تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد6%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106176 / تحميل: 10833
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

للأعمّ من الحقيقة الذاتية، فيكون استعماله في كلّ من المعنيين من قبيل استعمال اللفظ الموضوع لعام في آحاد مصاديقه المتنوّعة، وهو من الاشتراك المعنوي الذي لا محذور فيه أصلاً.

فلفظ (العين) لم يوضع لمعان متعدّدة في وضعه الابتدائي، وإنّما الموضوع له أَولاً هي الناظرة وكان الباقي فرعاً عليها. قال ابن فارس - في معجم مقاييس اللغة -: العين والياء والنون أصل واحد صحيح يدلّ على عضوٍ به يبصر وينظر، ثُمّ يُشتقّ منه، والأصل في جميعه ما ذكرنا.

قال: وفي المَثل (صنعتُ ذاك عمد عين) إذا تعمّدته، والأصل فيه العين الناظرة، أي أنّه صَنع ذلك بعينِ كلِ مَن رآه. ومن الباب العين الذي تبعثه يتجسّس الخبر، كأنّه شيء ترى به ما يغيب عنك، ومنه العين الجارية النابعة من عيون الماء، وإنما سمّيت عيناً؛ تشبيهاً لها بالعين الناظرة لصفائها ومائها، ويقال: عانت الصخرة، إذا كان بها صدع يخرج منه الماء، ويقال: حَفر فأعين وأعان.

قال: ومن الباب العين للسحاب الآتي من ناحية القبلة (الشمال) وهذا مشبَّه بمشبَّه؛ لأنّه شُبّه بعين الماء التي شُبّهت بعين الإنسان، وعين الشمس أيضاً مُشبَّه بعين الإنسان، ومن الباب أعيان القوم أي أشرافهم، وهم قياس ما ذكرنا، كأنّهم عيونهم التي بها ينظرون.

قال: ومن الباب العين للمال العتيد الحاضر، يقال: هو عين غير دَين أي هو مال حاضر تراه العيون، وعين الشيء نفسه، تقول: خُذ درهمك بعينه (١) ، كأنّه مُعاين مشهود تشهده العيون بلا تبدّل ولا اختلاف.

وأمّا القُرء المشترك بين الطهر والحيض - على ما هو المشتهر بين الفقهاء - فقد أنكره أهل اللغة، قال ابن الأثير: وهو من الأضداد يقع على الطهر وإليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز، وعلى الحيض وإليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق.

____________________

(١) معجم المقاييس: ج ٤ ص ١٩٩ - ٢٠٣.

٢٠١

والأصل فيه الوقت المعلوم، فلذلك وقع على الضدّين؛ لأنّ لكل منهما وقتاً.

قال ابن فارس: القاف والراء والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على جمع واجتماع، من ذلك القرية لاجتماع الناس فيها. ويقولون: قريتُ الماء في المِقراة: جمعته، وذلك الماء المجموع قريّ، والمِقراة: الجفنة؛ لاجتماع الضيف عليها أو لِما جُمع فيها من الطعام.

قال: ومن الباب القَرو، وهو كالمعصرة. والقَرو: حوض ممدود عند الحوض الكبير ترده الإبل، ومن الباب القَرو، وهو كلّ شيء على طريقة واحدة، تقول: رأيت القوم على قرو واحد، ومن الباب القَرَى: الظهر؛ لأنّه مجتمع العظام.

قال: وإذا همز هذا الباب كان هو والأَوّل سواء، ومنه القرءان.

وأمّا أَقرأَتْ المرأة (بمعنى حاضت) فيقال: إنّها من هذا الباب أيضاً، وذكروا أنّها تكون كذا في حال طُهرها، كأنّها جمعتْ دمَها في جوفها فلم تُرخِه، قالوا: والقُرء وقت، يكون للطهر مرّة وللحيض أخرى، قال: وجملة هذه الكلمة مشكلة (١) .

قلت: لعلّه من القَرو بمعنى الاستواء على طريقة واحدة، كما جاء في كلامه، وهو المُعبّر عنه بالعادة المعروفة عند النساء، يَعتورهنّ الطمث كلّ شهر عادة مستقرة، نظير أقراء الشعر بمعنى أوزانه وأطواره، كما جاء في حديث إسلام أبي ذر: لقد وضُعت قوله على أقراء الشِعر فلا يلتئم على لسان أحد (٢) .

ومنه قول الشاعر:

إذا ما السماءُ لم تُغِم ثم أَخلفت

قروءُ الثريّا أنْ يكون لَها قَطرُ

أي مواقع طلوعها وهو وقت رتيب.

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (تَدع الصلاةَ أيّام أقرائها) أيضاً شاهد على هذا المعنى.

نعم قالت عائشة: أو تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار (٣) ، وهي أَول من

____________________

(١) معجم المقاييس: ج ٥ ص ٧٩.

(٢) نهاية ابن الأثير: ج ٤ ص ٣١.

(٣) موطّأ مالك بشرح التنوير: ج ٢ ص ٩٦.

٢٠٢

أبدت هذا الرأي وأغربت، وسار من خلفها لفيف من فقهاء الحجاز، وقد صدرت روايات من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الجوّ السائد، غير أنّ هناك روايات أخرى صدرت بعيدة عن الضغط الحاكم، وفَسّرت الأقراء بثلاث حيض. روى الشيخ بإسناده الصحيح عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (عدّة التي تحيضُ ويستقيمُ حيضُها ثلاثة قروء وهي ثلاث حيض) (١) .

وعليه فلم يثبت اشتراك هذه اللفظة بين الطهر والحيض، كما زعمه أناس!

هذا، وقال حاول الراغب الأصفهاني الجمع بين الأقوال، فزعم أنّ القُرء اسم للدخول في الحيض، قال: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولمّا كان اسماً جامعاً للأمرين - الطهر والحيض - المتعقّب له أُطلق على كلّ واحد منهما... وليس القرء اسماً للطهر مجرّداً ولا للحيض مجرّداً، بدلالة أنّ الطاهر التي لم ترَ أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمرّ بها الدم... وقول أهل اللغة: إنّ القرء من قرأ أي جمع، فإنهم اعتبروا الجمع بين زمن الطهر وزمن الحيض حسبما ذكرت لاجتماع الدم في الرحم (٢) .

ولم يأتِ بشاهد من اللغة على اختياره الغريب، فهو اجتهاد مجرّد، كما هي عادته في غير موضع، والصحيح الذي تدعمه شواهد اللغة هو ما ذكرنا.

لا ترادف مع ملاحظة الفوارق:

قد عرفت الخمسين اسماً للماء كانت تُطلق عليه باعتبار تناوب حالاته، والتي كانت في الحقيقة أوصافاً له باعتبار تلك الحالات عارضة عروض الصفة للموصوف، وهكذا سائر المترادفات، فإنّ غالبيتها أوصاف ونعوت وليست في الحقيقة أسماء.

____________________

(١) الوسائل: ج ١٥ ص ٤٢٥ رقم ٧.

(٢) المفردات: ص ٤٠٢.

٢٠٣

فإنّ الأسد - وهو الاسم الحقيقي له - إنّما يقال له: الضيغم؛ باعتبار أنّه يملأ فمه عند العضّ على فريسته، مأخوذ من ضغم إذا عضّ من غير نهش وملأ فمه ممّا أهوى إليه، قال ابن منظور: الضغم العضّ الشديد، ومنه سُمّي الأسد ضيغماً.

والضرغام هو البطل الفحل المقدام في معركة القتال، وفي حديث قسّ: والأسد الضرغام، هو الضاري الشديد المقدام من الأسود.

والغضنفر: الجافي الغليظ المتغضّن، وأُذن غضنفرة: غليظة كثيرة الشعر، قال أبو عبيدة: أُذن غضنفرة وهي التي غلُظت وكثر لحمها، ومنه سمّي الأسد غضنفراً؛ لغلظة خلقه وتغضّنه، والتغضّن هو تثنّي وجنات الوجه وتشنّجه، ومنه تغضّن الشعر وهو تجعّده، ورجل ذو غضون إذا كان في جبهته تكسّر وتشنّج.

والهزبر: الصلب الشديد، يقال: ناقة هزبرة أي صلبة، ورجل هزبر أي حديد وثّاب، ومن ذلك سُمّي الأسد هزبراً.

والعبوس: الذين قطّب ما بين عينيه، ويوم عبوس: شديد، والعنبسي من أسماء الأسد أُخذ من العبوس وهو قُطوب الوجه.

والليث: الشدة والقوة، ورجل مليث: شديد العارضة وقيل شديد قويّ، وفي الحديث: هو أليث أصحابه أي أشدّهم وأجلدهم. وبه سُمّي الأسد ليثاً.

شواهد من القرآن

دقائق ونكات رائعة:

تلك كانت نبذة من فوارق اللغة، وقبضة يسيرة من مزايا جمّة غفيرة، حَظي بها لسان العرب في القريض والخطاب، وكانت بها بلاغة البلغاء فائقة، وفصاحة الفصحاء رائعة، وامتاز كلام على كلام، وقصيدة على أختها، دلالة على سعة الاطّلاع بمزايا اللغة، ومبلغ الإحاطة بفوارق الأوضاع.

٢٠٤

وقد امتاز القرآن في هذا الجانب بما فاق سائر الكلام، وأعجز العرب أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإليك رشفة من ذلك البحر الخِضَمّ، ورَشَحة من ذلك الوابل الغزير.

تقديم السمع على البصر:

ومن دقيق تعبيره، أنّك تجد القرآن يذكر السمع مُقدّماً على البصر في عديد من الآيات (١) ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) ، وهي مسألة يعرف سرّها الآن علماء التشريح (الفسيولوجيا) ويُدركون أنّ جهاز السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز الأبصار، ويمتاز عيه بإدراك المجرّدات كالموسيقى، وإدراك التداخل مثل حلول عدة نغمات داخل بعضها بعضاً، مع القدرة على تمييز كلّ نغمة على انفراد، كما تُميّز الأمّ صوتَ بكاء ابنها من بين زحام هائل من أصوات متداخلة، يتمّ هذا في لحظة زمن... أمّا العين فهي تتوه في زحام التفاصيل ولا تعثر على ضالّتها، يتوه الابن عن عين أُمّه في الزحام ولا يتوه عن سمعها.

والعلم يمدّنا الآن بألف دليل على تفوّق معجزة السمع على معجزة البصر، ولم يكن هذا العلم موجوداً أيام نزول القرآن ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٣) ، وهذا تحدّ بمستقبل الأيّام سوف يُصادف على آيات ما زالت تُقرأ وهي غيوب محجّبة.

إنّه الانضباط والإحكام في كلّ لفظة وفي كلّ حرف، لا تتقدّم كلمة على كلمة إلاّ بسبب، ولا تتأخّر كلمة عن كلمة إلاّ بسبب، فما هذا الإصرار على تقدّم السمع

____________________

(١) في أكثر من خمسة وعشرين موضعاً: البقرة: ٧ و ٢٠، النساء: ٥٨ و ١٣٨، الأنعام: ٤٦، يونس: ٣١، هود: ٢٠، النحل: ٧٨ و ١٠٨، الإسراء: ١ و ٣٦، طه: ٤٦، الحجّ: ٦١ و ٧٥، المؤمنون: ٢٣، لقمان: ٢٨، السجدة: ٩، غافر: ٢٠ و ٥٦، فصّلت: ٢٠ و ٢٢، الشورى: ١١، الأحقاف: ٢٦، المجادلة: ٥٨، الملك: ٢٣، الإنسان: ٢.

(٢) النحل: ٧٨.

(٣) فصّلت: ٥٣.

٢٠٥

على البصر في تعبير القرآن؟ إنه تكرار متعمّد برغم أنّ النظرة العامّية إلى الأمور تنظر إلى البصر بإجلال أكثر (١) .

آيتا السرقة والزنا:

وهو حينما يذكر السرقة نراه يُورد السارق مقدّماً على السارقة ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٢) ، أما في الزنا فنراه يذكر الزانية مقدّمة على الزاني ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ) (٣) ، والحكمة واضحة، فالمرأة في الزنا هي البادئة وهي التي تدعو الرجل، بزينتها وتبرّجها، أمّا في السرقة فهي أقلّ جرأة من الرجل.

إننا إذاً أمام كلمات مصفوفة بإحكام ودقة وانضباط ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٤) .

ليس كمثله شيء:

ومن دقيق تعبيره: قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٥) .

زعموا زيادة الكاف هنا، فراراً من المحال العقلي؛ إذ لو كانت باقيةً على أصلها للزم التسليم بثبوت المثل!

وحاول بعضهم توجيه عدم الزيادة، بأنّه من الدلالة على المطلوب بلازم الكلام، حيث نُفي مِثل المِثل يستلزم نفي المِثل؛ إذ لو كان له مِثل لكان لمثله أيضاً مثل، وهو الله تعالى، تحقيقاً لقضية التماثل.

فهو نَفي للمِثل بهذه الطريق الملتوية، نظير قولهم: أنت وابن أخت خالتك، يُعدّ

____________________

(١) محاولة لفهم عصري: ص ٢٥١.

(٢) المائدة: ٣٨.

(٣) النور: ٢.

(٤) هود: ١.

(٥) الشورى: ١١.

٢٠٦

نوعاً من التعمية في الكلام شبيهاً بالألغاز.. الأمر الذي تأباه طبيعة الجدّ في تعابير القرآن.

ولكن لتوجيه هذا الكلام تأويل مشهور:

لو قيل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) كان المنفي هو المماثل له تماماً وفي جميع أوصافه ونعوته وخصوصياته الكلّية والجزئية، أي ليس على شاكلته التامّة شيء، وهذا يُوهم أن عسى قد يوجد مَن يكون على بعض أوصافه، وفي رتبة تالية من المماثلة التامّة؛ لأنّ هذا المعنى لم يقع تحت النفي.

وعليه فكان موضع الكاف هنا، نفياً للمماثلة وما يشبه المماثلة أو يدنو منها بعض الشيء، فليس هناك شيء يشبه أن يكون مماثلاً له تعالى، فضلاً عن أن يكون مِثلاً له على الحقيقة، وهذا من باب التنبيه بالأدنى دليلاً على الأعلى، على حدّ قوله تعالى: ( فَلا تَقُلْ لَهُمَا ) (١) .

وتأويل آخر أدق: وهو أنّ الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلك أن يقول: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، أو ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلاً على الدعوى والإلفات إلى وجه حجة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي.

أَلا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلت: (فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها، أمّا إذا زدت كلمة المِثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنّك دعمت كلامك بحجّة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لأنّ وجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع عن الاستسفال إلى رذائل الأخلاق.

وهذا منهج حكيم وضع عليه أُسلوب كلامه تعالى، وأنّ مثله تعالى - ذا الكبرياء والعظمة - لا يمكن أن يكون له شبيه، وأنّ الوجود لا يتسع لاثنين من جنيه (٢) .

____________________

(١) الإسراء: ٢٣.

(٣) النبأ العظيم: ص ١٢٨.

٢٠٧

فجيء بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدعوى، وبالآخر دعامةً لها وبرهاناً عليها، وهذا من جميل الكلام، وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.

قال الزمخشري: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنّهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه، وهذا أبلغ من قولك: أنت لا تبخل.

ومنه قولهم: (قد أيفعت لدِّاته) (١) و (بلغت أترابه) (٢) ، وفي الحديث: (أَلا وفيهم الطيّب الطاهر لدِّاته)، وهذا ما تعطيه الكناية من الفائدة (٣) .

وقال ابن الأثير: ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظة (مِثل)، كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: (مثلي لا يفعل هذا) أي أنا لا أفعله؛ لأنّه إذا نفاه عمّن يماثله فقد نفاه عن نفسه لا محالة، إذ هو بنفي ذلك عنه أجدر، وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنّه يُجعل من جماعة هذه أوصافهم وتثبيتاً للأمر وتوكيداً، ولو كان وحده لقلق منه موضعه ولم يرسُ فيه قدمه (٤) .

قال الأُستاذ درّاز: واعلم أنّ البرهان الذي تُرشد إليه الآية - على هذا الوجه - (٥) برهان طريف في إثبات الصانع لا نعلم أحداً من علماء الكلام حام حوله، فكلّ براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدّد بإبطال لوازمه وآثاره العملية، حسبما أرشد إليه قوله تعالى: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (٦) .

أمّا آية الشورى المذكورة فإنّها ناظرة إلى معنى وراء ذلك، ينقض فرض التعدّد من أساسه ويُقرّر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار،

____________________

(١) أيفع الغلام: ترعرع وناهز البلوغ، فهو يافع، واللدّ: القرن والخَصم.

(٢) الأتراب: جمع تِرب بمعنى المتوافق في السنّ.

(٣) تفسير الكشّاف: ج٤ ص٢١٣.

(٤) المَثل السائر: ج٣ ص٦١ ذكره في باب الإرداف في الكناية.

(٥) أي إرداف اللفظ بحجّته في أوجز كلام.

(٦) الأنبياء: ٢٢.

٢٠٨

فكأنّنا بها تقول لنا:

إنّ حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدّد والاشتراك والتماثيل في مفهومها، كلاّ، فإنّ الذي يقبل ذلك فإنّما هو الكمال الإضافي الناقص، أمّا الكمال التامّ المطلق - الذي هو معنى الإلهية - فإنّ حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينيّة؛ لأنّك مهما حقّقت معنى الإلهية حقّقت تقدّماً على كلّ شيء وإنشاءً لكل شيء: ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (١) ، وحقّقت سلطاناً على كل شيء وعلواً فوق كلّ شيء: ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٢) ، فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كلّ واحد منهما سابقاً ومسبوقاً، ومُنشِئاً، ومنشَئاً، ومستعلياً ومستعلى عليه، أو لأَحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيّد فيهما، إذ تجعل كل واحد منها بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً، فأنّى يكون كلّ منهما إلهاً، وللإله المَثل الأعلى!

فكم أفادتنا هذه الكاف من وجوه المعاني كلّها كافٍ شافٍ، وهذا من دقة الميزان الذي وُضع عليه النظم الحكيم في القرآن الكريم (٣) .

آية القصاص:

كانت العرب تعرف ما لهذه اللفظة (القصاص) من مفهوم خاص: (قَتْلُ من عَدَ على غيره فقَتَله بغير حق)، وكانت تعرف ما لهذه العقوبة (مقابلة المعتدي بمثل ما اعتدى) من أثر بالغ في ضمان الحياة العامّة.

لكنّها عندما عَمَدت إلى وضع قانون يحدّ من جريمة القتل، ويضمن للناس حياتهم، وليكون رادعاً لمَن أراد الإجرام فأزمعت بكلّيتها على وضع عبارة موجزة وافية بهذا المقصود الجلل وأجمعت آراؤهم على عقد الجملة التالية:

____________________

(١) الأنعام: ١٤، يوسف: ١٠١، إبراهيم: ١٠، فاطر: ١، الزمر: ٤٦، الشورى: ١١.

(٢) الزمر: ٦٣.

(٣) النبأ العظيم: ص١٣٠.

٢٠٩

(القتل أنفى للقتل)، غفلت عن لفظة (القصاص) واستُعملت كلمة (القتل) مكانها، ذهولاً عن أنّها لا تفي بتمام المقصود، وهم بصدد الإيفاء والإيجاز.

ذلك أنّ الذي يحدّ من الإجرام على النفوس ويحقن دماء الأبرياء هو فرض عقوبة القصاص، وهو قتل خاص، وليس مطلق القتل بالذي يؤثّر في منعه، بل ربّما أوجب قتلات إذا لم يكن قصاصاً.

ومع الإحاطة بهذه المزايا في لفظ (القصاص) جاء قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) (١) تعبيراً تامّاً وافياً بالمقصود تمام الوفاء، بل وفيها زيادة مزايا شَرَحها أرباب الأدب والتفسير.

قال سيّدنا الطباطبائي - طاب ثراه -: إنّ هذه الآية - على اختصارها وإيجازها، وقلّة حروفها، وسلاسة لفظها، وصفاء تركيبها - لهي من أبلغ التعابير وأرقى الكلمات، فهي جامعة بين قوّة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقّة الدلالة وظهور المدلول.

وقد كان للبلغاء قبلها كلمات وتعابير في وضع قانون القصاص، كانت تعجبهم بلاغتها وجزالة أُسلوبها، كقولهم: (قُتل البعض إحياء للجميع)، وقولهم: (أَكثروا القتل ليقلّ القَتل) وأَعجب من الجميع عندهم قولهم: (القتل أنفى للقتل).

غير أنّ الآية أَنست الجميع، ونفت الكل، ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) فهي أقلّ حروفاً وأسهل تلفّظاً، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحياة، دلالة على أنّ الهدف الأقصى أوسع من أمر القصاص وأعظم شأناً، وهي الحياة، حياة الإنسان الكريمة.

واشتمالها على بيان النتيجة وعلى بيان الحقيقة، وأنّ القصاص هو المؤدّي إلى الحياة، دون مطلق القتل، وغير ذلك ممّا تشتمل عليه من فوائد ولطائف... (٢) .

هذا بالإضافة إلى ما لتعبير القرآن من محسّنات بديعية باهرة، ليست في ذلك التعبير العربي.

____________________

(١) البقرة: ١٧٩.

(٢) تفسير الميزان: ج١، ص٤٤٢.

٢١٠

قال ابن الأثير: من الإيجاز ما يُسمّى الإيجاز بالقصر، وهو الذي لا يُمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أُخرى مثلها، وفي عدّتها، بل يستحيل ذلك، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وإذا وُجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذّاً نادراً، والقرآن الكريم مَلآن منه (١) .

فمن ذلك ما ورد من قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) .

فإنّ قوله تعالى: ( الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) لا يُمكن التعبير عنه إلاّ بألفاظ كثيرة؛ لأنّ معناه أنّه إذا قُتل القاتل امتنع غيره عن القتل، وكذلك إذا أيقن القاتل أن سوف يدفع حياته ثمناً لحياة مَن يقتل، تردّد في ارتكاب القتل وربّما أمسك عنه، فكان في ذلك حياة للناس.

ولا يُلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: (القتل أنفى للقتل)، فإنّ مَن لا يعلم يظنّ أنّ هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه:

الأَوّل: أنّ (القصاص حياة) لفظتان، و(القتل أنفى للقتل) ثلاثة ألفاظ.

الثاني: أنّ في قولهم (القتل أنفى للقتل) تكريراً ليس في الآية.

الثالث: أنّه ليس قتل نافياً للقتل، إلاّ إذا كان على حكم القصاص.

قال: وقد صاغ أبو تمام هذا المعنى الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال:

وأَخافَكُم كي تُغمدوا أسيافَكم

إنّ الدمَ المُعترَّ يحرسُهُ الدمُ (٢)

فقوله: (إنّ الدم المعترّ يحرسه الدم) أجمل أُسلوباً وأحسن أداءً من قولة العرب.

وقال أبو هلال العسكري: والإيجاز، القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني وهو قول الله عزّ وجلّ: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ، ويتبّين فضل هذا الكلام إذا قَرنته بما جاء عن العرب في معناه، وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصار لفظ القرآن فوق هذا القول، لزيادته عليه في الفائدة، وهو إبانة العدل لذكر

____________________

(١) المَثل السائر: ج٢ ص٣٤٨ وص ٣٥٢ - ٣٥٣.

(٢) ديوان أبي تمّام: ص٢٧٤. والمعترّ: المضطرب لخوف الخطر.

٢١١

القصاص، وذِكر العوض المرغوب فيه لذكر الحياة واستدعاء الرغبة والرهبة لحكم الله به، ولإيجازه في العبارة، فإنّ الذي هو نظير قولهم (القتل أنفى للقتل) إنّما هو (القصاص حياة) وهذا أقلّ حروفاً من ذلك، ولبعده من الكلفة بالتكرير، ولفظ القرآن بَرِئ من ذلك، وبحسن التأليف، وشدة التلاؤم المُدرك بالحسّ؛ لأنّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة (١) .

وقال جلال الدين السيوطي: وقد فُضلّت الآية على قولة العرب بعشرين وجهاً أو أكثر، وإن كان لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنّما العلماء يقدحون أفهامهم فيما يظهر لهم من ذلك، كما قال ابن الأثير، نذكر منها:

١ - في الآية إيجاز قصر، من غير حاجة إلى تقدير ، أمّا قولتهم فبحاجة إلى تقدير (من) لمكان أفعل التفضيل، وبذلك جاء الإبهام في قولتهم؛ لأنّه يسأل: من أيّ شيء؟ فإن قُدّر العموم فلعلّه غير مطّرد بالنسبة إلى جميع الموارد وجميع أفراد الناس.

٢ - ثُمّ الذي ينفي القتل ويوجب الحياة هي شريعة القصاص ، وهو قتل بإزاء قتل خاصّ دون مطلق القتل، إذ ربَّ قتلة أوجبت قتلات كما في حرب البَسوس طالت أربعين سنة.

٣ - في الآية طباق، جمعاً بين ضدّين: القصاص - وفيه إشعار بقتل - والحياة، وأيضاً فيها بَداعة، الضدّ أوجب ضدّه. ولا سيّما في تعريف القصاص وتنكير الحياة، وفيه غرابة فائقة.

٤ - قال الزمخشري: ومن إصابة محزّ البلاغة، بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛ لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم - الذي هو شريعة القصاص - حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب، حتّى كاد يُفني بكر بن وائل، ولقد كانوا يقتلون بالمقتول غير قاتله، وهذه

____________________

(١) انظر الصناعتين: ص١٧٥، وهامش المَثل السائر: ج٢ ص٣٥٢ - ٣٥٣.

٢١٢

العادة جارية بين العرب حتّى الآن (١) ، فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، ففي شرع القصاص - وهو قتل القاتل المعتدي - حياة أيّة حياة (٢) .

٥ - وأمّا قولة العرب، ففيها تناقض ظاهر؛ إذ الشيء لا ينفي نفسه، فكيف القتل ينفي القتل؟ وأيضاً فيها تكرار، وتقدير، وتهويل بسبب تكرار لفظ القتل المؤذن بالوحشة.

أمّا الآية فاستُبدلت من لفظ (القتل) الموحش بلفظ (القصاص) الموجب للتشفّي والانشراح، ثُمّ عقّبها بلفظ (الحياة) التي تبتهل إليها النفوس وتحتفل بها.

٦ - وأيضاً ففي لفظ القصاص إيذان بالعدل، حيث مساواة نفس المقتول بالقاتل، الأمر الذي لا يدلّ عليه لفظ القتل المطلق.

٧ - والآية بُنيت على الإثبات، وقولتهم على النفي، والكلام المُثبت أوفى من النافي مهما كان المعنى واحداً.

٨ - ثُمّ إشكال في ظاهر قولتهم ، ببناء أفعل التفضيل من فعل عدمي الذي لا تفاضل فيه ظاهراً، والآية سالمة منه.

٩ - وأيضاً فإنّ التفاضل يقتضي المشاركة في القَدر الجامع ، بخلاف الآية التي حصرت نفي القتل في القصاص لا في غيره على الإطلاق، فكانت أبلغ في الوفاء بالمقصود.

١٠ - الآية مشتملة على حروف متلائمة متناسقة ، تتحلّق صُعُداً، ثُمّ تهوي نُزلاً، ثُمّ تعود فتتصاعد إلى ما لا نهاية (في القصاص حياة).

قالوا: لتلاؤم القاف مع الصاد، كلاهما من حروف الاستعلاء، أمّا القاف مع التاء فلا تلاؤم بينهما؛ لأنّ التاء من المنخفض، وكذا الخروج من الصاد إلى حاء الحياة أمكن من الخروج من اللام إلى الهمز، لبُعد طرف اللسان عن أقصى الحلق.

____________________

(١) ونحن في مطلع القرن الخامس عشر للهجرة.

(٢) راجع الكشّاف: ج١ ص٢٢٢ - ٢٢٣.

٢١٣

وأيضاً ففي النطق والحاء والتاء متتالية ظرافة وحسن، ولا كذلك في تكرار النطق بالقاف والتاء.

١١ - هذا فضلاً عن توالي حركات متناسبة في الآية ، بما يَسَّر النطق بها في سهولة، وربّما في جرس صوتيّ بديع.

أمّا قولتهم فيتعقّب فيها كل حركة بسكون، وذلك مستكره، ويوجب عسر النطق بها، إذا الحركات - وهي انطلاقات اللسان - تنقطع بالسكنات المتتالية، الموجبة للضجر ووعورة الكلام، نظير ما إذا تحرّكت الدابة أدنى حركة فجثت، ثمّ تحرّكت فجثت، وهكذا لا يبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على إرادتها؛ لأنّها كالمقيّدة.

١٢ - إنّ في افتتاح الآية بـ (لكم) مزيد عناية بحياة الإنسان ، وإنّ في شريعة القصاص حكمة بالغة ترجع فائدتها إلى النفع العام، فهي عامّة رُوعيت في شرع القصاص، وليست مصلحة خاصّة ترجع إلى شرح صدور أولياء المقتول المفجوعين فحسب.

وغير ذلك ممّا ذكره نَقدة الكلام، لا زالت مساعيهم مشكورة (١) .

أرض هامدة وأرض خاشعة:

تعبيران وردا على الأرض الميتة فقدت حياتها؛ لأنّ السماء ضنّت بمائها فلم تَمطر عليها... فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج!

فقد جاء التعبير الأَوّل في سورة الحج: ( يَا أَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلَقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى‏ أَجَلٍ مّسَمّىً ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوا أَشُدّكُمْ وَمِنكُم مّن يُتَوَفّى‏ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن

____________________

(١) راجع معترك الأقران لجلال الدين السيوطي: ج١ ص٣٠٠ - ٣٠٣.

٢١٤

بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (١) .

وجاء التعبير الثاني في سورة فصّلت: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للّهِ‏ِ الّذِي خَلَقَهُنّ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى‏ إِنّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

أمّا لماذا هذا الاختلاف في التعبير في المقامينِ؟

الجوّ في السياق الأَوّل جوّ بعث ونشور وحشر أموات، فيتناسب معه تصوير الأرض (هامدة) لا حياة فيها ولا حركة ولا انتفاضة.

يقال: همدت النار أي خمدت وأُطفئت وهدأت حرارتها وسَكَن لهيبها، وهمد الثوب: إذا بَلي وتقطّع من طول البِلى.

لكن الجوّ في السياق الثاني جوّ عبادة وضراعة وخشوع وابتهال إلى الله تعالى، فناسبه تصوير الأرض (خاشعة) خشوع الذلّ والاستكانة. يقال: خشعت الأرض إذا يبست ولم تُمطَر.

ونكتة أُخرى: لم تجئ ( اهْتَزّتْ وَرَبَتْ ) هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك، إنّهما هنا تُخيّلان حركةً حاصلةً عن خشوع، حركة تضاهي حركة العُبّاد في عباداتهم؛ ومِن ثَمّ لم تكن الأرض لتبقى وحدها خاشعة ساكنة، فاهتزّت لتشارك العابدينَ في حركاتهم التعبّدية وِفق إرادة الله في الخلق.

الحلف بالتاء:

قوله تعالى: ( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً ) (٣) .

____________________

(١) الحجّ: ٥.

(٢) فصّلت: ٣٧ - ٣٩.

(٣) يوسف: ٨٥.

٢١٥

جملة ألفاظها غريبة، بعيدة عن الاستعمال العام، وقع الاختيار عليها لحكمة هي مقتضى الحال والمقام، فضلاً عن جرس اللفظة في هذا التناسب والوئام.

قال جلال الدين السيوطي: أتى بأغرب ألفاظ القَسَم، وهي التاء، فإنّها أقلّ استعمالاً وأبعد من أفهام العامّة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال الناقصة، فإنّ (تزال) أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً من (تفتأ)، وبأغرب الألفاظ الدالّة على الإشراف على الهلاك (حَرَضاً)، فاقتضى حسن الوضع في النظم، أنّ تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة؛ توخّياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني مع الألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم، فضلاً عن تناسب الغريب في التعبير مع الغريب من حالة نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) (١) .

دقائق ونكات:

ذكر جلال الدين السيوطي عن البارزيّ أنّه قال - في أَوّل كتابه (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل) -: اعلم أنّ المعنى الواحد قد يُخبَر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كلّ واحد من جزءي الجملة قد يُعبّر عنه بأفصح ما يلاءم الجزء الآخر... ولابدّ من استحضار معاني الجمل، أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثُمّ استعمال أنسبها وأفصحها....

واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال... وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى؛ فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه. وإن كان مشتملاً على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح....

ولذلك أمثلة:

منها: قوله تعالى: ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) (٢) ، لو قال مكانه: (وثمر الجنّتين قريب) لم يقم مقامه من جهة الجناس بين (الجنى) و(الجنّتين)، ومن جهة أنّ

____________________

(١) معترك الأقران: ج١ ص٣٨٩.

(٢) الرحمن: ٥٤.

٢١٦

الثمر لا يُشعر بمصيره إلى حال يُجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل (١) .

وتتلخّص ميزات الآية في وجوه أربعة:

أولاً: أنّ الثمر لفظ عام، لا يدل على بلوغه أوان الاقتطاف، على خلاف لفظ (الجنى) الذي هو الثمر الناضج الغضّ الطريّ اليانع، فكان هذا الأخير أنسب.

ثانياً: المشاكلة والتجانس اللفظي بين (جنى) والشطر الأَوّل من (الجنّتين) بالجيم والنون.

ثالثاً: كذلك التجانس بين (دان) والشطر الأخير من (الجنّتين) بالمدّ والنون، مع مقاربة مخرج الدال والتاء.

رابعاً: مراعاة الفاصلة.

الأمر الذي حصلت به تلك السلاسة والعذوبة في التعبير والأداء، ولا توجد في العبارة الأُخرى المرادفة لها في المعنى، كما لا يخفى.

* * *

قال: ومنها قوله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ) (٢) ، أحسن من التعبير بـ (تقرأ)؛ لثقله بالهمزة.

ومنها: ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) (٣) ، أحسن من (لا شكّ فيه)؛ لثقل الإدغام، ولهذا كثُر ذِكر الريب (٤) .

ومنها: ( وَلا تَهِنُوا ) (٥) ، أحسن من (ولا تضعفوا)، لخفّته، و ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) (٦) ، أحسن من (ضعف)؛ لأنّ الفتحة أخفّ من الضمّة.

____________________

(١) الإتقان: ج٤ ص٢٢.

(٢) العنكبوت: ٤٨.

(٣) البقرة: ٢.

(٤) على أنّ الريب إنّما يكون فيما تكون دواعي الشبهة فيه متوفّرة، أمّا الشكّ فيكفي فيه عدم الاعتقاد، الأمر الذي صحّ معه نفي الريب عن الكتاب دون الشكّ.

(٥) آل عمران: ١٣٩.

(٦) مريم: ٤.

٢١٧

ومنها: ( آمن ) (١) أخفّ من (صدّق)؛ ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و ( آثَرَكَ اللَّهُ ) (٢) أخفّ من (فضّلك)، و ( آتي ) (٣) أخفّ من (أعطى)، و ( أَنذَر ) (٤) أخفّ من (خوّف)، و ( خيرٌ لكم ) (٥) أخفّ من (أفضل لكم).

والمصدر في نحو ( هذا خَلْقُ اللهِ ) (٦) و ( يُؤمنون بالغيبِ ) (٧) أخفّ من (مخلوق) و(الغائب)، و ( تنكح ) (٨) أخفّ من (تَتَزوج)؛ لأنّ (تفعل) - مُخفّفاً - أخفّ من (تفعل) - مشدّداً - ولهذا كان ذِكر النكاح فيه أكثر.

قال: ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ (الرحمة) و(الغضب) و(الرضا) و(الحبّ) و(المقت) في أوصاف الله تعالى، مع أنّه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنّه لو غيّر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام.

كأن يقال: يعامله معاملة المحبّ، والماقت... فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة؛ لخفّته واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ.

فإنّ قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (٩) أحسن من (فلمّا عاملونا معاملة المغضب) أو (فلمّا أتوا إلينا بما يأتيه المغضب) (١٠) .

سورة الكوثر:

وللزمخشري بيان لطيف عن دقائق هذه السورة المباركة وبدائع نكتها على قصرها ووجازتها (١١) ، وقد لخّصها وجمع ظرائفها وطرائفها العلاّمة الطبرسي في تفسيره (جوامع الجامع) كما يلي:

____________________

(١) البقرة: ٦٢.

(٢) يوسف: ٩١.

(٣) البقرة: ١٧٧.

(٤) الأحقاف: ٢١.

(٥) البقرة: ١٨٤.

(٦) لقمان: ١١.

(٧) البقرة: ٣.

(٨) البقرة: ٢٣٠.

(٩) الزخرف: ٥٥.

(١٠) الإتقان: ج٤ ص٢٣.

(١١) راجع التمهيد: ج٥ ص٦٠٥ - ٦٣٤.

٢١٨

انظر في نظم هذه السورة الأنيق وترتيبه الرشيق، مع قصرها ووجازتها، وتَبصّر كيف ضمّنها الله النكت البديعة:

١ - حيث بنى الفعل في أوّلها على المبتدأ، ليدّل على الخصوصية.

٢ - وجمع ضمير المتكلم؛ ليأذن بكبريائه وعظمته.

٣ - وصَدّر الجملة بحرف التأكيد، الجاري مجرى القسم.

٤ - وأتى بالكوثر، المحذوف الموصوف؛ ليكون أدلّ على الشياع، والتناول على طريق الاتّساع.

٥ - وعقّب ذلك بفاء التعقيب؛ ليكون القيام بالشكر الأوفر مسبّباً عن الإنعام بالعطاء الأكثر.

٦ - وقوله: ( لربّك ) تعريض بدين من تعرّض له بالقول المؤذي، من ابن وائل وأشباهه، ممّن كان عبادته ونحره لغير الله.

٧ - وأشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات البدنية، التي كانت الصلاة إمامها، والمالية التي كان نَحر البُدن سنامها.

٨ - وحذف اللام الأُخرى (١) ، إذ دلّت عليها الأُولى، ولمراعاة حقّ التسجيع الذي هو من جملة نظمه البديع.

٩ - وأتى بكاف الخطاب على طريقة الالتفات؛ إظهاراً لعلوّ شأنه، وليُعلم بذلك أنّ من حقّ العبادة أن يقصد بها وجه الله خالصاً.

١٠ - ثم قال: ( إنّ شانئك ) فعلّل ما أمره، بالإقبال على شانئه وقلّة الاحتفال بشانئه، على سبيل الاستيناف، الذي هو جنس من التعليل رائع.

١١ - وإنّما ذكره بصفته لا باسمه؛ ليتناول كلّ من أتى بمثل حاله.

١٢ - وعرّف الخبر؛ ليتمّ له البتر.

____________________

(١) أي لم يقل: وانحر لربّك.

٢١٩

١٣ - وأفحم الفصل؛ لبيان أنّه المعيّن لهذا النقص والعيب.

١٤ - وذلك كلّه، مع علوّ مطلعها وتمام مقطعها، وكونها مشحونةً بالنكت الجليلة، مكتنزةً بالمحاسن غير القليلة، ممّا يدلّ على أنّه كلام ربّ العالمين، الباهر الكلام المتكلّمين.

فسبحان مَن لو لم يُنزل إلاّ هذه السورة الواحدة الموجزة لكفى بها آية معجزة، ولو همّ الثقلان أن يأتوا بمثلها لشاب الغراب، وساب الماء كالسراب، قبل أن يأتوا به.

١٥ - وفيها أيضاً دلالة على أنّها معجزة وآية بيّنة من وجه آخر، وهو: أنه إخبار بالغيب، من حيث إنّه أخبر عمّا جرى على ألسنة أعدائه، فكان كما أخبر، ووافق الخبرُ المُخبر في إعطائه الكوثر؛ إذ علت كلمتُه، وانتشرت في العالم ذرّيته، وانبتر أمر شانئه الأبتر، وانقطع ذنبُه وعقبه كما ذكر (١) .

دعوة زكريا ربّه:

هناك وقع نداء زكريا ربّه - فيما حكى الله سبحانه -: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (٢) موقع إعجاب وإكبار علماء المعاني والبيان، بهرتهم لطافة صنعه وأناقة رصفه، مشتملاً على مزايا ومحاسن جمّة لا يحويها سائر الكلام، وقد تعرّض لها صاحب (الطراز) وعدّد محاسنها درجة درجة حتى بلغ العشرة عدد الكمال، وقدّم لذلك مقدّمة قال فيها:

اعلم أنّ القرآن إنّما صار معجزاً؛ لكونه دالاً على تلك المحاسن والمزايا التي لم يختصّ بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوامٌ، وهو فاسد لأمرين، أمّا (أوّلاً) ؛ فلأنّ الكلمة الواحدة قد تكون

____________________

(١) تفسير جوامع الجامع: ص ٥٥٤.

(٢) مريم: ٤.

٢٢٠

فصيحة إذا وقعت في محلّ، وغير فصيحة إذا وقعت في محلّ آخر، فلو كان الأمر في الفصاحة والبلاغة راجعاً إلى مجرّد الألفاظ الوضعية لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأمّا (ثانياً)؛ فلأنّ الاستعارة والتشبيه والتمثيل والكناية من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها، وإنّما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعاني لا باعتبار ألفاظها، فصارت الدلالة على وجهين:

الوجه الأوّل: دلالة وضعية، وهذه لا تعلّق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهّدنا طريقه.

وثانيهما: الدلالة المعنوية، ودلالتها إمّا بالتضمّن أو بالالتزام، وهما عقليّان من جهة أنّ حاصلهما هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثمّ تلك الملازمة إمّا أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأَوّل هو الدلالة التضمنية، والثاني هو الدلالة الخارجية، وهما جميعاً من اللوازم، ثمّ إنّ تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمِن أجل ذلك صحّ تأدية المعاني بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارةً تزيد، ومرّةً تنقص؛ فلأجل هذا اتّسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره.

فربّما علا قدر الكلام في بلاغته حتى صار معجزاً لا رتبة فوقه، وربّما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلاّ مزيّة التأليف والتركيب، وربّما كان متوسّطاً بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة؛ لكونه متمكناً في أسَلاَت الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قَلِق على سطح اللسان، جيّداً سبكه صحيحاً طابعه، وأنّه في حقّ معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمّونه بنقائض هذه الصفات بأنّه مُعقّد جُرزٌ، وأنّه لتعقيده استهلك المعنى، يمشي اللسان إذا نطق به كأنّه مقيّد، وحَشيٌّ، نافرٌ، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون المعنى بالجودة بأنّه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنّه

٢٢١

يدخل إلى الأُذن بلا إذن، وقد يذمّونه بكونه ركيكاً نازل القدر، بعيداً عن العقول، وهلمّ جرّ إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على جهة المناقضة والقرآن كلّه من أوله إلى آخره حاصل على هذه المزايا، موجودة فيه على أكمل شيء وأتمّه، فلله درّه من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضمّ جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصّلة.

وبعد ذلك خاض محاسن الآية مستخرجاً لآليها قائلاً:

وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل، والاطّلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتلُ قصّة زكريّا (عليه السلام) وقف عندها وقفة باحث وهي قوله تعالى ( قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً ) فإنّك تجد كلّ جملة منها بل كلّ كلمة من كلماتها تحتوي على لطائف، وليس في آي القرآن المجيد حرف إلاّ وتحته سرّ ومصلحة فضلاً عمّا وراء ذلك، والكلام في تقرير تلك اللطائف الإجمالية وما يتلوها من الأسرار التفصيلية مقرّر في معرفة حدّ الكلام وأصله، وأنّ كلّ مرتبة من مراتب الإجمال متروكة في الآية بمرتبة أخرى مفصّلة، حتّى تتّصل بما عليه نظم الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كلّ واحدة منها على حظّ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظّ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعاً في تتميم بلاغتها أحسن تمام.

(الدرجة الأُولى) نداء الخفية؛ فإنّه دالّ على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذلّ حتى لا يستطيع حراكاً، وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، ولِما فيه من التصاغر للجلال، والعظمة بخفض المصوب في مقام الكبرياء وعظم القدرة، فهذه الجملة مذكورة كما قرَّرناه، وهي مناسبة لحاله، ولهذا صدّرها في أول قصّته لِما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس واستصغارها. وافتتاحها بذكر العبودية يؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده.

٢٢٢

(الدرجة الثانية) كأنّه قال: يا رب إنّه قد دنا عمري، وانقضت أيّام شبابي، فإنّ انقضاء العمر دالّ على الضعف والشيخوخة لا محالة؛ لأنّ انقضاء الأيّام والليالي هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إنّ هذه الجملة صارت متروكة لتوخّي مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلاً منها ممّا يكون بعدها.

(الدرجة الثالثة) كأنّه قال: قد شخت فإنّ الشيخوخة دالّة على ضعف البدن وشيب الرأس؛ لأنّها هي السبب في ذلك لا محالة.

(الدرجة الرابعة) كأنّه قال: وهنت عظام بدني، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقّة جسمه، ثم تُركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلاً منها.

(الدرجة الخامسة) كأنّه قال: أنا وهنت عظام بدني، فأُعطيت مبالغة، لمّا قدّم المبتدأ ببناء الكلام عليه، كما ترى.

(الدرجة السادسة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام من بدني، فأضاف إلى نفسه تقريراً مؤكّداً (بإنّ) للأمر، واختصاصها بحاله، ثمّ تُركت هذه الجملة بجملة غيرها.

(الدرجة السابعة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام منّي، فترك ذكر البدن وجمع العظام؛ إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.

(الدرجة الثامنة) ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال، ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) .

(الدرجة التاسعة) ترك الحقيقة، وهي قوله: أشيب، أو شاب رأسي، لِما علم أنّ المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولاً في البلاغة منها، ثم تُركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.

(الدرجة العاشرة) أنّه عدل عن المجاز إلى الاستعارة في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وهي من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث:

الجهة الأولى: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع

٢٢٣

الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسي، فإنّه لا يؤدّي هذا المعنى بحال، فـ (اشتعل رأسي) وزان اشتعلت النار في بيتي، و ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وزان: اشتعل بيتي ناراً.

الجهة الثانية: الإجمال والتفصيل في نصب التمييز، فإنّك إذا نصبت (شيباً) كان المعنى مخالفاً لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسي، لما في النصب من المبالغة دون غيره.

الجهة الثالثة: تنكير قوله (شيباً) لإفادة المبالغة، ثم إنّه ترك لفظ (منّي) في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) اتّكالاً على قوله ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) ثم إنّه أتى به في الأَوّل؛ بياناً للحال وإرادةً للاختصاص بحاله في إضافته إلى نفسه، ثُمّ عطف الجملة الثانية على الجملة الأُولى بلفظ الماضي؛ لِما بينهما من التقارب والملاءمة.

فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة؛ إرادةً للإجمال بعده التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبّها ومصاصها، وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها.

واعلم أنّ الذي فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتّحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها، وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدّمة الآية وديباجتها، فإنّه لمّا افتتح الكلام في هذه القصّة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله (ربّ) وياء النفس من المضاف، أشعر أوّلها بالغرض؛ فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقّبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عمّا وراءهما من تلك المراتب العشر التي نبّهنا عليها والحمد لله (1) .

____________________

(1) الطراز: ج 3 ص 416 - 420.

٢٢٤

أعجب آية باهرة:

قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِي الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (1) .

قد مرّت عليك قصّة النفر من فصحاء قريش أزمعوا ليعارضوا القرآن، فعكفوا على لطيف الغذاء من لباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة، حتى بلغوا مجهودهم، فإذا فوجئوا بنزول هذه الآية، فطووا ما أزمعوا ويئسوا ممّا طمعوا فيه، وعلموا أنّه لا يشبه كلام مخلوق (2) .

الأمر الذي دعا بعلماء الأدب والبيان أن يجعلوا هذه الآية بالذات موضع دراستهم والبحث عن مزاياها الخارقة، فخاضوا عبابها واستخرجوا لبابها في عرض عريض.

وممّن أجاد في هذا الباب هو الإمام أبو يعقوب السكّاكي في كتابه (مفتاح العلوم)، فبعد أن تكلّم عن شأن البلاغة وعجيب أمره، وأنّه ممّا يُدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تُدرك ولا يمكن وصفها، والملاحة يبهر حسن منظرها ولا يستطاع نعتها... وأضاف أنّ مدرك (الإعجاز) هو الذوق ليس إلاّ، وطول خدمة عِلمَي المعاني والبيان... ذكر شاهداً على ذلك متمثلاً بالآية الكريمة، ومعرّجاً على تعداد مزاياها ومفارقاتها عن سائر الكلام، قال:

وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر - على سبيل الأنموذج - آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثُمّ إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك مَن تُحدّوا بها، وهي قوله - علت كلمته -: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ

____________________

(1) هود: 44.

(2) العمدة لابن رشيق: ج 1 ص 211، وراجع الجزء الرابع من التمهيد: ص 202.

٢٢٥

الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

قال: والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني - وهما مرجعا البلاغة - ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية:

1 - أمّا النظر فيها من جهة (علم البيان) وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول:

إنه - عزّ سلطانه - لمّا أراد أن يُبيّن معنى (أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح - وهو انجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه - فقضي، وأن نُسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى).

بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتّى منه - لكمال هيبته - العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأنّ السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وإعداماً، ولمشيئته فيها تغيراً وتبديلاً، كأنّهما عقلاء مميّزون قد عرفوه حقّ معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتّم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوّروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضُربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدّماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمّماً، لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.

ثمّ بنى على تشبيه هذا نظم الكلام، فقال - جلّ وعلا -: (قيل) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد، وهو (يا أرض) و (يا سماء) ، ثم قال - كما ترى - (يا أرض... و يا سماء) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور.

٢٢٦

ثمّ استعار لغور الماء في الأرض (البلع) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقرّ خفي.

ثمّ استعار (الماء) للغذاء استعارة بالكناية، تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوّي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوّي الآكل للطعام، وجُعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي)؛ لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ثمّ أمر - على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره - وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء، ثمّ قال: (ماءك) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتّصال الماء بالأرض باتّصال المُلك بالمالك، واختار ضمير الخطاب؛ لأجل الترشيح.

ثمّ اختار لاحتباس المطر (الإقلاع) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثمّ أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً (أقلعي) لمثل ما تقدّم في (ابلعي) .

ثم قال: ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً... ) فلم يُصرّح بمَن غاض الماء، ولا بمَن قضى الأمر، وسوّى السفينة، وقال بُعداً، كما لم يُصرّح بقائل (يا أرض) و (يا سماء) في صدر الآية؛ سلوكاً في كلّ واحد من ذلك لسبيل الكناية.

إنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة يكتنه قهّار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره - جلّت عظمته - قائل (يا أرض ويا سماء) ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.

ثمّ ختم الكلام بالتعريض؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل، ظلماً لأنفسهم لا غير، خَتم إظهارٍ لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إيّاه وأنّ قيمة

٢٢٧

الطوفان (1) وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلاّ لظلمهم.

* * *

2 - وأمّا النظر فيها من حيث (علم المعاني) - وهو النظر في فائدة كلّ كلمة منها، وجهة كلّ تقديم وتأخير فيما بين جملها - فذلك أنّه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال وأنّها دالّة على بُعد المنادى، الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزّة والجبروت، وهو تبعيد المنادى، المؤذن بالتهاون به، ولم يقل (يا أرض) بالكسر؛ لإمداد التهاون، ولم يقل (يا أيّتها الأرض)؛ لقصد الاختصار، مع الاحتراز عمّا في (أيّتها) من تكلّف التنبيه غير المناسب بالمقام.

واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها؛ لكونه أخفّ وأدور.

واختير لفظ (السماء) لمثل ما تقدّم في الأرض، مع قصد المطابقة.

واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي)؛ لكونه أخصر، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر.

وقيل (ماءك) بالإفراد دون الجمع؛ لِما كان في الجمع من صورة الاستكثار المُتأتى عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض والسماء).

وإنما لم يقل (ابلعي) بدون المفعول؛ أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ، نظراً إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بين المراد، اختصر الكلام مع (أقلعي)؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل (قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت).

____________________

(1) القيمة - بالكسر - النوع من قام، أي بذلك النوع الهائل من قيام الطوفان.

٢٢٨

واختير (غيض) على (غيّض) المشدّد؛ لكونه أخصر.

وقيل (الماء) دون أن يقال (ماء طوفان السماء)، وكذا (الأمر) دون أن يقال (أمر نوح) وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.

ولم يقل (سوّيت على الجودي) بمعنى أقرّت على نحو (قيل) و(غيض) و(قضي) في البناء للمفعول؛ اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله (وهي تجري بهم في موج) مع قصد الاختصار في اللفظ.

ثم قيل (بُعداً للقوم) دون أن يقال (ليبعد القوم)؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بُعداً) منزلة (ليبعدوا بعداً) مع فائدة أخرى، وهي استعمال اللام مع (بعداً) الدالّ على معنى أنّ البعد حقّ لهم.

ثمّ أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.

هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذاك أنّه قد قدّم النداء على الأمر، فقيل (يا أرض ابلعي) و(يا سماء أقلعي) دون أن يقال (ابلعي يا أرض) و(أقلعي يا سماء) جرياً على مقتضى اللازم فيمَن كان مأموراً حقيقة، من تقديم التنبيه، ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى؛ قصداً بذلك لمعنى الترشيح.

ثمّ قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصّة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أَولى.

ثم أتبعهما قوله (وغيض الماء) لاتّصاله بقصّة الماء وأخذه بحجزتها، أَلا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك - فبلعت ماءها - ويا سماء أقلعي - عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله - وغيض الماء - النازل من السماء فغاض -).

ثمّ أتبعه ما هو المقصود من القصّة، وهو قوله (وقضي الأمر) أي أُنجز

٢٢٩

الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومَن معه في السفينة، ثمّ أتبعه حديث السفينة، وهو قوله (واستوت على الجودي)، ثمّ ختمت القصّة بما ختمت.

هذا كلّه نظر في الآية من جانبَي البلاغة.

* * *

3 - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة المعنوية) فهي - كما ترى - نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخّصة مبيّنة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جرّبت نفسك عن استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى إذنك إلاّ ومعناه أسبق إلى قلبك.

* * *

4 - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة اللفظية) فألفاظها - على ما ترى - عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سَلسلة على السَّلِسات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقّة.

* * *

قال: ولله درّ شأن التنزيل، لا يتأمل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنّن الآية مقصورة على ما ذكرتْ، فلعلّ ما تركتْ أكثر ممّا ذكرتْ؛ لأنّ المقصود لم يكن إلاّ مجرّد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمَي (المعاني والبيان) وأن لا علم في باب التفسير - بعد علم الأصول - أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، هو الذي يوفي كلام ربّ العزّة من البلاغة حقّه، ويصون له في مظانّ التأويل ماءه ورونقه (1) .

____________________

(1) مفتاح العلوم: ص 196 - 199.

٢٣٠

نكت وظرف فيما تكرّر من آيات الذكر الحكيم

غير خفيّ أنّ ما يذكره تعالى حكاية عن أُمم سالفين إنما هو نقل بالمعنى، ولا سيّما فيما يحكيه من أقوالهم ومحاججاتهم، حيث كانت بلغة غير عربية وناقل المعنى في سعة من اللفظ حيث يشاء وحيث يتناسب مع مقصوده من الكلام، ينقله تارةً طوراً وأخرى طوراً آخر، وقد ينقل بعضه ويترك البعض، حسب ما يراه من مناسبة المقام، ومِن ثَمّ فهو في فسحة من النقل والحكاية.

قال الاسكافي: إنّ ما أخبر الله به من قصّة موسى وبني إسرائيل وسائر الأنبياء لم يقصد به حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنّما قصد اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فحكاية اللفظ إذاً زائلة، وتبقى حكاية المعنى، ومَن قصد حكاية المعنى كان مخيّراً بأيّ لفظ أراد، وكيف شاء مِن تقديم وتأخير بحرف لا يدلّ على الترتيب كالواو. وعلى هذا يقاس نظائره في القرآن (1) .

* * *

وللكرماني (2) تصنيف لطيف في بيان ما لكل موضع من الآيات المكرّرة نكتة ظريفة، استقصى فيها جميع ما في القرآن من التكرار، قال - في مقدّمته -: هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات (المتماثلات) التي تكرّرت في القرآن وألفاظها متّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقدم أو تأخير أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك ممّا يوجب اختلافاً بينها... وأُبيّن السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، والحكمة في تخصيص آية بشيء دون أُخرى....

____________________

(1) درة التنزيل: ص17، هامش أسرار التكرار: ص28.

(2) هو العلاّمة الأديب محمود بن حمزة بن نصر الكرماني. قال ياقوت: كان حدود سنة خمسمِئة وتوفي بعدها.

٢٣١

نقتطف من أزهاره ما يلي:

1 - قوله تعالى في سورة البقرة: ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ) (1) بالواو، وفي سورة الأعراف: ( فكلا ) (2) بالفاء.

لأنّ (اسكن) في سورة البقرة يراد به الإقامة بالمكان، وذلك يستدعي زماناً ممتداً، فلم يصلح إلاّ بالواو؛ لأنّ المعنى: اجمع بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها، ولو كانت بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة؛ لأنّ الفاء للترتيب والتعقيب.

والذي في سورة الأعراف بمعنى اتخاذ السكنى؛ لأنّه يقابل خطاب إبليس بالأمر بالخروج ( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ) (3) ، فكان خطاب آدم ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ) بمعنى اتخاذها مسكناً، واتخاذ السكنى الآنيّ لا يستدعي زماناً ممتداً، فكان الفاء أَولى، أي كلا منها عقيب اتخاذها مسكناً، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل، بل يقع الأكل عقيب الاتخاذ (4) .

2 - ونظير ذلك أيضاً قوله في سورة البقرة ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (5) بالفاء، وفي سورة الأعراف: ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (6) بالواو؛ لأنّ الأكل لا يكون إلاّ بعد الدخول، ولكنه يجتمع مع السكون بمعنى الإقامة في المسكن (7) .

3 - وزيد (رغداً) في البقرة (35 و58)، ولم يرد في الأعراف (19و161)؛ لأنّ الآيتين في البقرة بدئتا بقوله: (قلنا) فناسب التعظيم زيادة تشريف وتكريم؛ ومِن ثَمّ كان زيادة (رغداً).

____________________

(1) البقرة: 35.

(2) الأعراف: 19.

(3) الأعراف: 18.

(4) أسرار التكرار: ص25 - 26 رقم 11.

(5) البقرة: 58.

(6) الأعراف: 161.

(7) أسرار التكرار: ص28 رقم 17.

٢٣٢

أمّا في الأعراف فبُدئت الآية (19) بقوله: (قال) مفرداً، والآية (161) بقوله: (وإذ قيل) من غير تشريف.

4 - وجاء في سورة الأنعام ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (1) ، وفي سورة الإسراء ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (2) ؛ لأنّ في الأنعام: (من إملاق) بكم، وفي الإسراء: (خشية إملاق) يقع بهم (3) .

أي كان قتل الأولاد في سورة الأنعام مستنداً إلى فقر ومسكنة كان قد أقدع بهم فعلاً، أمّا في سورة الإسراء فكان مستنداً إلى خوف المجاعة والفقر قد يعرضهم بسبب الأولاد.

5 - وجاء في سورة التوبة - خطاباً مع المنافقين -: ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ ) (4) ، ثمّ في آية أُخرى - خطاباً مع المؤمنين ممّن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً -: ( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ... ) (5) .

لأنّ المنافقين لا يطّلع على ضمائرهم إلاّ الله وما أخبر به رسوله، كما في قوله: ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) (6) .

أمّا المؤمنون فطاعاتهم وأعمالهم ظاهرة مكشوفة يراها سائر المؤمنين أيضاً.

وجاء بشأن المنافقين ( ثُمَّ تُرَدُّونَ ) ، وبشأن المؤمنين ( وَسَتُرَدُّونَ ) ؛ لأنّ الأُولى وعيد، فهو عطف على الأًوّل، وأمّا الثانية فهو وعد، فبناه على ( فَسَيَرَى اللَّهُ ) (7) .

6 - قوله تعالى في سورة الكهف: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ

____________________

(1) الأنعام: 151.

(2) الإسراء: 31.

(3) أسرار التكرار: ص75 رقم 115.

(4) التوبة: 94.

(5) التوبة: 105.

(6) التوبة: 94.

(7) أسرار التكرار: ص100 رقم 178.

٢٣٣

أَحَداً ) (1) .

قالوا: لِمَ زيدت الواو في (وثامنهم)؟

قال بعض النحويّين: السبعة نهاية العدد، ولهذا كثُر ذِكرها في القرآن والأخبار، والثمانية تجري مجرى استئناف كلام، ومِن هنا لقّبه جماعة من المفسّرين بواو الثمانية.

واستدلّوا بقوله تعالى: ( التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، فقد جيء بالواو عندما زيدت الأوصاف على السبعة.

وبقوله تعالى: ( مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ) (3) ، فلمّا بلغ الثامن جيء بالواو.

وبقوله تعالى: ( وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) (4) ؛ لأنّ أبواب الجنة ثمانية (5) .

وهذا الوجه لم يرتضِه المصنّف؛ ومِن ثَمّ ردّ عليه بقوله: ولكل واحد من هذه الآيات وجوه ذكرتها في موضعها.

أمّا الآية في سورة التوبة فلم يذكر لها شيئاً.

والآية في سورة التحريم قال فيها: ثُمّ ختم بالواو، فقال ( وَأَبْكَاراً ) ؛ لأنّه استحال العطف على ثيّبات فعطفها على أَول الكلام، ويحسن الوقف على ( ثَيّبَاتٍ ) ؛ لمّا استحال عطف ( َأَبْكَاراً ) عليها، وقول مَن قال: إنّها واو الثمانية بعيد (6) .

وذكر في آية الزمر أنّها واو الحال (7) ، أي وقد فُتحت بتقديره (قد).

وفي قوله تعالى من سورة القلم ( وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ

____________________

(1) الكهف: 22.

(2) التوبة: 112.

(3) التحريم: 5.

(4) الزمر: 73.

(5) أسرار التكرار: ص132 رقم 283.

(6) أسرار التكرار: ص206 رقم 526.

(7) المصدر: ص186 رقم 445.

٢٣٤

بِنَمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (1) قال: أوصاف تسعة، ولم يُدخل بينها واو العطف ولا بعد السابع، فدلّ على ضعف القول بواو الثمانية (2) .

قلت: هذا على تقدير أن يكون (حلاّف) وصفاً أَوّلاً، في حين أنّه الموصوف، والأوصاف إنما تَبتدئ من (مهين).

وعليه فالأوصاف ثمانية وقد فُصل بين الثامن وما قبله بقوله (بعد ذلك) الذي هو بمنزلة الواو هنا.

7 - قوله في سورة الكهف: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) (3) ، وفي آية أُخرى ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (4) .

لأنّ الإمر هو الأمر العَجَب، والعجب كل أمر خالف المألوف سواء أكان خيراً أم شراً.

وأمّا النُكر فهو الأمر المُنكر الذي يستقبحه العقل.

والآية الأُولى جاءت بشأن خرق السفينة، بما لا يستلزم غرقها وإهلاك أهلها... فلعلّ في ذلك سرّاً وحكمة، لكنه خلاف المألوف، فأثار العجب.

والآية الثانية جاءت بشأن قتل الغلام، وهو طفل لا يعقل شيئاً ولم يرتكب إثماً، فهو بظاهره قتل نفس محترمة، وهو الأمر المنكر الذي يستقبحه العقل (5) .

8 - قوله: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ ) (6) ، لكنه بعد ذلك قال: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ ) (7) زيادةً في الإنكار عليه بزيادة توجيه الخطاب والعتاب إليه.

9 - قوله: ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) (8) - أَولاً -

وقوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ ) (9) - ثانياً -

____________________

(1) القلم: 10 - 13.

(2) أسرار التكرار: ص207 رقم 530.

(3) الكهف: 71.

(4) الكهف: 74.

(5) أسرار التكرار: ص134 رقم 287.

(6) الكهف: 72.

(7) الكهف: 75.

(8) الكهف: 79.

(9) الكهف: 81.

٢٣٥

وقوله: ( فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) (1) - ثالثاً -

ففي الأَول نسب ما ظاهره الإفساد إلى نفسه؛ تنزيهاً لمقام قدسه تعالى عن نسبة الإفساد إليه.

وفي الثاني خليط من الإفساد والإنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى نفسه مع غيره وهو الله تعالى.

لكن الثالث كان محص إنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى الله خالصاً.

كل ذلك من أدب الكلام، فتفهّم (2) .

10 - قوله تعالى في سورة الرحمن: (3) .

كُرّر لفظ الميزان ثلاث مرات مع قرب الفاصلة، وكان حقه حسب الظاهر الإضمار بعد ذكره أَوّلاً.

قيل: لأنّه في كل موضع بمعنى غير معناه الآخر، فوجب الإظهار؛ ليكون كل واحد مستقلاً بالإفادة، وإلاّ لاحتاج إلى الاستخدام.

فالميزان الأَوّل هو النظام الكوني الحاكم على كل موجودات العام، والثاني هو نظام الشريعة الحاكم على أفعال العباد وتصرّفاتهم، والثالث هي آلة الوزن المعروفة (4) .

11 - قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) كُرّرت إحدى وثلاثين مرّة:

ثمانية منها ذُكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب الخلق وبدائع الصنع، والمبدأ والمعاد.

وسبعة منها عقيب آيات العقاب والنار وشدائد نقمته تعالى.

ثُمّ ثمانية منها عقيب وصف الجنّات ونعيمها.

____________________

(1) الكهف: 82.

(2) أسرار التكرار: ص134 رقم 289.

(3) الرحمن: 7 - 9.

(4) أسرار التكرار: ص198.

٢٣٦

وثمانية أخرى بعدها للجنتين وما حوتا عليه من نِعَم كبار (1) ، رزقنا الله التنعّم بنعمها الجسام العظام.

أما التذكير بالآلاء عقيب ذكر العقاب والنار فلأنّه أيضاً من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ لأنّ تكوين الشخصية المعتدلة ذو عاملين أساسيين، عامل الخوف وعامل الرجاء، فكما أنّ الوعد يُؤثّر في تربية النفس ترغيباً في الثواب، كذلك الوعيد مؤثّر في التربية ترهيباً عن العقاب، فكلاهما من الآلاء والنعم الإلهية لهذا الإنسان في سيبل تربيته.

قال الطبرسي: فأمّا الوجه لتكرار هذه الآية في هذه السورة فإنّما هو التقرير بالنعم المعدودة والتأكيد في التذكير بها كلّها. فكلّما ذَكر سبحانه نعمةً أنعم بها قرّر عليها ووبّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: أَما أحسنت إليك حين أطلقت لك مالاً؟ أَما أحسنت إليك حين ملّكتك عقاراً؟ أَما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً؟... فيحسن فيه التكرار؛ لاختلاف ما يقرّره.

قال: ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم، ثُمّ جعل ينشد أبياتاً قالها مهلهل بن ربيعة (2) يرثي أخاه كليباً، وقصيدة ليلى الأخيليّة ترثي توبة بن الحمير، وأبياتاً للحارث بن عبّاد، قال: وفي أمثال هذا كثرة.

قال: وهذا هو الجواب بعينه بشأن التكرار في سورة المرسلات، قوله تعالى: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ... عشر مرّات (3) .

12 - قوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) مكرّر عشر مرّات في سورة المرسلات.

إذ من عادة العرب التكرار والإطناب، كما في عادتهم الاقتصار والإيجاز؛ ولأنّ بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز (4) .

____________________

(1) أسرار التكرار: ص198.

(2) هو خال امرؤ القيس، قيل: هو أَول من قصّد القصائد.

(3) راجع مجمع البيان: ج9 ص199.

(4) أسرار التكرار: ص213.

٢٣٧

13 - التكرار في سورة (الكافرون) (1) .

قيل: هذا التكرار اختصار في الكلام وهو إعجاز؛ لأنّ الله نفى عن نبيّه عبادة الأصنام فيما مضى والحال وفيما يأتي. ونفى عن الكفّار - وهم رهط من قريش مخصوصون؛ لأنّ اللام للعهد الخارجي - عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فكان من حقّ الكلام أن يأتي بست فقرات تدلّ على هذه الأُمور الستة، لكنّه اختصر في العبارة المذكورة الموجزة.

قوله تعالى: ( لا أَعبدُ ما تعبدونَ ) نُفي في الحال وما يأتي، أي لا أعبد اليوم ولا بعد اليوم ما تعبدون اليوم.

( ولا أَنتُم عابدونَ ما أعبدُ ) كذلك... أي لا تعبدون اليوم ولا بعد اليوم ما أعبد اليوم.

( ولا أَنا عابدٌ ما عبدتُم ) نُفي في الماضي وتعليل لِما تقدّمه؛ لأنّ اسم الفاعل يصلح للأزمنة الثلاثة، أي لم أعبد ما عبدتم قبل اليوم، فكيف ترجون عبادتي اليوم لما عبدتم وتعبدونه؟!

( ولا أَنتم عابدونَ ما أَعبدُ ) أي ولا أنتم عبدتم ما أعبد اليوم.

وبذلك افترق المعنى في الآية، تلك للنفي في الحال والآتي، وهذه للنفي في الماضي (2) .

* * *

وقال الفرّاء - في وجه التكرار -: إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب كلامهم ومحاوراتهم، ومن عادتهم تكرير الكلام؛ للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى، بلى. ويقول الممتنع: لا، لا.

قال: ومثله قوله تعالى: ( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (3) .

____________________

(1) أسرار التكرار: ص226.

(2) راجع الكشّاف للزمخشري.

(3) التكاثر: 3 و4.

٢٣٨

وأنشد:

وكائنٌ وكم عندي لهُم مِن صنيعةٍ

أيادي ثنّوها عليَّ وأَوجبوا

وأيضاً:

كَم نعمْ كانتْ لكم

كَمْ كَمْ وكَمْ

وقال آخر:

نَعَق الغرابُ ببين ليلى غدوةً

كمْ كمْ وكم بفراقِ ليلٍ يَنعقُ

وأيضاً:

هلاّ سألتَ جُموعَ كِندَةَ

يومَ وَلّوا أَينَ أَينا

وقوله:

أردتُ لنفسي بعضَ الأُمورِ

فأَولى لنفسي أَولى لها

قال: وهذا أَولى المواضع بالتأكيد؛ لأنّ الكافرين أَبدأوا في ذلك وأعادوا.

فكرّر سبحانه؛ ليؤكّد إياسهم وحسم أطماعهم بالتكرير (1) .

هل في القرآن لفظة غريبة؟

قال قوم: إنّا إذا تَلونا القرآن وتأمّلناه وجدنا معظم كلامه مبنيّاً ومؤلّفاً من ألفاظ قريبة ودارجة في مخاطبات العرب ومستعملة في محاوراتهم، وحظّ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل، وعدد الفِقَر والغُرَر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير، الأمر الذي لا يشبه شيئاً من كلام البلغاء الأقحاح من خطباء مصاقع وشعراء مفلّقينَ، كان ملء كلامهم الدرر والغرر والغريب والشارد.

لكن الغرابة على وجهين - كما ذكره أبو سليمان حمد بن محمّد الخطابي في كتابه (معالم السنن) قال: الغريب من الكلام إنّما هو الغامض البعيد من الفهم، كما

____________________

(1) مجمع البيان: ج10 ص552.

٢٣٩

أنّ الغريب من الناس إنّما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، والغريب من الكلام يقال به على وجهين:

أحدهما: أن يراد به أنّه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلاّ عن بُعد ومعاناة فكر.

والوجه الآخر: أن يراد به كلام مَن بعدت به الدار مِن شواذّ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا (1) .

والغريب في القرآن إنّما هو من النوع الثاني؛ ومِن ثَمّ لم يخلّ بفصاحته، والقرآن لم يستعمل إلاّ ما تعارف استعماله عند العرب وتداولوه فيما بينهم، ولكن في طبقة أعلى وأرفع من حدّ الابتذال العامي، فلا استعمل الوحشي الغريب ولا العامي السخيف المرتذل (2) ، على حدّ تعبير عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (3) .

قال التفتازاني: والغرابة كون الكلمة وحشية، غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال، فمنه ما يحتاج في معرفته إلى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة، كتَكَأكَأتم وافرنقعوا في قول عيسى بن عمر النحوي، هاجت به مِرّةٌ وسقط من حماره فوثب إليه قوم يعصرون إبهامه ويؤذّنون في أُذنه، فأفلت من أيديهم وقال:

____________________

(1) هامش غريب القرآن للطريحي، المقدمة: هـ.

(2) كقول العامة: ايش، بمعنى أي شيء. وانفسد بمعنى فسد.

(3) قال الجرجاني: وربما استُسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرد اللفظ، كما يُحكى من قول عبيد الله بن زياد لمّا دُهش: (افتحوا لي سيفي)! وذلك أنّ الفتح خلاف الإغلاق، فحقّه أن يتناول شيئاً هو في حكم المغلق المسدود، وليس السيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون في الغمد بمنزلة الثوب في العِكم (كالعِدل: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها، وبمعنى الجُوالِق) والدرهم في الكيس والمتاع في الصندوق، والفتح في هذا الجنس يتعدى أبداً إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له، لا إلى ما فيه، فلا يقال: افتح الثوب (أسرار البلاغة: ص 3 - 4).

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579