اعترفوا - عِبر العصور - بأنّ القرآن فذّ في أُسلوبه لا يمكن لأحد من الناس أن يقاربه فضلاً عن أن يماثله.

قال الدكتور عبد الله دراز: مَن كانت عنده شبهة، زاعماً أنّ في الناس مَن يقدر

____________________

(١) الإعجاز البياني: ص٦٥ - ٦٨.

١٨

على الإتيان بمِثله، فليرجع إلى أُدباء عصره، وليسألهم: هل يقدر أحد منهم على أن يأتي بمِثله؟ فإن قالوا: نعم، لو نشاء لقلنا مثل هذا، فليقل لهم: هاتوا برهانكم. وإن قالوا: لا طاقة لنا به، فليقل لهم: أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز، ثُمّ ليرجع إلى التاريخ فليسأله ما بال القرون الأُولى؟ يُنبئك؟ التاريخ أنّ أحداً لم يرفع رأسه أمام القرآن الكريم، وأنّ بضعة النفر الذين انغضوا رؤوسهم إليه باؤوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان (١) .

التحدّي بفضيلة الكلام:

قد يقول قائل: إنّ صناعة البيان ليست في الناس بدرجة واحدة وهي تختلف حسب اختلاف القرائح والمعطيات، ولكلّ إنسان مواهبه ومعطياته، وكلّ متكلّم أو كاتب إنّما يضع في بيانه قطعة من عقله ومواهبه، ومِن ثَمّ يختلف الناس في طرق التعبير والأداء، ولا يمكن أن يَتشابه اثنان في منطقهما وفي تعبيرهما، اللّهمّ إلاّ إذا كان عن تقليد باهت.

إذاً فكيف جاز تحدّي الناس لو يأتوا بحديث في مثل القرآن، وهم عاجزون أنْ يأتوا بمِثل كلام بعضهم؟!

لكن غير خفي أنّ لشرف الكلام وضِعته مقاييس، بها يُعرف ارتفاع شأن الكلام وانحطاطه وقد فصّلها علماء البيان، وبها تتفاوت درجات الكلام ويقع بها التفاضل بين أنحائه من رفيع أو وضيع، نعم، وإن كانت القرائح والمعطيات هي المادّة الأُولى لهذا التفاوت، ولا نماري أن يكون كلام كلّ متكلّم هي وليدة فطرته وحصيلة مواهبه ومعطياته، بحيث لا يمكن مشاركة أيّ أحد فيما تُمليه عليه ذهنيّته الخاصّة، لكن ذلك لا يُوهن حجّتنا في التحدّي بالقرآن، لأنّا لا نطالبهم أن يأتوا بمِثل صورته الكلامية، كلاّ، وإنّما نطلب كلاماً - أيّاً كان نمطه وأُسلوبه -

____________________

(١) النبأ العظيم: ص٧٥.

١٩

بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانيّة حاذاه أو قاربه، على شاكلة ما يُقاس كلمات البلغاء مع بعض، وهذا هو القدر الذي تنافس فيه الأُدباء، ويتماثلون أو يتقاربون، لا شيء سواه.

وقد أشار السكّاكي إلى طرف من تلك المقاييس التي هي المعيار لارتفاع شأن الكلام وانحطاطه، قال - بعد أن ذكر أنّ مقامات الكلام متفاوتة، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام، ولكلّ حدّ ينتهي إليه كلام مقام -: وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلك بحسب مصادفة الكلام لما يليق به.

قال: فحُسن الكلام تحلّيه بشيءٍ من هذه المناسبات والاعتبارات بحسب المقتضى، ضعفاً وقوّةً على وجه من الوجوه (التي يفصّلها في فنّي المعاني والبيان).

ويقول بعد ذلك: وإذ قد تقرّر أنّ مدار حسن الكلام وقبحه على انطباق تركيبه على مقتضى الحال والاعتبار المناسب وعلى لا انطباقه وجب عليك - أيّها الحريص على ازدياد فضلك، المنتصب لاقتداح زناد عقلك، المتفحّص عن تفاصيل المزايا التي بها يقع التفاضل، وينعقد بين البلغاء في شأنها التسابق والتناضل - أن ترجع إلى فكرك الصائب، وذهنك الثاقب، وخاطرك اليقظان، وانتباهك العجيب الشأن، ناظراً بنور عقلك، وعين بصيرتك، في التصفّح لمقتضيات الأحوال، في إيراد المسند إليه على كيفيات مختلفة، وصور متنافية، حتى يتأتّى بروزه عندك لكلّ منزلة في معرضها، فهو الرِهان الذي يُجرّب به الجياد، والنضال الذي يُعرف به الأيدي الشداد، فتعرف أيّما حال يقتضي كذا... وأيّما حال يقتضي خلافه... إلخ (١) .

وعليه فتزداد قوّة الكلام وصلابته وكذا روعة البيان وصولته كلّما ازدادت العناية بجوانبه اللفظية والمعنوية من الاعتبارات المناسبة، ورعاية مقتضيات الأحوال والأوضاع، وملاحظة مستدعيات المقامات المتفاوتة، على ما فصّله القوم، وقلّ مَن يتوفّق لذلك بالنحو الأَتمّ أو الأفضل، بل الأكثر، مادام الإنسان

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص٨٠ - ٨١ و٨٤.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579